تؤكد الأزمة الأميركية المالية بأن الولايات المتحدة قد بدأت تدخل في مرحلة جديدة، وأن دولاً أخرى في العالم سوف تصعد بنسب متفاوتة، وأن الولايات المتحدة، وهي عاصمة الاقتصاد العالمي ستواجه وضعاً جديداً لم يمر عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في هذا ستجد الولايات المتحدة أنها دولة كبرى بقدرات أقل، وبمناعه أقل بعد انهيار مؤسسات مالية أميركية كبرى، وعليها ديون وعجز يساوي ميزانيتها السنوية. ففي فترة قياسية تغيّرت الحال الدولية: عودة روسيا لتأكيد دورها، قيام إيران بملء الفراغ السياسي في الشرق الأوسط، تعزيز قوة «حزب الله» في لبنان بعد حرب 2006، بروز آسيا من خلال الصين والهند، عودة اليسار المعارض إلى الولايات المتحدة في دول عدة في أميركا اللاتينية. في هذا الوضع الجديد ستكون القوة الأميركية محل تساؤل أكبر، وسيكون استخدامها هو الآخر محل تساؤل. إن الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة ستتعامل مع الجراح التي أصابتها، ولكنها بالتأكيد ستكون أقل أيديولوجية وأكثر واقعية وبراغماتية في التعامل مع العالم المحيط بها. لهذا نتساءل من بإمكانه من المرشحين «الجمهوري» جون ماكين و«الديموقراطي» باراك أوباما التعامل مع الوضع الجديد بصورة أفضل للعالم وللولايات المتحدة؟
إن الإجابة في هذه المرحلة بالتحديد تتطلب التمعن بالفارق بين السياسة الخارجية «الديموقراطية» و«الجمهورية». ففي تاريخ الإدارات «الديموقراطية» تجنب للدخول في حرب إلا بعد اعتداء يقوم به الخصم أولاً، كما حصل في الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب العالمية الثانية في الرد على اعتداء بيرل هاربر، وفي حرب كوريا عندما اجتاحت كوريا الشمالية الجنوبية. وفي تاريخ «الديموقراطيين» رفض لمبدأ الضربات الاستباقية، وفي تاريخهم أيضاً رفض للقيام بالحرب بلا حلفاء حقيقيين وإجماع من أطراف مؤثرة، وفي تاريخهم أيضاً عدم القيام بعمل عسكري جاد إلا من خلال الاستناد على تحالف أوروبي أميركي، وذلك لتعظيم القوة وتأكيد فرص النجاح وتوزيع المسؤوليات. هذا كان حال الولايات المتحدة في الحربين العالميتين الأولى والثانية وفي زمن كينيدي وكارتر، وصولاً إلى كلينتون. (حرب تحرير الكويت عام 1990 تمت في زمن إدارة «جمهورية»، ولكنها اتبعت أساليب «الديموقراطيين» التقليدية في التعامل مع مراحلها). وقد تميّزت الإدارات الديموقراطية بتركيز كبير على المؤسسات الدولية وبناء نظام دولي بعد الحرب. فـ «الديموقراطيون» أنشأوا عصبة الأمم، والأمم المتحدة ، كما تأسست وازدهرت في عهودهم المؤسسات الدولية الأخرى. في هذا كان التفكير «الديموقراطي» باستمرار يسعى إلى كسب فرص السلام بعد الحرب وإلى تأسيس ممارسات تمنع العودة إلى الحرب.
انطلاقاً من هذا الوضع فإن أوباما لديه فرصة أكبر لإنجاح الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة في مجال السياسة الخارجية. فهو يمتلك الصفات ذاتها التي عرفتها الإدارات «الديموقراطية» السابقة. إن مجيء أوباما إلى سدة الحكم في أعقاب حكم «جمهوري» استخدم القوة العسكرية في العراق ضمن نظرية الضربة الوقائية واستخدم القوة بلا حلفاء في ظل الاختلاف الشامل مع أوروبا، إضافة إلى عدم بناء المؤسسات الإقليمية والدولية المناسبة للفوز بمرحلة ما بعد الحرب سوف يتكفل بإقرار تغيير كبير في سلوك الدولة الكبرى التي تعاني من جروح كبيرة.
إن فرص المرشح «الديموقراطي» أوباما في ازدياد، فهو يمثل خطاً جديداً ينطلق من ضرورة التحاور مع العالم وعدم اتباع سياسات ذات منحى أيديولوجي. لهذا بالتحديد ستكون أولويات الإدارة المقبلة في الشأن الخارجي أكثر استعداداً لإيجاد توازنات جديدة، وأكثر تحفظاً في استخدام القوة، وأكثر جدية في تنشيط المؤسسات الدولية وتأكيد التحالف مع أوروبا واستخدام القوة الأميركية الناعمة المتضمنة في وسائل الإعلام، والإنترنت، وهوليوود والقيم الديموقـــــراطية الــــتي أصبــــحت عالمية.