أ.د. محمد إبراهيم السقا

المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة

يوما بعد يوم تزداد أعداد الشرائح الإلكترونية التي تتم زراعتها في جسم الإنسان لتنظيم ضربات القلب، أو ضخ الأنسولين … إلخ، لتزداد معها مخاطر قرصنة هذه الشرائح، على النحو الذي يضر بسلامة الإنسان.

في ورقة لهم بعنوانBrainjacking: Implant Security Issues in Invasive Neuromodulation مقبولة للنشر في مجلةWorld Neurosurgery استعرض Laurie Pycroft وستة آخرون أحدث أشكال التهديد الإلكتروني الذي يهدد البشر، وهو قرصنة الأدمغة Brain jacking، فبعد قرصنة البريد الإلكتروني، وقرصنة الحسابات المصرفية، وأجهزة التحكم والسيطرة وغيرها أصبحنا نؤمن بأن كل ما حولنا قابل للقرصنة واستخراج البيانات أو إدخالها. غير أن ما أدهشني أخيرا وأحببت أن أشارك القارئ فيه هو أحدث أشكال القرصنة، وهو قرصنة الأدمغة البشرية، أي أن يدخل أحد على مخك ويسيطر على انفعالاتك وقراراتك.

على سبيل المثال تجرى اليوم ما يسمى عمليات التحفيز الدماغي العميق لمرضى الباركنسون. وهي عملية جراحية تشمل زراعة جهاز تنظيم دماغي يقوم بإصدار نبضات كهربائية لأجزاء معينة من المخ، وأثناء هذه العملية تتم زراعة أقطاب كهربائية في فتحات دقيقة في عمق الجمجمة ومن ثم زراعتها في المخ، حيث يكون رأس القطب موجها نحو المنطقة المستهدفة في المخ. ثم يتم توصيل هذا القطب إلى المحفز العصبي (البطارية) التي عادة ما تزرع في جدار الصدر تحت الترقوة. يقوم هذا الجهاز بإصدار نبضات كهربائية لمناطق مستهدفة من المخ، التي تتحكم في الحركة، فيما يؤدي في الوقت ذاته إلى منع الإرشادات الشاذة التي تنتج حركات غير طبيعية وبالتالي تخفف من الأعراض الحركية التي يعانيها مرضى الباركنسون.

وتعد هذه العملية من الإجراءات الجراحية المتفق عليها والمعترف بها من قبل هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، وذلك لعلاج الرعاش والرجافات الناتجة عن مرض باركنسون. ولكن هناك أبحاث تجريبية حالية تقترح إمكانية استخدام هذه الوسيلة في معالجة الحالات العصبية الأخرى بما في ذلك الاكتئاب والسكتة الدماغية والخرف. غير أنه نظرا لشدة المخاطر المحتملة لهذا الإجراء، فإن قرار إجراء مثل هذه العملية لا يتم إلا بعد أن يزن الطبيب المخاطر والمنافع للمريض، وعلى أساسها يقرر إجراء العملية من عدمه.

ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو: هل المخاطر الناتجة عن مثل هذا الإجراء تتوقف عند المخاطر الطبية؟ أم هل هناك مخاطر أخرى تتعلق بالخوف من سوء استخدام مثل هذا الجهاز في تسيير دماغ الإنسان؟ مع الأسف، يرافق أي تقدم في مجال التكنولوجيا عدد هائل من مخاطر سوء استخدام مثل هذه الوسائل التكنولوجية الحديثة. ولعل أهمها محاولات السيطرة غير المرخص بها على هذه الأجهزة الإلكترونية، التي تنتشر على نطاق واسع في عصرنا الحالي. لقد سمعنا عن قرصنة الحسابات المالية أو نظم التحكم الآلي أو نظم المعلومات … إلخ، ولكن ماذا عن قرصنة الأدمغة؟ يشير Laurie Pycroft وآخرون إلى أن بعض الأفراد ذوي الكفاءة والقدرات التقنية العالية قد يستطيعون التحكم غير المصرح به على مثل هذه الأجهزة، الذي قد يؤدي إلى مخاطر مدمرة للضحية.

