أ.د. محمد إبراهيم السقا

تجميد الإنتاج.. وتوازنات أسعار النفط

أحدث استمرار تراجع أسعار النفط تأثيرات مالية عميقة في الدول النفطية على اختلاف ظروفها، وإن اختلفت قدرة الدول على التعايش مع الأسعار المنخفضة وفقا لمدى متانة مصداتها المالية، لكنه بات من الواضح أن الأوضاع المالية للدول المصدرة للنفط غير مستدامة في ظل الأوضاع الحالية للسوق العالمية للنفط الخام.

في الأسبوع الماضي اتجهت أنظار العالم نحو الدوحة حيث التقى منتجو “أوبك” وبعض المنتجين من خارجها لبحث إمكانية إقرار اتفاقية لتجميد الإنتاج لبدء السيطرة على العرض من النفط ولمساعدة الأسعار نحو الارتفاع مرة أخرى.

قبل اجتماع الدوحة كان هناك اعتقاد أن اتفاقية ما لتجميد الإنتاج سيتم تمريرها، حتى ولو لم تنضم إيران إلى قائمة الدول الموقعة على التجميد، لدرجة أن مندوب فنزويلا لـ “أوبك” تحدث لبلومبرج عن أن هناك اتفاقا عاما حول التجميد، وأن ما يبدو من خلاف هو حول بعض الصياغات في الاتفاق وآليات متابعة تنفيذ الالتزام، وقد استجابت السوق لهذا التوقع حينما بدأت الأسعار في الارتفاع ودخل خام برنت نطاق الأربعينيات للبرميل، ولو تصورنا حدوث اتفاق بين الدول المجتمعة على تجميد الإنتاج، فإن ذلك كان سيعني تجميد أكثر من نصف الإنتاج العالمي من النفط الخام تقريبا، ومن ثم كان من المتوقع أن يكون لذلك تأثير جوهري في الأسعار. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد كان هناك إصرار على أن تنضم الدول الرئيسة المنتجة للنفط إلى الاتفاقية، بما فيها إيران، الأمر الذي أدى إلى فشل الاتفاق.

إذا ما حللنا مواقف المنتجين الرئيسين في السوق سنجد أن روسيا كان لديها استعداد للتعاون حول تجميد حجم الإنتاج وذلك لمساعدة السوق نحو التوازن وفي الوقت ذاته لمواجهة ضغوط الميزانية بشكل سريع. المنتجون الآخرون داخل “أوبك” الذين يواجهون ضغوطا مالية حادة مثل العراق والجزائر وفنزويلا ونيجيريا، وكذلك من خارجها مثل المكسيك كانوا مستعدين كذلك.

بالنسبة لإيران كان من الواضح قبل عقد الاجتماع عدم رغبة إيران في الحضور ومن ثم المشاركة في خطة التجميد، وكذلك ليبيا. بصفة خاصة فإن إيران ترى أن أي اتفاق للتجميد يشملها سيحدث أثرا مماثلا لاستمرار العقوبات الغربية عليها، لذلك كانت إيران تعمل بكل طاقتها لتوسيع نطاق ما تصدره لاستعادة حصتها السوقية قبل فرض العقوبات عليها، وقد أشارت بعض التقارير إلى أن إيران كانت قد أضافت نحو 600 ألف برميل يوميا في آذار (مارس) الماضي، وذلك في إطار خطتها لرفع إنتاجها إلى نحو أربعة ملايين برميل يوميا بحلول آذار (مارس) 2017، ومن ثم فإن التجميد سيعني إيقاف خطط إيران لتطوير تسهيلاتها الإنتاجية وزيادة حصتها السوقية.

على الجانب الآخر فإن المملكة نظرا لرغبتها في عدم تكرار دروس الماضي في أن تتحمل عبء الجانب الأكبر من تكلفة إعادة توازن السوق بمفردها مثلما حدث أثناء الثمانينيات، اشترطت أن يلتزم الجميع بالتجميد، وإلا فإن المملكة سوف لن تلتزم بسقف محدد للإنتاج. بل أعلنت المملكة أنه على الرغم من أن إنتاجها اليومي يراوح حاليا بين 10.2 و 10.4 مليون برميل، فإنها قادرة على إضافة مليون برميل أخرى فورا، بل يمكن أن تصل إلى مستوى 12.5 مليون برميل يوميا في غضون ستة أشهر. وكانت المملكة قد أعلنت أكثر من مرة مسبقا استعدادها للتعايش مع الأسعار المنخفضة للنفط، وأنها غير مستعدة للتنازل عن حصتها السوقية للمنتجين الآخرين بأي ثمن.

بهذه المواقف تشكلت الوصفة المثالية لفشل اجتماع الدوحة في التوصل إلى أي اتفاق يضم جميع المنتجين داخل “أوبك” وخارجها. الخطأ الأساس في رأيي هو إهمال اعتبارات السعر. صحيح أن تجميد الإنتاج ربما يعد بمثابة تجميد للحصة السوقية، لكنه سيحث تأثيرا جوهريا في الأسعار وهو ما سيعني بالتأكيد ارتفاع الإيرادات. وبمعنى آخر، فإن حسابات التجميد يجب ألا تقتصر على الحسابات الكمية للإنتاج، وإنما يجب أن يؤخذ حجم الإيرادات في الاعتبار أيضا، وهذا هو الأهم من وجهة نظري.

انتهى اجتماع الدوحة بالفشل في التوصل لأي اتفاق حول تجميد الإنتاج، وقد كان من المتوقع أن تأخذ الأسعار في التراجع على نحو سريع، وقد توقعت يومها أن تعود الأسعار إلى نطاق الثلاثينيات مرة أخرى، بعد أن تزايدت بنحو النصف تقريبا منذ شباط (فبراير) الماضي. إلا أن أسعار النفط استمرت متماسكة حتى كتابة هذا المقال، ولم نلاحظ تأثيرا واضحا لفشل الاتفاق في الأسعار، فلماذا استمرت الأسعار مرتفعة؟

الواقع أن هناك عوامل عدة تقف وراء استمرار تماسك أسعار النفط حتى يومنا هذا أهمها إضراب عمال النفط في الكويت الذي أدى إلى سحب نحو 1.6 مليون برميل يوميا، وهذه كفيلة بذاتها بتوازن الطلب مع العرض وسحب فائض العرض من السوق العالمية للنفط. بالطبع لو كان إضراب عمال نفط الكويت استمر لفترة أطول لكانت الأسعار قد استمرت في الارتفاع على نحو أكبر.

من جانب آخر، فإن الدول النفطية تنتج وتصدر حاليا بأعلى طاقة ممكنة لها، ومن ثم فإن أثر فشل التجميد لم ينعكس في زيادة الإنتاج لأنه كان مرتفعا في الأساس، أي أن الطاقة الفائضة لدى الدول المنتجة تعد منخفضة جدا وقدرتها على زيادة العرض أصبحت محدودة في الوقت الحالي. يضاف إلى ذلك عوامل أخرى منها تراجع المخزون الأمريكي من النفط على نحو أكبر مما كان متوقعا، واستمرار تراجع الرقم القياسي للدولار الأمريكي.

اليوم تتجدد الآمال باحتمال التوصل إلى تجميد للإنتاج في أيار (مايو) القادم في روسيا هذه المرة، مثلما تم الإعلان عنه أثناء كتابة هذا المقال وفقا لتصريحات وزير النفط العراقي، لبحث إمكانية تجميد الإنتاج مرة أخرى لمساعدة السوق نحو التوازن وخفض فائض العرض في السوق، ومن ثم مساعدة الأسعار نحو الارتفاع. غير أنني أعتقد أنه يجب عدم عقد أي اجتماع لمناقشة التجميد هذه المرة قبل التوافق على آلية واضحة متفق عليها بين جميع الأطراف لتجميد العرض كي تثق السوق بقدرة المنظمة على إعادة التوازن للسوق مرة أخرى وتستجيب الأسعار على النحو المرغوب.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *