سعيد محمد سعيد

الراقصون على حساب الوطن

 

«كريم عين»… وصف يطلقه العرب على من فقد إحدى عينيه من باب التأدّب وتفادياً لإحراج المخاطب أو التسبب في الألم النفسي له… هذا الوصف يستخدمه الناس المحترمون، تماماً كما كانت العرب قديماً – وحديثاً أيضاً – يستخدمون وصف «البصير» لمن فقد بصره، و«أبي البيضاء» للأسود، ويطلقون على الفرس الجميلة مسمى «شوهاء» خوفاً من أن تصيبها عين الحسد، وربما سمعنا عبارة «بيضة البلد» للإنسان الذي تميّز وانفرد بالنبوغ والعلم. بإمكاننا أيضاً استخدام عبارة «عار البلد» لوصف أولئك الذين انتشروا إلكترونياً عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الحديث، بما فيهم من عور وعمى وسواد وجه وقلوب شوهاء، ليستهدفوا أعراض الناس وحرماتهم، وخصوصاً الناشطين من سياسيين وحقوقيين وإعلاميين، وإن كنا نتمنى ذلك، مع أنه سبقتهما الكثير من ممارسات العار لاستهداف المخالفين، إلا أن جماعة «عار البلد» سينشطون مستقبلاً لفقدانهم القيم الدينية ولإفلاسهم فكرياً وثقافياً واجتماعياً، وسقوطهم أخلاقياً.

وعلى أية حال، دعك من ذلك العار فهو مكر سيّئ لا يحيق إلا بأهله، فالنوايا الصادقة لأي سياسي أو ناشط حقوقي أو تيار معارض في صياغة حاضر ومستقبل الوطن، هي جسر العبور نحو تحقيق المطالب المشروعة، وهي التي يجب أن تكون «حلقة الوصل» بين السلطة والمعارضة، بعيداً عن أوصاف «الخونة والمتآمرين»، وأعلى من أفكار «عار البلد» الشيطانية، فلا يمكن أن يكون جزاء أي إنسان حمل مسئولية المطالبة بالحقوق المشروعة أن يصبح «إرهابياً صفوياً مجوسياً خائناً منحل الأخلاق» وفق أمزجة الخيل والليل والسلاح والعسكر… تلك فكرة بائسة يائسة تعرف أهلها ويعرفونها.

لذا، أن تمارس حقاً من حقوقك المشروعة في التعبير عن رأيك بالوسائل التي كفلها الدستور، وتطالب بحقوقك متجاوزاً سياج الخيانة والارتباط بالخارج، لا يعد خيانة عظمى إلا في عقول عشاق التدمير والطائفية والتمييز والتأزيم ودولة «اللاقانون»، مهما علا حجمهم، فيبقون مجرد راقصين على آلام وطن… وبهذا هم من يسير إلى السقوط.

هنا، في بلاد صغيرة المساحة، واضحة«التأزيم» سياسياً… خصوصاً مع نشاط مطلبي شديد متجدد – شئناً أم أبينا – لا يمكن من وجهة نظري الوصول إلى حل للأزمة إلا من خلال اتجاهين: الأول، وهو الرئيس المطلق الأصح: أن يكون الحوار بين السلطة والمعارضة «المعارضة ولا أحد غيرها»، والمسار الآخر، هو تصحيح العلاقة مع أي مكون من مكونات الشعب تعرض للظلم عبر تفعيل منهج الإنصاف والمصالحة وتلك بلا ريب تشمل تطبيق توصيات البروفيسور بسيوني… ليس بمساءلة ومحاسبة وتوقيع العقوبات على من تجاوز القوانين وانتهك الحقوق وسفك الدماء وأغرق الوطن في الطائفية ومحاكم التفتيش والازدراء وتشجيع الصدام الطائفي ولي يد القانون وفق نفوذه… لا… بل يشمل، استناداً على الأدلة والتحقيق المحترم والقضاء العادل، كل من أضرّ بالوطن… ليس كافياً أن نقول بأن: هذا خائن، وذاك إيراني وهؤلاء يقتلون الشرطة وأولئك يصنعون القنابل والدمار… القصاص القصاص… نعم، كل ذلك يجب أن يجرى على فاعل حقيقي… لا على مواطن بريء كتب اعترافه بنجيع دمه تعذيباً!

وربما كان من بين هذا المسار، حوار عام توافقي «للنظر في الأجواء التي سيحققها حوار السلطة والمعارضة» تماماً كما كان ومضى على غرار حوار التوافق الوطني في صيغته التي رأيناها (ملتقى أو منتدى لا أكثر ولا أقل)، على أن تكون الأهداف بالدرجة الأولى لدى السلطة والمعارضة، هي الاحتكام لمبادئ سمو ولي العهد السبعة، باعتبارها الخيار المتاح والأسلم لإنقاذ البلد… تيسيراً للجهد والوقت وتحقيقاً للفائدة وإصابتها إصابة تامة، فإنه ليس هناك من داعٍ لدعوة 300 أو 400 أو ألف شخص لحوار ينتظم عقده وينخرط بسرعة ويذهب جفاء، قبل حوار مباشر بين السلطة والمعارضة التي طرحت كل ما لديها في وثيقة المنامة بكل وضوح.

لنفترض أن هناك ملامح حوار «ذي مغزى» بين السلطة والمعارضة؟ وهذا ما يجب أن يتم في أسرع وقت، فكل المؤشرات تؤكد أن وضع البلد في غيابة الكهف؟ أتعتقدون أن أولئك الراقصين لن يعودوا من جديد لضرب أية مبادرة وطنية للخروج من المأزق؟ بلى سيفعلون؟ وليسمح لي القارئ الكريم أن أعود إلى مقال بهذا المضمون (انظر: الراقصون في الأفراح والأحزان – (الوسط – 15-10-2009)… فقد أشرت يومها إلى أنه لم يعد مستغرباً أمر «الجنود المجهولين» الذين «يدعون» بأنهم يقدمون الغالي والنفيس في الذود عن حياض الوطن، ويتقدمون الصفوف الخفية «ولتكن الخلفية» إن جاز لنا التعبير، وهم يشمّرون عن سواعدهم بفرقعات وشعارات وسلالم مجد من ورق في ادّعاءاتهم بأنهم إنما يقدمون كل ذلك العمل الوطني الجبار من أجل دين الله ومن أجل الوطن! فيما هذا الصنف من الناس هو الأخطر لأنه يلاحق مكاسب ومصالح شخصية وفئوية، ويرى في إبقاء الأزمات، ملاذاً آمناً له… هؤلاء لا يريدون لا للسلطة ولا للشعب ولا للوطن بشكل عام خيراً.. يكذبون أن اعتلوا المنابر.. يخادعون ان اقاموا التجمعات واللقاءات.. ينافقون إن تحولوا الى برلمانيين.. ولا بأس في أن تعرف السلطة هؤلاء جيداً.. وهي تعرفهم، وهذا أمر أشد خطورة.

لا يمكن التغاضي عن ممارسات «عار البلد» في نشر قذارتهم بانتهاك الأعراض والتشهير بأي مواطن، كما لا يمكن الدفاع عن حملة نوايا التدمير والطائفية والتخريب والتحريق والإرهاب وما الى ذلك من سلسلة طويلة من المفردات، وقد رفضنا لسنوات أية ممارسة مطلبية فيها عنف وتخريب، لكن في الوقت ذاته، من حق المواطنين، والشباب تحديداً، أن يطالبوا بحقوقهم وأن يعيشوا المرحلة السياسية التي تتواكب مع تطلعاتهم، دون قتل أو تعذيب أو سجن أو سلب للحقوق.. من حقهم أن يكون لهم توجههم وآراؤهم حتى التي تختلف معنا.. لكن أن يصدح بعض اصحاب حناجر الفتنة وينادي: «جهزوا لهم سفينة كبيرة وارسلوهم الى الفرس»…فلا صيغة طائفية أكبر من تلك.

