تحذير: المقالة طويلة، وهي عن أحد أشجع من وطئت أقدامهم هذه الأرض، عن رجلٍ سيرته برائحة الهيل والزعفران، عن رجلٍ تتمايل لذكره رؤوس الرجال إعجاباً، ويضع كل منصف منهم يده على رأسه كلما مرّ «طاريه»، عن رجل اسمه «سعد بن ماضي بن حشر العجيل المطوطح الدهمشي العنزي»، الذي استشهد في معركة الجهراء سنة 1920 على باب القصر الأحمر، رحمه الله.
وكان كبار السن إلى وقت قريب، وأظنهم ما يزالون، يعلّقون على من يمتدح أحداً ليس بكفؤ: «لا تكثّرون الهرج، (النِّعِم) يستاهلها سعد المطوطح»، وتسأل كبار السن عنه فيجيبونك: «روى لنا آباؤنا عن بطولاته ما يهز القلب، وعن دفاعه عن الكويت ما يوقف شعر الذراع». إذاً فلِمَ لمْ نقرأ اسمه في مادة التاريخ في المدارس؟ ولِمَ لمْ تحدثنا وسائل الإعلام عنه؟ نسأل أحد كبار السن، فيجيب وهو يتبسم سخريةً ويشوّح بيده استهزاءً: «ما درى سعد عنكم وعن مدارسكم ووسائل إعلامكم، كتبتم عنه أم لم تكتبوا، تحدثتم أم لم تتحدثوا. وإن كنتم تجهلونه، فنحن وآباؤنا الذين عاصروه نعرفه، ونعرف كمية الدم التي نثرها هو وربعه الطواطحة على تراب هذه الأرض».
قيل لي إنه فارس الكويت الأبرز في معاركها كلها، وإنه يشحّ بكلامه عندما يصمّ الثرثار آذان الجلوس في المجالس، فإذا ارتفع دخان الحرب، وارتفعت معه «حواجب» الرجال غضباً وتحفزاً، وتهيئوا للصدام والالتحام، وصمت الثرثار واختبأ خلف حليلته، تقدّم سعد المطوطح الصفوف.
سعد وربعه الطواطحة، يبدو أن لديهم سوء فهم شديداً، إذ يعتقدون أن بقاء الدم في العروق والشرايين مدة طويلة يُفسده، ويظنون أن الأرض لا ترتوي من المطر بل من دماء أبنائها، لذلك نثروا دماءهم بسخاء على أرض الكويت، حتى قيل إنهم «العائلة الأكثر استشهاداً».
واليوم، تبحث عن الطواطحة في المناصب الكبرى فلا تجد، اللهم إلا سفيراً واحداً، فلا وزير منهم ولا وكيل وزارة ولا وكيل مساعد. وترفع بصرك تفتش عن «مطوطح» واحد حصل على عقد أو مشروع، فينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير. ولن تسمع من أحدهم كلمة واحدة تفرّق بين أهل البلد. حاشاهم. وستفنى الأرض ومن عليها قبل أن يفكر أحدهم في شراء «فاكس» يبث من خلاله سمومه إلى الصحف. ولن يخرج أحدهم في برنامج تلفزيوني ليفتري على الآخرين فيفتح شدقيه زوراً وبهتاناً «أجدادي فعلوا بأجدادك كذا وكذا»… لن تجد ولن ترى ولن تسمع مثل هذا عند الطواطحة، فهُم «العاشقون بصمت». ولو كان «سعد» بيننا الآن لتلثّم قرفاً من منظر الفتنة التي شققت جلودنا، ولركب فرسه و»لَكَزها» مبتعداً وهو يضرب كفاً بكف ويتمتم: «يا حيف يا ديرتي».
هم هكذا خُلِقوا، وهذه هي طباعهم التي ورثوها كابراً عن كابر. وكنت قد سمعت قبل أيام عمن أعلنوا تسييرَ مسيرة على الخيل، من قصر «دسمان» الشامخ إلى «القصر الحمر» في الجهراء، فسألتُ: «هل بينهم أحد من الطواطحة؟»، فجاء الجواب بالنفي القاطع، فغمغمتُ متنهداً: «أعرف، ولكن ليطمئن قلبي». الطواطحة يسقون الأرض بدمائهم، وغيرهم يركب الخيل في وقت «البراد» وأمام الكاميرات. وعليّ اليمين العمياني لو أن هؤلاء المترفين سمعوا نداء الحرب ليلتذاك لنقضَ كلّ منهم وضوءه، ولارتفع صوت ولولته على أصوات النساء.
وآخ ومليون آخ على خبر نشرَته إحدى صحفنا قبل أشهر عن اقتراح يطلب فيه أحدهم تسمية شارع أو مدرسة باسم «سعد المطوطح»، ولا أظن أن طلبه أجيب. عادي. عادي جداً. ماذا قدم سعد وعائلته كي يستحق ويستحقوا تكريماً كهذا؟ مجرد دمائهم وأرواحهم؟ وشنو يعني؟ ووالله لو كنا شعباً وفيّاً لأسمينا مدينة سكنية بمدارسها وشوارعها باسمه، ولا يكفي.
الأقزام قزّموا سيرته، وحصروها في معركة الجهراء، في حين أنه كان المؤتمن على أسلحة جيش الكويت وذخائره، وهو الذي شارك في كل معارك الكويت التي عاصرها، هو وربعه وآخرون من قبائل وعوائل لا تتسع المقالات لحصرهم. على أنني لا أملك، ككويتي، ما أرد به ولو جزءاً يسيراً من دَيْن هذا الأسد عليّ، إلا أن أكتب عنه وعن سيرته المزعفرة، فالحديث عنه وعنها صدقة جارية، تكسر بؤس هذا الوطن… أنعم به وبسيرته، وأنعم بحمولته الأقربين.