سعيد محمد سعيد

قصة… «جلاد»!

 

في الحج، من السهل اليسير أن يدفعك الفضول الصحافي، الطبع الذي يغلب التطبع، لأن تستزيد من قصص الناس، تعرفهم أو لا تعرفهم، خصوصاً أولئك الذين بالإمكان – مع قليل من العيش والملح – أن يفضفضوا لك بما يجيش في صدورهم.

في سيارة الأجرة المتجهة إلى شارع عبدالله خياط، أحد أشهر شوارع مكة، حشرت نفسي مع مجموعة من الحجاج المتكدسين في السيارة، فليس من الهين الحصول على شبر في سيارة أجرة تقف ليتهافت عليها الحجاج من كل الجنسيات.

وتستطيع في ذلك الازدحام أن تختبر صبرك وطول بالك في المشوار الذي يطول بسبب طوابير الحافلات و(السيكس ويلات) وتحويلات الطرق التي تزيد من المشكلة، بسبب إغلاق هذا المنعطف أو تحويل السير في ذلك الاتجاه وهكذا.

نعود إلى الفضول الذي دفعني للحديث مع الراكب الأخير الذي بقي معي في سيارة الأجرة، ومدخل الحديث هو الدعاء لأن يتقبل الله من الحجاج سعيهم ويغفر ذنوبهم. ذلك الراكب، من جنسية عربية، كان يحمل في سره الكثير الكثير من المآسي التي لم يجد لها مفتاحاً للراحة النفسية إلا بحج بيت الله الحرام وطلب التوبة. ولكن، أي جرم مهما عظم، سيغلق الله أمام فاعله باب التوبة؟ لا والله، فبابه مفتوح لسائليه، لا سيما العاصين.

فتح لي الرجل قلبه ليتحدث بمرارة: كان يعمل مسئولاً أمنياً في إحدى الدول العربية الأفريقية قبل أن يترك عمله قبل بضع سنين قليلة مضت، ويعمل عملاً حراً في مجال المقاولات. وفي سيرة حياته المهنية الكثير من المصائب التي تجاوز فيها حدوده مع الناس، الأبرياء منهم والمذنبين. هكذا كان يقول: ظلمت الكثير من الناس. عذّبت الكثيرين. لم أرحم طفلاً ولا شاباً ولا حتى امرأة ضعيفة. كنت أشعر أنني في موضع قوة وسلطة ونفوذ. آخذ البريء بجريرة المجرم. رضا الكبار مقدّم على رضا رب العالمين.

لكنه منذ سنين، بدأ يفقد طعم النوم. الكوابيس تلاحقه في كل ليلة. حتى علاقته مع أسرته وأهله وأصدقائه تأثّرت فيما تضاعف نظرات الاحتقار والصد من جانب الناس عذابه وآلامه. لا حول ولا قوة إلا بالله. أسأل الله أن يتوب عليّ… ثم توقف عن الكلام.

حالة صمت سادت السيارة الصغيرة، ليتحدث سائق التاكسي العربي الجنسية فيقول: “يا أخي… إن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة العاصين والمذنبين. إن شاء الله يصفح رب العالمين عنا وعنك وعن كل هؤلاء الحجاج… اللهم آمين”..

يا للهول. كم هو مفجع تخيل ما تتناوله تقارير التعذيب في السجون بالوطن العربي والإسلامي، وكأن من تمرس في ذلك التعذيب لا عهد لهم بالإنسانية ولا بالأديان السماوية. ومن اللافت الاطلاع على تجربة فريدة من نوعها قام بها الباحث المصري في مجال الاغتيال السياسي وأساليب التعذيب محمد عبدالوهاب الذي أسّس أول متحف من نوعه في مصر والعالم العربي. ذلك المتحف كما ورد في تقرير صحافي كتبته الصحافية في صحيفة “الوفد” المصرية رشا فتحي بتاريخ 10 أغسطس/ آب 2014، يضم ما يزيد على ألف أداة كانت تستخدم في التعذيب ضد الإنسان على مر العصور حتى وقتنا هذا، بهدف توثيق الأعمال الوحشية التي تُمارس ضد آلاف من الضحايا في مختلف العصور. وفكرة إنشاء المتحف استلهمها المؤسس خلال زيارته للعراق، حيث سمع خلالها قصصاً وشاهد صوراً لأعمال تعذيب وحشية مورست ضد الضحايا.

المتحف الذي يقع في أحد المنازل بمنطقة المريوطية في حي الهرم بمحافظة الجيزة، يضم مجموعة من بعض أدوات التعذيب، إضافةً إلى صور لضحايا ومجموعة من وثائق التعذيب موزّعة على خمس حجرات يضمها المتحف، إلا أن المؤسس يقول إن عملية جمع أدوات التعذيب ليست عملاً سهلاً، لكن الهدف الأول كما يقول نصاً في التقرير الصحافي: “الهدف من إنشاء مثل هذا المتحف يرجع إلى تذكير الزوار بوحشية مجموعة غير سوية من البشر تفننت في قدراتها على التعذيب، وليوثق ما ارتكبوه من جرائم في حق البشرية”، وهو يأمل في أن يتحول متحفه إلى موقع جذب سياحي للمهتمين بالتاريخ الإنساني.

من بين قصص التعذيب والمعذبين، التائبين منهم والعاصين، قد تمتليء آلاف الكتب بالقصص في عالمنا العربي والإسلامي، لكن السؤال هو: هل يحتاج الوضع إلى معاهدات واتفاقيات دولية أم إلى “بشر” يحترمون إنسانية الإنسان… حتى المجرم والمذنب، فيطبقون عليه القانون من بوابة العدالة، أم إلى وحوش تنهش في أجساد الناس ثم يندم بعضها ويتوب ويستمر بعض آخر في غيه؟

وقد لا يستغرب البعض من أن تُمارس تلك الوسائل الوحشية في سجون ومعتقلات بلاد ليست إسلامية، بل إن بعض البلدان غير الإسلامية أكثر رحمةً واحتراماً لبني البشر. أما أن يحدث ذلك في بلاد الإسلام، فذلك يعني أن الإنسان الذي كرّمه الله سبحانه وتعالى، تسحقها وحشية الذئاب البشرية، وليس هناك حل أفضل من العدالة… العدالة ولا غيرها.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

سعيد محمد سعيد

إعلامي وكاتب صحفي من مملكة البحرين، مؤلف كتاب “الكويت لاتنحني”
twitter: @smsmedi

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *