رأس السنة ليس احتفالاً مسيحياً، أو بوذياً أو هندوسياً أو يهودياً أو غيره، بل هو احتفال عالمي تحتفل فيه كل أمة وحضارة وكل دولة ومجتمع. الاحتفال في جوهره إعلان لنهاية عام وإعلان في الوقت نفسه لبداية عام جديد، فهو إعلان إيجابي بالتفاؤل بالمستقبل وبالجديد وتوديع للماضي مهما كانت حصيلته، فهو عيد تحتفل فيه الشعوب على ألوانها ودياناتها وعقائدها. إن التقويم الذي يبدأ في الأول من يناير من كل عام أصبح أساساً لإصدار الكتب والصحف وأساساً لبرامج الحكومات والانتخابات وأساساً لكل توقيت وكل عمل في العالم. لهذا نجد أن الشعوب كلها تجد في هذا اليوم بالتحديد يوماً للتعبير عن الفرح في المجال العائلي أو الشخصي تجمعاً واحتفالاً. ولكن تعبير الناس عن فرحتهم في هذا اليوم يختلف من أسرة إلى أخرى ومن فرد إلى آخر ومن فئة إلى أخرى، فهناك من يحتفل بهدوء، وهو محق في هذا، وهناك من يحتفل في أجواء راقصة وغناء لا يتوقف وهو محق في هذا، وهناك من يحتفل سفراً وهناك من يجلس في منزله للاستمتاع بمتابعة الاحتفالات في العالم من خلال جهاز التلفاز وهو محق أيضاً في هذا، وهناك من يحتفل من خلال الخروج إلى الشارع والوقوف مع تجمعات تنتظر لحظة بداية العام الجديد. أنواع التعبير تختلف وإن كانت في الجوهر تعبير عن الإقبال على العام الجديد بتفاؤل وسعادة. لهذا من الصعب أن يقتصر الاحتفال على شكل محدد، على طريقة واحدة وعلى تعبير واحد، فالمحاولة في تحديد شكل الاحتفال تفسد من أجواء البهجة والشعور بالحرية المصاحب له، كما أنها في الوقت نفسه تفشل في إيقاف هذا الوضع، فعلى مر الأزمان تفوقت أجواء البهجة، خصوصاً عندما واجهت محاولات للتحكم من أقطاب حزبية وسياسية وعقائدية ودينية. فالتحكم يأتي مع نسبة كبيرة من القمع والبوليسية، وهو ما ترفضه فئات المجتمع وأفراده، وينتج عادة عن ذلك المزيد من التمرد والتمترس والرفض لهذا الأسلوب.
من جهة أخرى، إن المطالبة بترحيل يوم رأس السنة هو ترحيل وهمي. فالاحتفال سيبقى هو نفسه، والتعبير عنه سيبقى في زمانه، ولهذا تراجعت الدولة في الكويت عن الترحيل، رغم العمل بهذا المبدأ لأعوام عدة. وبينما يحتفل العالم ويأخذ يوم إجازة لا يعقل أن نكون نحن في يوم عمل، بينما نتغيب عن يوم العمل بعد ذلك بأيام. في حقيقة الأمر، يضيع علينا يومان، وإذا أضفنا عطلة نهاية الأسبوع نجد أن أسبوعاً كاملاً قد اختفى من قاموس العمل. سنجد أن القطاع الخاص يأخذ عطلته، في معظمه، يوم رأس السنة، بينما الدولة لا تأخذ عطلة، ولكن في الواقع سنجد أن نصف موظفيها في غياب أو في نعاس. لهذا، فالقرار الحكومي بعدم ترحيل رأس السنة هذ العام كان حكيماً، بل من الصائب عدم ترحيل رأس السنة الهجرية، وعدم ترحيل كل عيد من الأعياد لما لكل عيد من خصوصية وقدسية ومعنى. في هذا بالتحديد يحق للمعارضين المطالبة بالمساواة بين الأعياد كلها. في هذا عدالة ولكن مع الحفاظ على موعدها.