على سبيل المثال، من المعروف أن المشاكل السلوكية مثل الهوس، وفرط الرغبة في لعب القمار وغيرها مرتبطة باضطرابات مكافحة الإفراط السلوكي، لذا فإن التدخل للسيطرة على مثل هذه الانفعالات قد يؤدي إلى تعطيل المعلمات الإكلينيكية التي يعتمد عليها الطبيب وبالتالي يزيل الحماية المزروعة ضد هذه المشاكل. وبالمثل، يمكن التحكم في وظائف أخرى حيوية في المخ كتلك التي تتحكم في العواطف. وهكذا قد يستطيع المهاجم أن يحقق السيطرة على سلوك المرضى، التي تنتج عنها مخاطر مدمرة ليس فقط على الضحية، ولكن أيضا على المجتمع ككل، وهذا هو موضوع مقالي اليوم. بالنسبة لي أعتقد أن حجم المخاطر يعتمد على طبيعة الضحية ومركزه المجتمعي وطبيعة المهام المسندة إليه في المجتمع.

والآن دعنا نتطرق إلى المخاطر الاقتصادية لعمليات قرصنة الأدمغة. دعنا على سبيل المثال نتصور مجموعة من المضاربين في البورصة الذين يضاربون على البورصة نحو اتجاه معين، وفي الوقت ذاته يملكون القدرة على الوصول إلى عقل مدير البورصة، حيث يمكنهم إملاء مجموعة من الأوامر على النحو الذي يدفع مدير البورصة من خلال إدارة البورصة إلى اتخاذ مجموعة من القرارات التي تصب في مصلحة عملية المضاربة التي يسعون نحو تنفيذها. بالطبع مثل هذه القرارات لن تكون مباشرة حيث يسهل كشف النتائج التي يمكن أن تترتب عليها بسهولة أو بصورة مفضوحة. وإنما ستتم عملية برمجة هذه الأوامر للمخ على النحو الذي لا يسهل معه اكتشاف الهدف النهائي من قرارات مدير أو إدارة البورصة.

مثل هذا الاحتمال يجعل البورصات بكاملها كيانا غير كفء، لأنه سيسمح لطرف من المتعاملين الذين لديهم القدرة على الوصول إلى معلومات داخلية محددة، ليست متاحة بالطبع لباقي المتعاملين، أو من يطلق عليهم لفظ Insiders، باتخاذ قرارات بناء على هذه المعلومات، ومن ثم تحقيق أرباح غير اعتيادية لا يستطيع المتعاملون الآخرون تحقيقها بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى هذه المعلومات، وهذا ما نطلق عليه عدم كفاءة البورصة كنظام.

هذه المخاطر نفسها توجد في عدد هائل جدا من المجالات حيث لا يمكن في الواقع حصر أو تقييم المخاطر الاقتصادية لمثل هذه الظاهرة، التي ربما تكون مخاطرها أكبر بكثير من المثال الذي ضربناه هنا. خذ على سبيل المثال إمكانية قرصنة دماغ مدير مصرف، أو مدير الخزانة في مصرف، أو قرصنة دماغ مدير البنك المركزي، أو صانع السياسة النقدية في الدولة، أو قرصنة دماغ صانع السياسة الاقتصادية في الدولة، وهكذا دواليك، لا يمكننا في الواقع حصر حجم أو نطاق هذه المخاطر، حتى نعيشها بالفعل، ولكن بالطبع يمكن القياس عليها. تصور على سبيل المثال خسائر البورصات، أو أرباح البورصات عندما تتجه الأسعار اتجاهات محددة، أو خسائر عمليات التلاعب في حسابات المودعين في المصارف، وهو خطر حقيقي قائم حاليا من خلال عمليات قرصنة النظم الحسابية الإلكترونية للمصارف. وهكذا.

عزيزي القارئ، هل تستطيع أن تتصور المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها العالم عندما تصبح مخاطر قرصنة الأدمغة حقيقية؟

* شارك في إعداد الجانب الطبي ابنتي الدكتورة عائشة السقا.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *