عندما نفكر في واقع الكويت السياسي تبرز أمامنا مسائل جوهرية تتطلب حلاً وتوجهاً استراتيجياً من الدولة. فوجود حال من الضيق المعنوي وسط القبائل، خصوصاً بعد الصراع الذي تبلور على الفرعيات تجاه من يمكن اعتباره «تطلعات القبائل» والغالبية الجديدة يتطلب تعاملاً بناء. فالقبائل في الكويت بصورة وبأخرى تسعى إلى مشاركة أكثر قوة ودوراً في الحياة السياسية الكويتية. إن التعامل مع هذا الأمر والتعامل مع أبعاده المختلفة يتطلب استراتيجية تتميز بالوضوح.
لقد مرت الكويت بموجتين الأولى عندما كانت المدينة تحكم باتفاق بين آل الصباح والتجار، ثم المرحلة الثانية عندما تحوّل الوضع وأصبحت الكويت وحياتها السياسية مرتبطة بتفاهم بين آل الصباح والتجار وبقية عائلات الكويت من سكان الكويت القديمة أو كويت السور على اختلاف مشاربهم وطوائفهم. في هذا كانت تطورات الخمسينات وصولاً إلى ولادة الدستور ومرحلة الشيخ عبدالله السالم تعبر عن تثبيت لانفتاح الكويت على مكوناتها الداخلية من الفئات والعائلات والطبقات والطوائف كلها. لكن ما تحقق في الخمسينات والستينات لم يشمل الصحراء الأكبر التي أصبحت جزءاً جديداً من الكويت، كما أن تركيبة المجتمع الكويتي كانت مختلفة في الستينات عن تركيبته اليوم. لهذا شكلت الموجة الثالثة حدثاً لا نستطيع تجاهله ومن الخطورة تجاهله. فالموجة الثالثة هي موجة الكويتيين من أبناء القبائل الذين امتدت إليهم الجغرافيا الكويتية عند بروز حدود الدولة الجديدة ومن جراء الهجرات الجديدة الكثيفة في الأربعينات والخمسينات. هكذا ومع الوقت بدأت القبائل تشعر بالحاجة إلى التمدد وأخذ دور أكبر في الحياة السياسية مما يساهم الآن في تغيير قواعد اللعبة وأسس المعادلة الكويتية التي تم تأسيسها في الخمسينات والستينات. إن المعادلة القديمة التي كانت قائمة على آل الصباح والتجار والعائلات الكويتية المدنية لم تعد تناسب الوضع الجديد بوجود دماء جديدة تضخ في الحياة السياسية وتطالب بعلاقات جديدة ومساواة.
إن الموجة الثالثة في الحياة السياسية الكويتية أتت أساساً من شعور فئة كاملة من الكويتيين من أبناء القبائل(أو المناطق الخارجية) بأن دورها كان مهمشاً، وأنها لم تكن على الرادار السياسي للبلاد. وهذا واقع طبيعي في الأنظمة السياسية كافة، فمع كل موجة مطالب جديدة، وأحيانا غضب، وتعبيرات صاخبة، ومطالب عالية، وإصرار على التحدي. هذا ما حصل مع القبائل في هذه المرحلة التاريخية، والتي بدأت بعد تحرير الكويت تزداد رسوخاً ووضوحاً.
إن بروز دور القبائل لا يختلف عن تطورات شبيهة في مجتمعات عربية أخرى. فالفئات التي تشعر أن النظام السياسي لم يلتفت إليها عادة ما تتجمع عندما تسري في صفوفها حالة شعور بالحرمان النسبي (نسبة إلى الآخرين) وتصبح مع الوقت قوة رئيسية. ولكن شكل تعبيرها قد يساهم في مواجهات وتحديات جديدة، وقد يفتقد إلى الإطار الجامع الذي تتحرك ضمنه. من هنا نجد إصرار القبائل على الانتخابات الفرعية، وذلك بصفتها طريقة القبائل في التعبير عن قوتها وسعيها الجديد، كما نجد إصرار القبائل على مبادئ المساواة في المواطنة والجنسية وحقوق البدون والشفافية في صنع القرار، وذلك لما لهذه القضايا من أثر على أوضاع القبائل. إن تعبيرات هذا الوضع سوف تستمر في مجلس الأمة، وفي الإطار السياسي الكويتي الأوسع.
ولكن لو تساءلنا عن مصلحة القبائل الحقيقية ومصلحتها الوهمية لوجدنا أن القبائل هي أكثر الفئات حاجة من بين الفئات الأخرى كلها في الكويت لمشروع دولة، ولمشروع تحديث، ولمشروع تعليم حقيقي، ولمشروع تنمية، ولمشروع تحديث الدولة وإصلاح القطاع العام، والانتقال للعمل في القطاع الخاص، وإضافة قيمة إنسانية واجتماعية وعلمية واقتصادية للاقتصاد الكويتي. فهذه القيم بإمكانها أن تساهم في نهضة القبائل وأفرادها على كل صعيد. ويعود هذا الأمر إلى كون القبائل تمثل كتلة شعبية كبيرة.
إن القبائل مؤهلة بصورة كبيرة لأن تلعب دوراً إيجابياً، ولكنها مؤهلة لأن تلعب دوراً غاضباً، كما تفعل قوى شبيهة بها في دول عربية شتى. الفرق بين الدور السلبي والإيجابي كبير. الدور الإيجابي يؤدي إلى بناء أوطان مستقرة، أما الدور السلبي فيؤدي إلى التفتت والتشرذم وتعميق الصراع. قد يصح القول إن مستقبل الكويت السياسي مقسم بين أطراف كثيرة: الأسرة، القطاع الخاص الذي يشعر بالكثير من القيود، عائلات وأفراد المدينة أكانوا من السنة أو الشيعة، الطبقة الوسطى وغيرها، ولكن الأكيد أن القبائل ستلعب دوراً كبيراً بحكم تحوّلها إلى الغالبية الجديدة في البلاد. هذا يتطلب سياسة حكومية ويتطلب تعاملاً بناء من أطياف المجتمع الكويتي. إن الموجة الجديدة المكونة من «القبائل» تطرق أبواب الحياة السياسية والاقتصادية الكويتية بمزيج من الغضب والسعي نحو المشاركة. آن الأوان للتفكير من الآن في كيفية تحويل الغضب إلى مشاركة بناءة وشراكة في بناء وطن.