سعيد محمد سعيد

إي نعم… «حبربش»!

 

عادة ما تنتشر كلمة «حبربش» بين أهل الخليج وأهل العراق كذلك لوصف «التافه» من الناس! فالحبربش، وفق المعنى الشعبي، هم أراذل الناس وأخسهم وأوضعهم أخلاقاً ممن تنال المجتمعات منهم الشر ولا شيء غير الشر.

الكثير من الناس يستخدمون هذه الكلمة بالطبع لكثرة انتشارها دون معرفة أصلها في اللغة… حالها حال الكثير من المفردات الشعبية شائعة الانتشار غريبة اللفظ، غير أن اللافت للنظر أن تصبح كلمة «حبربش» واحدة من مفردات الربيع العربي لتطلق على مثيري الفتنة والعداوة بين الناس.. البلطجية.. عصابات الحرامية.. العصابات المسلحة.. فيُصيب من يطلقها حقاً على «الحبربش» المنتشرين في الدول العربية، وخصوصاً دول الثورات، الذين تستخدمهم (فلول) الأنظمة المتهاوية، والشخصيات الرئيسية في الأنظمة (الساقطة) حيث يمدونهم بالمال والسلاح لإثارة الفوضى والجريمة في المجتمع نكايةً وانتقاماً… فيما هناك (جماعات) تربيها وتدربها وترعاها دول معادية للديمقراطية والاستقرار، وهي في الغالب تعمل لصالح استقرار «الصهانية» دون شك لتمزيق الدول العربية والإسلامية من الداخل عبر التناحر الدموي بعد عدم (شباع) تلك الدول من مجرد إثارة الفتن الطائفية والمذهبية… فلابد من (حبربش مسلح).

هذه الجماعات «الحبربشية»، كان متوقع لها -منذ انطلاق أولى الثورات العربية في تونس العام الماضي 2011 – أن تتكاثر وتزداد ضراوتها في الدول التي شهدت أو مهيئة لأن تشهد ثورات وحركات مطلبية، وليسمح لي القاريء الكريم أن أعود إلى مقال كتبته يوم 6 مارس/ آذار 2011 وردت فيه هذه الفقرة نصاً: «كل الدول العربية والإسلامية بل ودول العالم الثالث، مهيئة لثورات غضب شعبية مقبلة للمطالبة بالحقوق والإصلاحات، نظراً لتراكم الممارسات الديكتاتورية، وتعنت الحكومات وظلمها واستبدادها، وستكرر الأنظمة ذات الأساليب في التعامل مع شعوبها، وستضعها تحت عدة عناوين مكررة: فوضى وتخريب وفتنة – تآمر من الخارج كإيران تارة، وتل أبيب تارة أخرى تدار من أميركا – مخطط إسرائيلي لتقويض الأمة الإسلامية- القاعدة و»طالبان»، وربما عناوين أخرى لست أفقهها! ثم ستنحو تلك الأنظمة إلى: استخدام أقصى أنواع العنف والقوة ضد مواطنيها، وستقتل من تقتل بدم بارد – ستحذر وتهدد وتنذر وتزبد – ستستخدم البلطجية والمرتزقة الذين على ما يبدو أعدتهم تلك الأنظمة منذ زمن في أقفاص خاصة تطعمهم وتسمنهم وتربيهم للنيل من شعوبها – ستتراجع وتدعو للتهدئة والحوار، وستتباكى على سلامة الوطن واستقراره وأمنه واقتصاده – ستلفّ وتدور حول الحوار- ستسقط الأنظمة المتعنتة المكابرة- ستنجو الأنظمة التي ستظهر بشجاعة وتعترف بأخطائها، وتؤمن بأن مطالب الشعوب مشروعة ودستورية فتصل إلى بر الأمان»…انتهى الاقتباس.

لكن، ما هي اسقاطات ذلك التقديم على الوضع اليوم في الوطن العربي؟ المشهد واضح بلا ريب.. ودعوني أرسم صورة متخيلة للصهاينة وهم يضعون رِجلاً على رجل، ويراقبون ما يجري في الوطن العربي من صراعات دامية بين أبناء البلد أنفسهم، ويشربون نخب الانتصار والتشفي، وهم يشاهدون بوادر صراعات داخلية متنقلة من بلد إلى بلد، ويرفعون الشكر والتقدير لراعيتهم «أميركا»، وإلى الأنظمة والجماعات الحليفة معها ولها.

هذه المرحلة على ما يبدو هي مرحلة «الحبربش»، ولا يمكن قبول كلام المنظرين بأن ما يحدث من صراعات وتوترات دامية هي جزء من (حراك سياسي) طبيعي بعد أية ثورة أو حركة مطلبية… وتبدو الصورة الأكثر دمويةً في سورية… نعم الشعب السوري له كل الحق في المطالبة بحقوقه المشروعة وإن طالب بإسقاط نظام بشار الأسد، لكن أن تنتشر جماعات مسلحة مدعومة من أطراف متعددة الغايات فيصبح الشعب السوري (الضحية) بين نيران النظام ونيران المسلحين، فذلك وضع يريح الصهاينة بالتأكيد.

نعم، من حق الشعب المصري المعترض على حكم الرئيس محمد مرسي أن ينتقده، وينتقد حركة الإخوان المسلمين، ويطالب بدولة مدنية، لكن أن تشتعل القاهرة، كما حدث يوم أمس الأول الجمعة (24 أغسطس/ آب 2012) من اشتباكات بالأيدي والأسلحة البيضاء وتراشق لفظي بعد صلاة الجمعة بين مؤيدي ومعارضي الرئيس، ودخول «الحبربش» المدسوسين والممولين من فلول النظام السابق، فتلك (جمعة إسعاد العدو الصهيوني).

في تونس… مهد «انتفاضات الربيع العربي»، وحكومتها الإسلامية المعتدلة، فيها ما يثير القلق بسبب «الحبربش» أيضاً الذين يتحولون من معترضين على «معرض فني» إلى لصوص وبلطجية يهاجمون الناس، وينهبون المتاجر، ويحطمون واجهاتها، ويعتدون على الناس… في «ليبيا» لم تتوقف أعمال العنف المسلحة، حيث يستمر تفجير السيارات، واغتيال كبار المسئولين الحكوميين والعسكريين، والهجوم على موظفي السلك الدبلوماسي الأجنبي والمنظمات غير الحكومية، وتتجه جماعات من الشبان المسلحين لاستخدام لغة السلاح… في الوقت الذي يعلن فيه اتباع «القذافي»عزمهم على تصعيد قتالهم.

لنتجه إلى اليمن، فقد بدأت الجماعات المسلحة الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح الانتقام من الشعب اليمني بتنفيذ الهجمات والعمليات المسلحة.. هي أيضاً أخبار سارة للكيان الصهيوني.. في طرابلس.. شمال لبنان.. اشتباكات مسلحة بين مجموعات سنية وعلوية من أبناء البلد في منطقتي جبل محسن والتبانة، ولن ينكر أحد بأنها بشارة مفرحة لنتنياهو وبارك وأفيغيدور…

يا إلهي، كم هي مرعبة تلك الأوضاع التي تعيشها الأمة، فتسيل دماء أبنائها بفعل مؤامرات الصهاينة المتفرجين بسعادة الشاربين كؤوس الانتصار الدموي بينهم.

ختاماً، الحبَربَش… لفظة عربية قديمة تعني الجماعة من الناس، وكان العراقيون قديماً يقولون: «جان فلان مع حبربشيته»… واللفظ الصحيح في اللغة العربية كما يرى النسابة العراقي الشهير الشيخ عبدالأمير البديري، صاحب موسوعة العشائر العراقية العربية، هو :«الأحبوش» و»الأحبوشة».. وللأسف الشديد، بوسعنا أن نقول اليوم: «جاءت حبربشية الكيان الصهيوني».

سعيد محمد سعيد

هكذا… عيدكم مبارك

 

مجالس البحرين في ليالي الشهر الفضيل: بدموع حسرة نودع شهر الله الأعظم… شهر رمضان المبارك، ونستقبل عيد الفطر السعيد… نسأل الله أن يعيد هذا الشهر الذي هو من أفضل الشهور والبحرين وأهلها في أمن وأمان وخير وسلام، والأمة الإسلامية ناهضة متحررة من الركون والركوع والهوان لقوى الاستبداد والجور.

في تلك المجالس الرائعة، التقى أبناء الطائفتين الكريمتين، واجتمع أتباع كل الديانات والمذاهب فيها يتبادلون التهاني ويتجاذبون أطراف الحديث ويتواصلون بكل طيبة وكرم وتعاضد، وهذه الصورة أسقطت مقولات الأفاكين وتجار الطائفية وأتباعهم ومواليهم الذين كانوا ولايزالون يروّجون لأكذوبة الانشطار الطائفي والاحتقان البغيض، وهذه المشاهد الجميلة لم ترقَ لسماسرة الطائفية فأثقلوا خطبهم (اللادينية) في الفضائيات الشيطانية وحساباتهم المريضة على الفيسبوك وتويتر وفي المنتديات الساقطة ليتناسوا – من شدة خبثهم – أنهم في شهر عظيم فضيل، فاستمروا في إثارة العداوات والضغائن والدعوات الطائفية… كلما ازداد سقوطهم كلما ازداد جنونهم… ولأن الكرام من أبناء الطائفتين ليسوا من أولئك… هكذا عيدكم مبارك.

***

لست أخي بل أنت نفسي: شكا مواطن من أبناء الطائفة السنية الكريمة أحوال السوق وكساده لصديق مقرب له من أبناء الطائفة الشيعية الكريمة… ولأن الاثنين يعملان أعمالاً حرة وحالهما مشترك متشابه، قررا معاً أن يجتهدا ويكسبا رزقهما الحلال الطيب المبارك، حالهم حال كل مواطن شريف، على ألا ييأسا فالرازق في السماء… لا يمنع رزقه مقاطعة المقاطعين ودعوات المغرضين وأفكار الجهال الموتورين… تعاهدا على أن يواصلا الجهد كل من طرفه وأن يتعاونا في اقتسام اللقمة… حصل الشيعي على (شغلة حلوة فائدتها لا بأس بها) ولأن أخيه السني كان أحوج كونه افتتح مكتباً جديداً وتحمل التزامات مالية عديدة… أعطاه أخوه الشيعي الشغلة وتعاونا على إنجازها… لأنه ليس أخاه بل نفسه… هكذا أنتم… هكذا عيدكم مبارك.

***

*الحوار… : في بلادنا الصغيرة… دون غيرها من دول مجلس التعاون، ينبري مساطيل السياسة ومخابيلها ليجمعوا حولهم نفر من الذين لا حول لهم ولا قوة… في مجلس هنا أو خيمة هناك… ويبدأون في تقديم أطروحات تحشيشية غاية في الضلال والتضليل! ولعل أحدهم ممن نصب نفسه خبيراً استراتيجياً سياسياً، ومدافعاً أوحداً عن الوطن، يبلغ لديه القلب إلى الحلقوم حينما يسمع كلمة (حوار)! لا يهمّ في الأصل إن كان ذلك الحوار جادّاً أو استهلاكيّاً أو هو يعرف أصلاً ماذا يعني الحوار! فيبدأ في سوق أسطوانة (المؤامرة الكبرى) على الوطن مدعياً كشف فصولها وداعياً إلى الاحتراب وتشكيل اللجان الشعبية كما يصف، لا بل يشرك عدداً من دول المنطقة في تحليله (الدونكي شوتي) ليضخم ما يمكن تضخيمه إرعاباً لمن التفّ حوله ولمن يستمع له من المغفلين… حاله حال محارب طواحين الهواء الخرافي (الدون كيشوت).

على الضفة الأخرى، فإن الكثير من المخلصين حين ينظرون إلى نهاية للأزمة في البلاد عن طريق حوار يتأسس على المصلحة العليا للوطن وبمشاركة كل القوى السياسية المعارضة والتيارات التي تريد الخير للبلد، تراهم يقدمون طرحاً متزناً واقعياً ينطلق من قراءة دقيقة للتحولات الجارية في المنطقة… يريدون أن تكون البحرين، في القريب العاجل ومستقبلاً، أنموذجاً لثنائية الحقوق والواجبات في معادلة المواطنة الحقيقية… هؤلاء المخلصون، وأنتم منهم… هكذا عيدكم مبارك.

***

مسلسلات الشهر الفضيل: كثيرة هي متعددة متنوعة… بين التاريخي والوثائقي والدراما الاجتماعية والكوميديا والفنتازيا… بعضها لا علاقة له بالشهر الفضيل وبعضها الآخر لا علاقة له لا بالشهر الفضيل ولا بغيره من شهور السنة! لكن الخيار للمشاهد قطعاً! فجأة تنتهي حلقة هذا المسلسل أو ذاك… فتمتلئ بعض المنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي بالسباب والشتائم بين سنة وشيعة… ومجوس وروافض ونواصب… بين موحدين ومشركين… بين أهل جنة ونار… ولعل لسماسرة الطائفية المعفنين نصيب الأسد منها، وخصوصاً أنهم يشتمون ويهتكون الأعراض ويبثون سمومهم ثم يكثرون من قول: «أستغفر الله العظيم»… أي عيد لهؤلاء غير الدعاء لهم بالهداية! أمّا أنتم… أصحاب القلوب الطيبة والنفوس المليئة بالتقوى والمحبة والأخوّة… فعيدكم مبارك… وكل عام وكل بحريني وخليجي وعربي ومسلم وكائن من يكون من يحمل قلباً تملأه الإنسانية… بخير… عيدنا وعيدكم وعيدهم سعيد وعايدين بالصحة والسلامة.

سعيد محمد سعيد

رمضانيات (4): الاحتقان الطائفي

 

أليس من العجب العجاب أن يـُظهر البعض خوفه وهلعه الشديدين من (الاحتقان الطائفي) في المجتمع البحريني، ويشتد عليه الوجد والألم وهو يزايد ويضاعف من عواقب ذلك (الاحتقان) المزعوم كمصيبة نازلة ما مثلها مصيبة… دون أن يطرح بعد كل تلك (الهستيريا الذميمة) تصوراته في شأن مسببات الاحتقان وكيفية التصدي له؟

أليس من المعيب والمنكر، أن يبالغ ذلك النفر في إظهار وجعه من الاحتقان الطائفي ويتناسى أنه كان ولا يزال طرفاً رئيسياً في إشعال نفوس «الطائفيين» ممن هم على شاكلته ليطول طابور جوقة (تجار الطائفية)، ويستعر أوارهم ونيرانهم التفكيكية كلما عمل المخصلون على إنهاء الأزمة في البلد؟ هل يعقل أن يركن أولئك إلى القول بأن الأزمة في البلد يمكن حلها، فيما الاحتقان الطائفي لا يمكن حله؟ حبذا لو ألقم ذلك النفر نفسه حجراً ليصمت ويصبح المجتمع البحريني بخير بعيداً عن تأجيجهم الطائفي المستمر.

قد تكون قائمة الأسئلة المشروعة طويلة! فمن الذي شجع وأوسع دائرة الطرح الطائفي في البلد على مستوى الإعلام؟ ومن الذي فتح المجال للخطب الطائفية التي استهدفت تفتيت علاقات أبناء الطائفتين في منابر تتحرك بالريموت كونترول؟ ومن الذي حول المعارض إلى خائن والموالي إلى صاحب وطنية وإخلاص بالمطلق؟ ومن الذي تعمد استهداف الضرب في (المعتقدات الدينية) وزجها زجاً مقصوداً لتصبح الوجه الآخر (للمواقف السياسية)؟ ومن الذي خصص الأموال لمجموعة من المتاجرين بحب الوطن المزعوم كذباً ليتقافزوا في وسائل الإعلام ويبثوا سمومهم دون أدنى إدراك بعواقب ذلك الخطاب الإجرامي في حق الوطن؟

نعم، قد تكون الأسئلة عديدة الأوجه، غير أن ما يهمنا هنا هو بروز ذلك النفر الذي لا يمكن أن يشعر بالراحة وهو يرى العلاقات بين أبناء الطائفتين طبيعية قائمة على المواطنة والتواصل والتفريق بين الموقف السياسي والانتماء المذهبي… وقائمة أيضاً على الأخوة الدينية التي يحاولون دائماً هدمها بأسطوانات بالية من قبيل:»هم أعداؤنا وليسوا أخوتنا… هم يشتمون الصحابة وأمهات المؤمنين… هم مجوس وأذناب للفرس… كيف نآخي من يريد قتلنا؟ لن نقبل بأن يكون في بلادنا طائفة مشركة يعبدون غير الله! وهكذا تتوالى فذلكات الساقطين أخلاقياً وفكرياً.