أعود للمقال السابق نصاً: «ومن قال إن من تثبت عليهم تهم التخريب والتحريق والإرهاب يجب أن يطلق سراحهم ليمشوا ساخرين من القانون؟ ومن قال أن من تثبت عليهم تهمة «قتل نفس» يجب أن يخرجوا مرفوعي الرأس؟ مرارا وتكرارا، طرحت وطرح غيري من الزملاء في مقالاتهم، موضوعات انتقدت بشدة كل الممارسات ذات التوجه العنيف أياً كان مصدرها، لكن مع الإعتبار لكل الممارسات المطلبية السلمية القانونية التي لا يمكن قمعها أبدا وقد منحها الدستور للناس»… انتهى الإقتباس، وكان ذلك في العام 2009، ومع ذلك، فإن الشعارات الأصدق للحركة المطلبية هي: «بالروح بالدم نفديك يا بحرين»… «نعم نعم للسلمية»… «وحدة وحدة بحرينية»… مع تنوع آخر طويل من الشعارات التي نتفق أو نختلف معها، ومع ذلك، نجد أن كل ما نقوله خاضع للإتهام والتشكيك والربط بالخارج… ومع ذلك… سينشط الراقصون في الأفراح والأتراح ليحافظوا على بقائهم ومصالحهم، وأكبر نفاقهم حين يدعون المحافظة على «مصلحة الوطن».

سعيد محمد سعيد

«إخوان سنة وشيعة»… اصطكاك الأسنة!

 

ذات يوم، أرسل إلي زميل خليجي، وهو مواجه شرس للطائفيين وأفكارهم ومن الداعمين لمنهج تقوية العلاقات بين السنة والشيعة… أرسل إلي من باب المزاح والمناكفة اللطيفة، مقطع فيديو لأحد المشايخ وكتب في رسالته: «في هذا المقطع يا صاحبي، ستشعر بالسرور والراحة النفسية لوجود علماء ومشايخ في كلامهم روعة… في دعائهم صدق وإخلاص… نحن نحتاج إلى علماء ومشايخ ودعاة ومثقفين يعرفون جيداً المعنى الإنساني للأخوة بين الناس، وقبل ذلك يعرفون معنى الأخوة بين المسلمين في المنهج القرآني… أما هؤلاء فيحتاج إليهم إبليس»!

وعلى أي حال، شدتني الرسالة القصيرة المدهشة لمشاهدة مقطع الفيديو ولأستمع إلى دعاء على لسان أحد المشايخ يقول فيه: «اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم عليك بـ (…) (قالها ثلاثاً). اللهم جمد الدماء في عروقهم. اللهم جمد الدماء في عروق مرجعياتهم وأئمتهم وعلمائهم. اللهم سلط عليهم الغلاء والبلاء والوباء. اللهم جمد الدماء في بطونهم وظهورهم. اللهم سلط عليهم السرطان (قالها مرتين)… ثم ذهب في بكاء مرير!

لا بأس… هناك سواد عظيم من أبناء المجتمع المسلمين يؤمنون تماماً بشعار: «إخوان سنة وشيعة… هذا الوطن ما نبيعه»، وفي المقابل، هناك من وضع ذلك الشعار موضعاً لرفع الحراب واصطكاك الأسنة محاولاً إسقاطه بما أوتي من أفكار شيطانية معادية للأخوة، وليس هؤلاء من طائفة واحدة، بل هم من ذوي النزعات والأفكار الطائفية المتشددة من الطائفتين!

في المجتمع البحريني، يرفع الصوت المخلص، من السنة والشيعة، هذا الشعار باعتباره ركن أساس (للأسرة البحرينية ولاستقرار المجتمع)، فيما يحاول الصوت الطائفي إسقاطه كونه (غير ممكن) انطلاقاً من تهم كخيانة الوطن وتحريف القرآن الكريم والخيانة التاريخية… فبالتالي لا يمكن أن يكونوا إخواناً لنا، حتى أن أحد مشايخ الفتنة وصل به الأمر إلى التشكيك في نسب طائفة بكاملها، ولم تحرك الدولة ساكناً لا ضده ولا ضد آخر رفع اثنان من المحامين دعوى إثارة الفتنة الطائفية لدى النيابة العامة ضده! بل تجاوز الأول بغضبه ليدعو الناس: لا تزوروا مرضاهم ولا تهنئوهم في أعراسهم أو مناسباتهم!

على أي حال، لو عدنا إلى أساس شعار «إخوان سنة وشيعة… هذا الوطن ما نبيعه»، لوجدنا مصدره العراق. فالشعب العراقي هو من صاغ ذلك الشعار في أحلك المراحل العصيبة التي مر بها، ولولا صدقهم في تبني ذلك الشعار بقناعة دينية وانسانية ومجتمعية، لانتشرت عصابات الإجرام المسلح بشكل مذهل، ولما ولدت جماعات الصحوة التي أرهقت تلك العصابات وإن عادت من جديد خلال الأيام الماضية لتسفك الدماء بجاهليةٍ همجيةٍ وحشية مدعومة بالتمويل والتسليح من أطراف معروفة، إلا أن الشعار وحد الشعب العراقي.

قبل عدة أشهر، استضافت العاصمة القطرية (الدوحة) ندوة: «دور التنوع المذهبي في مستقبل منطقة الخليج العربي»، ولعل الخلاصة الرئيسية من تلك الندوة هي اتفاق علماء ومثقفين ودعاة من الطائفتين على أن تعزيز مفهوم المواطنة (على حساب الانتماء للطائفة) يمكن أن يمثل حلاًّ للمستقبل، بيد أن أعداء شعار: «اخوان سنة وشيعة»، طرحوا أيضاً ما لديهم من أفكار شيطانية، وانبرى ناشط سياسي خليجي مشهور بطائفيته ليقول: «كلما أصبح الشيعة أغلبية ساموا السنة الويل والعذاب»، وهذه القراءات غير الموفقة كان لها من ينفيها ويسفهها ويسقطها بقوة على هامش الندوة، لكن الحق، أن المشاركين الذين حملوا أنظمة الحكم الخليجية مسئولية تأجيج الصراع الطائفي كانوا مصيبين فيما قالوا، فلا يمكن أن تنتعش الطائفية إلا إذا كانت مدعومةً من الحكومات، ولهذا فإن المطلوب من الحكومات الخليجية، وفق الأصوات المعتدلة في الندوة، هو الوقوف على مسافة واحدة من كل المذاهب.

المجتمعات الخليجية، بل قل المجتمعات العربية كلها تعيش التنوع الديني والمذهبي والقومي، لكن غياب نظام المواطنة بوصفه نظاماً متجاوزاً للتعبيرات التقليدية، جعل بعض هذه المكونات تعيش التوتر في علاقتها، وبرزت في الأفق توترات طائفية ومذهبية وقومية، وهكذا عاشت بعض الدول والمجتمعات العربية توترات مذهبية خطيرة تهدد استقرارها السياسي والاجتماعي.

أين موضع الخلل؟ هنا نتفق مع الآراء التي تركز على أنه حين تتراجع قيم المواطنة في العلاقات بين مكونات المجتمعات العربية، تزداد فرص التوترات الداخلية في هذه المجتمعات؛ لهذا فإن العالم العربي يعيش مآزقَ خطيرة على أكثر من صعيد، وهي بالدرجة الأولى تعود إلى خياراته السياسية والثقافية. فحينما يغيب المشروع الوطني والعربي، الذي يستهدف استيعاب أطياف المجتمع، وإخراجه من دائرة حبسه في الأطر والتعبيرات التقليدية إلى رحاب المواطنة؛ فإن هذا الغياب سيدخل المجتمعات العربية في تناقضات أفقية وعمودية، تهدد استقرارها السياسي والاجتماعي.

ليس هناك من حل أقوى من أن تكون الأنظمة الحاكمة هي (حائط الصد) الأقوى للطائفيين وأفكارهم، لا أن ترعاهم وتحميهم، فالمجتمعات والشعوب الخليجية والعربية تتطلع إلى حكومات وأنظمة سياسية متطورة ومدنية، تفسح المجال للكفاءات الوطنية المختلفة للمشاركة في تنمية الأوطان العربية وتطويرها على مختلف الصعد والمستويات.

