تتطور الأوضاع بين العرب وغير العرب، كما حصل في السودان أخيراً لتتحول إلى قنبلة كبيرة تعصف بأوضاعنا. ما وقع في دارفور منذ عام 2003، ذلك الإقليم الذي يقع في الجانب الغربي من السودان كان كبيراً. هذا الوضع لم يكن من نتاج خيال الإعلام، بل من واقع مقتل ما يقارب من 300 إلى 400 ألف قتيل وأكثر من مليوني مشرد من الإقليم. إن ما وقع في دارفور كان مؤسفاً بحق شعب تلك المنطقة غير العربي، بسبب ما قامت به ميليشيات عربية تدعمها الحكومة السودانية. والنزاع في درافور، كما هو النزاع في كل مكان، يصبح مشكلة أكبر عندما تمعن الأطراف الأقوى والرسمية بإطلاق العنان لقدراتها العسكرية ضد المدنيين بهدف تهجيرهم وكسرهم، هكذا تخرج الأمور عن السيطرة، وتتحول السلوكيات العسكرية إلى ذبح على الهوية، وإبادة جماعية. لهذا فعندما تأتي الاتهامات الدولية، فهي تأتي من مكان ما ومن واقع على الأرض، وليس كل ما يحصل تجنياً علينا وعلى دولنا.
إن كل من عرف الحرب، وما أكثرها في منطقتنا، يعرف كيف تتطور هذه السلوكيات. ولكن عندما تقع التجاوزات الإنسانية بحق غير العرب وبحق الأقليات في العالم العربي سرعان ما يتم تجاوزها وتطبيق فرضية أن غير العرب والأقليات لا بد أن يكونوا مخطئين بالأساس. إن الأمر نفسه حصل في علاقتنا بالأكراد، وأيضاً حصل في علاقتنا بكل أقلية وفئة مختلفة. ما وقع على سبيل المثال إبان الحرب الأهلية اللبنانية والجزائرية لم يختلف عن هذه الصورة، ولكن في الحالة السودانية كانت هناك أرضية لتوجيه اتهام ضد حكومة قائمة تدعم الميليشيات، في ظل أوضاع دولية تفرض دوراً أكبر لشبكات الإعلام ونقل المعلومات.
إن الأنظمة غير الديموقراطية في المجتمعات جميعها، بما فيها الغربية(يوغوسلافيا في زمن الصرب وميلوسوفيتش) ستميل لاستخدام العنف المفرط في حالات التمرد، وذلك لأنها تواجه مشكلات حقيقية في شرعيتها مع الكثير من القوى الداخلية. إن السودان ألغى الديموقراطية عبر قيام البشير بانقلاب عسكري عام 1989، ومع الانقلاب لابد أن يكون هناك مزيد من القسوة وحد للحريات وتعذيب. إن حل قضية دارفور ستكون أساسية لمدى مقدرة السودان التعامل مع متطلبات الانتقال في المستقبل للديموقراطية.
والآن وقد وقع ما وقع في السودان، وجاءت الاتهامات الدولية موجهة الى السودان، لننظر كيف يتم التعامل معها؟ ففي السودان نجد سياسة عدم تأثر، وعدم إعطاء اعتبار لكيفية تطور هذا الموضوع وكيفية تفاعله. هكذا تأخذنا العاطفة، كما تأخذنا مشاعر الرفض وعدم الموافقه قبل أن نفكر في كيفية مواجهه الأمر والتعامل مع المشكلة بصورة إنسانية تسمح بحل المشكلة وبمحاكمة المتهمين الرئيسين والمرتبطين في الميليشيات التي قامت في المجازر.
إن نظرة سريعة حولنا لما وقع في العراق والجزائر ولبنان والسودان، تؤكد وجود إشكالية كبيرة في تعاملنا مع المدنيين أثناء الحرب. ففي الحرب الأهلية اللبنانية أو الجزائرية أو العراقية (إن صح تسميتها أهلية) رأينا كيف تستهدف القوى المختلفة المواطنين والسكان والأبرياء. هذه التصرفات لارتكاب جرائم حرب ضد المواطنين والسكان تعكس ثقافة استبدادية وروحاً قاسية نستمدها من مكان ما في تربيتنا وتعليمنا وتعاملنا. علينا أن نتعامل مع هذه الثقافة القاسية في التعامل مع الاختلاف. بل لو نظرنا إلى الحروب الأهلية العربية لوجدنا أن معظم الذين قُتلوا وماتوا في الحروب العربية هم من المدنيين، وأن قتلهم كان تعبيراً عن أمراض نفسية وعقد متراكمة، ولم يكن له أي علاقة بتحقيق انتصار أو تغيير معادلات. إنه قتل بهدف القتل.
لا يجوز أن يبقى العالم العربي يصم آذانه عن التجاوزات بحق المدنيين في صراعاته. ففي الأمس قبلنا بتجاوزات صدام بحق الشيعة والأكراد، كما قبل الكثيرون من العرب تجاوزاته بحق الكويتيين من منطلقات شبيهة، وفي السابق قبلنا بتجاوزات الشمال في السودان بحق الجنوب، ثم بكارثة دارفور، وقبلها تعايشنا مع تجاوزات الحرب الأهلية اللبنانية وغيرها من التجاوزات الشائعة في العالم العربي. علينا أن نتعامل مع أسباب التعسف والقسوة الذي نجده في سلوكيات الأنظمة والأحزاب والميليشيات ونجده في اغتيالات لبنان منذ الحريري، ونجده في ردة فعل ليبيا على إيقاف نجل الرئيس في سويسرا في قضية شخصية. هذه العاطفة الجياشة والروح الانتقامية والقسوة تستدعي مراجعة لطريقة تفكير النخب الحاكمة ولدور الديكتاتورية في العنف، ولأثر اضطهاد الشعوب المحيطة في تفتيت منطقتنا.