حسن العيسى

فتوش الحكومة

شبّه مروان سلامة مشروعات الإصلاح المالي والاقتصادي بسَلطة “الفتوش”، التي هي عبارة عن بقايا خضراوات وخبز بائت تخلط معاً كي تخرج بطبق للأكل (القبس الاقتصادي عدد أمس). قد يكون تشبيه مروان صحيح جزئياً، إذا استعرضنا تصورات الحكومة للخروج من الأزمة، فلا جديد بها، فهي اقتباسات وآراء من دفاترها القديمة رُكِنت في أدراج النسيان واللامبالاة بمكاتب المسؤولين في زمن مضى، مثل خفض الدعم، والضريبة، والتخصيص، وغير ذلك من أحلام وأوهام، والآن بعد أن “نزل الفاس بالراس”، أخذت الحكومة تعيد إنتاج “فتوشها”، فتنبش دفاترها القديمة وتطرحها بخجل وبقلق من ردود فعل تنتقص من شعبيتها التي تقوم بداية ونهاية على شراء الولاءات، وأعرف ملل القارئ وتشبعه من ترديد العبارة الأخيرة، لكن ما العمل إذا كانت قدرة الاستيعاب الفكري في الجهاز العام للدولة بائسة.
مروان، في مقال أمس أو في ما سيطرحه في مقالين مقبلين حسب وعده، يعلق على الحلول والوصفات الجاهزة ويقترح تعديلها أو إهمالها، فهو يرى أن ترشيد الماء والكهرباء “… أمر ضروري، لكنه يحتاج إلى تنفيذ تدريجي”، ويرى ضرورة السكن العمودي لحل الإسكان، وهو أمر كان مقبولاً حسب دراسة عام 1988، لكن تم الانقلاب عليه فيما بعد، ويستعرض مروان مسائل كثيرة مثل الحد من نفقات أجهزة الدولة وغيرها، حتى يصل إلى الرواتب والأجور (الباب الأول في الميزانية والمعادلة الأصعب) ويرى أن العلاج يتطلب جراحة لا مجرد حبة أسبرين، ولا أدري كيف تكون الجراحة؟ ولعله يوضحها في مقال مقبل.
أياً كانت تصورات واجتهادات مروان، فإننا نتفق على أن قضية هذه الدولة، وما على شاكلتها التي تعتمد على سلعة وحيدة للثروة الوطنية، ويرافق ذلك غياب المؤسسات القانونية التي يفترض أن تضبط سياسة الدولة، تحدد أولاً على وجه العملة الأول، بالفساد، وثانياً، وعلى الوجه الآخر لذات العملة، بمركزية سلطة اتخاذ القرار، التي لا تجد من يحدها ويضعها في إطار العقلانية القانونية.
فحين نشكو مثلاً فوضى تخليص معاملةٍ ما لغياب الموظف أو أنه يطلب “المعلوم”، أو نتأذى من تردي الخدمات وغياب المسؤول أو عدم اكتراثه في معظم إدارات الدولة، ما لم تكن على معرفة أو صلة بمن يقدم الخدمة العامة، فهذا يكون ناجماً عن الانفجار الوظيفي في أجهزة القطاع العام وغياب المسؤولية عند الكبير قبل الصغير، فكلاهما قدِما إلى الجهاز العام حسب قنوات الواسطة والمحسوبية “اذنك خشمك” وحسب قوانين الدولة القبيلة، وأضحى كل من الطرفين الكبير التابع للأكبر والصغير التابع للاثنين، يعتمد على الآخر، ويتم عندئذ قتل روح العمل المنتج والإبداع وخنق روح العدالة والمساواة حسب الكفاءة والجدارة.
إذا تتبعنا كيف وصل هذا المسؤول الكبير الذي قلب الجهاز الإداري إلى مزرعة خاصة لجماعته (قبيلته وعائلته ومعارفه) نجد أنه هو بذاته متعلق بحبل قوي مع شيخ “ديلوكس”، يقف هذا المسؤول إن كان نائباً- منحنياً، بجلسة مجلس الأمة أحيانا، عند رأس الشيخ لتحقيق فعل “المحسوبية” والواسطة، ولو تتبعنا سلسلة المحسوبيات والواسطات لوجدناها تصعد إلى الأعلى، في خط عمودي، كما تتمدد جانبياً بخط أفقي… حتى تصبح عرفاً مقبولاً عند الناس.
تلك حالة فساد “رسمي” مقنن! إذن فالفساد ليس حالة سرقة أموال عامة أو غش في مناقصة مقاولة، أو استغلال نفوذ، أو رشا فقط… هو فساد في إدارة الدولة وفي كل صغيرة وكبيرة، وطريق الإصلاح الاقتصادي أو المالي لن يحدث ما لم يقبر ذلك الفساد السياسي الكبير… وحتى الآن لا يبدو أن هذا مستوعب من أصحاب القرار… وكل كلام غير ذلك لا طائل منه.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *