سعيد محمد سعيد

«فولان ومكسالة و… بساط الريح»!

 

أصدق وأنبل وأعظم وأجمل صور رعاية الإنسان العربي وحقوقه كـ «إنسان»، يمكن اكتشافها في السجون العربية! هذه إحدى المقدمات التي دار النقاش حولها في أمسية مليئة بالتنفيس مع زملاء من الصحافيين والإعلاميين العرب في إحدى العواصم العربية.

قال زميل اشتهر بفنه الكبير في «تشبيك الأفكار»: «بسيطة… طالب بحقوقك فستصبح إرهابياً، خائناً، متآمراً، مندساً من الخارج، وستجلب على نفسك وأهلك الويل والدمار، وستجد دولاً مثل أميركا وبريطانيا تصدر البيانات المؤيدة للحكومة التي – بارك الله فيها – تمكنت من القبض عليك وتتضامن معها ضدك! ثم ستتباكى عليك منظمات دولية وهم يرونك في فولان ومكسالة وبساط الريح!».

ولعل القارئ الكريم، حاله حالنا، سيتساءل قطعاً: «ماذا تعني تلك المفردات؟ فولان ومكسالة وبساط الريح؟». يجيبنا محدثنا بالقول: «لقد اندهشت حينما رصد صديقي الصحافي العربي المتميز سعود سالم فنون التعذيب في السجون العربية. هو يقول إن سجون وأقبية التعذيب في الشرق الأوسط هي عبارة عن صناديق شيطانية مطرزة بالنرجسية والسادية والظلم ونهب المال العام والطائفية والاستبداد والدهس على المواطن العربي، وأنا أقول لا… لا… لا… هي عبارة عن بسالة وقوة وجدارة وبطولات يحققها المعذّبون على أناس ضعفاء. ثم استدرك ليقول… المناسبة… ألم تستغربوا وأنتم تشاهدون الجنود الصهاينة وهم يضربون بوحشية الشباب الفلسطيني في بداية انتفاضته في العام 1987؟ صرنا نشاهد أسوأ منها في بلداننا العربية. كم هي فضيحة أن يجتمع 6 أو 7 أو 10 عسكريين في مختلف الدول العربية بأسلحتهم وشنباتهم وعضلاتهم ليضربوا فتى أو فتاة… يا عيب الشوم».

لن يطول المقام حتى نصل إلى معنى اللغز الثلاثي: «فولان ومكسالة وبساط الريح»… لكن لا بأس من أن نتركها إلى السطور الأخيرة من المقال، فقبلها تقرير رائع للصحافي الألماني جان كورد نشر في موقع صحيفة «الشرق العربي» بعنوان: «وماذا عن التعذيب في السجون العربية؟»، فبعد مقارنة بين «غوانتنامو الأميركي» و «أبوغريب الأميركي أيضاً»، يقول كورد متسائلاً إن ما يحدث في تلك السجون، منذ سنين طويلة، هو ذاته ما يحدث في السجون والمعتقلات العربية في طول العالم العربي وعرضه، وهي مليئة بالذين أهدرت كرامتهم وعذبوا تعذيباً رهيباً مصحوباً بكل أنواع الانتهاك لكرامة الإنسان، فلماذا لم تتحدث الصحافة العربية عن ذلك بهذا الشكل الذي فضحت فيه أميركا على خلفية سجن غوانتنامو وأبوغريب؟ ويتساءل أيضاً: لماذا لا يقف رئيس نظام عربي أمام شاشة التلفزيون كما وقف الرئيس الأميركي ليعلن عن اعتذاره لشعبه عما ألحقه به نظامه من إهانة وما مارسه زبانيته ضد المواطنين من ممارسات دنيئة وقذرة ومهينة؟ لماذا لا يبدي حكام العرب أسفهم عمّا يدور في معتقلاتهم السرّية ولا يقومون بتقليد الإدارة الأميركية التي ستجري المحاكمات لضباط الجيش والمدنيين المسئولين عن تلطيخ سمعتها في العالم؟ لماذا هذا الهجوم الكبير على دونالد رامسفيلد وغض النظر عما يحدث في دول عربية بوليسية عتيدة من رؤساء فروع المخابرات ووزراء الداخلية ومسئولي القوات الخاصة الذين لم يتركوا جريمة ضد الإنسانية إلا وارتكبوها؟ ولعل الكاتب كورد، لو تسنى له دخول سجن من سجون الأنظمة العربية الساقطة أو التي هي في طريقها للسقوط، لتساءل أيضاً عن فولان ومكسالة وبساط الريح؟ إن هذه التسميات الغريبة، واحدة من إرث إجرامي قديم في السجون العربية.

