استقالة الحكومة وحل مجلس الأمة أوصلا الأزمة في الكويت إلى أعلى مراحلها. الأزمة قديمة جديدة، فقد استمرت من عام إلى آخر من دون التوصل إلى صيغة بين مكونات الكويت القديمة والجديدة، الفئوية والجماعية. ولهذا تأخرت آفاق الجديد وانتهت البلاد إلى حال إدمان مكثف على صراعات يومية تأتينا بها صحف الصباح وأخبار المساء. وقد شمل الخلاف اليومي ما يستحق وما لا يستحق، ما يجيزه العقل والمنطق وما لا يجيزه العقل والمنطق. كانت قضايا مثل مسألة القروض، ثم تبعتها مسألة استجواب الوزيرة الصبيح، ثم قضية زيادة المعاشات، ثم إزالة الدواوين وزيادة الخمسين ديناراً، وغيرها، تبدو في شكلها العام قضايا شعبية تتطلب موقفاً وطنياً من كل مواطن، ولكنها في جوهرها كانت قضايا تطرح نفسها على الأجندة البرلمانية بمعزل عن رؤية وبرنامج وتصور يخص مصلحة الكويت البعيدة والقريبة. في هذا لم يكن مجلس الأمة لوحده المخطئ، بل كانت الحكومة شريكاً في هذا الخطأ إما من خلال غياب البرنامج والرؤية وإما من خلال التراجع أمام حدة هجوم مجلس الأمة.
إن مشكلة الكويت الآن أن الدولة، رغم الدعوة للتحول الى مركز مالي، مازالت متناقضة جذرياً مع هذه الدعوة، فهي حتى الآن المقاول الأول والمرابي الأول، وصاحب العمل الأول في البلاد. لهذا، وعلى الجهة الأخرى، أصبح النواب النقابيين الأوائل والمعبرين عن موظفي الكويت العاملين في القطاع العام والذين يمثلون الغالبية. وهذا يعني تحول مجلس الأمة في المرحلة السابقة إلى نقابة كبيرة تسعى إلى أخذ كل ما تستطيع من الدولة من دون أسس ومعاير. وطالما استمر 90 في المئة من الكويتيين في العمل كموظفين لدى الدولة سوف ترتفع الحال النقابية البرلمانية وسوف تزداد معها حدة المطالب الشعبية والبرلمانية. وهذا بطبيعة الحال سيضع الحكومة في موقف صعب ويحد من قدرتها على التعامل مع الزيادات والمطالب النقابية.
إن حل الأزمة لن يكون ممكناً فقط بانتخابات جديدة على أساس الدوائر الخمس. هذا جزء من الحل، وهو لا يعدو عن أن يكون الجزء الأول والأسرع. إن الأساس في المرحلة المقبلة وجود حكومة لديها فلسفة اقتصادية تسعى إلى إخراج الدولة من الورطة التي تجد نفسها فيها، ويجب أن يتم هذا في ظل استعداد حكومي لدفع ثمن هذه الفلسفة أثناء مرحلة الانتقال الصعبة من الاقتصاد الحكومي والاشتراكي إلى اقتصاد السوق والتنمية والمنافسة. على الحكومة أن تكون مستعدة لتأمين هذه المرحلة الحساسة، وذلك من أجل خلق فرص جديدة وكبيرة للشباب الكويتي في القطاع الخاص في ظل التنافسية والعمل والإنتاجية. هذا سوف يعني كويتا جديدة، وحالا جديدة، وقطاع خاص جديد.
وحتى الآن نجد أن القطاع الخاص في الكويت مهمش، كما أن دور الكثيرين من النواب في المرحلة السابقة كان في تسيس قضية القطاع الخاص وجعله يبدو وكأنه يأكل خيرات الكويت بأكثر مما يضيف إليها. من هنا كانت التساؤلات عن كل مربح وكل استثمار للقطاع الخاص وتحول الأمر إلى تضييق عام نتج عنه أن خرجت أكبر شركة اتصالات في الكويت وفي العالم العربي(زين) إلى البحرين، كما بدأت شركات كويتية إقليمية الانتشار تخرج من الكويت وصولاً الى هروب أكثر من 16 مليار دولار من الكويت إلى دبي لوحدها. هذا الهروب ارتبط بعدم الاطمئنان لنظرة مجلس الأمة، وبالتالي الحكومة، لدور القطاع الخاص وسط هيمنة الحكومة على الاقتصاد.
مشكلة السياسة في الكويت انها تحوّلت إلى سياسة بلا وسط عام، وتحوّلت إلى سياسة الشد فيها أكثر من الرخي والمساومة فيها محدودة. أصبح كل فريق يرى الآخر كعدو له، وكل فريق لديه تصورات يريد أن يفرضها. الفرض على الناس كلهم باسم إما باسم الدين، وإما باسم المطالب الشعبية، وإما باسم الأمن أصبح لسان حال البلاد.
إن المرحلة المقبلة تتطلب من الكويت على الصعيد الحكومي والبرلماني الارتقاء للشعار الذي طرحه صاحب السمو الأمير: تحويل الكويت إلى مركز مالي استثماري. ولكن للمركز المالي والاستثماري شروطاً اقتصادية وسياسية وحياتية وقانونية نراها في كل مركز مالي واستثماري في المنطقه وفي العالم. هل نحن مستعدون للتعامل مع هذه الشروط بصدق وجرأة أم أن السياسة تعود وتسيطر على كل شيء وتمنعنا من التعامل مع القضايا الأساسية؟ هل يمكن أن يستوي فصل الطلاب والطالبات في الجامعات الخاصة الجديدة والمدارس ذات المنهج الأجنبي مع تحويل الكويت إلى مركز مالي؟ وهل يستوي كل منع للتجمعات الاحتفالية مع تحويل الكويت إلى مركز مالي؟ وهل يمكن التحول إلى مركز مالي في ظل سيطرة الحكومة على الاقتصاد؟
إن الديموقراطية الكويتية رائدة في العالم العربي، والديموقراطية الكويتية حققت حريات متقدمة، ولكن الديموقراطية الكويتية بإمكانها أن تكون نموذجاً إيجابياً يجذب الآخرين في العالم العربي ودول الخليج، وذلك من خلال تأكيدها على طريق وسط بين الحرية والتنمية وبين حق الاختيار والإسلام وبين انطلاقة القطاع الخاص وحقوق العاملين. علينا أن نفكر جدياً بنموذج كويتي يطرح نفسه بانسجام بين التنمية والديموقراطية وبين الليبرالية والإسلام.