سعيد محمد سعيد

تقسيمة الأبارتيد: موالون وخونة (2)

 

أخطر ما في تقسيمة الأبارتيد الطائفية العنصرية السياسية، هي التهيئة غير المباشرة لأخطر نتائجها… النزاع الطائفي! وهذا لن يكون كما سيأتي لاحقاً، وخصوصاً أن سبل حل الأزمة بين السلطة والمعارضة ممكنة، فكثيراً ما سمعنا عن عبارة صيغت هكذا: «حوار ذي مغزى»! يلزم أن تترجم على أرض الواقع، بيد أن هناك مبادرة ولدت يوم الخميس (24 مارس/ آذار 2011) لتجمع ظهر واختفى باسم (صوت التكنوقراط)، استشعر الشرخ في النسيج الاجتماعي والاصطفاف الطائفي المقيت الأمر الذي بات معه يهدد كيان وبنية البلاد ويؤثر على حياة أفراده ومستقبلهم، داعياً إلى إدراك المسئولية الوطنية وخطورة الانسياق وراء الاصطفاف الطائفي والامتناع عن كل ما من شأنه الإساءة إلى الطائفة الأخرى، وفي الوقت ذاته حذر من الربط بين المشاكل السياسية والأمنية التي تمر بها البلاد، وبين العلاقات الاجتماعية التي تربط طائفتي المجتمع… ونعيد السؤال: إذا كانت التقسيمة سيئة الذكر مهيئة لصدام أو نزاع طائفي؟ فهل ذلك الخطر وارد؟

حسناً، ما الذي يمنع قيام صراع أو نزاع أو صدام طائفي لطالما هناك مواطنون (موالون) فقط، وهناك (خونة) فقط؟! ما الذي يمنع بناءً على تلك التقسيمة التعيسة التي لاتعترف بمواطن سني وآخر شيعي، ومواطن معارض وآخر موالٍ؟ من الطبيعي أن تكون المسئولية بالدرجة الأولى هي مسئولية الدولة في إجهاض تلك التقسيمة بدلاً من إذكائها وتشجيعها، على ألا يلقى اللوم على منظمات المجتمع المدني (بالتقصير) دون اعتراف بوجودها طالما هي في الأساس… خائنة! ولا شك في أن الدولة والمعارضة والموالاة وعموم الشعب يدركون بأننا سائرون في نفق مظلم مهما كانت حدة المعالجات الأمنية وقسوتها، ومهما ابتعدت ملامح الحل السياسي.

لكن، كيف نجزم بأن الصدام الطائفي غير وارد؟ وهل خطورة هذه التقسيمة مقتصرة على البحرين أم على دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام، باعتبار أن ما يحدث في البحرين له تأثيره البالغ على المنطقة؟ هنا، يمكن الاستعانة بما طرحه الباحث السعودي عبدالله إبراهيم العسكري من جامعة الملك سعود بالرياض في ورقة عمل بعنوان: «الطائفية في الخليج لم تعرف ولن تعرف الحرب الطائفية – القطيف – 2008»، فهو يرى أنه عند تحليل الظاهرة الطائفية، يمكن القول إننا أمام ظاهرة ذات أبعاد سياسية واقتصادية وربما اجتماعية، وهي ظواهر يمكن التعامل معها لو بدت للعيان كما هي، لكن المؤلم أنها ظواهر اقتيدت إلى الماضي، ومع هذا الاقتياد برزت إلى السطح سمات اللامكانية، وسمات المذهبية الدينية، وسمات إشكالية المواجهة… لم تعد الطائفية كما كانت عبر حقب مضت، بل أضحت ذات سمات جيوسياسية واضحة، وإن كانت تختبئ وراء عباءة الدين أو المذهب، وهذا كفيل بأن يبيّن لسكان الخليج الدرب الصحيح وهو عدم الانسياق إلى مالانهاية مع الطائفية، وعلى كل حال، كان هذا الدرب هو ما اختطه سكان الخليج لأنفسهم بصرف النظر عن طوائفهم المتعددة.

وهنا لابد من طرح هذا السؤال وهو: هل الطائفية خيار سياسي يمكن لأبناء الخليج السير في دربه؟ والجواب بالنفي! والسبب أن الخيارات السياسية تنطوي على فلسفة وبرامج سياسية يمكن تبنيها على السطح، بينما الطائفية لا تملك فلسفة، وهي ليست صالحة لأن تصبح برنامجاً سياسياً يمكن لأحدهم تبينه والتصريح به… والحق أن الطائفية هي نزوع مُضخم للأنانية تجاه الآخر، وهذا هو بيت القصيد! وقد يكون الآخر شريك صاحب الطائفية في اللغة والأرض والتاريخ والدين، وقد يكون الآخر من خارج تلك الدوائر، وعلى هذا يمكن القول إن الطائفية ليست خياراً سياسياً، بل هي ظاهرة اجتماعية مثل أية ظاهرة اجتماعية تسود في حقبة زمنية، لأسباب معروفة، ثم تخبو. وفي منطقة الخليج، لم تجد الطائفية طريقها لتصبح أكثر من ظاهرة اجتماعية، حتى لو لم يصرح أبناء الطوائف بذلك، فلسان الحال أبلغ من لسان المقال.

في كيفية التوصل إلى إلغاء الطائفية الدينية أو تخفيفها أو تعديلها، يرى الباحث العسكر أن ذلك يتم عن طريق إرساء قواعد صلبة للثقافة للمدنية، وهذه كلمة عامة وحمّالة أوجه، ولكن الأخذ بلبرالية متزنة، لا تتنكر للدين أو المذهب، ولكن لا تجعل الدين والمذهب هما قطب الرحى للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولابد أن نبيّن للأجيال الحاضرة أن الطائفية ليست من الدين، وهي ليست من العلم وبالتالي هي ليست ضرورية للحياة.

سعيد محمد سعيد

تقسيمة الأبارتيد: موالون وخونة (1)

 

«المواطنون»… مفردة بالإمكان تشطيرها في المجتمعات العنصرية إلى شظايا ذات خطورة بالغة على الاستقرار والتنمية والسلم الاجتماعي، وتتعاظم مخاطرها إذا كانت الأنظمة الحاكمة هي ذاتها تتبنى سياسة الأبارتيد… فصلاً وانفصالاً! العزل العنصري ضد الأفارقة… عنصرية الأميركيين ضد اليابانيين… مذابح الأرمن والآشوريين… العنصرية ضد المهاجرين… ونماذج أخرى كثيرة دونها التاريخ الإنساني.

في المجتمع البحريني، ثمة (أبارتيد) مستحدث ومخيف وخطير وسخيف في الوقت ذاته! بعض الممارسات الإقصائية والعنصرية والتمييزية القائمة، هي مخالفة للشرائع والقوانين والأعراف والإنسانية، لكنها قائمة… شئنا أم أبينا: سنة وشيعة – عرب وعجم وهولة – درجة عليا وأخرى دنيا – أصليون وبديلون… لكن هناك تقسيماً طارئاً وفادحاً في خطورته!

فليس غريباً أن يكون المعادل الموضوعي للموالاة هو المعارضة… وليس مستهجناً أن يكون الخائن نقيض المؤتمن… وما من شك في أن نقيض الفاسد هو الصالح… لكن أن تكون البحرين العريقة بحضارتها وبتعددها وبتنوعها مصدراً لتقسيمة بشعة للمواطنين بين: موالين وخونة، بدلاً من موالين ومعارضين… فهذه كارثة!

وفق تلك التقسيمة التي لا يمكن التظاهر بأنها غير موجودة وقد أشبع الإعلام الرسمي في غرسها، ومنذ بروز الأزمة في 14 فبراير/ شباط 2011، تم إلباس تلك التقسيمة تفصيلاً على الطائفتين الرئيستين في البلد، وأصبح الكثير من الموتورين مؤمنين تماماً بأن المواطنين السنة هم الموالاة المطلقة والمواطنة المطلقة، وأصبح المواطنون الشيعة عموماً والمعارضة تحديداً، هم الخيانة المطلقة، فيما لم تصمد أية مبادرات للتصدي لتلك التقسيمة البشعة من قبل المخلصين من أبناء البلد، وحتى الآن… كل تلك المبادرات ذهبت أدراج الرياح على رغم الأمل في ثبات مبادرة (وطن يجمعنا) والتي جمعت لفيفاً من أبناء البحرين المخلصين من الطائفتين في لقاءين عقد الأول في مأتم أنصار الحسين بقرية البلاد القديم، والثاني في مجلس الدوي بالمحرق.

تقسيمة عنصرية طائفية سياسية

ولكن، هل يمكن فعلاً اعتبار تقسيمة (موالون وخونة) بأنها شكل من أشكال التفرقة العنصرية؟ من وجهة نظري المتواضعة، فإن هذه التقسيمة أخطر بكثير من التقسيمة العنصرية! فهنا نحن أمام تقسيمة عنصرية، طائفية، سياسية، لا تقتصر فقط على التمييز ضد فئة من المواطنين وإقصائها فحسب، بل محو مواطنتها أصلاً واعتبارها للخيانة (التاريخية) أقرب! التفرقة العنصرية بدأت في جنوب إفريقيا في عهد الاستعمار (انظر ويكيبديا – أبارتيد)، ولكن لم يتم عرضُ الفصل العنصري كسياسةٍ رسميةٍ إلا عقب الانتخابات العامة التي جرت العام 1948 حيث صنَّفَ القانونُ الجديدُ السكانَ إلى جماعاتٍ عرقية (أسود وأبيض وملون وهندي)، وعُزلت المناطق السكنية عن طريق عمليات الترحيل القسري، وحُرمَ السود من الجنسية منذ العام 1958، وأصبحوا ملحقين بموجب القانون إلى واحدٍ من عشرة مناطق قُسِمَت على أساس قبلي لتُدارَ بالحكم الذاتي، سميت هذه المناطق البانتوستانات، وأصبحت أربع مناطقَ منها ولايات مستقلة اسمياً، وقامت الحكومة بالفصل العنصري في التعليم والرعاية الطبية وغيرها من الخدمات العامة، وقدمت للسود خدماتٍ أقل من تلك التي تقدمها للبيض.

تصنيف الخيانة بالمطلق

أما تقسيمة الأبارتيد لدينا، والتي نربأ بأن تكون مقرونة باسم (مملكة البحرين)، فقد تعمدت استخدام توصيف جديد كما قلنا وهو: موالون وخونة! فالمواطن قد يكون موالياً للنظام الحاكم وداعماً له ومؤيداً له في كل أفعاله… لكنه يبقى مواطناً وهذا حقه كموالٍ، والمعارض قد يطرح برنامجاً سياسياً لإصلاح النظام، ومهما تآلف البرنامج السياسي للمعارضين أو اختلف في مساراته، فإنهم أيضاً يبقون مواطنين معارضين وهذا حقهم أيضاً، طالما أنهم طرحوا كل ما لديهم علانيةً تعبيراً عن الرأي، ولطالما لم يثبت أي اتهام ضدهم بالخيانة العظمى والتآمر على الدولة وعلى استقلالها وكيانها… لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم تصنيفهم كخونة (بالمطلق) هكذا وفق المزاج والهوى.

والسؤال هنا: «ما هو أخطر ما في تلك التقسيمة، وهل هي تهيئة غير مباشرة لأخطر نتائجها ألا وهو النزاع الطائفي؟» يتبع.

سعيد محمد سعيد

المحمودان… الشيخ وهدى!

 

«لله الحمد، لم نصل إلى مرحلة الاقتتال الطائفي»… هذه العبارة وردت – كما قرأها الكثيرون – في تصريح نشر قبل فترة وجيزة مضت لرئيس تجمع الوحدة الوطنية الشيخ عبداللطيف المحمود، وسبقت هذه العبارة كلمتان: «الشارع منقسم»! إلا أن فيما سبق هذه العبارة في التصريح وفق ترتيبه المنشور، أجزم الشيخ المحمود بأن: «الآن، انتهت الثقة بين الطائفتين السنية والشيعية»! ولربما كان مستساغاً أن يقول الشيخ، كرجل دين نافذ و(رجل سياسة) ما يشاء تجاه جمعية الوفاق الوطني الإسلامية من باب (العمل السياسي) وموقفه الذي يمثل موقف تجمع الوحدة من أنه: «لا مجال للحوار بين التجمع والوفاق، فإنهم لا يعترفون بالآخر كقوة سياسية»… له ذلك، لكن، هي سقطة كبيرة أن ينهي الشيخ المحمود العلاقة بين السنة والشيعة في البلد باعتبار أن الثقة (انتهت)! وودت شخصياً لو فصل الشيخ بين موقف التجمع من المعارضة والوفاق تحديداً، وبين مسألة العلاقة بين السنة والشيعة.

هل تريدون أن تشاهدوا المنظر الأكثر إنسانية ودلالة على أنه لا مجال إطلاقاً لدق إسفين بين الشيعة والسنة في البلد؟ سأترك المشهد إلى آخر فقرة في هذا المقال، لكن إذا أردنا أن نرى (لهيب) الصراع الطائفي ونيرانه المشتعلة وأحقاده المتلاطمة، فإنه ليس من الصعب أن نستشعر تلك النيران في مضامين مقالات بعض الكتاب وتغريدات بعض المغردين وقنابل بعض القنوات الفضائية ذات الصفة الطائفية أياً كان انتماؤها وخطها الخبيث، بالإضافة إلى (فلول) من الطائفيين الذين يبثون سمومهم في منتديات إلكترونية… السوق الأكثر رواجاً لتلك البضائع الطائفية البغيضة، هي بين الطائفيين أنفسهم! ممن يعرفون أنفسهم ويمارسون سلوكهم الطائفي، لكنهم لا يمثلون كل السنة وكل الشيعة وكل الشرفاء في المجتمع البحريني الذين لا يمكن أن تسري إلى عقولهم ونفوسهم تلك السموم.

تصريح الشيخ المحمود المثير للجدل فعلاً، والذي استنكره الكثيرون – وأنا منهم – واعتبره البعض الآخر أنه (مفبرك)، واعتبره طرف آخر أنه يخفي وراءه أمراً مقصوداً… إلا أن ما أكده هو أن الشيخ لم يصدر أي تصريح أو بيان ينفيه! ما يدل على أنه قاله بالصيغة التي وردت، ولأنني من المواطنين الذين تمنوا أن يكون للشيخ عزل واضح بين الخلاف والصراع السياسي بين تجمعه وبين أي تيار سياسي آخر، فالسياسة لها قذارها، وبين علاقات الطائفتين الكريمتين في المجتمع، والتي هي أولاً وأخيراً، مسئولية دينية ووطنية واجتماعية وأخلاقية وإنسانية ومبدأية أيضاً للمواطن عينه وليست شأن محرك سياسي يبدأها وينهيها كما يشاء ذلك المحرك.

إذاً، وفقاً للشيخ المحمود فإن (الثقة) بين السنة والشيعة انتهت؟ ولربما (فلسف) البعض الفكرة بالإيماء إلى أن (العلاقة) شيء (والثقة) شيء آخر! وهذا صحيح… بمعنى أنه قد تكون هناك (علاقة) بين طرفين، لكن ليس بالضرورة أن تكون هناك (ثقة) في العلاقة بين ذينك الطرفين، بيد أن الأخطر في ذلك (التفلسف) هو تشجيع نشر فكرة تنافي الدين والعرف والأخلاق بين مكونات المجتمع تقوم على أساس استمرارية العلاقات لكن… بلا ثقة!

