لا أعلم شخصيا سبب الهليلة المبالغ بها لخريجي الثانوية العامة، وهي للعلم احد موروثات سنوات الجهل والأمية التي كان يندر بها وجود من يفك الخط ويقرأ ويكتب، ان علينا ان نرتقي هذه الايام بمستوانا العلمي وان نحصر احتفالاتنا بعد تخطينا تلك المرحلة بمن يحوز تقديرا علميا دوليا من الاطباء وحملة الدكتوراه وغيرهم من المختصين في مجالات الحياة المختلفة.
ومما نلحظه ان من يحوز نسب 99.9% في الثانوية العامة خلال الثلاثين عاما الماضية من عرب وخليجيين وكويتيين يختفون في وقت لاحق في الحياة، فلا نسمع لهم حسا او خبرا كما لا اذكر ان احدا من المبرزين او الناجحين في وطننا العربي قد ظهر ضمن سيرته الذاتية انه كان من الحائزين على مثل تلك النسب الفريدة في الثانوية العامة، كما قل ان تجد لبنانيين وهم احد اكثر الشعوب العربية نجاحا من الحائزين لمثل تلك النسب.
وقد يكون لهذه الظاهرة اسباب عدة منها ان بعض من يحوزون اعلى الدرجات هم من الانطوائيين والبصامين المتفرغين للدراسة طوال الوقت ومن ثم تمر عليهم السنوات سريعا دون ان يكسبوا مهارات الاتصال واستيعاب فن العلاقات العامة التي لا يمكن النجاح والبروز في الحياة دونها، كما قد يمتاز بعض حائزي 99.9% بالقدرة فقط على الاجابة عن اسئلة الامتحانات دون القدرة على الابداع والابتكار والاستخدام الأمثل للمواد العلمية التي يحوزون الدرجات النهائية فيها.
سبب آخر هو ان النجاح والبروز في الحياة قد يحتاج لعناصر اخرى لا شأن لها بمناهج الدراسة كالحس الاجتماعي الراقي والروح المرحة والمثابرة وحب المخاطرة، فكثير من شديدي الذكاء لا يودون الإقبال على امر ما الا اذا تأكد لهم بشكل قاطع انه مضمون النجاح ولا مخاطرة فيه، مما يفوت عليهم فرص نجاح وفوز كثيرة في الحياة التي لا يمكن دائما التنبؤ بمتغيراتها، كما انها لا تخضع بالضرورة لمعادلة 1+1=2 المنطقية.
سبب ثالث هو ان الذكاء في وطننا العربي يقوم على التميز النظري في مسائل البعد الثنائي وحل المشاكل الورقية البسيطة، بينما نجد ان الذكاء في المجتمعات المتقدمة كأوروبا وأميركا وشرق آسيا يقوم على معطى ثلاثي الأبعاد وحل المشاكل ذات الجوانب المعقدة، ومن ذلك فشل اذكيائنا في امتحانات القدرات المسماة (I.Q) كونها تقوم على المعطى المعقد لا البسيط والثلاثي او الرباعي الابعاد، ومثل ذلك الفشل العربي في استيعاب علوم الكمبيوترات والإنشاءات والمكائن والتقنية الحديثة عدا بالطبع قلة قليلة من المبدعين العرب فيها.
وأحد أهم اسباب اختفاء مبرزي الثانوية العامة في الازمان اللاحقة هو حقيقة ان مناهجنا الدراسية الاولية لا تكشف القدرات الذاتية والتخصص الأمثل لمثل تلك العقول، ومن ثم قد يتوجه طالب مبرز لعلوم الطب فلا يبدع بها كون قدراته الذاتية تؤهله لدراسة الهندسة والعكس بالطبع صحيح، كذلك انحصر ابتعاث المبرزين الخليجيين والعرب في علوم محددة (الطب والهندسة) فتوقف الابداع في مجالات الحياة الاخرى التي لا تقل اهمية عنها مثل التشريع والتعليم والاقتصاد الخ، فإبراهيم دبدوب كويتي واحد قد يكون اكثر نفعا لبلدنا الذي يشكل الاستثمار البديل الوحيد لنفطه بأكثر من 100 طبيب او مهندس.
آخر محطة:
سعدت بما قرأته من احد مبرزي المعهد الديني هو في الاصل خريج هندسة كهربائية، لقد اثبتت الايام ما لعلوم الشريعة من تأثير قوي على الحياة العربية والاسلامية المعاصرة، لذا بودنا ان توجه نخبة من العقول البارزة، لذلك العلم الديني والإنساني كي تستنبط لنا فهما عصريا وذكيا لاشكالات العصر، للمعلومة كثير من خريجي علوم اللاهوت في الغرب هم في الاصل اطباء ومبرزون في مجالات الحياة الاخرى.