يبدو مما هو قائم، ورغم الاهتمام الأميركي الجديد، أن تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي لن تصنع بسهولة وقبل مرور مزيد من الصعوبات والمواجهات والتعثرات. ما وقع في غزة من مجزرة وما سيقع في المستقبل من ردود فعل يشير إلى بُعد التسوية، وما يقع من اعتقالات واغتيالات في الضفة الغربية يؤكد أن الصراع لن ينتهي في المدى القريب. فهناك في الساحة الفلسطينية ضعف واضح: حركة «فتح» تتراجع نسبة لما كانت عليه من حركة وطنية جامعة لا تقل في حجمها للفلسطينيين عن حجم جبهة التحرير الجزائرية في زمن الثورة. أما حركة «حماس» فهي الأخرى تتراجع في قوتها وزخمها وشعبيتها بالطريقة نفسها: انتشار الفساد، سياسات القمع بحق المعارضين تأجيج للصراع الداخلي، خطف شخصيات وطنية وتخوين شخصيات مناضلة. في أجواء كهذه لن يستطيع الرئيس الفلسطيني أبو مازن أخذ قرارات كبرى تقرر مصير السلام. ففي فلسطين لا توجد حتى الآن شخصية جامعة تستطيع أخذ قرارات تاريخية كشخصية ياسر عرفات. فبغيابه يزداد تفكك الحركة التي أسسها، بل ربما علم الإسرائيليون وعلم شارون أن التخلص منه كان سيؤدي إلى هذه النتيجة.
من جهة أخرى، فإن إسرائيل هي الأخرى ليست مستعجلة للتوصل إلى حل سلمي، فلماذا الاستعجال وهي تمتلك دعماً أميركياً متميزاً وعلاقات إيجابية مع أكثر من دولة عربية، ووضع دولي قلما يضغط عليها، وحرية في التمدد في الأرض، وتوسعة الاستيطان، والاستمرار في بناء الجدار، والدفع بالفلسطينيين إلى مزيد من المخاسر. ففي إسرائيل لا توجد شخصية إسرائيلية جامعة قيادية بعيدة النظر، كما كانت الحال مع إسحاق رابين الذي اغتاله متطرف إسرائيلي. كما أن الحكومة الإسرائيلية تستند الآن على قاعدة ضعيفة في الكنيست الإسرائيلي مما يسهل طرح الثقة فيها عند أدنى موافقة على تحول السياسة الإسرائيلية. لقد بنت إسرائيل الجدار الفاصل الذي يفصل بين الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والأراضي الإسرائيلية المحتلة عام 1948، كما أنها تضم خلف ذلك الجدار الكثير من المستعمرات، إضافة إلى أنها استوطنت القدس ومحيطها لدرجة أن الحل على القدس يزداد صعوبة. هكذا تتحول القضايا المطروحة على مائدة المفاوضات الى قنابل موقوتة، وسيجد المتفاوضون أنهم لا يمثلون حقيقة ما يجري على الأرض. فما المتوقع؟
هذا العام سيكون عام تكثيف للصراعات لأن الرئيس بوش لن يغادر البيت الأبيض قبل أن يتعامل مع الإرهاب وفق تصوراته ومع إيران وفق تقييمه للخطر الذي تمثله، وقد يكون جزءاً من التعامل سلبياً وذا طابع عسكري بينما الجزء الآخر ذو طابع سياسي. هذه التوجهات لن تسمح الآن بأجواء تسوية، بل ستساهم بأجواء الصدام. بمعنى آخر، في ظل الظروف الراهنة، إسرائيل لن تكون قادرة على أخذ زمام المبادرة لقيادة حل سلمي مع الفلسطينيين، ولا الفلسطينيين سوف ينجحون في التوجه السلمي في ظل سياسات إسرائيلية تأخذ منهم مزيداً من الأرض وتفرض عليهم مزيداً من منع التجول والحصار. واقع الصراع العربي – الإسرائيلي الآن كتاب مفتوح من الصراعات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين «حزب الله» وإسرائيل، وبين إيران والولايات المتحدة. لهذا من المتوقع الاستمرار لصراعات المنطقة في ظل مفاجأت عدة هذا العام.
من جهة أخرى، سيجد الفلسطينيون أنهم مستمرون في المقاومة والتعامل مع مبادرات مختلفة، وسيجدون أن بلورة مزيد من أشكال التعبير الرافض للوضع الراهن والمكرس للاحتلال والحصار والجدار هو جزء من قدرهم. ولكن هذه المرة يجب إعادة النظر بالوسائل المسلحة والسعي إلى استيعاب دروس الانتفاضة المسلحة. إن السعى نحو استنهاض أجواء انتفاضة عام 1987 هو المدخل لمواجهة الجدار والتمدد والاستيطان. فالمقاومة السلمية قد تكون أكثر أشكال المقاومة إحراجاً لإسرائيل واستنهاضاً للرأي العام العالمي وتفكيكاً للرأي العام الإسرائيلي الذي يريد قطاع كبير منه الانتهاء من حالة الحرب. إن تطوير المقاومة السلبية يمثل الأسلوب الأكثر مقدرة على كشف الاحتلال، ونزع صفة مواجهة الإرهاب عنه، وهذا يتطلب بطبيعة الحال إعادة النظر بالتجربة الفلسطينية والاستعداد لخوض تجارب جديدة تسمح بإيقاف التآكل الراهن، وتعيد للحركة الوطنية الفلسطينية وهجها بصفتها حركة تمسك بالأرض، وحركة سعي نحو العدالة والاستقلال.