محمد الوشيحي

خالتي يا خالتي

كما كان يفعل "الغاليون"، سكان فرنسا في العهود السحيقة، الذين كانوا يتواصلون مع موتاهم بكتابة الرسائل وإحراقها، سأتواصل مع القانون في الكويت بعد أن مات ودُفن وصلينا عليه صلاة لا ركوع فيها ولا سجود، فأكتب هذه المقالة وأحرقها.

وفرعون الشعر في عصرنا الحالي، حفيد شعراء المعلقات، ناصر الفراعنة يردد في قصيدته السياسية الشهيرة: "ناقتي يا ناقتي"، وهي قصيدة تابعها نحو أربعة ملايين مشاهد على برنامج "يوتيوب" وحده. والشقيقان المجرمان الإيرانيان اللذان داس من أجلهما معالي وزير الداخلية قوانين البلد بجزمته الكريمة، فأفرج عنهما بطريقة مستفزة متغطرسة مكابِرة، يرددان في قصيدتهما الفاسدة: "خالتي يا خالتي"، وهي قصيدة تابعها الناس بذهول وبكاء.

وأصل القصة هي أن وزارة الداخلية قبضت على شقيقين إيرانيين، أحدهما بتهمة "حيازة مخدرات"، والثاني بتهمة "انتحال صفة طبيب"، بعد أن قام بإجراء عمليات إجهاض متعددة، من دون شهادة ولا هم يحزنون، والله وحده يعلم كم روحٍ أزهق… فأفرج عنهما الوزير.

وفي لجنة التحقيق البرلمانية، ماطل الوزير في الحضور إلى اللجنة إلى ما قبل انتهاء التحقيق. وعندما حضر سأله النواب عن سبب إفراجه غير المبرر عن المتهمين الشقيقين، فأجاب جواباً مفحماً: "خالتهما قدّمت لي كتاب استرحام، فأمرتُ بالإفراج عنهما"! ويبدو أن القانون مما ملكت يمين معالي الوزير، وهو حر بعبدِه وبما ملكت يمينه، يعتقه لوجه الله، يبيعه، يفعل به ما يشاء، والشاعر الصنعاني يقول: "ذا رأس عبدك حرّ عندك، ذمتك له تتسع / فاقطع والا امنع والا استملِكه والا فدَع".

وفي سجون الوزارة يقبع الآلاف من السجناء، ومن بكرة الصبح ستتقدم خالة كل سجين بكتاب استرحام عن ابن شقيقتها، واللي ما عنده خالة يأكل هواء وينثبر في السجن. القانون واضح "عندك خالة تراجع الوزير؟ أهلاً وسهلاً، ما عندك خالة؟ يفتح الله".

وسامح الله معاليه، فقد وعد، قبل أكثر من سنة، برفع دعوى قضائية ضدي على خلفية "شبهة اللوحات الإعلانية أم خمسة ملايين دينار" ليوهم الناس أنه مظلوم يا عيني، فراهنتُه فلم يرفع، فاستجديته فلم يرفع، ولعلّه يفعل هذه المرة… وتعال اضحك على خفة دم معاليه عندما سئل في لجنة التحقيق عن سبب قبوله استرحام خالتهما رغم القبض عليهما بالجرم المشهود، فأجاب: "لم أكن أمتلك معلومات تدينهما كالتي تمتلكها لجنة التحقيق، ولو كنت أعرف لما أفرجت عنهما"… هاهاها، وكمان هاهاها، لبّى قلب معاليك.

يعني، النواب الذين لا يملكون صلاحية الوزير استطاعوا الحصول على "برِنت" عن المجرمَين الشقيقين، والوزير الذي بمقدوره وبكبسة زر وهو جالس في مكتبه الوثير الحصول على كل ما يتعلق بالشقيقين، لا يمتلك عنهما أي معلومة.

