أ.د. محمد إبراهيم السقا

السعودية تستبدل بدخل النفط دخول الاستثمارات

نقلت “بلومبيرج” في الأسبوع الماضي على لسان الأمير محمد بن سلمان أن المملكة تنوي تكوين صندوق للاستثمار العام باستثمارات تصل إلى تريليوني دولار، وهو ما يجعله أكبر صندوق سيادي للثروة في العالم، وذلك بهدف تنويع مصادر إيرادات المملكة وتخفيض اعتمادها على النفط من خلال دخول الاستثمارات التي سيديرها الصندوق، الذي سيبدأ بإيرادات طرح 5 في المائة تقريبا من أسهم شركة أرامكو المتوقع أن يتم في العام المقبل.

في رأيي أن المملكة قد تأخرت كثيرا في إنشاء مثل هذا الصندوق لتوظف فيه جانبا من فوائضها النفطية بهدف موازنة إنفاقها العام في السنوات التي يتراجع فيها سعر النفط من خلال استخدام عوائد استثماراته، وفي الوقت ذاته كي تضمن تخصيص حصة من ثروتها النفطية الحالية لمصلحة أجيالها القادمة.

فوفقا للنظام الحالي يتم الاحتفاظ بالفوائض لدى مؤسسة النقد السعودي، أو ما يمكن أن نطلق عليه صندوق الاحتياطي العام، الذي هو في معظمه أصول مالية ونقدية، حتى يسهل سحب ما تحتاج إليه الدولة منه، ولكن ما الفرق بين الصندوق السيادي للثروة وصندوق الاحتياطي؟ الإجابة تكمن في طبيعة الاستثمارات التي توجه إليها الأموال ومن ثم معدلات العوائد التي يمكن أن تحققها وهيكل المخاطرة التي يتحملها كل منهما. فاستثمارات صندوق الاحتياطي غالبا ما تكون قصيرة الأجل وهو ما ينعكس على معدلات العائد المتحقق من هذه الاحتياطيات. أما الصندوق السيادي فغالبا ما يستثمر أمواله في أصول حقيقية أو في أسهم للشركات التي تختارها إدارة الصندوق، وفقا لاستراتيجيتها الاستثمارية.

في ظل الوضع الحالي ترتفع تكلفة الفرصة الضائعة نتيجة الاحتفاظ بمعظم الفوائض في صورة سائلة نظرا لتدني معدلات العائد على هذه الاحتياطيات، من جانب آخر فإن هذه الاحتياطيات بشكلها الحالي تكون أكثر عرضة لتقلبات معدلات صرف العملات وتآكل قيمتها الحقيقية نتيجة التضخم. في المقابل فإن الاستثمارات الحقيقية ترتفع قيمتها بمرور الوقت مثل أسهم الشركات الكبرى أو غيرها من الأصول. أكثر من ذلك فإن الطبيعة شبه السائلة لأصول صندوق الاحتياطي تجعل من السهل السحب منها، مقارنة بالأصول الحقيقية لأي صندوق سيادي حيث يصعب السحب الأوتوماتيكي منها لأن عمليات التسييل تأخذ وقتا.

من المؤكد أن هذا الصندوق الجديد موجه أساسا لمصلحة الأجيال القادمة، وأن ما به من استثمارات ستؤول في النهاية إليهم، لذلك لا بد من تبني استراتيجيات الاستثمار التي تعظم العوائد الاستثمارية لهذه الأصول بأنواعها المختلفة، واتباع أسلوب مغاير للسحب من أصوله، حيث يقتصر السحب من أموال الصندوق على عوائد الاستثمار المحققة إذا ما احتاجت الدولة إليها، وليس من أصوله. أما في الأوقات التي تحقق فيها المملكة فوائض، فإن هذه الفوائض يجب أن تضاف إلى أصول الصندوق لتوسع من نطاق استثماراته، وتعزز من مستويات العوائد المحققة منها.

ولكن من هم الأجيال القادمة. الحقيقة أن هذا السؤال أثير كثيرا هنا في الكويت، أول دولة في العالم أنشأت مثل هذه الصناديق في الخمسينيات من القرن الماضي، ولاحقا اتخذت الكويت خطوة إضافية لتعزيز رصيد الأصول التي تحتفظ بها لأجيالها القادمة من خلال استقطاع 10 في المائة من إيراداتها العامة بشكل سنوي، بما في ذلك السنوات التي تحقق فيها الكويت عجزا، زيدت بعد ذلك في 2012 إلى 25 في المائة من الإيرادات العامة، كالتزام دائم على الحكومة وتحقيقا لمبدأ العدالة في المحاسبة بين الأجيال.

الإجابة عن هذا السؤال التي توصلت إليها الكويت هي أن الأجيال القادمة هي الأجيال التي ستوجد عندما يتوقف إنتاج النفط. عندها تبدأ حقوق هذه الأجيال في استخدام هذه الصناديق التي تم تكوينها عبر عقود طوال من أجلهم، وكي ينالوا نصيبهم من الثروة النفطية الاستثنائية التي تمتعت بها الأجيال التي عاشت الحقبة النفطية وأسرفت في استخدامها بلا حساب لما سيؤول منها للأجيال القادمة.

ملاحظاتي الأساسية على هذا المشروع هي أن أهم التحديات التي ستواجهها المملكة مع صندوق بهذا الحجم تتمثل في تأمين الإدارة الوطنية المختصة باستراتيجيات الاستثمار الحقيقي عبر دول العالم المختلفة، وسبل تعظيم العوائد أخذا في الاعتبار طبيعة المخاطر التي تواجهها تلك الاستثمارات في مختلفة بقاع العالم، وهي من أهم الخطوات في وجهة نظري لضمان الأداء الكفء والآمن لمثل هذه الاستثمارات.

من جانب آخر، ورغم أهمية هذا المشروع بالنسبة للمملكة، فيجب ألا نعتقد أن هذا الصندوق سوف ينهي اعتماد المملكة على النفط، أو يؤمن الاستقرار اللازم للإيرادات العامة. فمن المؤكد أن إيراداته سوف تساعد المملكة على تدبير عوائد إضافية بجانب الإيرادات النفطية التقليدية، إلا أن تحرير اعتماد المملكة على إيرادات النفط ينبع أساسا من تنويع هيكلها الاقتصادي المحلي وتطوير القطاعات الجديدة المولدة للدخل، التي تسمح بتوفير فرص عمل لمواجهة الضغوط على فتح الوظائف الجديدة في سوق العمل الخاص، وتخفيض درجة اعتماد الاقتصاد الوطني على الخارج. ذلك أن مستويات الإنفاق الحالية ومعدلات نموها السابقة يشيران إلى أنه يصعب خلال الـ 20 عاما المقبلة أن يحقق مثل هذا الصندوق حجم العوائد الذي ينهي اعتماد الميزانية السعودية على الإيرادات النفطية.

أكثر من ذلك ينبغي التنبيه إلى أن الصندوق السيادي لن يضمن أيضا الاستقرار المتوقع للإيرادات غير النفطية، حيث ستستمر الإيرادات العامة ترتبط بمستويات الأداء الاقتصادي في الخارج، الذي سيعتمد عليه أداء تلك الاستثمارات ومن ثم عوائدها. ما أخلص إليه هو أن إنشاء مثل هذا الصندوق يجب ألا يوقف جهود إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني للمملكة الذي يمثل أساس الإصلاح الاقتصادي المنشود.

باختصار فإن صندوق الاستثمار العام سيعد أحد أذرعة المملكة للتنويع المالي، وبهذا الصندوق ستتحول نحو تنويع استثماراتها الخارجية والداخلية بصورة أكبر نحو الأصول الحقيقية، بدلا من الاستثمار المالي مثل السندات والودائع، وعلى النحو الذي يمكن المملكة من تنويع عمليات الاستثمار أفقيا عبر دول العالم المختلفة، ورأسيا في القطاعات الإنتاجية المختلفة، فضلا عن التنويع في الاستثمار بين الأصول المقومة بالعملات المختلفة، وعلى النحو الذي يخفف من آثار تغيرات معدلات صرف العملات الرئيسة في العالم في استثمارات المملكة.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *