الديموقراطية ليست صناديق انتخاب بل هي ممارسة ترسخ في الوجدان ومن استحقاقاتها الرئيسية التسامح والقبول بالرأي والرأي الآخر وغض النظر والترفع عن اشياء كثيرة خاصة الصغيرة منها، ومعها الايمان بأن التصويت على القضايا ينهي كل خلاف ونزاع ويفرض البدء بالنظر في قضايا جديدة بدلا من تكرار طرح نفس القضايا، والديموقراطية هي الايمان بالفروسية والروح الرياضية في التعامل مع بعضنا البعض وتجذير مبدأ «عفى الله عما سلف».
ومنذ اليوم الاول لبدء الدعوة الاسلامية انقسم المسلمون الى معتدلين آمنوا بقضايا عصرهم وكيفوا مواقفهم على معطى متغيرات الحياة، فأوصلوا بذلك النهج المتسامح الاسلام الى أعلى مجده وانتشر تبعا لذلك في مشارق الارض ومغاربها، وبالمقابل كان هناك رهط متشدد كـ«الخوارج» ديدنه وعمله قتل المسلمين ومقاتلة جيوش الخلفاء ولم يكن هناك اضر منهم على الاسلام رغم حسن نواياهم بالطبع!
قامت الكويت منذ اليوم الاول لنشوئها حتى منتصف السبعينيات بدور تنويري وثقافي مهم في منطقة كان يغلب عليها التشدد والتخلف، فتسابقت دول العالم لحمايتها والتأكد من بقائها فبقيت ثرية زاهرة – رغم قلة الموارد الطبيعية – يهاجر لها الآخرون في وقت اختفت في دول اخرى اكبر واعظم شأنا منها كدول الادارسة والاشراف والمحمرة.
ومع تعاظم وتضاعف موارد النفط منتصف السبعينيات، شعر البعض ان الكويت لم تعد تحتاج لدول العالم والانفتاح عليها او حتى الاستمرار في لعب دورها التنويري المعتاد، فبدأت مرحلة الانغلاق لأسباب سياسية واجتماعية يطول ذكرها ودفعنا سريعا ثمن ذلك التوجه بنكبات امنية واقتصادية وسياسية غير مسبوقة، وتوقفت تماما عجلة التنمية حتى انتهينا بالاحتلال والاختفاء خلال سويعات قليلة من ليل دامس الظلام.
اتى التحرير وانتشرت آنذاك اغنية كتبها المبدع بدر بورسلي واسماها «وطن النهار» حتى ظننا من تكرارها في حينها انها اصبحت عنوانا للمرحلة المقبلة، واننا سنفتح مرة اخرى نوافذنا لأفكار الشرق والغرب دون خوف او وجل، بعد ان جربنا الانغلاق ودفعنا اثمانه الباهظة.
إلا اننا فوجئنا بردة شعبية قوية غير مفهومة تدعو للانغلاق مرة اخرى بشكل اشد واقوى تمثلت راياتها وممارستها في منع التعليم المشترك وفرض ضوابط الحفلات التي قضت على مهرجان «هلا فبراير» والتشدد في رقابة معرض الكتاب وافلام السينما حتى هجرها الجميع، والتوقف عن تجديد او بناء المسارح الجديدة وكليات الفنون الجميلة، توازيا مع الاستغناء عن حصص الموسيقى والرياضة والمكتبات والهوايات في المدارس العامة.
ويعلم الجميع ان البديل «الوحيد» للنفط هو العودة للدور التاريخي للكويت اي دور المركز المالي والخدماتي في المنطقة، وهو خيار لا يمكن ان يتحقق تحت ظلال الانغلاق والتزمت والتشدد.
آخر محطة:
(1) الحقيقة التي لا مجاملة فيها اننا كلما تشددنا في قضية كانت الحكمة تقتضي ان نعف او نغض النظر عنها، اطفأنا شمعة اخرى في مسار الكويت المستقبلي المحفوف بالمخاطر الخارجية والداخلية، والخوف كل الخوف ان نختفي مرة اخرى مع انطفاء آخر شمعة تنوير دون ان يشعر بنا احد.. من تاني!
(2) قد يكون مستغربا جدا اننا نتشدد في وقت يتجه فيه العالم اجمع الى مزيد من الانفتاح والقبول بالآخر، ودلالات على ذلك الامر ما يحدث في الانتخابات الاميركية والسعودية وتركيا وبريطانيا من متغيرات.