في مقال الأسبوع الماضي، أوردت نصاً أعجبني للروائي المصري علاء الأسواني تحت عنوان: «كيف تقضي على الثورة»، طرح فيه أفكاراً ساخرة لكيفية نجاح الحكومات المستبدة في القضاء على مطالب شعوبها، ومن بينها تلك النصيحة المفجعة: «اترك أحوال البلد تتدهور حتى تصل إلى الحضيض»، ويمكنني أن أضيف إلى ذلك الحضيض ما يسعى تجار الطائفية إلى نشره كسمٍ في المجتمع بإبقاء أكذوبة (الاحتقان الطائفي)… فهذا بالنسبة لهم (مسمار جحا)!

لكن، هل يمكن أن يبقى ما يسمى (احتقان طائفي) في مجتمع تسوده العدالة والمساواة والديمقراطية الحقيقية وضمان حقوق جميع المواطنين من كل الديانات والمذاهب؟ وهل هناك من مانع في أن تشارك التيارات السياسية في تحقيق مطالب الناس؟ هل يمكن، في ظل (افتراض) وجود تحولات إصلاحية حقيقية، أن يبقى مجال لتجار الطائفية حين ينقطع عنهم الدعم والمدد؟ العجيب، أن الروائي علاء الأسواني ينهي خطواته التهكمية بالقول: «(ملحوظة: خطرت لي فكرة هذا المقال وأنا أقرأ عن تاريخ الثورات في جمهورية جزر القمر، وبالتالي لا علاقة للمقال بما يحدث الآن فى مصر بتاتاً).. ويختم الأسواني بالقول: الديمقراطية هي الحل!

على أية حال، أود أن أطرح سؤالاً على مروجي أكذوبة (الاحتقان الطائفي) وهو: «ماذا يضيركم إن وضعت الحلول للأزمة في البلاد ونال الجميع حقوقهم وساد صوت العدالة والقانون على الجميع؟ ترى، من الذي سيبقى بعد ذلك في دائرة (الاحتقان الطائفي) غيركم؟

قد يسأل سائل: «لماذا تنكر الاحتقان الطائفي الذي نعيشه في بيتنا البحريني ويعرفه الجميع؟»، وأقول مكرراً: «نعم، هو احتقان قائم بين أهل الطائفية وتجارها ومروجوها وليس بين السواد الأعظم من أبناء البلد سنة وشيعة، إنما هم تجار الطائفية الذين يعشقون تدمير المجتمع من الداخل.. هم منزعجون كثيراً من عودة المياه إلى مجاريها بين الكثير من أبناء الطائفتين.. هم يموتون غيظاً من تعالي الأصوات المخلصة لترسيخ مبدأ المواطنة المتساوية للجميع دون استثناء مذهبي أو سياسي.. هم يعلمون أن للناس عقولاً تميز بين الغث والسمين.. يدركون جيداً أن رواج تجارتهم مرهون ببقاء ممارسات الطأفنة وإخافة الناس من بعضهم البعض.. لهذا أجد الشيطان الرجيم عليه اللعنة مستغرباً من كونه واتباعه (مصفدين) في شهر رمضان المبارك، فيما شياطين الطائفية عندنا يمارسون طقوس «الاحتقان الطائفي».. فشكراً لأبناء البلد المخلصين الذين جعلوا شياطين الطائفية تحت طائلة المقولة الشعبية: «دودهو.. من دودهك.. من طقك».

سعيد محمد سعيد

رمضانيات (3): مناقب «أسود الوجه»!

 

أصحاب الأعمال السيئة القبيحة… معدومو الأخلاق… يُعرفون في مجتمعنا الخليجي بـ «سودان الوجه»… جمع «أسود وجه»… وفي كلهم سواد! ليس مهماً لهم إن كانوا في شهر رمضان المبارك بعظمته وجلال مقامه عند الله… أم في سائر شهور السنة… هم هكذا يعيشون في أعلى درجات الخسّة والنذالة.

ولم أكن – كما هو الحال مع الكثيرين غيري – مستغرباً مما برز على السطح من نماذج في أوطاننا العربية منذ انطلاق الحركات الشعبية المطالبة بالحقوق… زعماً أنهم: مفكرون وكتاب ومثقفون وسياسيون وحقوقيون وناشطون وفنانون… أقول زعماً… فما أن شاهدهم ملايين المشاهدين العرب في فضائيات ووسائل إعلامية مختلفة وعبر عواصم مختلفة حتى اكتشفوا هول المصيبة حين تحول هؤلاء (سودان الوجه) إلى طرف للتنكيل والنيل من الشعوب العربية، والوقوف إلى صف الاستبداد والتسلط ضد المسار الديمقراطي والحقوق والإنساني.

ويمكن اختصار القول في: «إن كل بني آدم يتحول إلى بهيمة فلا يميز بين الحق والباطل… لا يفرق بين الطيب والخبيث… ويقابل الناس بالأرذل من القول والساقط من العمل هو أسود وجه»… وهؤلاء يا جماعة الخير… وأقصد أعزكم الله «سودان الوجه»… لهم مناقب! نعم، أصبحت لهم جملة من المناقب والمآثر والخصال المطلوبة اليوم لدى الكثير من الحكومات ذات النزعة الاستبدادية… بعضهم يمكن تصنيفه ضمن الجرذان وآخر ضمن الخفافيش وثالث يمكن اعتباره سيفاً مسلطاً على رقاب خلق الله ورابع تجده بارعاً في انتهاك أعراض الناس والنيل من حرمات البيوت وهكذا…

على أي حال… جحافل «سودان الوجه» في المجتمعات العربية والإسلامية هي من أقوى الجيوش (زعماً أيضاً) للنيل من مطالب الشعوب والقضاء على الحركات الشعبية والثورات… هنا، يطرح الروائي المصري علاء الآسيوي تحت عنوان: «كيف تقضي على الثورة» نماذج من (سودان الوجه) موجهاً نصائحه إلى (الجنرال) مستهلاً بالقول: «أيها الجنرال، إذا فاجأتك الثورة لا تفزع. إياك أن تخاف من مشهد ملايين المتظاهرين الغاضبين. اهدأ… التقط أنفاسك وتمالك نفسك… اعلم أن الثورة حالة استثنائية… لحظة إنسانية نادرة يتصرف فيها الناس بشجاعة ويندفعون إلى الموت دفاعاً عن حريتهم وكرامتهم».

الروائي والكاتب الأسواني وضع ست خطوات للقضاء على الثورات في أسلوب «تهكمي ساخر عجيب»، لكن سأسوق الخطوتين الثانية والثالثة هنا… ففي الخطوة الثانية يقول الكاتب: «إياك أن تخضع لمطالب الثوار وتغير شيئاً من النظام القديم! ذلك خطأ فاحش… فى البداية سيضغطون عليك بشدة من أجل التغيير… انتظر حتى تصل ضغوطهم إلى ذروتها، ثم قم بتغيير صغير شكلي لا يمس قواعد النظام القديم… ماذا يفعل ربان السفينة إذا شارفت على الغرق؟! إنه يلقي إلى البحر ببعض الأشياء الثقيلة حتى تسترد السفينة توازنها… هذا ما يجب أن تفعله… اختر بعض الشخصيات السياسية المكروهة من الشعب… اقبض عليهم وقدمهم إلى المحاكمة… يجب أن تكون محاكماتهم بطيئة معقدة كثيرة الإجراءات حتى ينسى الناس فى النهاية الغرض منها.

