طبعاً الناس تعرف أنني اشتريت هذا العمود الصحافي وخصصته لسلالة "وشيح الكبير"، ودفعت ثمنه "بالتقصاد" على رأي عمي المرحوم منصور صاحب أطيب قلب في الكائنات الحية، الذي لا تخلو أي جملة في حديثه من "البدليات" والأخطاء المطبعية… ولأنني اشتريت العمود هذا فسأنقل الحوار الذي دار بيني وبين ابنتي "الحاجة عزة" واسمها في البطاقة المدنية "غلا".
تستعرض الحاجة عزة – بفرح – معلوماتها أمامي بعد أن صاغتها على شكل سؤال طفولي: "صح أميركا كفار؟"، فصعقتها: "لا. العربان هم الكفار. نحن الكفار السفلة"، وأجهزتُ عليها قبل أن يرتد إليها حنكها الذي هوى إلى الأسفل: "وأكثرنا كفراً ونفاقاً هم الذين يدّعون التديّن، ويتحدثون زوراً باسم الإسلام، لكنهم يهاجمون المصلحين من أبناء جلدتهم"، ثم استدركتُ: "آسف، هؤلاء المزورون ليسوا كفاراً بل منافقون في الدرك الأسفل من النار".
وأجزم أنها ندمت على الاستعراض أمامي بعد أن اندفق سيل حنقي أمامها فأغرقها… شوفي يا بنتي، هناك تجار ليبرالية، يقابلهم تجار دين، يتداولون الوطن بينهم كالسلعة، الفريق الأول صاغوا ليبراليتهم على شكل عقود لمشاريع ومناقصات، وراحوا يدورون بها بين المسؤولين! يطالبون بالحريات بشرط ألا تمس مصالحهم، كذّابون أفّاقون مطأطئون، وهؤلاء كفار وملاعين خيّر، لكنهم مكشوفون مكروهون، يسيرون عراة في الشوارع… أما الفريق الثاني فهم الأخطر، إذ يمتلكون "القنبلة البيولوجية"، وهي قنبلة لا تهدم المباني بل تتجه إلى داخل الإنسان مباشرة، وتعتمد على الجراثيم والبكتيريا التي تسبب تلوث الدم وأمراض التنفس وانتشار الأوبئة، وهم أعفن من "محطة مشرف" وأنتن.
هؤلاء، أقصد تجار الدين، بعضهم أوهم الناس أن ما يجب فعله الآن هو فتح محاضر التحقيق في جريمة قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومعاينة مسرح الجريمة التي حدثت قبل نحو أربعة عشر قرناً. لذلك تباغض الناس وتكارهوا… وبعضهم حمل بضاعته بعد أن غلّفها بورق السولوفان وقدمها هدية إلى السلطة، متجاهلاً هموم البسطاء، ولو أنكِ ناقشتِهم وسألتِهم عن أهم القضايا لأجابوك بصوت واحد: "البنطلونات الضيقة التي ترتديها الفلبينيات هي سبب نكسة الأمة ووكستها. جزاك الله خيراً. وكل من يقول دعوا الفلبينيات ببنطلوناتهن وتعالوا نتحدث عن المظالم والبلاوي والسرقات في البلد إنما هو كافر تغريبي يصد الناس عن دينهم"، فانصرف الناس عن الجوهر وراحوا يطاردون الفلبينيات و"يقايسون" بنطلوناتهن… أما البعض الثالث من تجار الدين فقد أصبحوا "عبيد السلطة"، وراحوا يشككون في دين من ينتقد السلطة، على اعتبار أن رجال السلطة هم ولاة الأمر، وأن ديننا – بعد تزويره وتحريفه – يأمرنا لا بعدم معارضة السلطة فحسب، بل والسكوت والخنوع إذا ضربتنا السلطة على ظهورنا وأخذت أموالنا.
نحن الكفار يا بنتي لا الأميركان الذين يتلفت رئيسهم ألفاً وسبعمئة وثمانين مرة قبل أن يتخذ قراراً خوفاً من ردة فعل شعبه. وليتكِ تقرئين ما يكتبه كتّابهم وصحفهم عن رئيسهم، وليتكِ تشاهدين ما تبثه فضائياتهم من سخرية وبهدلة للرئيس، من دون أن تُغلق صحيفة أو يحال أحد إلى النيابة، كي تعرفي أنهم ليسوا كفاراً، وإنما الكفار هم من يقلبون السالفة من تهمة في حق المسؤول مدعمة بوثائق إلى جرجرة النائب أو الكاتب الذي هاجمه إلى المحاكم.