لا بأس لكن… هل ذلك (التفلسف) المجوف والكريه في مضامينه هو ما يقبله كل مخلص من أبناء الطائفتين الكريمتين؟ الشيخ المحمود قال كلامه، ولهذا وجدت في طرف آخر كلاماً أكثر عقلانيةً وأصفى نيةً في منع تغلغل ذلك (التفلسف) الفاشل… ذلك الطرف يشمل الكثير من ذوي النوايا الصادقة الذين يبذلون جهداً كحائط صد لوأد مثل تلك الأفكار المتفلسفة بشَرَهٍ طائفي (أغبر)… ومن بين تلك الأطراف التي ولدت حديثاً، مبادرة (وطن يجمعنا)… ففي أول لقاء للمبادرة بمأتم أنصار الحسين بقرية البلاد القديم قدمت نائب رئيس جمعية الاجتماعيين البحرينية الناشطة والباحثة هدى المحمود صيغة بحرينية أصيلة حيث دعت (لصدّ محاولات من يحاول إشعال الخلاف الطائفي بين أبناء الطائفتين الكريمتين، والدعوة إلى إعادة اللقاء في كل مآتم ومساجد البحرين… من البحر إلى البحر، وأن هدف منظمات المجتمع المدني من هذه المبادرة هو رعاية النسيج الاجتماعي، وذلك بعد ملاحظة أن الخلاف السياسي بدأ يضرب في النسيج الاجتماعي، في حين أن هذا النسيج يجب ألا يتأثر بالاختلاف الوارد والأصل).

جميل جداً، لنعرج إلى فقرة أخرى من كلام الناشطة هدى المحمود: «الاختلاف وارد وهو الأصل، ولو كان هناك اتفاق فقط لتأثرت الحياة… الاختلاف يحدث لننتج ونبدع ونتناغم فكل المجتمعات تطورت بسبب الاختلاف، ولهذا فإن من ضمن أهدافنا ومشاريعنا هو ليس (التقارب) فطول عمرنا متقاربين، ولكن الالتقاء من أجل الثقة بالآخر، وقد أبلغت أعضاء المبادرة بأننا كبحرينيين، نعيد حالياً اكتشاف أنفسنا كبحرينيين… أعتقد أن البحرين بدون البحرينيين لا تستقيم كوطن، ولا البحرينيين بدون البحرين… ما يجري الآن طارئ وسيخف ثم سيزول، ونحن في المبادرة، وضعنا مجموعة من الآليات وأنتم بمبادرتكم العفوية الطيبة تناولتم ما فكرنا فيها نحن ونفذتموه ودعوتمونا له، وأتصور أن هذه هي البحرين الحقيقية وهذا هو الشعب البحريني الذي يجعلنا في أحلك الأزمات والأوضاع لا نفقد الأمل لا في البحرين ولا في البحرينيين».

الأجمل في الطرح الحقيقي المخلص في كل أبعاده، والذي يكشف (هوس التفلسف المنافي له)، هو قولها: «أريد أن أقول إنني مؤمنة بالبحرينيين، ومؤمنة حتى النخاع بوطنيتهم وبحبهم لوطنهم، ومؤمنة بإبداعهم وتفكيرهم الخلاق، ونحن كبحرينيين في الخليج، يقولون عنا إننا النموذج للتقدم والتطور، وهذا الأمر له ضريبة ندفعها، لكن لا يجب أن دفعها من تطورنا ولا من انتمائنا ولا في أن نترك الاختلاف يؤثر على نسيجنا… نريد أن نعيد هذ اللقاء في كل مآتم ومساجد البحرين… من البحر إلى البحر… فالبحرين عزيزة علينا وكلنا أهل… لقد جددتم الأمل».

بعد هذه الفقرة، من وجهة نظري الشخصية، تسقط كل شنشنات الإنهاء القسري للثقة بين أبناء الطائفتين، وكأنها ثقة (روبوتات آلية) وليست ثقة (بشر محكومين بمبادئ دينية ووطنية قويمة)… الآن، لاشك في أن القارئ الكريم ينتظر أن أقدم له المنظر الأكثر إنسانية ودلالة على أنه لا مجال إطلاقاً لدق إسفين بين الشيعة والسنة في البلد… حسناً، يوم الأربعاء الماضي (29 مايو/ آيار 2012)، وفي غرفة الانتظار القريبة من قسم الإنعاش بطوارئ مجمع السلمانية الطبي، كان هناك ذوو مواطنين من الطائفتين… رجالاً ونساءً وشباباً من الجنسين، وعلى فراش الخطر ينام أحبتهم… السني يعانق الشيعي ويطمئنه، والشيعية تبادر السنية وتقرأ معها الآيات القرآنية والأدعية… والشاب الشيعي يقف مع نظيره السني يتابعان أخبار الأحبة من داخل غرف الإنعاش.. وأشد حالات الثقة (التي لم تنتهِ)، هي تلك التي يتبادلون فيها الدموع الصادقة والمشاعر النقية كلما وردهم خبر مقلق… يا جماعة، إذا المسألة مسألة نهاية الثقة بين الطائفيين من الفريقين (قلعتهم)! أما إذا كان الأمر يضرب في ضمير المخلصين من الطائفتين… (مشوا بوزكم).

سعيد محمد سعيد

الحكومات العربية والإسلامية: أعداء حقوق الإنسان!

 

يبدو مستغرباً ذلك العداء الشديد بين الحكومات العربية والإسلامية، عدا القليل النادر منها، مع حقوق الإنسان! ولا يمكن المقارنة بين حكومات تدين بالدين الإسلامي الذي رسخ الحقوق والواجبات في أعظم دستور وهو القرآن الكريم، وبين دول آسيوية أو إفريقية أو غربية بشكل عام (من درجات الدول القمعية) تمارس أبشع الممارسات ضد حق الإنسان في الحياة بصورة مطلقة، حيث لا دستور لها إلا الاستبداد.

حقوق المواطن في الدول العربية والإسلامية عموماً تتردى عاماً بعد عام، بغض النظر عن البهرجات الإعلامية المستهلكة جرّاء تشكيل الجمعيات والإدارات والمراصد، ولهذا فإن البرهان الأول والأقوى على استمرار التدهور هو الاستهداف الملحوظ للناشطين والحقوقيين والعاملين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان كما أثبتته تقارير المنظمات الدولية ومنها منظمة (هيومن رايتس ووتش) التي أثبتت تدهور حقوق الإنسان من خلال المحاكمات غير العادلة في القضايا السياسية وتضييق المجال على الصحافيين المستقلين والجمعيات في عملهم على مستوى 15 دولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكان العام 2009 تحديداً هو العام الأسوأ لانتهاكات حقوق الإنسان والذي شهد (هجمة منسقة) ضد المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات التي توثق الانتهاكات، وتلك الدول لا تستحي؟ فهي تستعرض من خلال وفودها وممثليها عضلات كارتونية في المحافل الدولية وإنجازات (قل نظيرها) بإتقان لا مثيل له في التزوير والكذب والخداع، دون اكتراث لانعكاسات ذلك الأداء المسرحي الفاشل على سمعتها وعلى رصيدها في مجال حقوق الإنسان.

ويتضاعف التردي في بعض الدول العربية والإسلامية كلما واجهت ثورات أو حركات مطلبية كما شهدنا من مشاهد مفجعة منذ انطلاق ما يسمى بالربيع العربي وأفضل تسميته بربيع المطالبة بالحقوق الدستورية في العام 2011 والذي يعتبر أشد وطأةً من العام 2009 بالنسبة للحقوقيين، فأبسط ردود فعل تلك الحكومات هو ملء المعتقلات وسفك الدماء باعتبار أن أولئك المجرمين (الخونة) إرهابيون أو متآمرون مع الخارج وأنهم يستحقون التطهير تارة، والإبادة تارة، والتخوين تارات وتارات.