اجتمع بهؤلاء المكروهين واشرح لهم أنك لن تتخلَّ عنهم أبداً… قل لهم إن أحداً لن يؤذيهم وأن محاكماتهم مجرد إجراء سياسى لامتصاص غضب الشعب لا أكثر ولا أقل… اجعلهم ينعمون بحياة مترفة داخل السجن وكأنهم مازالوا يعيشون فى قصورهم… إياك أن تتخلى عن أعضاء النظام القديم… هؤلاء هم جنودك المخلصون… لو فرطت فيهم لن تجد لهم بديلاً وستجد نفسك وحيداً بلا سند أمام شعب غاضب. إن القاضى الفاسد الذى تملى عليه الأحكام بالتليفون ووكيل النيابة الذى يفسد بيده أدلة الاتهام بناء على طلبك والمذيعة الشهيرة التى تتلقى يومياً تعليمات الأمن قبل التصوير وضابط الشرطة الجلاد الذى يعذب ويقتل عشرات الناس دفاعاً عن النظام… هذه النماذج نادرة إياك أن تضيعها من يدك… اجتمع بهم سراً وأكد لهم أن النظام القديم كما هو لم ولن يتغير، ثم أجزل لهم العطاء حتى يتفانوا فى الدفاع عنك.

الخطوة الثالثة وضعها الأسواني تحت عنوان: «اترك أحوال البلد تتدهور حتى تصل إلى الحضيض»… وفيها يقول: «يجب أن تفهم كيف حدثت الثورة… لقد كان المجتمع منقسماً إلى ثلاثة أقسام: المستفيدون من النظام والثوريون والناس العاديون… الثوريون كان عددهم قليلاً وتأثيرهم ضعيفاً لأن النظام كان يقمعهم باستمرار… القطاع الأعرض من الشعب كان ينتمى إلى الناس العاديين الذين كانوا متضررين من النظام، لكنهم لا يملكون شجاعة الاعتراض… لقد حدثت الثورة عندما نجح الثوريون فى إقناع العاديين بالانضمام إليهم.

هنا نقطة ضعف الثورة التى يجب أن توجه إليها ضرباتك… يجب أن تضغط على الناس العاديين حتى يعودوا إلى مقاعد المتفرجين… يجب أن تتفاقم الأزمات فى كل مكان… الفلاحون يجب أن تنقطع عنهم مياه الري ولا يجدوا الأسمدة حتى يفسد المحصول وتبور الأرض… العمال يجب أن يلقى بهم فى الشارع لأن المصانع توقفت… الموظفون يجب أن تتأخر رواتبهم وتلغى العلاوات التى وعدوا بها… يجب أن تختفي الشرطة تماماً وتنتشر السرقة والاعتداءات والبلطجة. يجب أن يندس عملاء الأمن بين المتظاهرين ليعطلوا المرافق ويقطعوا خطوط السكك الحديدية… فى الوقت نفسه فإن عملاءك فى الإعلام يجب أن يقودوا حملة منظمة لترويع الناس… يجب أن يضخموا من تأثير الأزمة ويلصقوا كل المشكلات بالثورة حتى تترسخ فى أذهان الناس فكرة أن البلد يقترب من المجاعة والفوضى بسبب الثورة. الثورة وحدها… و… (للحديث بقية).

سعيد محمد سعيد

رمضانيات 2: فتاوى «كوميدية»

 

نعم، نحن السبب؟ أقصد بـ «نحن».. أنا وأنت وهي وهو وهم من الناس الذي يخطئون خطأً فادحاً وقتما يصدقون بعضاً ممن يطلق عليهم (مشايخ وعلماء) وهم في الأساس مجموعة من الجهلة وربما كان بعضهم فاسقاً من رأسه الى أخمص قدميه! ويأخذون منهم الفتوى والحكم الشرعي! وإن استمر الحال على هذا المنوال، ووجد الجاهل المغفل المحتال نفسه عالم دين… رحنا ملح من الزين!

جميل جداً أن يكون هناك مشايخ وعلماء ومثقفون دينيون يصححون للناس ما أوقعهم فيه (شيوخ الحيلة والمطنزة والعازة)، والمسألة لا تقتصر على مذهب أو طائفة معينة! بل ابتلى المسلمون بكل طوائفهم بظاهرة (الانتشار الإعلامي) لشخصيات لا علاقة لها بالدين الإسلامي إلا ما تحفظه أو يتم تلقينها به قبل كل حلقة فضائية! خواء تام بلا علم ولا معرفة ولا خوف من الله سبحانه وتعالى، ولعل من أطرف ما سمعته في أحد البرامج الدينية، ما صححه الشيخ مقدم البرنامج لإحدى الأخوات التي اتصلت من النرويج لتتأكد من مدى صحة ما أفتى به (الشيخ الطرطنقي) الذي توجهت له بالسؤال واستفته هناك في النرويج عن طول ساعات النهار في شهر رمضان، فأجاز لها الإفطار حين يحين وقت الإفطار في المملكة العربية السعودية! أي أن تضع تلك المسكينة جهاز التلفاز على السعودية وما أن تسمع الأذان حتى تفطر هي وعائلتها.. وليس مهماً إن كانت الشمس في الخارج ساطعة!

المشكلة أن المرأة توجهت لتسأل وتتأكد بعد أن أضاعت على نفسها ثلاثة أيام وهي تفطر حين تسمع الأذان عبر الفضائيات، وجزاه الله خيراً ذلك الشيخ الذي قال… وكأنها تسمع معلومة خطيرة لأول مرة في حياتها: «يا أختي لا تفطري إلا بعد مغيب الشمس!».

ومن نماذج أهل الفتوى والإرشاد الديني (فلتة زمانهم)، ذلك الذي سأله بعض الشباب عن حكم لبس «القبعة»! ويا لهول الإجابة.. فالقبعة، حين تكون بـ «رفرف» أي أن تكون لها مظلة أعلى الجبين.. لا يجوز استخدامها وهي حرام! أما التي ليس بها «رفرف».. أي ليس لها مظلة، فتلك جائزة.. لأن الرفرف (المظلة).. تؤثر على العين.. فيما غير (المرفرف) لا يؤثر على العين… أي والله جزاكم الله خيراً يا فضيلة الشيخ على هذا العلم الغزير.

ويتجه أحد الرجال ليسأل ويستفتي شخصاً كان ولا يزال حتى لحظة اكتشاف (خبله) يعتبره من أهل الدين والتقوى! عن حكم من يتستر على مجموعة من المفطرين معه في العمل ممن يتعمدون المجاهرة بالإفطار وعدم احترامهم مشاعر المسلمين لينصحه: «يتوجب عليك ترك العمل في ذلك المكان حالاً»… وكأن كل الأبواب مغلقة وأن عليه – بدلاً من أن يتم تطبيق القانون على أولئك- ينصح هذا المسكين بترك عمله! شدعوة الوظائف محذفة في الشارع يا شيخ!

المهم يا أعزائي… إننا كلما توجهنا إلى مثل أولئك.. لمجرد إننا سمعنا من هنا وهناك أن فلان (شيخ زمانه).. نابغة عصره والعالم النحرير.. وصار البعض منا يعلي مكانتهم… فإننا بذلك نجني على المجتمع الإسلامي كله وليس على أنفسنا فحسب.. لكن تعالوا لنلطف الجو قليلاً مع ما نقلته لكم من كتاب (بستان رمضان) لمؤلفه محمد مبارك:

كان أحد الفقراء يسكن في بيت قديم، وكان يُسمع لسقفه قرقعة مستمرة لأية حركة، فلما جاء صاحب المنزل، قال له الساكن :»أصلح السقف، أصلح الله حالك»، فأجابه صاحب المنزل: لا تخف، إن السقف صائم يسبح ربَّه! فقال الساكن :»أخشى بعد الإفطار أن يطيل السجود وهو يصلي القيام، فلا يقوم ولا أقوم!».

وهذه طرفة أخرى جميلة من كتاب (رمضانيات…أدب فن نوادر) لمؤلفه مصطفى عبد الرحمن: جاء رجل يومًا إلى فقيه يستفتيه، فقال له :«لقد أفطرت يومًا في رمضان بعذر»، فقال: اقضِ يومًا… قال: قضيت وأتيت أهلي وقد صنعوا (ميمونة)، فامتدت إليها يدي وأكلت منها.. قال: فاقض يومًا آخر.. قال قضيت وأتيت أهلي وقد صنعوا (هريسة)، فسبقتني يدي إليها وأكلت منها.. قال: الرأي عندي أنك لا تصوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك!

أما هذه فنختم بها ونسألكم الدعاء.. كان أحد الأئمة يقيم الصفوف للصلاة، والمعلوم من حال كبار السن وجود بعض التهاون في سد الفرجات في الصف إلا من رحم الله، فطلب منهم الإمام المرة تلو الأخرى أن يسدُّوا الفرجة في الصف، وألاّ يدعوا فرجةً للشيطان، ولكنهم لم يحرِّكوا ساكنًا! فلما أكثر عليهم الإمام صرخ أحدهم غاضبًا: «إن كان الشيطان سيأتي في الفرجة فدعه يصلي معنا! هذا شيء طيِّب!».

سعيد محمد سعيد

رمضانيات (1): شياطين الطائفية

 

هكذا، قدَّم العديد من القرَّاء الكرام، من الطائفتين الكريمتين، تفاعلاً جميلاً على مقال الأسبوع الماضي: «المطابخ السرية للطائفية»، وذلك التفاعل بمثابة الشوكة في عيون الطائفيين والمؤزمين والمتمصلحين والإعلاميين المؤدلجين المغفلين ومن لف لفهم، ممن جرت على ألسنتهم القذرة وعقولهم السخيفة عبارة: «الفتنة والإنشطار الطائفي» في المجتمع البحريني.

تلك العينة من المواطنين من سنة وشيعة، قدمت ما يمكن اعتباره شهادات على قوة العلاقة بين بعضهم البعض، بصرف النظر عن الدعوات الخبيثة والمحاولات المستميتة الفاشلة عبر وسائل إعلامية مختلفة، ومن خلال حناجر النشاز لإيهام الناس بأن هناك صراعاً طائفياً في البحرين!

ولابد من تكرار أن المؤمنين والمقتنعين والباصمين بالعشر على أن هناك انهياراً في العلاقات بين الطائفتين، وعداوة طائفية مخيفة بسبب «الأزمة»، هم الطائفيون والمؤزمون والمتاجرون أصلاً… هذه هي الفئة التي تعاني من الصدام والانهيار، ونشدد أيضاً: هذه الفئة لا تمثل كل المجتمع البحريني، إنما تمثل نموذجاً سيئاً مريضاً.

على أية حال، أجدني متقدماً بالتهنئة للجميع بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك… بفضائله التي ترقى إلى أعلى مستويات السمو الإيماني والروحي، وهذا الشهر الفضيل فرصة لأن يكشف الناس العقلاء تلك الشياطين التي لا يمكن تصفيدها لا في شهر رمضان ولا في سائر شهور العام! إنهم شياطين الطائفية الذين ينشطون في هذا الشهر الفضيل بعينه، وممن تُفتح لهم شاشات بعض الفضائيات الساقطة ليبثوا سمومهم بين أبناء الأمة ليرضوا بذلك أسيادهم المستمتعين دائماً بنشوة الصراع والخلافات في المجتمع الإسلامي. تلك الفئة المدمرة أشد خطراً من الشياطين التي وردت أحاديث وروايات نبوية شريفة عن تصفيدها في الشهر الكريم، والأخطر منهم، أولئك الناس الذين يصدقونهم وينقلون ما يطرحونه بكل جهل وغباء وطائفية ومرض نفساني.

في بحث قيم للباحث بمركز الدراسات والبحوث اليمني عبده البحش في موضوع «علماء الفتنة»، التفاتة لطيفة لتلك الأمثلة فيصفهم بقوله: «إن أكبر بلوى ابتلي بها العالم العربي والإسلامي هم علماء الدولار…علماء الدنيا…علماء السياسية… علماء التجارة… علماء البورصات والبنوك والأسواق المالية… علماء الاستثمارات والعقارات والأمور الدنيوية الذين ربطوا مصالحهم بمصالح أعداء الإسلام، فجعلوا من أنفسهم أدوات ومعاول هدم لوحدة المجتمعات الإسلامية، فكانت الفتاوى التي صدرت منهم وحيّرت الكثير من أصحاب العقول السليمة! إذ كيف يمكن لعالم أن يفتي بوجوب الاقتتال بين المسلمين؟ وكيف لعالم أن يدعو إلى تحريض فئة من المسلمين ضد أخرى؟ وكيف لعالم أن يسعى إلى تهييج الناس وإيقاظ الفتنة بين المسلمين؟».

مصادر الخلل العقائدي وشهوة الاقتتال الدموي بين أبناء الإسلام، هم «أشياء» تصلي وتصوم وتتظاهر بقمة التوحيد، وربما وجدتها على شاشات الفضائيات تبكي، وتتجرع المرارة بُعيد أن تكذب وتفتري وتهرج، ولا ينقصها سوى الرقص فرحاً على ما بثت من عفن… لا عليكم من كل ما تفعل تظاهراً فهي ليست سوى أدوات لدى الشيطان، مصداقاً لقول الآية الكريمة :«وقال الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وُعْدَ الْح َقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم».(سورة إبراهيم : 22)

لا تتوقعوا من وعاظ السلاطين وعلماء البلاط خيراً للأمة! كل فعلهم الشيطاني إنما هو استرضاء للأسياد، فلا يختلف أحد في أن الطائفية وسمومها مرض مدمر للمجتمع الإسلامي، وليس من حق أتباع أية طائفة تجاوز الحدود أو إقصاء أبناء الطوائف الأخرى، ولا يمكن المقارنة هنا بالقول بأن الشيخ فلان فعل فكان رد فضيلة الشيخ علاَّن أن يلقمه حجراً، وكأننا نتعامل مع أطفال! وكأن الردود والصدامات الطائفية هي الأوجب والأولى من دعوات مكافحة ومجابهة الفتن ومشعليها.

هي الحكومات وقوى النفوذ دون شك… هي التي تغذي الطائفية وترعاها وتمدها وتقدم لها كل سبل التصاعد! من غير المنطقي، كما طرحت عدة مرات، أن يعاني أي مجتمع من الطائفية دون أن تكون حكومة تلك الدولة راضية بها وهي أساس مساندتها وراعية كانتوناتها (فرق التمييز والعنصرية) وصاحبة الفضل عليها؟

طوق النجاة للمجتمعات هم علماء الأمة المخلصون الصادقون.. من السنة والشيعة، ومن أتباع مختلف المدارس والمناهج والمذاهب الفكرية الإسلامية، باعتبارهم يطرحون دعوات صادقة للإصلاح ولم الشمل وتوحيد الصفوف، فيما هؤلاء منبوذون من الحكومات ومتهمون ومشكوك في كل خطابهم ونهجهم، ومعرضون بقوة إعلام (هش) لتحريف كل كلماتهم وخطبهم ومهددون أيضاً بالويل والثبور!

مثل هؤلاء المشايخ معززون مكرمون ويحملون دائماً شعار: «املأ ركابي فضةً أو ذهبا».

مبارك عليكم الشهر يا جماعة…

سعيد محمد سعيد

«المطابخ السرية» للطائفية

 

أتفق على الدوام مع الرأي القائل أن الترويج لأكذوبة «الإنشطار والفتنة الطائفية» في المجتمع البحريني ما هو إلا وسيلة لرفع درجة التأزيم وضرب السلم الاجتماعي، ولا أدل على سقوط تلك الأكذوبة من أن العلاقات بين أبناء الطائفتين الكريمتين، ممن تربطهم علاقات دينية وأخوية وإنسانية، كانت ولا تزال في حالها المبني على «الأخوة»، لكن هناك بلا شك حال رهيب من «الإنشطار» المشار إليه، وهو في حدوده يشمل في الأصل «الطائفيين، والمؤزمين، وذوي المصالح الفئوية المتاجرة بالصدام الطائفي»، وهؤلاء لا يمثلون الشريحة الأكبر من المجتمع، فهم ينشطون في المطابخ السرية للطائفية، ولم ينجحوا في ترويج تلك الأكذوبة، إلا بين أنفسهم وبين من يسير على منهجهم المريض.

قد يقول قائل : «ألا ترى ما حل بالمجتمع البحريني منذ يوم 14 فبراير 2011 حتى اليوم من علاقات بين الناس انهارت، وعداوات اشتعلت، وحراب ارتفعت في وجوه الأخوة؟»، وبالنسبة لي شخصياً لا أرى الانهيار، والعداوات، والحراب، إلا لدى من هو في الأصل طائفي بغيض لا يهمه «الوطن» واستقراراه -بأي شكل من الأشكال- قدر اهتمامه بأن يكون طرفاً في ضرب أي تقارب وعلاقات طيبة بين أبناء الطائفتين، لكن كل تلك المحاولات اليائسة، لم تفعل فعلها إلا في قلوب من يتلذذ بمشهد الصدام الأهلي، وهذا ما لم ولن يحدث إلا في مخيلة التهويل الإعلامي بكل وسائله، وهو إعلام في حقيقته مأجور.

على مستوى الوطن العربي والإسلامي، لن يتوقف عمل «المطابخ السرية» المصنعة للفتن الطائفية، ولعلني استحضر قول سماحة العلامة السيد عبدالله الغريفي في حديث له بمسجد الإمام الصادق (ع) بالقفول حين قدَّم طرحاً موجزاً مقدمته تقول :» الطائفية خطرٌ مرعبٌ، إذا اشتعلت نارُها أحرقت كلَّ شيئٍ على الأرضِ، ولم تبقِ أخضرَ ولا يابسًا، ولم توفِّر أمنًا ولا أمانًا، ولم تحفظ أرواحًا، ولا أموالاً، ولا أعراضًا… وإنَّنا ندين كلَّ الخطابات الطائفية التي تمزِّق وحدة الشعوب، وتوقد نيران الأحقاد والعداوات، ونأسف كلَّ الأسف، رغم كلِّ مواقفنا الواضحة كلَّ الوضوح في التصدِّي لكلِّ المشروعات الطائفية، ورغم ما عانينا واكتوينا بنيرانها».

ولخطورة «المطابخ السرية» للطائفية في الأمة الإسلامية، يحق للمرء أن يتساءل :من هم صناع الطائفية في أوطاننا؟، وبالضبط هذا هو السؤال الذي أجاب عليه العلامة الغريفي في حديثه، إذ أشار إلى ثلاث جهات، الجهة الأولى: القوة الكافرةُ المعاديةُ لمصالح هذه الأوطان، والطامعة في استثمار خيراتها، والسيطرة على ثرواتها، وعلى شعوبها، وعلى كلِّ أوضاعها السِّياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية، فمن مصلحة هذه القوى أن تبقى أوطاننا ضعيفةً، مسلوبةَ الإرادة، ممزَّقة القوى، وهكذا يعتمدون تغذية الطائفية وسيلةً من وسائلهم في الهيمنة والسيطرة وفرضِ النفوذ.

أما الجهة الثانية التي تدخل ضمن صناع الطائفية في البلاد الإسلامية والعربية، فقد عرَّفها العلامة الغريفي بأنها الأنظمة المستبدة فمن صالح هذه الأنظمة أن تتصارع الطوائف والمكوِّنات والأحزاب والمجموعات، ليوفِّر ذلك مناخات السيطرة، وليشغل الجماهير بصراعاتِها عن محاسبة سياساتِها، فمتى ما توحَّدت إرادات الشعوب شكَّل ذلك خطرًا عليها…

وهكذا تصرُّ هذه الأنظمة على إنتاج الصراعات الطائفية في داخلِ الأوطانِ مستخدمةً شتَّى الطرق والوسائل، ولعلَّ منها ممارسة سياسات التمييز المكشوفة أو المتسترة، أو القيام بأعمال تعبِّر بوضوحٍ عن (استهدافاتٍ طائفية)، وكثيرًا ما تحرِّك هذه الأنظمة وسائل إعلامها من تلفازاتٍ وإذاعاتٍ، وصحافة، وأقلامٍ موظَّفةٍ لكي تمارس شحنًا طائفيًا مكشوفًا، وهذا ما يتنافى كلَّ التنافي مع رسالة هذه الوسائل في صنع المحبَّة والألفة، والوحدة بين مكوِّنات الشعوب، لا أنْ تغذِّى الصراعات والعداوات والخلافات خدمةً لمصالح الأنظمة الحاكمة المسكونة بنزعات طائفية مقيتة…

وماذا عن الجهة الثالثة؟ تلك هي التي حددها العلامة الغريفي بالقول :«منابر دينية تمارسُ خطاباتٍ تغذِّي الطائفية والكراهية بين مكوِّنات الشعوب، استجابة لإملاءات الأنظمة الحاكمة، أو بدافع العصبيَّات المسكونة في النفوس، أو تعبيرًا عن جهالاتٍ وحماقاتٍ مسيطرة على العقول، وهكذا تتنكَّر هذه المنابر لأهداف الدِّين، وتتحوَّل مواقع للفتن الطائفية، والعداوات المذهبية، وعلى مرأى ومسمع من أنظمة الحكم التي لا تحرِّك ساكنًا، من أجل إيقاف اعتداءاتٍ سافرةٍ بين طوائف ومذاهب ومكوِّنات».

كان حديث العلامة الغريفي صريحاً، ذلك «إنَّنا ندين كلَّ الخطابات الطائفية التي تمزِّق وحدة الشعوب، وتوقد نيران الأحقاد والعداوات، ونأسف كلَّ الأسف، رغم كلِّ مواقفنا الواضحة كلَّ الوضوح في التصدِّي لكلِّ المشروعات الطائفية، ورغم ما عانينا واكتوينا بنيرانها»، (انتهى الإقتباس)، غير أنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن تطبيق القانون لا يجب أن يستثني أحداً بصيغة الكيل بمكيالين اتجاه كل الأطراف الطائفية! فلا يصح أن يُستهدف خطيب، أو ناشط، أو سياسي، أو مثقف، أو كائن من يكون بدعوى إثارة الطائفية، ويلوى القانون ليغض الطرف عن آخرين اشتهروا على مدى سنين بتأجيج المشاعر، وشتم هذه الطائفة أو تلك بأرذل الأوصاف، وارتفعت أصواتهم القبيحة بتشجيع كل الممارسات العنصرية المدمرة. حين يُطبق القانون على الجميع بعدالة، حينها فقط، تبرهن الدولة على أنها ضد الطائفية، أما دون ذلك، ووفق معايير طائفية مقصودة، فإن الدولة تصبح طرفاً في فتح الباب على مصراعيه للطائفيين، وهذا ما صدق في وصفه العلامة الغريفي :«خطر مرعب».

سعيد محمد سعيد

من أقوال الرئيس المخلوع

 

في الغالب، وكما جرت عليه العادة، تتصدر أقوال الرؤساء، كل وسائل الإعلام ولافتات الميادين ومقدمات الكتب والكتيبات والمطبوعات… وتطل في حركات (فلاشية) على شاشات التلفزيونات الرسمية… بل وربما كتبت على الساعات الفاخرة وزجاج السيارات الخلفي وربما الأمامي… وقد تجدها حاضرة دائماً في مقالات بعض الكتاب وهكذا.

