أ.د. محمد عبدالمحسن المقاطع

بين الخيال والواقع .. خيط رفيع

محاوري هذه المرة شخصية متميزة عُرف عنها الحكمة وعقلها المبدع وقوة الشخصية وعدم الأنانية وإيثار الآخرين وفطنة وبديهة ونظرات لماحة، وسماحة بالوجه والتعامل، وهي محل تقدير وود. قالت: هل يمكن أن تبين لي الخيط الرفيع ما بين الخيال والواقع؟
قلت: طبعاً، وبكل سرور ومحبة، فالخيال هو تفكير استباقي يكسر قيد المحيط، فلا يرتبط بمكان، وآفاقه لا حدود لها، ويتخلص من الوقوف أمام محددات الزمان ليتواصل صاحبه مع أزمان ماضية وينتقل لحقب تاريخية قادمة من العقود، بل ربما من القرون، وهذا الخيال هو سر صناعة الحضارات وتقدم البشرية ومعجزات البشر الدنيوية، تطبيقاً لمنهج رائد من التفكير غير المسبوق، فالخيال أوسع من الإبداع، وأحياناً هو ملهمه وثالثة يتماثل معه. وسرعان ما يعود صاحب الخيال الخصب إلى الواقع فيقوم بتحويل ما كان في ذهنه خيالاً الى واقع، أي إن ما كان يتراءى له في ذلك الخيال يصبح واقعاً، ولذا فإن الخيط الرفيع بينهما هو أن تصنع واقعك، وتغييره من إلهام الخيال الذي كان لك قدرة ذهنية لتصوره، ولذا هناك مبدأ مهم يقول: حقيقة الشيء جزء من تصوّره.
نظر إلي محاوري، وبدا مستغرباً بعيون تتكلم بذلك، وقبل أن ينطق بكلمة قلت: انتظر، فعيوني قرأت ما في عيونك، فاخرج من ذلك وبادر بسؤالك. قال متشجعاً: هل لك أن تعطي لي أمثلة تبين ما تقول؟ قلت: بكل تأكيد، إن الفلكي حين نظر إلى الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار لم يتابعها كما نتابع، إنما ذهب الى موقع وزمن متقدمين مكّناه من حساب الزمن واليوم والدقيقة والثانية، وبدأ بتطوير آليات تساعده على ذلك، وسرعان ما صار في واقعه ساعات لحساب الزمن وآلات لحساب الأوقات، فظهرت الآلة الحاسبة لتتطور لاحقاً الى حاسب آلي متعدد الأغراض والوظائف ومتنوع في الاستخدام. بل تباعد الأمكنة زمنياً وخروج الناس بحرب أو سفر أوجد حاجة لإرسال الرسل لتعقب الأخبار وإيصال المعلومات، فتخيل أحدهم كيف يحقق ذلك بسرعة وبأقل جهد وتكلفة، فاستخدم الحمام الزاجل ثم ظهر البريد فالإبراق فالهاتف ثم الهاتف النقال، فعقبها ثورة في الاتصالات توّجها أثير الانترنت وتطبيقات السوشيل ميديا المتولدة عنه. فقاطعني محاوري: أيمكن أن يكون ذلك ممكنا فينا كبشر؟ قلت: أجل، قد نعتقد أنه بالخيال ممكن أن تركب شخصية إنسانية مثالية تجد فيها حسن الخلق وطيبة القلب وسعة البال ومرح النفس وأمانة الفعل وحصافة القول وكرم العطاء ورزانة العقل وحب العلم وطراوة باللسان وصفاء من الحسد، لكن ربما تعتقد أنك لن تجد ذلك واقعا، لكن الحقيقة هذه الشخصية وجدت بسير الأنبياء والرسل وتجلت بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه سلم، ومن تمثل خلقه يقترب لمنزلته وهو سر تميز العلماء والحكماء والأئمة، وهو ما أظهر المجددين ومن نجهل أكثر، فربما بين ظهرانينا من هو كذلك، وكل ما نحتاج إليه الواقع المتحرك الذي يجعلنا نكتشف هذا الشخص، وقد يكون هو أنت أو أنا.
تبسم محاوري وأدرك أن الخيط الرفيع للخيال هو أن تحوله الى واقع، وخرج وقد صار في صف السعادة والبهجة والتفاؤل.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *