د. شفيق ناظم الغبرا

الصراع على القدس والقضية الفلسطينية

تمثل المواجهات في القدس بعد اطلاق النار على الحاخام الإسرائيلي يهودا غليك الذي قاد سلسلة اقتحامات للمسجد الأقصى استمراراً للصراع في مواجهة الامتداد الاستيطاني الصهيوني. إن تطورات القدس الأخيرة مرتبطة بصورة مباشرة بحرب غزة التي شنّتها إسرائيل هذا الصيف، وذلك في ظل قتال وصمود أسطوريين. فالقضية الفلسطينية كل شامل لا يمكن فصل أجزائها. فمنذ حرب غزة، وعلى رغم تركيز الإعلام على القطاع بسبب الحصار وطبيعة الحرب، إلا أن المواجهات التي اندلعت في القدس والخليل ورام الله أسست لمرحلة جديدة في علاقة المقاومة مع الاحتلال.

الحالة المقدسية امتداد لتعقيدات القضية الفلسطينية، فهي المنطقة الوحيدة في الضفة الغربية التي تم ضمها رسمياً الى دولة الاحتلال منذ احتلالها في حرب ١٩٦٧. ولتثبيت عزل القدس عن بقية الضفة المحتلة فرضت سلطة الاحتلال على سكان القدس والقاطنين في محيطها المباشر وعددهم الآن ٣٠٠ الف فلسطيني كشرط للسماح لهم بالبقاء في أراضيهم ومنازلهم، هويات مقدسية خاصة تميز بينهم وبين بقية سكان الضفة الغربية المحتلة. ومنذ الانتفاضة الثانية للعام ٢٠٠٠ لا يستطيع أهالي الضفة الغربية الذهاب الى القدس بسبب الجدار الفاصل بين الضفة الغربية والقدس وبقية فلسطين. وبينما توجد نقاط عبور نحو القدس، إلا أنه لا يسمح للفلسطينيين بالمرور عبرها إلا في فترات محددة تقررها إسرائيل. لقد تم عزل القدس التي لا تصل اليها السلطة الفلسطينية وراء جدار يحيط بالضفة من كل مكان، فسكان القدس العرب تم عملياً ضمهم الى دولة اسرائيل في ظل إعلان القدس العاصمة الابدية الموحدة للدولة عام ١٩٨٠. لهذا بالتحديد لا يصل الى القدس بيسر إلا سكانها بالاضافة الى الفلسطينيين من حملة الهوية الإسرائيلية القاطنين في كل أرجاء الأراضي التي قامت عليها إسرائيل عام ١٩٤٨ والبالغ عددهم ١,٨ مليون شخص. لقد تم ذلك من دون تحويل سكان القدس الى مواطنين في الدولة اليهودية، فإسرائيل تقوم على مبادئ الاستعمار والاستيطان والتهويد والعنصرية، مما يجعلها حتماً سائرة في سياسة الفصل والسيطرة والعزل وفق قوانين الابارتهايد الجنوب افريقية.

وتقوم دولة الاحتلال بالتضييق على سكان القدس في حركتهم وسفرهم ومسكنهم وبناء منازلهم وضرائبهم. فالقوانين الاسرائيلية، قوانين المستعمر، تحولت الى حرب يومية تشن على المقدسيين وتجارتهم وأسواقهم وإنتاجهم وتعليمهم وإبداعهم. والهدف الاسرائيلي لا يزال افراغ القدس من العرب ودفعهم خطوة خطوة ومن دون إثارة الرأي العام الدولي نحو مناطق السلطة الفلسطينية وذلك لإقامة حالة شبيهة بقطاع غزة في مناطق رام الله وما تبقى من الضفة الغربية المحتلة حيث يسود اكتظاظ سكاني بعد تحول هذه المناطق الى مكان لنفي مزيد من الناس وحصارهم.

القدس هي من أكثر الأماكن حساسية، فهي المكان الذي صدرت بشأنه قرارات دولية متتالية تؤكد أنها منطقة محتلة يجب أن تخضع للقوانين الدولية التي لا تجيز تغيير هويتها ومعالمها في ظل الاحتلال. لكن الاحتلال يغير هوية المدينة ومعالمها كل يوم. ولو أخذنا مثلاً حائط المبكى المعروف باسم حائط البراق (نسبة الى الإسراء والمعراج)، سنكتشف انه قانونياً ملك للمسجد الاقصى وللوقف الإسلامي، وهناك قرارات دولية صدرت عن عصبة الأمم عام ١٩٣٠ بعد تحقيقات دولية قررت أن الحائط ملك العرب وملك المسجد الأقصى من دون ان تمنع اليهود من الصلاة عند الحائط. لكن إسرائيل بعد احتلال المدينة عام ١٩٦٧ صادرت حائط البراق من المسجد الأقصى واعتبرته ملكاً لها وعرفته باسم حائط المبكى بينما نسفت بالكامل الحي العربي المقابل له (حي المغاربة) وهجّرت أهله.

