فؤاد الهاشم

حين كانت «سيلانيتهم».. إيطالية!

اعتدنا في الكويت على سماع المرأة وهي تسأل صديقتها عن جنسية خادمتها فتقول لها:« سيلانيتكم .. فلبينية»؟ فترد عليها الأخرى بقولها: «لا والله سيلانيتنا .. أثيوبية»! لكن قبل أكثر من 70 سنة كانت المرأة المصرية من ذوات الأسر العريقة زمن البكوات والباشوات تسأل صديقتها «بنت الباشا» وتقول :«هل سوادنيتكم.. يونانية»؟ فترد الأخرى قائلة : «لا سودانيتنا .. إيطالية» والمعنى أن خدم القصور في ذلك الوقت كان أغلبه من السودان ومنطقة النوبة لكن بعضها كان يأتي بخادمات من .. إيطاليا واليونان! تخيل أن لديك في البيت خادمة إيطالية «شمحوطة» من المؤكد أنك لن تخرج من المنزل على الإطلاق!
كان أهل اليونان- الأوروبي وأهل إيطاليا الأوروبية يتوسلون أمام السفارات المصرية في بلدانهم للحصول على تأشيرات للدخول إلى مصر ليس للسياحة بل للبحث عن عمل ومصدر رزق موسيقيون ومخرجون سينمائيون وطهاة وسواق وأطباء وكذلك خدم وخادمات يحلمون بفرصة عمل في أرض المحروسة وقتها كان الجنيه المصري الواحد يعادل الآن خمسة دولارات أميركية .. وعليك الحساب!

في السبعينات التقيت بابن تلك إحدى الأسر العريقة القديمة أو ممن يسمونهم «عزيز قوم» فقال لي إن أرض والده بمساحة ثلاثة آلاف فدان والفدان يساوي أربعة آلاف متر أي ثلاثة آلاف اضربها في أربعة آلاف متر أي ما يعادل 12 مليون متر أي ثلث مساحة مزارع «الوفرة » وكان يعيش معنا «الكلام لعزيز القوم» عليها عشرة آلاف فلاح مع زوجاتهم وأولادهم يحرثون الأرض ويزرعونها يفيدوننا ويستفيدون -نحن ندعمهم بالأسمدة والبذور والمبيدات وهم يزرعونها بعرقهم وتعبهم، صحيح أننا نأخذ أكثر من 90% من المحصول لكن العشرة بالمائة بالنسبة لهؤلاء الفلاحين البسطاء.. «رضى ونعمه من عند ربنا بيشكرونا عليها من طلعة الفجرية .. لحد المغربية»! ثم جاءت ثورة 1952 فأخذ الضباط الأحرار الأراضي منا بطريقة المصادرة والتأميم وأعطوا كل اسرة فلاح خمسة فدادين ملكا خالصا له لكنه لا يملك ثمن سمادها وبذورها ورعايتها فصار يؤجرها بـ«شوية ملاليم» لفلاح ثاني مدعوم من «نصف باشا» وضاعت «الطاسة والمصلحة» ولم يستفد احد مثلما استفاد أيام الملكية والبهوية والبشوية والأمير فلان والأميرة فلانة . إلى أخره
لم تعد الخادمة الإيطالية الحسناء تستطيع أن تجد عملا في منزل أسرة عريقة لأن«أهل العز وأكل الوز» إما غادروا إلى أوروبا إو إلى بلاد الشام ومعهم ما غلى ثمنه وخف حمله ولم يبق من بقايا أجانب الماضي إلا «يوناني يبيع بسطرمة»! أو حلاق أرمني يحلق للبني آدمين في النهار ويصبح حلاق «بهايم وحمير ومعيز» في أخر الليل!
اليهود الذين تخصصوا في تجارة الساعات وتصليحها صمدوا لبضع سنوات حتى ظهرت تباشير دولة إسرائيل فصار المصري يسمع رنة جديدة ترن في أذنه لم يسمعها من قبل وهي ان جاره «حاييم» صاحب محل «الجبن الرومي والسمك الملوحة والزيتون الكلماري» يبحث في السر عن طريقة يستطيع بها إخراج الجنيهات المصرية للخارج وتحديدا إلى سفن ترسو في موانئ يونانية وإيطالية استأجرتها الوكالة اليهودية لتجميع يهود العالم ونقلهم إلى أرض الميعاد! حتى الآن وبعد سنوات ثلاث على قيام الثورة المجيدة كان الجنيه المصري قد هبط قليلا إلى ما دون الدولارين..«يعني لسه فيه الرمق»!
هذه الأيام المصريون يركبون سفن هجرة غير مجهزة يقودها نصابون أخذوا منهم عصارة ثرواتهم القليلة من جاموس وبقر وفراخ وبط حتى يجدوا لأنفسهم مقعدا عليها ليسافر إلى البلد الذي كان أهلها يسافرون إلى بلده هو« المصري» ليبحثوا عن عمل وها هو الحال قد دخل في المعكوس !
يقول المهندس «عثمان أحمد عثمان» في كتاب جميل كتب فيه عصارة جهده ورواه بدموع عينيه وزانه بغضبه على النظام واسمه «تجربتي» وكيف بدأ مشروع تأسيس أكبر شركة مقاولات الوطن العربي برمته وليس الشرق الأوسط فقط أطلق عليها اسما ما زال إلى يومنا هذا من أعرق البيوتات العقارية عبر مائة سنة إنها «شركة المقاولون العرب -عثمان أحمد عثمان»! الكتاب يتحدث عن عمله في الكويت والسعودية ونجاحاته الباهرة بينما في مصر تنظر إليه الثورة على أنه «إقطاعي، رأسمالي، عفن، مص دم الغلابا ،ولازم نأخذ المؤسسة دي منه وتصبح مال عام مملوك للدولة»! وهذا ما حدث مات الرجل كمدا وقهرا!
«أمير الحلو» صحافي عراقي عاصر زمن عبدالسلام عارف وقاسم وصدام حسين وزار ليبيا وقابل القذافي الذي قال له «إن الشعب من يحكم وليس أنا» فذهب أمير إلى سوق شعبي بوسط طرابلس فوجد إمرأة ليبية تبيع أكياسا صغيرة بها قليل من ثمار «التوت» يقول الصحافي أمير:«سألتها أنت من الشعب فهل تمارسين الحكم في البلاد»؟ المرأة لم تفهم ما قال لكنها ردت بتوسل قائلة :«إنها تريد فقط بيع التوت والعودة للبيت ومعها دينار ليبي يكفي لعشائها مع الأولاد هذه الليلة ويكفي لإفطار صباح الغد وغداء ظهر اليوم التالي وبعدها تبحث عن «توت» جديد تعود لبيعه في السوق الشعبي بطرابلس عاصمة ليبيا الثرية بالنفط والتي كانت تنتج حوالي ثلاثة ملايين برميل يوميا وشعب عدده أقل من عدد هذه البراميل المستخرجة يوميا!
اليوم تبتلع مياه «المتوسط» جثث مواطنين مصريين وسوريين وعراقيين وليبيين كل يوم وهم يفعلون فعل أهل إيطاليا وأهل اليونان وأهل ألبانيا حيث كانوا يتقاتلون من أجل الوصول إلى أرض مصر حيث الماء والخضرة والوجه الحسن والعمل المتوفر والعملة القوية التي تضرب الدراخما اليونانية «على عينها» وتضرب «الليرة» الإيطالية على «صرصور ودنها» أما الآن فالمصري يذهب لليونان ليعمل جرسونا ويذهب المصري لإيطاليا ليعمل طباخ بيتزا ومع أن إيطاليا كانت ملكية واليونان كذلك إلا أن ملكية مصر ذات نهكة خاصة وحنان قلب ..غريب!
حتى اللحظة لوسألت أي عجوز مصري عن شئ من ذكريات ماضي جميل لقال لك:«مائة بيضة بتعريفة أي أقل من خمس فلوس» تشتريها من «مرات الخواجة أم ينّي» التي لديها بنت اسمها كريستينا وجمالها «يفلق الحجر» أما الآن فلا تشاهد إلا «عزة الجرف-الأخوانية» الشهيرة بـ«أم أيمن» ذات اللسان السليط .. والأنوثة المذكرة وكله من عبدالناصر!

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *