واحدة من أكبر المخاوف التي تواجه القطاع الخاص والأنظمة السياسية ذات البعد الرأسمالي في العالم حصول ردة فعل شعبية على سياساتها مما يهدد بالإطاحة بالكثير من التطورات التي جاءت مع العولمة المتحركة بقوة القطاع الخاص. ما وقع في العالم العربي في الخمسينات والستينات يجب أن يبقى في الذاكرة. فقد قامت قوى شعبية من الضباط الأحرار مدعومة من قطاعات كبيرة من الفئات الاقتصادية الوسطى والدنيا من المجتمع بالانقلاب على الأنظمة السياسية القائمة، وذلك بسبب ما اعتبر في حينه تفشي الفساد وقيام ملاك الأراضي والمصانع والمؤسسات بخسارة الشارع والمجتمع في ظل البحث عن الربح السريع في كل عمل. هكذا سقطت دول مثل مصر والعراق وليبيا وسورية ضحايا لتلك الحالة من ردة الفعل. لم يكن ذلك الأمر مقصوراً على الدول العربية، بل انتشر لدول شتى في العالم من كوبا إلى أوروبا الشرقية ومن آسيا إلى أفريقيا، مما هدد النظام الرأسمالي برمته وحاصره في مناطق محددة في العالم.
لقد انتصرت الرأسمالية على الاشتراكية بعد صراع طويل، وذلك من خلال إصلاحات جوهرية في النظام الرأسمالي أتت بمكتسبات للطبقات الدنيا والشعبية من شاكلة الضمان الاجتماعي والتأمين وأنظمة التقاعد وحقوق العمل والإنسان ونظام الضرائب. ويبدو أن العالم العربي بالتحديد في الطريق نحو مزيد من الرأسمالية الممزوجة بالعولمة. ولكن من جهه أخرى لم تنتهِ ردة الفعل على الرأسمالية والعولمة. ستبقى هذه المسألة أساسية في تحريك قطاعات رئيسية من المجتمع. فالسعي الرأسمالي إلى الربح وتكبير رؤوس الأموال بلا ضرائب حقيقية وبلا رقابة تشريعية وبلا قوانين منظمة تسمح للفئات الوسطى والدينا بالانضمام إلى هذا الجهد الكبير سوف يواجه بالكثير من المقاومة. هذا هو التحدي الكبير الذي يواجه القطاع الخاص النامي العربي والخليجي، إذ سيبقى السؤال كيف ينعكس هذا على الغالبية الشعبية من فئات وسطى ودنيا ومن مواطنين بسطاء ومن فئات قبلية تشعر أن هذا كله لا يعود بالنفع عليها، بل يعود بالنفع على أصحاب النفوذ. ولكن كيف يمكن بناء استقرار في مجتمعات تزداد فيها الطبقات الوسطى ضعفاً وتتراكم فيها الثروات في أيدي أقلية من الناس؟
إن ردة الفعل الشعبية أو حتى الشعبوية على القطاع الخاص، وبالتالي على أنظمة الخصخصة أمر على قدر كبير من الأهمية وإهماله قد يدخل العالم العربي كما قد يدخل دولاً ومجتمعات أخرى بردة فعل جديدة لا تقل حدة عن تلك التي شهدها العالم في الخمسينات بقيادة الحركات الاشتراكية واليسارية والناصرية. بل إن جانباً رئيسياً من الخطاب السياسي الذي تحمله الحركات العربية الإسلامية والوطنية المحلية فيه الكثير من النقد والرفض تجاه انتشار الخصخصة والرأسمالية بالصورة التي نشاهدها اليوم. لهذا تتبلور حال مواجهة نلمسها من خلال أصوات عالية ضد الفساد، وضد انتقال ملكيات في الدولة إلى ملكيات في القطاع الخاص بلا أسس منظمة وواضحة ورشيدة وعادلة. وتأتي مع هذه الأصوات حال عدم الثقة في نزاهة الدولة في عمليات البيع. إن ما وقع في دول عربية في أواسط القرن الماضي بإمكانه أن يتكرر في إطار أطروحات جديدة وقوى جديدة، ربما هذه المرة بقيادة الإسلام السياسي أو بعض تعبيراته.
إذاً كيف يمكن تفادي هذا كله؟ أولاً الشفافية في معاملات الحكومات، وثانياً العدالة في عمليات الانتقال، وثالثاً الحرص على أن يكون هناك عائد نوعي للمجتمع، وذلك من خلال أنظمة ضريبية تسمح بتمويل البرامج الاجتماعية والرفاه الأوسع للبلاد والخدمات الرئيسية وسلامة البيئة. يجب ألا نسمح بتهميش الطبقيات المهنية والوسطى، فهي أساسية للاستقرار، وهي بالتحديد الطبقات الفئات المعنية بالشفافية والديموقراطية والحريات.
ان الرأسمالية نظام متطور ساهم بنقل مجتمعات بكاملها من حال إلى أخرى، ولكن الرأسمالية بصفتها الربحية والجشعة بإمكانها أن تدمر من دون أن تقصد وبإمكانها أن تكون ضحية الفساد والمال السياسي والنفوذ من دون أن تعي كيف تساهم في هذا كله. لهذا بالتحديد سوف يتحدد استقرار الرأسمالية، خصوصاً في الدول الحديثة التكوين والجديدة، بناء على مقدرتها على أن تكون رحيمة وحكيمة وقادرة على جذب المجتمع وفتح آفاق الفرص أمام من لا صوت لهم ومن لا قوة لهم. وبلا هذا تتراجع وتقع تحت رحمة المغالين، مما يساهم في انهيار النظام العام وسيطرة التذمر والسخط الشعبي والعنف.