ترى، ما هو السر في إصرار معظم الحكومات العربية والإسلامية على (طحن) مواطنيها فيما هي تضع في دساتيرها القرآن الكريم كمصدر رئيس للتشريع؟ والدين الإسلامي يحرم بشدة انتهاك الحقوق؟ وتستحدث التشريعات في مجال حقوق الإنسان كحبر على ورق فقط؟ هذه النقطة طرحتها ذات مرة على وزير حقوق الإنسان العراقي السابق بختيار أمين في إحدى زياراته إلى البحرين، وكان يختصر الإجابة في أن الاستبداد هو السبب الأول! كما أن تلك الدول عادةً ما تعلن – بخبث – نوايا ووعود من دون خطط وسياسات والتزامات عملية للإصلاح الديمقراطي في إطار خطة زمنية، وإصرار الحكومات على المماطلة واستهلاك الوقت، والإصرار على عدم احترام المعايير الدولية الدنيا لحقوق الإنسان، بما يكرس تدني وضعية شعوب المنطقة مقارنة ببقية شعوب العالم، وذلك كله (خداع) للرأي العام العربي والمجتمع الدولي، في حين تتصاعد في بعض الدول العربية حالات قمع المعارضة السياسية والمدافعين عن حقوق الإنسان.

لقد مرت المنطقة العربية فيما مضى من السنين بمرحلة فارقة، تقدمتها استحقاقات حاسمة تجاه قضايا الأمة، وعلى مستوى السلم الأهلي ووحدة التراب الوطني، وعلى مستوى الإصلاح والانتقال الديمقراطي في الكثير من البلدان العربية، ومن قبل ومن بعد، كانت هناك خيارات التنمية والسياسات الاجتماعية والتعاون الاقتصادي العربي بين أزمتين عالميتين، عصفت أُولاهما بنصف أموال الصناديق السيادية العربية، وتتجمع نذر أخراهما في أفق الاقتصاد العالمية، وقد أضاعت بعض البلدان العربية، في معرض استجابتها لهذه التحديات، فرصاً يندر أن تجود بها المسارات المتغيرة في الواقع العربي المضطرب، وبدّدت بلدان أخرى خيارات تشق طريقاً إلى مستقبل أفضل لا يكون مجرد امتداد خطي لواقع مأزوم، وتبنّت في حالات ثالثة أسوأ الخيارات، سعياً وراء سراب، فلم تتعلم فيها درس التاريخ أو تستلهم خبرتها الذاتية. (انظر – مركز دراسات الوحدة العربية – كتاب التقرير السنوي 2009-2010 بعنوان «حقوق الإنسان في الوطن العربي: تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان عن حالة حقوق الإنسان في الوطن العربي»).

بالتأكيد، كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، مدخلاً كبيراً في تغيير الفكر الإنساني معرفياً وسياسياً واجتماعياً، ذلك أن التصور الدولي لحقوق الإنسان انتهى إلى خلاصة مؤدّاها أن التنمية في عمقها هي تحقيق حقوق الإنسان، وأن هذه الأخيرة لا يمكن تحقيقها إلا في مجتمعٍ مندرج في سياق عملية تنموية شاملة، وهكذا يبدو غريباً جداً أن ترى الدول العربية في قضية حقوق الإنسان قضيةً ثانوية وليست على جانب كبير من الأهمية، إلى جانب قضايا التنمية والتحديث والحفاظ على أمن واستقرار أنظمتها.

إن مشهد حقوق الإنسان وفقاً لذلك وكما هو في الواقع مشهدٌ قاتم وكئيب إلى الدرجة التي يلحّ فيها السؤال علينا: هل يمكن الحديث عن حقوق الإنسان في العالم العربي؟ فلقد أصبح من الطبيعي جداً أن نقرأ في التقارير السنوية التي تصدر عن المنظمات المختلفة وتحاول أن ترصد حقوق الإنسان في الوطن العربي عبارتي: «ممارسة الحقوق الأساسية: نمط ثابت من الانتهاك» و «ممارسة الحريات الأساسية: تراجع مطَّرد»! متى تقدمت حتى تتراجع؟

إن التنافر بين الحكومات العربية شديد للغاية في غالبية المسائل السياسية، إلا أنها مع ذلك تآلفت ضد أي اعترافٍ دولي بالمنظمة العربية لحقوق الإنسان! ولا ترى الحكومات العربية التي تظهر عداءها الواضح لمثل هذه المنظمات، لا ترى فيها سوى عدوّها الأمني الذي يشلُّ عمل الأجهزة الأمنية، وكأن مهمة الأجهزة الأمنية ليس سوى انتهاك حقوق الإنسان. (انظر كتاب: مسيرة حقوق الإنسان في العالم العربي – رضوان زيادة – المركز الثقافي العربي – ص238).

ختاماً، لو ألقينا نظرة على توصيات المؤتمرات والمنتديات الحقوقية في الوطن العربي، فسنجد أن المطالب تتمحور حول حق الإنسان في الوطن العربي والإسلامي في محاكمة عادلة وتأكيد حمايته من التعذيب أو الإيذاء بدنياً أو نفسياً أو الإهمال ومعاملته المعاملة الإنسانية المكفولة، وعكس ذلك يعد جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط بالتقادم، والتأكيد أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وحق هذا الإنسان في حرية الرأي وإبدائه وممارسة حقه في المشاركة السياسية على أساس من المساواة والعدالة بين الجميع ويتضمن ذلك حقه في حرية العقيدة والفكر وأن تكون مكفولة للجميع، أضف إلى ذلك، الحق في المساواة وعدم التمييز على أساس اللون أو الجنس أو مكان الميلاد أو الجنسية أو اللغة أو الدين، وأن يكون الجميع متساوين أمام القانون، وهذا يتطلب استقلال القضاء وحياده بكفالة الدولة نفسها، وصولاً إلى حقه في المحافظة على أسراره، وخصوصيات أسرته، وحرمة مسكنه، وحقه في سرية اتصالاته ومراسلاته الخاصة، لكن الحكومات المستبدة تضع كل ما تقدم في خانة (الإرهاب والتآمر مع الخارج والخيانة).

سعيد محمد سعيد

«المداوي»… لن يقتله الداء العضال

 

أصاب الحادث الآثم الذي تعرض له الشاعر الصديق عبدالعزيز المداوي مساء يوم الخميس (21 أبريل/ نيسان 2011) في مدينة حمد من يعرفه ومن لا يعرفه بالألم والحزن والقلق والخوف من المجهول… ذلك أن مثل هذا الحادث وحوادث أخرى مفجعة تهدف الى النيل من أمن واستقرار بلادنا، بالإقدام على جرائم نكراء تفوح منها روائح الطائفية البغيضة والعداوة الخبيثة في مرحلة يسعى فيها المخلصون الى الحفاظ على بيت الأسرة البحرينية، فيما يحاول آخرون تدمير بنيانه من الأساس.

الشخصان اللذان هاجما المداوي عند دوار 19 بآلة حادة وألحقا به اصابات في أنحاء مختلفة من جسمه ولاذا بالفرار هما نموذج شرير من نماذج الجريمة المنكرة الدخيلة على المجتمع البحريني، ولعل أهالي المحافظة الشمالية ومنهم محافظ الشمالية جعفر بن رجب، بل وعموم أهل البحرين الطيبين حين يستنكرون هذه الجريمة في حق الأبرياء بالأيدي والنفوس الدموية التي تهدف الى تقويض الأمن… أقول إن المواطنين حين يستنكرون هذه الجريمة، إنما يعلنون لكل الحثالات الإجرامية، أن شعب البحرين لن ينحني الى دعوات القتل والدمار والفتن الطائفية وتدمير قلب المجتمع البحريني بنشر حالة من الذعر وانعدام الأمن وبالتالي استهداف السلم والأمن الاجتماعي، وهو واحد من الثوابت التي لا يمكن أن يساوم عليها أبناء البحرين، مهما اشتد الخطاب العدواني المحرض، بل أجزم بأن الشرفاء والمخلصين من أبناء البلد سيتصدون لمثل هذه الخطابات والممارسات ولابد أن يشارك الجميع في وأدها والقضاء عليها.