ثم إن النائب مسلم البراك كان قد تحدث قبل ذلك بيوم عن هذه المعلومات تحت قبة البرلمان، فكيف ينكر الوزير معرفته بذلك؟ وسمو رئيس الوزراء يتحدث عن وجوب تطبيق القوانين، والوزير يحكم ولا حكم الخلفاء العباسيين، والإيرانيان يردد كلّ منهما ورائي:

خالتي يا خالتي لا فتـــــاة ولا عجـــوز

تفرك المصـباحَ والمـارد يلـبّي لَها

خالتي ليست من أهل الدعاية والبروز
تدهن الكتمان بالصمت يا حبّي لها.

حسن العيسى

ماذا بقي من ذلك الإرث التاريخي؟

إرث طبقة التجار التقليديين في الكويت هو إرث الدولة الكويتية، فهذه الطبقة سواء رفضناها اليوم أو قبلناها بالأمس مثلت بداية الدولة الكويتية، فمن الرسوم التي دفعها التجار للحكم بالعهد بين أسرة الصباح وبينهم كانت بداية الاقتصاد الكويتي في زمن ما قبل النفط، وهي طبقة التجار التي شرعت في الدولة إصلاحات الحداثة لخلق "دولة معاصرة"، ولو كانت تلك الدولة تحت نظام الحماية البريطانية، وطبقة التجار هي التي رفعت صوتها عالياً للحد من استئثار الحكم بالسلطة في سنتي المجلسين التشريعيين في عامي 38 و39 من القرن الماضي.

بعد اكتشاف وتصدير البترول، أضحت طبقة من التجار تابعة تماماً لسلطة الحكم في الدولة، وفقدت استقلالها الاقتصادي، ومع ذلك ظل "إرثها" التاريخي قوياً ممثلاً في رجال لهم قناعاتهم الراسخة في الإصلاح والمشاركة في الحكم، فعلى سبيل المثال لا الحصر نعرف موقف الراحل عبدالعزيز الصقر في المسألة الوطنية الرافض لأوامر الحل غير الدستوري لمجالس الأمة في العقود السابقة، وكذلك لعب ثقله الاجتماعي والسياسي وبمشاركة بقية القوى الوطنية دوراً واضحاً وراسخاً لعودة الحكم النيابي في مؤتمر جدة أيام الاحتلال العراقي.

الدولة اليوم لم تعد كما كانت، وهذه سنة التطور وقانون التغيير، فالتركيبة السكانية تبدلت، وبرزت قوى جديدة من أبناء القبائل وغيرهم، تريد مكانها في الثراء، أو على الأقل تنشد حقها بالفرصة بالمشاركة في الثروة الريعية للدولة، ويرى المطالبون بتعديل قانون الغرفة التجارية أن مطالبتهم ترتكز على مبدأ المساواة في الفرص، وعندها لا فرق بين الكبار التقليديين من التجار وأصحاب "الدكاكين والبقالات"، بتعبير الزميل عبداللطيف الدعيج، فهما (الكبار أصحاب الوكالات الضخمة والصغار أصحاب البقالات يمارسان العمل التجاري حسب القانون الذي لا يفرق في تعريف العمل التجاري) متساويان قانوناً، ويجب أن يتساويا في الفرص، وترى المجموعة الجديدة من التجار أن ممارسة الغرفة التجارية واحتكارها سواء كان ذلك الاحتكار حقيقياً أم لا، لابد أن ينتهي بحكم الأغلبية. وبحكم الأغلبية كان لابد من تقليص النفوذ السياسي لغرفة التجارة، وأياً كان الرأي في ذلك، وأياً كانت اتهامات "الانتقام" وصور الصراع الطبقي المشوه من غرفة التجارة ومن تمثله، واتهام أن من يقوده هم أفراد نافذون في سلطة الحكم، يبقى المؤكد أن السبيل إلى العدالة والإنصاف لا يكون بقبر "التراث" التاريخي لطبقة التجار التقليديين الذي تمثله الغرفة مهما اختلفنا معها، فالديمقراطية في أساسها قامت على سواعد البرجوازية الليبرالية الصاعدة في أوروبا (انظر كارل شميث وكتابه في النظرية الدستورية)، ولو كان القياس هنا مختلفاً بعض الشيء في مجتمع الدولة – القبيلة.