الفولان هي عبارة عن كرسي ألماني، أضيف له شفرة معدنية على الأرجل الأمامية ليشد قدمي الضحية مسبباً نزفاً دموياً حاداً في رسغ القدم وكاحله. أما المكسالة، فهي الاضطجاع على الظهر في مواجهة شفرة تتقدم نحو الضحية قبل أن تمس العنق مباشرة، وأخيراً… بساط الريح. شد وثاق السجين إلى قطعة خشب لها شكل الجسم البشري، ومن ثم ضرب السجين أو السجينة أو توجيه صدمة كهربية إلى كل أجزاء الجسم. ولا غرابة أن توجه المعذب بعد ذلك بخشوع للصلاة جماعة وتلاوة كتاب الله!

طبعاً أعزائي مقابل هذه المفردات، لدينا ولله الحمد مفردات كثيرة: حقوق الإنسان، الرفاهية، التنمية الشاملة، مستقبل المواطن العربي وعياله وعيال عياله، وربما… العيش في المدن الفاضلة.

كل ما يريده المواطن العربي، وهو ما تختصره منظمات المجتمع المدني العربية الحقوقية هو: العدالة، العدالة ولا شيء غيرها. في مسرحية الفنان عادل إمام «شاهد ماشافش حاجة»، عرفنا بالفعل معنى عبارة: «العدل أساس الملك»، المكتوبة على «لافتة») أعلى «خشبة» المسرح… متعودة… دايماً!

سعيد محمد سعيد

حملة «الرصيف» الصالح

 

في الغالب، فإن معظم الحجاج الذين يفترشون الأرصفة والأزقة والحدائق والمرافق المهجورة في عموم المدينة المقدسة… مكة المكرمة، هم من الحجاج الآسيويين والأفارقة الذين لا ينتمون لحملات حج رسمية مرخصة… يعني هم أولئك الذين أصروا على أداء فريضة الحج أياً كانت الظروف… حتى وإن لم تنطبق عليهم صفة «الاستطاعة» لأداء هذه الفريضة!

هذه الفئة من الحجاج يطلق عليهم عدة تسميات منها: المفترشون… حملة بوكارتون (نظراً لاستخدام الصناديق الورقية كمأوى)… إلا أن حجاجاً من دولة عربية يستخدمون صفة شائعة بينهم وهي (حملة الرصيف الصالح)… هذه التسمية لا تخلو بالطبع من الفكاهة التي يمتاز بها حجاج تلك الدولة… فهم إنما يستخدمون تلك الصفة من باب اعتبار تلك الأرصفة والمرافق أماكن صالحة فيها كل الخير لأنها تأوي حجاجاً حلوا ضيوفاً معززين مكرمين عند رب العالمين.