قد تبقى تلك الأقوال بعد موت موتاً طبيعياً لكنها سرعان ما تختفي، وتختفي بوتيرة أسرع من كل مكان… كل مكان… حين يسقط بثورة أو يتنحى أو يقع بين أيدي الثوار، إلا أن الذي يبقى منها هو تلك الأقوال التي صاغ فيها المخلوع ومستشاروه واعلامه خطابات وكلمات فيها استسخفاف واهانة لشعبه، أو تحوي بشكل متعمد إهانة معارضيه واغاظة شعبه بالشتائم والأوصاف الكريهة التي تشبهه.

لو أجرينا رصداً مختصراً لأمثلة من تلك الأقوال التي قالتها مجموعة من المخلوعين: التونسي زين العابدين بن علي، المصري محمد حسني مبارك، الليبي معمر القذافي واليمني علي عبدالله صالح، سنجد بعضها يشبه الآخر من ناحية (اللسان الدكتاتوري) وقوة الاستبداد والتعنت! فيما لا تخلو من بذاءة اللسان حيناً والخداع احياناً أخرى.

* زين العابدين بن علي: أكلمكم الآن لأن الوضع يفرض تغييراً عميقاً… نعم تغييراً عميقاً وشاملاً… وأنا فهمتكم… اي نعم أنا فهمتكم… فهمت الجميع… البطال والمحتاج والسياسي والذي يطالب بمزيد من الحريات… فهمت الكل، لكن الأحداث الجارية اليوم (مهيش بتاعنا) والتخريب ليست من عادات التونسي المتحضر… التونسي المتسامح: المخلوع تأخر في فهم شعبه (أي نعم تأخر)، من السياسي الى البطال، فيما تبين أن الرجل لا هو سياسي ولا هو مطالب بمزيد من الحريات… بل هو البطال فعلاً.

* حزني وألمي كبيران لأنني قضيت 50 سنة في خدمة تونس: مرد حزن المخلوع أنه قضى 50 عاماً في حرمان الشعب التونسي من حقوقه الأساسية في الحياة، ولهذا فإن الحزن والألم يصبحان كبيرين فعلاً حين يجد المخلوع أن شعبه لا يحبه اطلاقاً، وما العقود الخمسة من الحكم الا فجيعة تراكمت لحكم استبدادي آن له أن يسقط.

* اصبحنا خائفين عليهم من عنف مجموعات سطو ونهب واعتداء على الأشخاص (هذا اجرام موش احتجاج وهذا حرام): كل من يقف مخالفاً أو معارضاً للمخلوع أو من هم على شاكلته يصبحون مجموعات سطو ونهب وارهاب واجرام، وفي لحظة، يصبح المخلوع هو المفتي يحلل ويحرم كما يشاء.

مقبور ليبيا… ملك ملوك افريقيا معمر القذافي ايضاً فهم شعبه حين قال: «انا فهمتكم، ولم أكن أنوي الترشح لفترةٍ رئاسيةٍ جديدة»… لكنه لم يفهم شعبه ولم يعرفهم حين وصفهم بالجرذان، وأنه سيلاحقهم: «شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة، فرد فرد»… مع أن الخداع لم يكن مخفياً في كلامه: «لقد وجهنا الحكومة لتلبية كل طلبات الشباب».

* لا امتلك أي سلطة سياسية أو إدارية، أنا وضباط آخرون حررنا ليبيا وسلمنا السلطة للشعب منذ عام 1977: ولعل الشعب الليبي هو الذي أدرك أن السلطة ليست له، بل لملك الملوك الذي ابقاهم طيلة أربعين عاماً في رعب لا يوصف.

هناك قائمة لطيفة من أقوال المقبور القذافي ستبقى خالدة على ما أظن، لأنها أسعدت الشعوب العربية، وغير العربية، لما فيها من حكم ودرر لا تقدر قيمتها:

* للمرأة حق الترشح سواء كانت ذكراً أم أنثى: طبعاً طبعاً… فلا علاقة للمقبور بالجندر (الفروق بين الرجل والمرأة)، فعند المقبور الرجال نساء والنساء رجال، وحين يقول: «أيها الشعب، لولا الكهرباء لجلسنا نشاهد التلفاز في الظلام»، وليس في ذلك ما هو غريب… يستطيع الشعب تشغيل التلفزيون باسطوانة غاز! وهو «ليس دكتاتوراً لاغلق الفيس بوك… لكنني سأعتقل من يدخل عليه»… ومن قال ان في ذلك دكتاتورية يا ملك الملوك؟ وأكبر دليل على عدم دكتاتوريته: «تظاهروا كما تشاءون ولكن لا تخرجوا الى الشوارع والميادين»… جميل جداً، لا بأس في اعتصام أو مظاهرة في الخيمة! ولذلك هو: «سأظل في ليبيا الى أن أموت أو يوافيني الأجل»… تبارك الرحمن، درر… حقاً درر! أما الموت، اذا كنت رجلاً يجب أن تدفعه، واذا كنت امرأة يجب أن تستسلم له! وكانت النهاية في انبوب مجارٍ.

مخلوع مصر محمد حسني مبارك تعهد أيضاً: «بعدم الترشح لولاية رئاسية جديدة، والتزم بإدخال اصلاحات جذرية على الدستور لتوسيع قاعدة المعارضة، وأرفض الإذعان لمطالب المحتجين وبعض القوى السياسية بالرحيل الفوري من الحكم»… لكنه اليوم في أشد حالات الانكسار وشعبه يحاكمه على جرائمه رغم أنه قال يوماً: «سأعمل لفترة الشهور القليلة التي تبقت من ولايتي على الحفاظ على الاستقرار وذلك تمهيدا لنقل سلس للسلطة»… تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن يا بوجمال وعلاء.

* «هذا عهدي الى الشعب خلال ما تبقى من ولايتي كي اختتمها بما يرضي الله والوطن وابناءه»… لاشك في أن المخلوع كان يخاف الله كثيراً، ويسعى للعمل بما يرضي الله، وربما اعتقد بأن معركة الجمل وقتل المتظاهرين في ماسبيرو وفي كل محافظات مصر شكل من أشكال العمل لنيل رضا الله… استغفر الله.

ولم يتهم اليمني المخلوع (علي عبدالله صالح) النساء المشاركات في الساحات في عفتهن فحسب… أو يصف الشعب اليمني في حراكه وساحاته بأنهم (بلطجية) مستأجرون معروف من يؤجرونهم، أو يكرر بأن الاحتجاجات وراءها اميركا واسرائيل وكأنه لم يكن (good boy) للأميركان… بل كانت له أقواله التي لم تختلف كثيراً عن سابقيه من ناحية (احتقار) الشعب والإساءة الى كل مكوناته، فم ن قائمة أقواله هذه الأمثلة:

* في 11 شهرا قطعت الطرقات والشوارع وانقطع التيار الكهربائي وفجر أنبوب النفط، هذه ثورة الشباب التي سرقها من سرقها: لكن المخلوع لم يتمكن من تقديم دليل على (من سرق) ولا على كيفيته في منع السرقة والاستجابة لمطالب الشعب اليمني.

* مساكين الشباب 11 شهرا في الاعتصامات، فيا شباب ارجعوا إلى مساكنكم، عودوا إلى بيوتكم، عودوا إلى أسركم أنا أشفق عليكم وأدعوكم للعودة إلى مساكنكم وتبدأون صفحة جديدة مع القيادة الجديدة (يقصد قيادة عبدربه منصور هادي): لم يشفق عليهم حين قتل منهم من قتل وقصف منهم من قصف في الساحات، واصبح مشفقاً لا يتحمل رؤية جيل جديد من الشباب لا يقبل الانتهازية والاستبداد.

* أخيراً، أطلب العفو من كل أبناء وطني رجالاً ونساءً عن أي تقصير حدث أثناء فترة ولايتي 33 سنة، واطلب المسامحة وأقدم الاعتذار لكل المواطنين اليمنيين واليمنيات، وعلينا الآن أن نهتم بشهدائنا وجرحانا: لو طلب المخلوع العفو عن التقصير حال انطلاق الاحتجاجات في بداياتها وسعى لإصلاح حقيقي لما احتاج أن يكرر عفواً وهو في حال سقوط مرير.