لابد في النهاية من أن تقر الأغلبية بحق الأقلية في وجودها، وليس بإصدار حكم إعدامها، ولا يعني هذا توفير امتيازات خاصة بها بقدر ما يعني ترك باب الحوار الديمقراطي مفتوحاً للتفاعل بين كل الأطراف، وبافتراض حسن النية عند الفريقين دون تهميش لطرف على آخر.

احمد الصراف

السرقة التي تأخرت عشر سنوات

دخلنا الفيللا التي كانت السكن الخاص للوزير والسيناتور محمد محمود خليل والتي تحولت بعد سنوات من وفاته لمتحف رائع، وهالنا وضعه المؤسف من تكدس المعروضات بشكل مثير للشفقة وشبه انعدام الحراسة فيه، وعندما دخلنا الغرفة التي كانت تعرض فيها لوحة «زهرة الخشخاش» لفان كوخ واقتربت منها كثيراً ونقرت عليها أصابعي بقوة، ولكن ردة فعل موظفة الأمن المحجبة التي كانت تجلس على كرسي خشبي بسيط في احدى زوايا الغرفة، كانت كما توقعت، حيث لم تحرك ساكناً من مكانها واكتفت بقول: «ممنوع اللمس يا بيه»! يومها استغربت ومن معي من اكتفاء سلطات الآثار المصرية بوجود موظفة لا يزيد راتبها الشهري ربما على 25 ديناراً (80 دولاراً) لحراسة لوحة يزيد سعرها على 50 مليون دولار والمحافظة عليها، بخلاف كم كبير من المقتنيات الثمينة الأخرى التي يزيد ثمنها على مئات ملايين الدولارات.
وفي الشهر الماضي تحقق ما توقعناه قبل 10 سنوات، عندما استغل لصوص، ربما غير محترفين، ضعف وسائل الرقابة والحراسة في المتحف وقاموا بخلع لوحة الفنان الهولندي فان كوخ من اطارها ولفها وأخذها معهم من دون أن يشعر احد باختفائها، كما يجب أن يكون عليه الحال في أي متحف يتمتع بأدنى درجات الأمان، علماً بأن تلك اللوحة هي الوحيدة من نوعها الموجودة بحوزة أي دولة عربية أو شرق أوسطية، ويبدو أنها اختفت للأبد!!
تقع فيللا السيناتور محمد محمود خليل في أجمل منطقة في القاهرة، على النيل مباشرة، وقد بنيت عام 1915 على طراز غربي فريد يتجلى في هيكل مدخلها المكون من الحديد والزجاج وفخامته التي لا تخطئها العين. وقد ظلت الفيللا سكناً لعائلته حتى 1960 ومقراً لمقتنياته الثمينة، ولكن في عام 1962، وبناء على رغبته وبدعم قوي ووصية من زوجته الثانية الفرنسية اميلين هكتورلوس تحولت الفيللا لمتحف يحمل اسمه واسم زوجته ويكون بإشراف وزارة الثقافة المصرية. ويقال ان الزوجة الفرنسية دخلت في صراع في المحاكم مع ابناء زوجها من زواجه الأول، الذين كانوا يرغبون في جعل الفيللا ومحتوياتها ضمن تركة والدهم، ومن ثم بيع كل شيء فيها وتقسيم العائد بينهم، ولكن الزوجة «الأجنبية»، ويا للعجب!! أصرت على موضوع التبرع وعدم البيع، وفي موقف نادر، وقفت الحكومة المصرية معها، انتصاراً لتضحيتها ولتاريخ زوجها وللفن والأهم من ذلك لتاريخ مصر.
كان محمد محمود خليل محباً للفن، وهو الذي أسس جمعية محبي الفنون الجميلة في عام 1924 وترأسها لفترة طويلة. كما عمل وزيراً للزراعة ورئيساً لمجلس الشيوخ، أيام عز مصر. كما منحته الحكومة الفرنسية أرفع الأوسمة والنياشين لدوره في أكثر من مجال، وكان يهوى اقتناء التحف والتماثيل والرسومات العالمية وبذل الكثير من المال والجهد ليجلبها لوطنه، وتوفي في باريس في عام 1953.
بالرغم من فضيحة السرقة التي تعرض لها المتحف اخيراً، فانه يستحق الزيارة بلا شك.

أحمد الصراف