وأجدني أعود مرة أخرى الى القضية التي أصبح رئيس تجمع الوحدة الوطنية الشيخ عبداللطيف المحمود يحملها كمسئولية، ويطرحها في خطب الجمعة أسبوعاً تلو الآخر بجامع عائشة أم المؤمنين في الحد، وآخرها تحذير الشيخ (بووليد) من اتهام الناس جزافاً، أو الانتقام منهم وهم أبرياء، لم يرتكبوا أي جرم أو خطيئة، وقد كرر دعوته إلى من يرسل رسائل تنتشر بين الناس مفادها: «لا تتهموا الناس جُزافاً، ولا تجعلوا أيام الفتنة وسيلة للتشفي ومحاولة النيل ممَّن بينكم وبينهم عداوات لتنالوا منهم في ظنكم وتنتقموا منهم وهم أبرياء»، فمن الواضح أن الشيخ كان يتابع باستمرار ويدرك مخاطر استمرار هذا السلوك العدواني المقيت، وهو ونحن جميعاً معه، ندرك أن أصحاب ذلك النهج الأسود المخالف للدين وللإنسانية، مستمرون في عملهم الجبان.

بالنسبة لأخي الشاعر عبدالعزيز المداوي، فقد عرفته منذ أكثر من عشر سنوات… بحرينياً أصيلاً ليس في قلبه ولا نقطة واحدة من سواد الطائفية الإجرامي، فهو يشارك في الفعاليات الوطنية من جهة، ويسارع الى المشاركة في المناسبات الاجتماعية والثقافية والدينية من جهة أخرى دون النظر الى اللون الطائفي لهذه المنطقة أو تلك… فهو شاعر يحمل الكلمة الصادقة الطيبة لجميع أهله، وأتذكر كم كان المداوي يعتب علينا حين ننظم فعاليات في بعض القرى لأننا لم ندعه مثلاً الى المشاركة بقصيدة، أو حتى اذا لم نوجه له دعوة للحضور… كان ولايزال يريد أن يكون موجوداً بين الجميع.

الداء العضال، هو ذلك المرض الذي لا علاج له أبداً على ما يبدو في نفوس المصابين به وفي قلوبهم… وهو داء الطائفية والأحقاد والعدوانية الآثمة التي ما عرفها أهل البحرين من أبناء الطائفتين الكريمتين… ذلك الداء الخبيث لن يقتل أمثال الشاعر الصديق عبدالعزيز المداوي ولن يقتل أي بحريني مخلص يرفض كل أشكال الفتنة والجريمة والنيل من تكاتف أبناء المجتمع مع بعضهم البعض في أكثر الظروف شدة

سعيد محمد سعيد

توظيف القضايا المذهبية في الصراع السياسي (3)

 

في مقابل الدعوات الفتنوية والطائفية التي يحملها الخطاب الديني غير المعتدل، وغير الناظر الى مصلحة الوطن والمواطنين – أياً كانت صبغة ذلك الخطاب المذهبية- تتعالى أهمية وجود خطاب ديني مسئول! وبالطبع، تلك المسئولية هي المهمة الأكبر للعلماء لحفظ البلاد والعباد، خصوصاً حينما تبرز الى السطح تلك الخطابات والدعوات الآثمة لتدمير المجتمع، فيلزم هنا أن يتعالى الصوت المسئول.

لندخل مباشرة الى مقارنة لخطبتي إمام وخطيب جامع السيدة عائشة أم المؤمنين، رئيس تجمع الوحدة الوطنية، الشيخ عبداللطيف المحمود في جمعتين متتاليتين، ففي يوم الجمعة (8 أبريل/ نيسان 2011، حذر الشيخ المحمود من «أن يكون لروح الانتقام مكانة في التحقيق مع المتهمين أو أخذ البريئين بذنوب المجرمين والمسيئين، ومع المحاسبة القانونية والجنائية لكل أصحاب الفتنة الذين ارتكبوا الجرائم في حق الوطن والمواطنين والمقيمين، ومن فعل تلك الأفاعيل في بلدنا ومواطنينا والمقيمين معنا في بلدنا الآمن، لكننا نعلنها صريحة أننا لا نسمح ولا نجيز ولا نرضى عن أي تجاوز للحقوق أو خروج على العدالة».

أما في خطبته أمس الأول (الجمعة 15 أبريل/ نيسان 2011)، فقد كرر الشيخ المحمود ما طرحه في الخطبة السابقة: «إننا مع المحاسبة القانونية والجنائية لكل أصحاب الفتنة الذين ارتكبوا الجرائم في حق الوطن والمواطنين والمقيمين، لكننا نعلنها صريحة أننا لا نسمح ولا نجيز ولا نرضى عن أي تجاوز للحقوق أو خروج على العدالة ونحذر من أن يكون لروح الانتقام مكانة في التحقيق مع المتهمين أو أخذ البريئين بذنوب المجرمين والمسيئين»، وزاد الشيخ تأكيده بعد أن توفي عدد من المقبوض عليهم أثناء التحقيق، بأن «يتم التحقيق المحايد في أسباب وفاة هؤلاء، وندعو المسئولين إلى أن يمكنوا الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان وغيرها من المحايدين للاطلاع على الحقائق، وتتم محاسبة من تسبب في ذلك إذا كان هناك متسبب».

وقد وضع الشيخ المحمود (مسئولية خطابه) لرفض اتهام الناس في المقدمة، بقوله: «لا يجوز أن نضع جميع أتباع الشيعة الجعفرية في سلة واحدة ونوجه لهم كلهم الاتهام عما حدث فإن ذلك من الجور والظلم، وربنا لا يظلم احداً، ولا يجوز لنا أن نظلم أي بريء، فمنهم براء واتضحت براءتهم أثناء الفتنة، ومنهم من سكتوا ولم يظهر منهم أي عداء او عدوان على غيرهم، ولكن من بغى واعتدى»، ويكشف موقع الخطورة بقوله: «ومن هذا الظلم أننا نرى منشورات توصل إلى بعض بيوت الشيعة تطالبهم بالرحيل عن سكنهم وتهدد بقاءهم من غير ذنب ارتكبوه، وذلك لا نقره ولا نرضى به ونرجو من إخواننا الذين يرسلون هذه الرسائل أن يكفوا عن هذا الفعل، وألا تأخذهم العاطفة فيقعوا في ذات الخطأ الذي وقع فيه أصحاب الفتنة الذين لم يكونوا يريدون التعايش مع غيرهم».

وبعد، لابد من الاحتكام الى دستور البلاد الذي كفل في مادته رقم (22) حرية ممارسة الشعائر الدينية، وجاء فيها نصاً: «حرية الضمير مطلقة، وتكفل الدولة حرمة دُور العبادة، وحرية القيام بشعائر الأديان والمواكب والاجتماعات الدينية طبقاً للعادات المرعية في البلد»، لهذا نشدد على أن المجتمع البحريني، يمتلك إرثاً دينياً واجتماعياً مميزاً بالمساحة الكبيرة المنضوية تحت عنوان التسامح والتعايش الاجتماعي واحترام المذاهب الإسلامية والأديان الأخرى، لكن ثمة محاذير كثيرة شهدتها السنوات الماضية من خلال رصد انحراف الخطاب الديني لدى فئة من الخطباء والمتصدين للجانب الديني وكذلك السياسي سارت في اتجاه الترويج للأفكار التي لا تتواءم مع المجتمع البحريني، سواء كان ذلك بالترويج للفكر الديني المتشدد وإقصاء الآخر، أو من خلال التحريض والدفع في اتجاه اشعال الفتنة بين الناس، أو عبر ذلك الخلط المتزمت بين السياسي والديني الذي يرجى منه تفتيت المجتمع

سعيد محمد سعيد

توظيف القضايا المذهبية في الصراع السياسي (2)

 

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة يوم الأحد الماضي، اختتمت بالإشارة الى ما تتطلبه المرحلة الحساسة التي تمر بها بلادنا، وأن الجميع في حاجة الى أن يجتمع أهل البلاد تحت مظلة التسامح والمحبة والتآخي، ,خصوصاً أن جلالة العاهل الملك حمد بن عيسى آل خليفة، الراعي الأول لهذا التوجه من خلال اللقاءات المستمرة مع علماء الدين الأفاضل كما يعلم الجميع… وكان التساؤل الذي طرحته هو: «ما الذي سيحدث لو استمر وجود نفر من ذوي الخطاب المتشدد في بث سمومهم القاتلة؟».