الكفار يا بنتي هم أصحاب تلك الديوانية في الدائرة الرابعة، التي زارها نائب إمّعة، عُرفَ عنه تقبيل الأقدام، فأفسح له رواد الديوانية المكان وأجلسوه في الصدر، وراح يتحدث بثقة: هل تريدون مني أن "أبابي" وأصدّع رؤوسكم مثل مسلّم البراك والسعدون، أم تريدون مني إنجاز مصالحكم ومعاملاتكم مثل النقل والدورات الخارجية؟ ولماذا يستشيط البعض غضباً عندما أستفيد تجارياً (لاحظ، قبول الرشوة اسمه "استفادة")، وهل التجارة والمناقصات حلال على "الصقر والخرافي والغانم" وحرام عليّ؟
نحن الكفار يا بنتي ولا فخر.
اليوم: 14 أكتوبر، 2010
العلاقة بين الفقر والتديّن
بيّن استطلاع أجراه معهد غالوب الأميركي للأبحاث أنه كلما زاد فقر الدولة وتخلّفها كان للعامل الديني دور أكبر في حياة السكان. فبنغلاديش الأفقر عالميا هي الأكثر تدينا، فـ %99 من شعبها يعطي الدين أهمية قصوى، والعكس في السويد، والدول الاسكندنافية عموما، فهي أقل اهتماماً بالنواحي الدينية، وهي في الوقت نفسه أغنى دول العالم، حيث يهتم %17 فقط من شعبها بالقضايا الدينية. وربط الاستطلاع بين تزايد أهمية الدين في حياة الأشخاص، وتزايد معدلات الفقر في بلادهم، وكمثال النيجر واليمن واندونيسيا ومالاوي وسريلانكا والصومال وجيبوتي وموريتانيا وبوروندي. وكشف الاستطلاع الذي أجري في 114 دولة على مستوى العالم، وتم نشره على الموقع الإلكتروني للمعهد، أن هناك علاقة عكسية بين ارتفاع نسبة دخل الفرد سنوياً، وأهمية الدين في حياته، موضحاً أنه إذا كان دخل الفرد يتراوح بين صفر و2000 دولار سنوياً، فإن أهمية الدين تصل إلى %95، ثم تقل إلى %92 إذا كانت نسبة الدخل بين2000 و5000 دولار سنوياً، ثم تتناقص إلى %82 إذا كان مستوى الدخل بين 5001 و12500 دولار سنويا، لتصل إلى أقل نسبة لها وهي %47 حينما يزيد الدخل السنوي للأفراد على 25 ألف دولار سنوياً. وجاء في التقرير أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي حققت المفارقة في هذه العلاقة، إذ على الرغم من كونها إحدى أغنى دول العالم، إلا أن %65 من شعبها يرون أن الدين مهم في حياتهم اليومية، على عكس الدول الغنية المتقدمة الأخرى.
وذكر الاستطلاع أن الدول الثرية بكل شيء، والتي بها أقل معدلات الاهتمام بالدين في الحياة اليومية هي: أوستينا، والسويد، والدانمرك، واليابان، والصين، والمملكة المتحدة، وفيتنام، وفرنسا، وروسيا، وبيلاروس، إذ سجلت الأخيرة نسبة %34 من شعبها يهتم بالمسائل الدينية في حياته اليومية، فيما سجلت أوستينا %16.
وشمل الاستطلاع أيضاً عدداً من الدول العربية والأفريقية والإسلامية التي تفاوتت نسب أهمية الدين في الحياة اليومية لشعوبها، إلا أنها بقيت نسبا مرتفعة، وكانت المفاجأة (لمن قام بالاستفتاء) أن تأتي مصر، رائدة التنوير في العقود الماضية، على رأس قائمة الدول الأفريقية والعربية من ناحية اهتمام شعبها بالقضايا الدينية، حيث بلغت النسبة %97، تليها السعودية وتركيا والجزائر والكويت، وكانت هذه الدول متقدمة (أو متأخرة!) على البحرين والإمارات وقطر وعمان والمغرب. كما كانت المفاجأة الثالثة تجاوز النسبة في سوريا الـ %80. وقد نُشر التقرير كاملا في جريدة «المصري اليوم»!