سعيد محمد سعيد

الكولونيل… «عباسخوك»

 

لم يعد قادراً على استذكار البطولات والصولات والجولات العتيدة التي جندل فيها الأبطال وصارع الأهوال وأطاح برؤوس الفرسان في الحروب التي خاضها… هو اليوم، متقاعد! محارب قديم كما يحلو له أن يسمي نفسه، غير أنه من المستعصي عليه أن يستذكر آخر حروبه… هل كانت في أفغانستان أم طاجيكستان أم كرازاكان أم قرقيزستان أم في جمهورية الخرفان التي كانت آخر معاقل قيود أسره قبل تحريره… ذاكرته لا تسعفه! وكلما حاول إنعاشها تصيبه الرجفة.

الكولونيل «عباسخوك» يقضي معظم وقته متحسراً على زمن البطولات الذي مضى… شعور مرير يدك فرائصه ويعصف به كلما راودته الرغبة في أن يحكي للناس واحدة من حكايا بطولاته! ينطلق لسانه في مستهل القصة، لكن سرعان ما تتبخر من رأسه بقية التفاصيل… فيرتجف ثم يرتجف ثم يبكي.

ذات يوم، زاره أحد رفاقه بينما كان يتسامر مع نفر من جيرانه… الكولونيل «عباسخوك» طار فرحاً حينما أبصر ذلك الرفيق يحث الخطى متجهاً صوبه… ههههههه… مرحى… أي ريح طيبة… هذا القادم صديق عزيز، وبطل من الأبطال… أسد من الأسود… باسل من البواسل الذين لا يشق لهم غبار… قام له معانقاً بالأحضان… لدقائق ظل الكولونيل «عباسخوك» معانقاً رفيقه ثم ارتجف وانخرط في بكاء أذهل صاحبه وأذهل من كان موجوداً في جلسة السمر!

ترى، ما الذي أبكى الكولونيل «عباسخوك»؟ أهي الفرحة التي فاقت الوصف وهو يرى واحداً ممن تمنت روحه رؤيتهم قبل أن تروح؟ أم أن هول المفاجأة السارة جعلته يشعر بموجة من الغبطة تجاوزت مقدرته على الصمود فانصهر قلبه وجرت دموعه وعلا صراخه؟

عبثاً حاول ذلك الضيف القادم تهدئته… لكن الكولونيل يبكي ويبكي! أحضروا له شربة ماء باردة… شربها ولم يتوقف عن البكاء سوى لحظات ارتشافه الماء! أجلسوه على متكأ مريح فصمت برهة، ثم انخرط من جديد في البكاء والعويل بصوت عال هذه المرة وهو يشير بسبابته إلى ذلك الضيف القادم!

هدئ من روعك يا كولونيل… لقد عهدناك صلباً مقداماً فارساً لا يشق له غبار؟ ثم ما الذي يبكيك؟ سأله ذلك الرفيق القادم من المجهول، وسط ذهول من تبقى من السمار… فأغلبهم ضج مما رأى وانسحب مغادراً المكان… لكن الكولونيل «عباسخوك» لم ينبس ببنت شفة! فقط كان عويله (الفجيع) يشق الأفق ويصل إلى أسماع الفضاء…

صمت رهيب حل على المكان فجأة… من شدة ذلك الصمت الذي أعقب عويلاً كاد يدمر حنجرة الكولونيل «عباسخوك»، كان من السهل على رفيقه الذي بقي وحيداً معه أن يسمع نباح الكلاب في الوادي القريب… الليل يمضي والصمت يضاعف سكون الليل وظلامه وحشة مع المحارب القديم…

فجأة انقلب الوضع! صورتان واضحتان تتصدران ذلك المشهد… هروب الرفيق الذي جاء زائراً حيث أطلق لقدميه الريح راكضاً بكل ما أوتي من قوة، أما الصورة الثانية، فقد هب الكولونيل «عباسخوك» واقفاً على قدميه ورقص رقصاً شديداً وهو يردد : «ردي علي فؤادي… تلعبين به».

سعيد محمد سعيد

ما لا يعرفه الكواكبي

 

يبدو أن المرحوم الشيخ عبدالرحمن الكواكبي (مفكر وعلامة سوري ورائد من رواد التعليم، ومن رواد الحركة الإصلاحية العربية وكاتب ومؤلف ومحامٍ وفقيه شهير، وهو مؤلف الكتاب الفذ «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، توفي في العام 1902) يبدو أنه لا يعرف جيداً معنى «الاستبداد» ولا «الاستعباد»! كما يعرفه ويفقهه ويتقنه وعاظ السلاطين ومشايخ الحكومات ومثقفو السلطات وكتابها وفقهاؤها الذين وجدناهم في الماضي من السنين، ولاسيما في عام الثورات العربية (2011). يعرفون الاستبداد والاستعباد بمنظور أخرق جديد: «الشعوب هي المستبدة وهي الجائرة وهي الإرهابية»!

وحتى نشخص الخطأ الجسيم، بين فهم المرحوم الكواكبي للاستبداد والاستعباد، وبين تشخيص ومفهوم (بضع عباقرة وفطاحلة في عصرنا اليوم) من وعاظ سلاطين العرب وأبواقهم «الدينية» مع فارق 110 سنوات، دعونا أولاً نعرف من هو المستبد في نظر الكواكبي، فهو يقول: «المستبد (…) يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً».

«كواكب» الحكومات المستبدة اليوم، إسلامية، عربية أم غيرها، ألا وهم الأبواق التي تسخر الدين وتتلاعب بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من طبقة «وعاظ السلاطين الخبيثة» لتخدير وخداع وتضليل الأمة، ينظرون إلى استبداد واستعباد منشأه ومصدره الشعوب التي تطالب بحقوقها وتدافع عن كيانها ووجودها. فهي – أي الشعوب – مستبدة وظالمة ومتآمرة وضالة، أما المستبدون فهم الضحايا والمساكين والمظلومون وممن يتوجب على الشعوب أن (يخفوا عليهم شوي… حرام).

هل الأمر مستغرب؟ أبداً، فقد سمعنا خطباً وتصريحات وفتاوى وصلت إلى حد أن يصف أحد المفتين حركات التحرر في الوطن العربي بأنها مؤامرة من أعداء الإسلام لنشر الفوضى في الدول العربية، وتوعد آخر بالنار والويل لمن يخرج حتى على الفسقة والدكتاتوريين من الحكام! وحرم آخر بشدة المظاهرات المطالبة بالحقوق، ولعل الكثير من القراء يتذكرون تلك المرأة الشهيرة المعالجة بالقرآن الكريم التي تواجدت خارج قاعة محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك ورفعت لافتة: «مبارك من نسل النبي (ص)، وهو من الذرية النبوية وجده مبارك له مقام في كفر مصيلحة، وأنه ظل مع السيد البدوي حتى وفاته»! فيما لم يتأخر آخر من مثقفي مبارك على قناة فضائية من إضافة عبارة (رضي الله عنه) حين يذكر المخلوع!

حين شخّص المرحوم الكواكبي داء الاستبداد السياسي، قبل أكثر من قرن، قال إن أقبح أنواعه استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويقول إن الله خلق الإنسان حراً قائده العقل فكفر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل، ويرى أن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولد للاستبداد، ومضر بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.

هنا، استعان المرحوم الكواكبي بجملة رائعة من بين ما تكلم به بعض الحكماء ولاسيما المتأخرين منهم في وصف الاستبداد ومنها: «المستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم».

لكن الكواكبي في الوقت نفسه، يعرف دور علماء الأمة، فهو يقول إن «المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها. والحق أبو البشر والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا، وإلا فيتصل نومهم بالموت»!

ولعل الكواكبي كان يرى من زمانه وقتذاك شاكلة وعاظ السلاطين اليوم فيقول: «تواسي فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين الأمة فتقول يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تلقيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير فإن الله غيور».