ويمثل مشروع هدم المسجد الاقصى خطراً حقيقياً على المسجد، فهو ما زال هدفاً تتبناه قوى صهيونية عدة، وهي تنتظر الوقت المناسب لفعل ذلك. الصراع على المسجد الاقصى كان ولا يزال عنواناً للصراع على الأرض. فالمسجد الاقصى هو رمز الوجود العربي الاسلامي في القدس، وهو اول القبلتين وثالث الحرمين، وما السعي الى تدميره ومصادرته أو مصادرة نصفه كما حصل مع الحرم الابراهيمي في الخليل الا إمعان في صراع أعمق. إن الخطر الذي يهدد المسجد الأقصى الآن يهدد كل المعالم الدينية الأخرى وعلى رأسها المعالم المسيحية.

بالزخم نفسه الذي تسعى به اسرائيل الى التضيق على سكان القدس بمسيحييهم ومسلميهم، الا انها في الوقت نفسه مستمرة في مشروع التهويد وجلب المستوطنين اليهود الذين يحاصرون القدس ويستوطنون قلبها ومحيطها. هكذا وصل عدد المستوطنين في القدس ومحيطها الى أكثر من ٣٠٠ ألف مستوطن. إن زيادة هذا العدد تتطلب الاستيلاء على مزيد من الأراضي والمناطق في القدس لمصلحة الاستيطان كما تستوجب طرد مزيد من السكان.

وفي القدس القديمة الواقعة خلف الأسوار التاريخية العريقة تتلاصق المنازل وتتواصل الأسطح والأسواق، لكن المدينة القديمة وسكانها العرب البالغ عددهم حوالى ٣٠ الف نسمة يعيشون في ظل رعب مصادرة منازلهم لمصلحة الاستيطان. فالاستيطان في المدينة القديمة أخذ منازل وأبنية، وأدخل اليها ما يقارب أربعة آلاف مستوطن، وهذا يعني عملياً مزيداً من الاستفزاز للسكان، وتمهيداً لمزيد من المواجهات.

مدينة القدس والمنطقة المقدسية المحيطة بها واقعة تحت الإدارة الإسرائيلية بالكامل، وهذا يعني عملياً أن الصدامات بين اهالي وشبان القدس من جهة وبين الاحتلال الإسرائيلي لن تقع مع سلطة فلسطينية تخشى من انتشار الثورة والانتفاضة، مما يؤثر في مكانتها ويعرضها لضربات إسرائيلية لا تقوى على تحملها. المواجهة في القدس أكثر انفتاحاً ووضوحاً من أي مكان آخر من مناطق الاحتلال الاسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة. لهذا فالقدس ومحيطها معرضان أكثر من غيرهما للتحول الى بؤرة هامة للعمل الثوري ومواجه للاحتلال وامتداده الاستيطاني.

وفي ظل وضع يزداد اختناقاً لن تكون الضفة الغربية بعيدة عن مسرح المواجهات، فبوادر الثورة قائمة في الضفة الغربية حيث صادرت إسرائيل ٦٠ في المئة من اراضي الضفة لمصلحة الاستيطان ووضعت في تلك المناطق أكثر من ٣٥٠ الف مستوطن إسرائيلي (وهذا العدد لا يشمل ٣٠٠ مستوطن إسرائيلي في القدس ومحيطها). كما يواجه الفلسطينيون في الضفة بخاصة على تخوم مناطقهم التي تخضع للسلطة العسكرية الإسرائيلية قوات الاحتلال الإسرائيلي. في الضفة الغربية البطالة عالية، والاقتصاد بتراجع، والحياة قاسية والانتقال أقسى بينما الحقوق ضائعة بين سلطة احتلال تتوسع وسلطة محلية فلسطينية تزداد ضعفاً لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية.

لقد وضعت إسرائيل ما يقارب ٧٥٠ الف مستوطن في مناطق تم احتلالها عام ١٩٦٧، اي في المناطق التي يفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية في القدس والضفة الغربية. ولو عدنا الى اتفاقات أوسلو في العام ١٩٩٣ ومشروع الدولة الفلسطينية فالمبدأ: القدس عاصمة الدولة الفلسطينية. لكن الواضح في مسيرة الأوضاع منذ ذلك الزمن أن القدس أصبحت في قلب الحوت الإسرائيلي وأن أقصى ما تقدمه إسرائيل للفلسطينيين على ٤٠ في المئة من الضفة هو سلطة حكم ذاتي فلسطينية مقطعة الأوصال. لقد تراجعت آفاق الدولة الفلسطينية بينما يخضع الفلسطينيون على الارض لحالة مكثفة من الحصار والاحتلال المباشر وغير المباشر في ظل تميز وعنصرية على كل الارض الفلسطينية بما فيها الاراضي التي تم احتلالها عام ١٩٤٨.

في كل مكان من فلسطين قصة ورواية عن الاحتلال والاستيطان والعنصرية والحصار. لا تزال نكبة ١٩٤٨ حالة مستمرة، بينما مواجهة نتائجها على الشعب الفلسطيني تتجدد في ظل رياح المقاومة المتصاعدة.

 

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

د. شفيق ناظم الغبرا

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
twitter: @shafeeqghabra

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *