فقدان أحمد الربعي بعد صراع طويل مع المرض شكل خسارة لرموز الإصلاح في الكويت والعالم العربي. لقد كافح الربعي طوال الأعوام من أجل فكر يربط بين مستقبل أفضل وبناء دولة مدنية، وحقوق لكل مواطن ومواطنة، وحريات وانتخابات وديموقراطية متطورة. هكذا يوم التقيته قبل أكثر من عشرين عاماً كانت الكويت بلا مجلس أمة، وكانت الرقابة تدق عنق الصحافة، وكانت الحريات في البلاد بحدود الإعلام المحدود والخطاب السياسي الأحادي. ولكن المعادلة الكويتية تغيّرت على مدى عشرين عاماً من التراكمات، فهناك الآن حريات، ومجلس أمة، وإعلام مفتوح، وصحف بلا رقابة، ومدونات يصعب التحكم بسقفها، وعالم أكثر حرية، وجيل صاعد أكثر تساؤلاً وإصراراً على حرية التعبير رغم وجود معوقات. هكذا يودعنا الربعي، الذي ساهم بطريقته وأسلوبه المتجدد ببناء هذا الوضع الجديد في الكويت، في ظل ظروف حققت من خلالها الكويت جانباً من أحلامه، فالطريق أصبح اليوم أكثر وضوحاً، والسياسة أكثر تعدداً وانفتاحاً، وما لم يتحقق بالأمس أصبح ممكناً اليوم وأكثر إمكانية غداً.
عندما تغادر رموز مثل الربعي الحياة بحركتها وميدانيتها كلها تترك وراءها فراغاً يصعب إغلاقه. كان الربعي أحد هؤلاء الذين أحدثوا ضجيجاً بأفكارهم وأهدافهم من أجل التحرر من قيود التقليد، عندما تعيق التقدم والانعتاق من قيود السلطات، وعندما تتحول في استفرادها لعائق أمام البناء. لقد ناضل الربعي ضد كل احتكار سياسي للحقيقة، وضد كل احتكار فئة سياسية للدين والديانه، وضد أنواع الاحتكارات كلها. هكذا مثل مدرسة تطورت مع الوقت ونضجت رؤيتها لصالح تأمين المساحة للفئات كلها في ظل دولة القانون المدنية. وفي هذا نظر إلى حق الفئات في التعايش، وحق الجماعات في ممارسة مبادئها من دون أن تفرضها على المجتمع كله.
وكم من شاب أو شابة سيرون في نموذجه طريقاً ممكن التحقيق بأن مواطناً من الكويت بإمكانه أن يكون خريجاً من واحدة من أرقى الجامعات في العالم، ومناضلاً سياسياً وسط الحركات السياسية العربية الساعية إلى المساواة والعدالة. سيرون أن سعيه، كما هو الحال مع كل سعي صادق، يأخذ صاحبه في رحلة عمر طويلة من عالم إلى آخر بحثاًَ عن الحقيقة والتعطش للجديد. لقد أخذته طريقته من مرحلة الاحتجاج في الكويت على حرب عام 1967إلى مقاطعة ظفار في عمان حيث الثورة المسلحة في الستينات من القرن الماضي وتجربة مع القتال والسجن إلى فلسطين وقضيتها العادلة والعمل الفدائي، ثم عودة إلى الكويت، وصولاً إلى مرحلة السعي نحو الإصلاح والدستورية وبناء دولة مدنية بوسائل سلمية وبواسطة صناديق الاقتراع وحقوق التعبير. فكم من شاب وشابة في الكويت وفي منطقة الخليج سيشعرون بارتباط مستقبلي مع القضايا التي توصل إليها الربعي في مشواره الطويل والحي.
بموته خسارة خاصة وعامة، فهي خاصة، على كل صعيد، لأهله وأصدقائه ومحبيه الذين عرفوه بمجالات عدة وأدوار مختلفة. ولكن الربعي خسارة عامة للوطن وللبلاد التي استثمرت بأبنائها واستثمروا فيها، فنمت بنموهم وتقدمت بسبب نجاحاتهم. إن دوي صوت الحشد الذي سعى إلى توديعه هو وداع لقائد سياسي ولشخصية عامة حملت هموم السياسة والمجتمع قبل أن تحمل همومها الخاصة. إن الفراغ الذي يتركه الربعي سيلامس تطور البلاد السياسي وسيترك أثره في مجتمع يبحث عن التجديد. لقد سقط نموذج، وكم نموذجاً بإمكانه أن يجدد نفسه في حياة الآخرين الباحثين عن المستقبل.