مرت ذكرى الاستقلال وذكرى التحرير والكويت تواجه تحديات مرتبطة بمعانٍ وتجارب هذين اليومين، إذ تمر هذه الذكرى في ظل حدة النقاش في الكويت في قضايا عدة، منها الاختلاط في التعليم، وزيادة الرواتب، ودور مجلس الأمة والحكومة، وصلاحيات كل منهما في ظل العملية السياسية في البلاد. هكذا تأتي هذه الذكرى، ونحن نتساءل عن أي كويت نريد اليوم وغداً، هل نريد الكويت تعيش تجربة التعددية والاحترام المتبادل بين القوى؟ وهل نريد الكويت مركزاً تجارياً واستثمارياً وتعليمياً؟ أم أنه من جهة أخرى يبقى هذا كله في مجال الشعار الذي يفتقد للتطبيق؟
الكويت في ذكرى استقلالها مطالبة بإعادة زيارة مرحلة الاستقلال ومعانيها السياسية. فهناك ضرورة لإعادة التعرف على كيفية قيام الشيخ عبدالله السالم ببناء الأسس التي قامت عليها الكويت في ذلك الوقت. الاستقلال شكل بحد ذاته مدخلاً لكتابة الدستور وللبدء بحياة ديموقراطية حية، ولوضع أسس للحل الوسط والمساومة السياسية بين الأطياف السياسية في ذلك الوقت. دروس تلك المرحلة مهمة للكويت لأنها شكلت أساس بناء الدولة، بعيداً عن الشخصانية في القيادة. لم يكن صدفة أن الشيخ عبدالله السالم أنشأ حكومة شباب، ولم يكن صدفة أنه حدد الصلاحيات للوزراء وقبل ذلك للدوائر، وأنه طوّر الإدارة، وأنه تقاسم السلطة عملياً مع رئيس مجلس الوزراء كمنصب جديد ومع التجار ومع مجلس الأمة الجديد بصفتهم ممثلي المجتمع في ذلك الوقت. لقد وضعت تلك المرحلة الأساس لمبدأ المواطنة وحقوق المساواة بين المواطنين.
وطالما نتحدث عن الاستقلال علينا أن نتذكر جيداً بأنه يسجل للكويت أنها استقلت عن بريطانيا بلا عنف أو إراقة دماء. إن الدول والمجتمعات التي استقلت عن الدولة المستعمرة بوسائل أقل عنفاً حققت الكثير من التقدم بفترات زمنية سريعة، كما أنها لم تهدم ما تمت إقامته في زمن الاستعمار (رغم قلته). إن الاستقلال الذي تم بروح سلمية أكد على سلمية الكويتيين في ذلك الوقت وحافظ في الوقت نفسه على روح بناءة وتعطش للبناء السلمي بعد الاستقلال. علينا أن نستحضر معاني هذه التجربة في ظل التطورات الراهنة والتطورات الاقليمية.
أما مرحلة الغزو والتحرير فهي المرحلة التي وضعت الكويتيين، يميناً ويساراً، شيوخاً وتجاراً، قبائل وعائلات، شيعة وسنة، في بوتقة سياسية واحدة. فرغم حدة الاختلاف الكويتي الكويتي قبل الغزو، إلا أنه تبين أثناء الغزو بأنه لا يوجد ما يخيف الكويت من نفسها ومن أبنائها مهما كان حجم الاختلاف. لقد اتحدت الكويت في ذلك الوقت، فما الذي يمنع أن تتحد الآن ثانية من دون أن يمنع هذا الاتحاد الاختلاف في الرأي والطرح والطرح المضاد. وربما لا نضيف شيئاً إن قلنا يجب أن يكون تطبيق القانون والعدالة والرحمة في التعامل أساس المبدأ الذي يحمي الوحدة الوطنية في الكويت. علينا أن نستذكر هذا في ظل الأزمة الراهنة التي اندلعت بسبب مجلس العزاء رغم حدة العواطف والمشاعر.
ولكن مرحلة الغزو هي الأخرى أسست لبذرة التطرف والعنف في الكويت، وذلك لأن المجتمع الكويتي ذاق العنف بأبعاده للمرة الأولى على يد قوات صدام حسين، كما أن المجتمع الكويتي تمرس على التعامل مع العنف في زمن مواجهة قوات صدام وقمعه. وهذا يعني أن المقدرة على المواجهة العنيفة ليست بعيدة عن الكويتيين، وأن الكويتيين بإمكانهم في ظل ظروف محددة ممارسة العنف بكل ما فيه من أبعاد. وقد شاهدنا بعض هذه التعبيرات العنيفة بعد التحرير، خصوصاً من قبل بعض الحركات المتطرفة في الكويت. من هنا كان خطر الغزو في ذلك الوقت ليس فقط في مرحلة الاحتلال، بل بالجروح النفسية والميل للعنف الذي صاحب مرحلة ما بعد التحرير.
بعد 17 عاماً على تحرير الكويت تعيش الكويت متناقضات عدة. أحيانا تبدو الكويت وكأن فيها فريقاً يتوق لأن تكون البلاد مثل لبنان (لديه جبهة نازفة في الجنوب وحزب يستمد قوته من قضية صراع مع إسرائيل والولايات المتحدة في ظل دعم خارجي فعال)، وأحيانا أخرى تبدو الكويت وكأن فيها فريقاً يتمنى لو كانت الكويت مثل أفغانستان السابقة بتشددها الاجتماعي كله وقوانينها الغريبة، وهناك فريق يريد الكويت أميركية مثل ولاية أريزونا أو مثل بعض دول أوروبا. هذا التفكك في الرؤى افقد الكويت رؤية جامعة واحدة تتسع للجميع. ولكن السؤال: كيف يمكن أن تتسع الكويت للرؤى كلها في ظل رؤية تنموية سلمية لا تمنع أحداً عن التعبير، ولكن لا تسمح لأحد بتجاوز الدستور وأسس القانون ولا تسمح لأحد بمصادرة رؤية الآخرين. بالإمكان خلق كويت تتعايش فيها المدرسة ذات التعليم المشترك مع المدرسة ذات التعليم المنفصل، والمنطقة الحرة مع المنطقة غير الحرة، والإعلام المفتوح مع الإعلام ذي الطابع الديني، والحجاب مع عدم تغطية الرأس، وحياة الاختلاط في كل مكان مع حياة الفصل، والاحتفال في رأس السنة مع رفض الاحتفال، والاحتفال في أعياد الميلاد لمن يريد أو لمن يدين بالمسيحية مع عدم الاحتفال. ماذا يمنع بأن يكون لكل فئة حقوقها وخياراتها من دون تدخل من الدولة إلا في مجال النوعية والتنظيم والأمن. أليس في جزء كبير من التجربة العالمية ما يؤكد لنا إمكانية تعايش المدارس كلها؟ أليس هذا أساس الدول الحديثة؟
بعد سبعة عشر عاماً على التحرير، وبعد ما يقارب نصف قرن على الاستقلال نجد ديموقراطية فتية، وديموقراطية ناشئة تبحث عن ذاتها وتحاول اكتشاف الممكن. الكويت تتقدم في العالم العربي بنموذجها الديموقراطي. ولكنه نموذج في طور التعلم والاكتشاف ويواجه الكثير من المقاومة عربياً. المطلوب الآن في الكويت من النخب السياسية والمجتمع المدني والدولة إعادة دراسة تجربة الاستقلال وإعادة التبصر بمعنى التحرير، بلا هذا سوف تتأخر الكويت عن غيرها وسوف تتراجع عن رسالتها.