ونعتقد أن هناك ملاحظات جادة على الاستبيان، فبالرغم من صغر عدد من شارك فيه، بسبب تعدد الدول المشاركة، إلا أن المعهد ربما اعتمد على مجموعة من الحقائق المعروفة الأخرى في الوصول إلى ما توصل إليه. ففيتنام، البوذية تاريخيا، لا ينتشر فيها الاهتمام بالدين مثل غيرها، إلا أنها أكثر فقرا من دول مجاورة لها مثل تايلند، الشديدة التدين. كما نجد أن تخلف الدول النفطية، بالرغم من غناها، وتعمّق المشاعر الدينية في أميركا بالرغم من ثرائها، ربما يعودان لوجود جهات تستفيد من أوضاعها الدينية وتحقق منها أرباحا مالية من خلال جمعياتها أو مؤسساتها الدينية. وفي السياق نفسه لوحظ أن «مظاهر» التدين في رمضان الماضي في الكويت فاقت أية سنة قبلها بكثير، ولكن صاحبتها «مظاهر» تخلف مساوية لها! ففي الوقت الذي زاد عدد من أحيوا العشر الأواخر من رمضان في مسجد الدولة من 50 ألفا إلى 75 ألفا إلى 90 ألفا، ليبلغ 160 ألف مصلّ في ليلة 27 رمضان، وطالعتنا الصحف في الفترة نفسها تقريبا أن كويتيا ضُبط وفي ملفه أسماء 63 ابنا «مزورا»! وأنه تم الكشف عن تعيين 63 طبيبا بشهادات مزورة! وأن 29 ألف كويتي ممنوعون من السفر، أي 3 من بين كل مائة كويتي! وأن 15 ألف قضية أمام المحاكم، غالبية أطرافها مواطنون! وأن النيابة العامة تطالب المواطنين بـ 60 مليون دينار! فإذا كانت هذه حال الكويت الصغيرة والمرفهة والمدللة، فما هي حال باكستان ومصر ونيجيريا؟
أحمد الصراف
يوميات مواطن مرهق:غربة الولد
أكثر ما كان يؤثر في قلب المواطن المرهق، هو الوضع الذي يعيشه ابنه الشاب… الذي تخرج منذ سنوات وهو لا يزال يلهث باحثاً عن عمل مناسب يلبي طموحه، ولا يدري هو شخصياً، كم عدد الواسطات التي أدخلها وأراق ماء وجهه وهو ينتقل من مكاتب أصحابها إلى مجالسهم بحثاً عن وظيفة مناسبة لابنه، حتى أنه ضحك في لحظة مع نفسه وهو يقول :»بل بل بل حتى بعض الواسطات… تحتاج واسطات»!.
ولأن الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى، ولأن المواطن المرهق يدرك أنه لا واسطة تفوق (التوفيق) من رب العالمين، أخذ يشد من عزم ابنه ويشجعه على ألا ييئس، فقد تعب عليه وعلمه وصرف عليه الكثير مع ضيق الحال من أجل أن يصبح ابنه (مواطناً) صالحاً يخدم بلده، وهل هناك هدف أسمى وأقدس من خدمة الوطن؟ لذلك، كان عليه أن يستمر في تشجيع ابنه بل وتشجيع غيره من الجامعيين العاطلين، وغيرهم من الشباب، لأن لا ييئسوا مهما كانت الظروف، ويبذلوا أقصى جهد ويواجهوا المصاعب لحين الحصول على العمل الذي يضمن لهم اللقمة الحلال… حتى لو تطلب الأمر التدرج من وظيفة إلى أخرى فلا عيب ولا ضير في ذلك… ولكل مجتهد نصيب، والحكومة لن تقصر أبداً في إيجاد فرص عمل لأبنائها… أليس كذلك؟.
حسناً، الولد العزيز قد حصل على وظيفة بالفعل، وعلى رغم طول ساعات العمل ومشاقه، إلا أنه صبر من أجل أن يكتسب الخبرة ويثبت نفسه، لكن المواطن المرهق تلقى خبراً كالصاعقة بالنسبة له حينما فاتحه ابنه بالقول :»والدي… قررت السفر إلى إحدى الدول الخليجية فقد حصلت على عرض عمل براتب كبير وبامتيازات رائعة تماماً كما يحصل عليها غير البحرينيين الذين يعملون في بلادنا… هناك، سأتقاضى راتباً كبيراً وسيمنحونني سكناً فاخراً وسيارة فارهة، وبعد أن أتزوج وأنجب، ستتولى الشركة التي سأعمل بها تغطية مصاريف العلاج وتعليم العيال… هذه فرصة يا والدي… فرصة لا تعوض، والشيء الوحيد الذي سأفتقده هو أنت يا والدي وكذلك والدتي واخوتي…سأفتقد أيضاً ديرتي التي لا يمكن تعويضها أبداً وأهلها الطيبين… سأتحمل الغربة يا أبي، لكن، لن يتم ذلك إلا بعد موافقتك».
مع المرارة التي شعر بها المواطن المرهق، لكنها دعا إلى ولده بالتوفيق في سفره وحياته العملية، مع أنه كان يحلم منذ سنين بأن يكبر هذا الولد ويخدم بلده ويعيش بين أهله، ولم يتبادر إلى ذهنه يوماً أن ولده سيترك بلاده ليعمل في الغربة… إلا أنه كان يمني النفس بأن الولد سيعود يوماً ليخدم بلاده. وخصوصاً أن البلد في حاجة إلى أبنائها المتعلمين المؤهلين، متمنياً ألا يتعب الناس في تعليم أبنائهم ثم يضطروا للهجرة فبلادهم أولى بهم.