ولكن كيف بدأ رأس السنة في التاريخ الإنساني؟ وهل هو تقليد مسيحي أم غربي أم شرقي؟ إن احتفالات رأس السنة في الأول من يناير أمر حديث. الاحتفالات الأولى في رأس السنة في التاريخ بدأت في العراق (نعم العراق) منذ نحو ألفي عام قبل الميلاد، كان الاحتفال يتم في أواسط مارس من كل عام، وكان العام موزعاً على عشرة شهور. أما المصريون والفينيقيون والإيرانيون فقد احتلفوا برأس السنة في الوقت ذاته تقريباً.
ولكن الاحتفال في الأول من يناير لم يتم إلا مع إدخال التقويم السنوي. التقويم الجديد الروماني بدأ مع يوليوس قيصر عام 46 قبل الميلاد. في عام 157 بعد الميلاد تحول هذا إلى التقليد الجديد وانتشر في الدولة الرومانية التي سادت العالم. ولكن في القرون الوسطى، خصوصاً منذ القرن السادس الميلادي، ساد أوروبا الجمود وتحريم كل شيئ، وتم إلغاء رأس السنة بحجة أنه احتفال وثني وغير مسيحي. وفي مراحل محددة في التاريخ الأوروبي في القرون الوسطى تمت الاحتفالات في رأس السنة في الخامس والعشرين من ديسمبر، أي يوم الاحتفال بمولد السيد المسيح.
إن العودة إلى احتفالات رأس السنة بصفتها تقع في الأول من يناير من كل عام لم تتم مجدداً إلا في العام 1582، وقد طبقت ذلك المجتمعات الكاثوليكية في البداية. وأخذ الأمر وقتاً من الزمن إلى أن تحول الأول من يناير إلى يوم جديد يفصل بين عام وعام ويجرى الاحتفال به في كل مكان. فحتى القرن الثامن عشر احتفلت بريطانيا ومستعمراتها الأميركية في مارس برأس السنة الجديدة. ولكن التغيير لم يقع إلا عام 1752 ميلادية.
إن الضجة المثارة على رأس السنة والاحتفال به والتي ساهمت بخلق إثارة جديدة (وكأننا لا ينقصنا إثارة في كل مسألة وقضية مهما كانت بسيطة أو كبيرة) أخذت وقتاً من مسؤولي الدولة ومجلس الأمة. هذا دليل جديد يعبر عن الحال التي وصلنا إليها، اذ يكفي لصحيفة أن تنشر صورة ليكون هناك ردود فعل برلمانية، وبالتالي حكومية، تتجاوز ما للصورة من معاني. هكذا تتحكم صورة فرحة أو بهجة من خلال خلق ردود فعل غاضبة وأزمة سياسية. والسؤال: ماذا نخبئ للصورة المحزنة أو الأزمة الحقيقية؟ وهل ستكون ردة فعلنا مساوية؟ في هذا مشكلة كبيرة إن ساوينا بين الأمور الهامشية والأخرى الجدية!
ولكن السؤال الأكبر: هل الهدف من هذا كله هو التحكم السياسي والتأثير على القرار الحكومي في كل شيئ حتى في أبسط الأمور وأكثرها بدهية؟ هل فعلاً يعتقد البعض بإمكان قيادة المجتمع وأفراده بهذه الطريقه؟
إن النتيجة لهذا كله هو مزيد من الضيق والاحتجاج والسفر من البلاد في زمن الأعياد والمزيد من التردي في النظر لدور مجلس الأمة والتعبير الديموقراطي. وهذا كله يساهم في تسهيل الأجواء الساعية إلى الانقضاض على الديموقراطية، وهذا كله يساعد في إبعاد الكثير من الديموقراطيين عن التجربة الديموقراطية. ألم تقع تجارب مشابهة في الجزائر والسودان وأفغانستان ومجتمعات إسلامية أخرى نتج عنها تراجع عن الديموقراطية؟
علينا أن نعي أنه ما هكذا تساق المجتمعات، وما هكذا يمكن إيقاف سعي الناس إلى التعبير عن حرياتهم ومساحتهم وفرحتهم البريئة دون الإخلال بكونهم يحملون قيماً وأخلاقاً غير مسموح لأحد التشكيك بها. سيؤدي هذا التدخل في الحريات الخاصة إلى مزيد من الرفض والتحدي، وهو سيساهم إن استمر، في مجالات أخرى إلى إضعاف الكويت وإضعاف التجربة الديموقراطية، إضافة إلى الحد من إمكانية تحول الكويت إلى مركز مالي واستثماري.