ومن حسن الطالع، أن استهل الحلقة الثانية اليوم بلقاء مهم للغاية! ففي الوقت الذي شهدنا فيه بضعة أصوات شديدة الهجوم على طائفة كبيرة في البلد تطالب بالنيل منهم وحرمانهم حتى من (الحياة) والاستهزاء بمعتقداتهم وسلب وطنيتهم وانتمائهم لهذه البلاد الكريمة سواء في تصريحات صحافية أو مقابلات فضائية أو في منتديات وغيرها، نجد ذلك اللقاء المهم، الذي التقى فيه وزير الداخلية الفريق الركن الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة يوم الثلثاء الماضي (12 أبريل/ نيسان 2011) مع رؤساء المآتم الحسينية، يضع الكثير من النقاط على الحروف بكل وضوح، وخصوصاً فيما يتعلق بحقوق المواطنين في ممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، مع التحذير من التجاوز المضر بالسلم الاجتماعي وترشيد الخطاب الديني لما فيه المصلحة العليا.

إن ذلك اللقاء يكتسب أهمية بالغة كما أشرت، لكن دلالته الأولى أن واحداً من كبار المسئولين في الدولة وبوزارة سيادية، يفتح صدره لنقاش صريح وواضح مع قطاع له جذوره في البلد وهو قطاع المآتم الحسينية، ولهذا، يأتي التأكيد دائماً على ما أردت الوصول إليه، وهو مغبة الخلط بين المعتقد الديني والحراك السياسي، ولعلني أجد من الضرورة بمكان الإشارة أيضاً الى فضيلة الشيخ القطان! ففي خطبته يوم الجمعة الماضي (8 أبريل/ نيسان 2011)، قال إمام وخطيب جامع مركز أحمد الفاتح الإسلامي الشيخ عدنان القطان: «إن بعض الإعلاميين والصحافيين والخطباء والكتاب، يعملون من خلال مواقع عملهم على تأجيج الفتنة الطائفية وتفكيك المجتمع، ويقتاتون على الأحداث والأزمات»، وكانت ملاحظة فضيلته في محلها، وقد عايشنا ونعايش هذا النمط من الاعتياش على الأزمات.

ومن المهم أن نمعن النظر في دعوة فضيلة الشيخ القطان، فقد دعا المصلحين والمفكرين والعلماء والخطباء وأصحاب الرأي الى الابتعاد عن التجييش والتحريض مع الاحتفاظ بالرأي الآخر، وعلى أهل العلم إرشاد الضال، والواجب على العلماء والخطباء ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والمنتديات الإلكترونية، أن يتقوا الله في الشباب والوطن ويجعلوا منابرهم منابر رشد وإصلاح، وألا يخرجوا إلى موضوعات استفزازية تؤدي إلى تفكيك المجتمع، وتثير الفتنة الطائفية.

لماذا تناول فضيلته هذا المحور؟ والجواب في الخطبة ذاتها، فقد اعتبر فضيلته أن بعض الصحافيين والإعلاميين والخطباء لا ينتمون إلى الحوار المتعقل والطرح المتزن والنقاش المنصف، بل تطغى في كتاباتهم وتحليلاتهم الانتهازية والطائفية، اقتياتاً على الأحداث وعيشاً على الكوارث، لا يناقشون المشكلة من أجل حلها، بل يتوجهون باتهام بعضهم بعضاً، ويتعدون على العرف السائد، وأعراف أهل الإسلام التي تعود إلى دينهم.

نكمل يوم الأحد المقبل إن شاء الله

سعيد محمد سعيد

توظيف القضايا المذهبية في الصراع السياسي (1)

 

على مدى السنوات العشرين الماضية، ولنقل منذ مطلع التسعينيات حتى اليوم، باعتبار أنها مرحلة شهدت تنامياً مقلقاً على صعيد الصدامات المذهبية في العالم الإسلامي، باءت كل محاولات وجهود علماء الأمة (المعتدلين) في صد مخاطر تلك الصدامات بالفشل!

لكن، على أي أساس حكمت عليها بالفشل؟ ولماذا باءت بالفشل؟ والإجابة ترتكز على أن كل المؤتمرات التي عقدت في عواصم عربية وإسلامية للحفاظ على ما تبقى من احترام للمذاهب والأديان بين أبناء الأمة، حطمها تحطيماً ذلك المد المتنامي من قبل جماعات متشددة تؤمن بالفكر المتطرف والتي سعت بشكل احترافي الى توظيف القضايا المذهبية في الصراعات والخلافات السياسية والعكس صحيح، فيما كان بعضها ولا يزال مدعوماً من حكومات وجماعات نفوذ وتمويل داخلي وخارجي… قانوني وغير قانوني.

وتحضرني بضع مقاطع من الداخل البحريني حذرت من هذا الصدام، فوكيل الشئون الإسلامية وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فريد المفتاح هو واحد من العلماء الذي حمل على عاتقه مسئولية الدعوة الى تجديد الخطاب الديني، وعدم الاحتكام الى كتب التاريخ وغيرها، باعتبار أن ذلك هو السبيل لنبذ الفرقة بين المسلمين وتوحيدهم ونشر الإسلام وقيمه، وكذلك، ولأهمية ترميم العلاقات وردم الهوة بين أتباع المذاهب الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية بخطاب إسلامي معتدل، كان خطيب جامع عالي الكبير فضيلة الشيخ ناصر العصفور يحذر بصورة أخرى من تضرر العلاقات بين أبناء الأمة جراء تصاعد موجة الصراع والفتنة الطائفية، إذ تم استغلال القضايا المذهبية وتوظيفها في الصراع السياسي والتجاذبات المحمومة، وخصوصاً بعد الحرب على العراق.

ومع ذلك، وهذه هي النقطة الجوهرية، فإن هناك الكثير من أبناء الأمة، ومنهم من هو على مستوى من التعليم، يحصر نفسه في اتباع فتاوى (الشياطين الخرس)، كما أسماهم الباحث الكويتي الدكتور عبدالله النفيسي في محاضرة قدمها لهيئة التدريس بجامعة الكويت قبل أيام قليلة مضت… بل وزاد قوله إن أولئك (لا يباعون ولا بفلس) ولا يجب أن نأخذ منهم فتوى! وهو محق في طرحه! ذلك أن الأمة الإسلامية ابتليت بشخصيات تلصق أنفسها بالعلم والفقه والدين، من كل الطوائف والمذاهب، وعلى الخصوص أصحاب الفكر المتشدد، ليبثون سمومهم الفتاكة في جسد الأمة، ومع شديد الأسف، فإن الكثير من الحكومات في العالم العربي والإسلامي، تكشر وجوهها رافضةً هذا السلوك المدمر أمام مرأى الرأي العام من جهة، وتظهر سرورها ورضاها بما يحدث في الخفاء من جهة أخرى.

ما يهمنا هو الوضع في بلادنا، والذي يمكن أن نصفه، بأنه وعلى الرغم من وجود خطاب ديني ناشز قبيح فتنوي، إلا أن من الواجب على الدولة وعلى كل المواطنين، عدم السماح لأي خطاب تفوح منه روائح الموت والتفتيت والتشفي والانتقام، ووفقاً لمتطلبات المرحلة الحساسة التي تمر بها بلادنا، فالجميع في حاجة الى أن يجتمع أهل البلاد تحت مظلة التسامح والمحبة والتآخي، وخصوصاً أن جلالة العاهل الملك حمد بن عيسى آل خليفة، الراعي الأول لهذا التوجه من خلال اللقاءات المستمرة مع علماء الدين الأفاضل كما يعلم الجميع… لكن، ما الذي سيحدث لو استمر وجود نفر من ذوي الخطاب المتشدد في بث سمومهم القاتلة؟

للحديث صلة