لا يمكن التطرق للقضية الفلسطينية دون شجون ومشاعر متضاربة. ومهما حاولنا إيجاد مبرر لسلبية غالبية مثقفي الأمة من القضية، مقارنة بإيجابية مثقفي الغرب، فلن نصل الى نتيجة، غير أن الأمر جزء من تخلفنا الذي جعلنا عاجزين عن الاهتمام بقضايانا فما بالك بقضايا غيرنا! والغرب، الذي يكره الكثيرون مثُله ويحتقرون طريقة تفكيره، يعج بمئات «الإنسانيين» الذين أثروا حياتنا بمواقفهم وملأوها أملا، بعد أن فشلنا في التصدي لقضايانا والدفاع عنها، وكان الفضل دائما لمثقفي الغرب ووسائل إعلامه في كشف وتسليط الضوء على الجرائم اللاإنسانية التي ارتكبناها بعضنا في حق بعض من مجازر المخيمات الفلسطينية وقبلها معارك وأحداث الحرب الأهلية اللبنانية، وقتل سكان حلبجة بالغازات السامة، وما قاسته وتقاسيه المرأة والطفل في غالبية دولنا، من أفغانستان وباكستان وصومالستان ويمنستان على يد طغم متعطشة للدماء، والتي رفضت غالبيتنا حتى الحديث عنها.
من هؤلاء الإنسانيين الناشط السياسي اليهودي الأميركي مارك برافرمان (Mark Braverman) الذي ولد في القدس لعائلة تعود جذورها لخمسة أجيال في فلسطين، وهاجر في شبابه لأميركا حيث درس التقاليد اليهودية والإنجيل والأدب العبري والتاريخ اليهودي. وبسبب خلفيته الأكاديمية كرس وقته لتقديم النصح والعلاج لمن سبق أن تعرض لضغوط نفسية كبيرة نتيجة أحداث مرعبة وقعت له. وقادته اهتماماته الإنسانية عام 2006 لإسرائيل وهناك صدم لسوء أوضاعها الأمنية، وما يتعرض له دعاة السلام من أذى، وقرر تكريس جهده ووقته للتخفيف من حدة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومن أجل ذلك شارك في تأسيس وإدارة جمعيات ولجان خيرية تهتم بشكل أساسي بتأييد حقوق الفلسطينيين في أراضيهم وبالتعايش السلمي بين الشعبين ومعارضة سياسة هدم المنازل. وقام اخيرا، ومن واقع تجاربه في ميادين محاربة العنصرية والدعوة للسلام، بتأليف كتاب «العناق القاتل» الذي لخص فيه نظريته في كيفية تحقيق السلم بين الفلسطينيين والإسرائيليين عن طريق إنهاء حالة العناق المميتة بين الإسرائيليين ومسيحيي الغرب، وأميركا بالذات! ويقول برافرمان ان فكرة الكتاب خطرت له بعد صدمته بما كان يحدث في فلسطين التاريخية صيف ذلك العام، وكيف قام شعبه بمصادرة أملاك الفلسطينيين وقتلهم وتشريدهم وتوجيه مختلف الإهانات لهم باسم المحافظة على أمنه كيهودي، وإن السلام لن يأتي أبدا وعائلته لن تشعر بالأمان في إسرائيل، وبالتالي فإن شعبه مطالب بالتوقف والتفكير في ما يحدث من ظلم واعتداء على الفلسطينيين، وإنه عندما عاد لوطنه أميركا اكتشف أن لا أحد من أهله ومعارفه من اليهود يود سماع شيء عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأنه معاد لقومه وأن دعوته ستؤدي لمحرقة جديدة، ودفعه هذا للتشكيك في أسس الصهيونية ومشاريعها وهو الذي تربى على الإيمان بها وتشرب مبادئها طوال حياته. ولكنه اكتشف، عندما انتقل للحديث عما يقلقه من الوضع في إسرائيل، أن رواد الكنائس المسيحيين أكثر تقبلا لما كان يروج له ووجد لديهم آذانا صاغية وتجاوبا وإيمانا بضرورة مناصرة حقوق الفلسطينيين المدنية ووقف طردهم من بيوتهم وتشريد المزيد منهم، ولكنه واجه معضلة تتعلق بموقف هؤلاء المسيحيين من اليهود، حيث تبين له أن لديهم ما يشبه عقدة الذنب تجاه اليهود، وأنهم في مهمة مقدسة وذات هدف وبعد عاطفي واضح يتمثل في ضرورة وقف معاناة اليهود المستمرة منذ ألفي عام، والتي أدت الى الهولوكوست، والتكفير عما ارتكب بحقهم من جرائم من خلال الوقوف بجانبهم في كل قضاياهم! وبالرغم من نبل هذا الهدف واتفاقه شخصيا معهم فيه، فإنه اكتشف في المقابل أن من الصعوبة توجيه أي نقد لإسرائيل أمام هؤلاء، وان السلام لن يستتب بين الشعبين بغير قيام إسرائيل بالتصرف بعدالة وإنصاف الفلسطينيين انصافا كاملا، وهذا ما لا يستطيع الأميركيون بغالبيتهم قبوله، بالرغم من أنه كان يقول لهم انه يهودي وإن جده ولد في فلسطين وانه يحب إسرائيل ونصف عائلته يعيشون فيها، وانها مكان رائع للعيش، لكن قلبه ينفطر لرؤية ما يحدث فيها من ظلم، وإذا كانوا كمسيحيين مؤمنين يريدون الخير لإسرائيل فعليهم التخلي عن عناقها وتقبل فكرة انتقادها ومطالبتها بوقف ظلمها وتعسفها مع الشعب الفلسطيني، فهذا العناق الذي طالما ربط المسيحي الأميركي واليهودي هو عناق قاتل وسيتسبب لا محالة في موت أحد طرفيه أو كليهما في نهاية الأمر.
الكتاب شائق ويستحق القراءة ويمكن الاطلاع عليه من خلال الرابط التالي:
http://books.google.com/books?id=xoAcz1N2oOsC&printsec=frontcover&dq=mark+braverman&source=bl&ots=MRXB7KJ
أحمد الصراف