تسنح لك الفرصة بعض الوقت لأن تجلس مع بعض الحجاج من أتباع حملة «الرصيف الصالح»… هناك، في حي العزيزية القريب من منطقة الجمرات في منى… ستجد الآلاف منهم… لا مشكلة أبداً تواجههم في توفير الطعام والماء فهو متوافر ولله الحمد، لكن المشكلة الكبرى التي تواجههم هي حين يفترشون المواقع القريبة من منطقة التخييم في منى حيث لا مكان «للمفترشين» الذين يتسببون في مضايقة الحجاج وتعطيل الحركة وتعريض أنفسهم لخطر الدهس والتدافع…

كنت مع أحد الزملاء نجري لقاءات مع الحجيج، فإذا بأحد حجاج تلك الدولة العربية يقترب ويبقى منتظراً دوره لإجراء اللقاء… وبعد الانتهاء تجاذبت معه أطراف الحديث، فهو بحسب وصفه أحد حجاج (الرصيف الصالح)، ولا يجد بداً من الإشارة إلى أن هناك الملايين من الحجيج الذين ينتمون إلى هذا الرصيف… لا خطر عليهم إطلاقاً كما يقول… فهم ضيوف رب العالمين، والله سبحانه وتعالى كفيل بحمايتهم وأمنهم، والأهم من كل ذلك، أنه انتظر لأكثر من 20 عاماً لأداء فريضة الحج، ولا يهمه وقد وصل إلى مكة المكرمة، أن ينام في غرفة مريحة، أو على قطعة كارتون على الرصيف.

ذات مساء، أخذتني الصدفة لأن أتجول على شارع «صدقي» وأحل ضيفاً على مجموعات من حجاج الرصيف الصالح… الجميل في حجاج الرصيف في غالبهم الأعم… ودودون طيبون يتقاسمون ما لديهم من ماء وطعام ويقدمون لضيفهم أيضاً ما تجود به أيديهم… وقد تجد الكثيرين منهم، وخصوصاً الأفارقة، في غاية الخشونة والصلافة أثناء الطواف أو رمي الجمرات… هناك، ليس لديهم «يمه ارحميني»! يتدافعون بقسوة… يستخدمون أقصى قوتهم في إنهاء أشواط طوافهم السبعة غير مكترثين بالآخرين رجالاً كانوا أم نساء… لكن خارج الحرم… على أرصفتهم… فهم أكثر حناناً وأخوية… سألت أحد الحجاج الأفارقة: «لماذا تستخدمون القوة المفرطة في الطواف حول بيت الله… تدخلون إلى الطواف بالعرض وأنتم تهرولون فتضايقون الحجيج وتتسببون في الإضرار بهم، وأنتم هنا هادئون طيبون؟»… ضحك ضحكة عالية ليقول: «أنا لا أفعل… غيري يفعل… هل تعلم بأن الكثير من الحجاج الأفارقة وغيرهم أيضاً يتم تهيئتهم في بلدانهم قبل موسم الحج وكأنهم ذاهبون إلى حرب… سمعت بنفسي أحدهم يحمس بعض الحجيج قبل رمي الجمرات بالقول: ادفع… استخدم قوتك… إذا لم تفعل ذلك فإنهم سيفعلون… بعضهم قال لمن لا يملك تذكرة ركوب قطار المشاعر… اندس بين الألوف واصعد للقطار فلن يمنعك أحد… أنا لست معهم في ذلك… هذه لست من أخلاق المسلمين وليست من أخلاق الحج».

في ضيافة مجموعة من الحجيج من تلك الدولة العربية، على طرف جبل في منى… تشعر وكأنك في ندوة سياسية… الحديث طويل المقام حول استبداد الحكومات العربية والإسلامية، وكل حاج لديه الكثير الكثير ليقوله… وأكثر المحاور التي يدور حولها الحديث هي أن سنوات الذل والخنوع التي عاشها المواطن العربي طوال السنوات الماضية قد ولت بالفعل، وأن هذه المرحلة هي أكثر المراحل أهمية في التاريخ الحديث لأمة الإسلام والعرب في الانسلاخ من الذل وإسقاط الحكام والحكومات الفاسدة الظالمة، ولن تستغرب طبعاً حين تجد أن من بين حجاج (الرصيف الصالح)… المهندس والطبيب والأستاذ الجامعي… ولربما كانت ندوات الرصيف في المدينة المقدسة تتيح فسحة كبيرة للحديث بأمن وأمان ليبوح الناس بما في صدورهم من غضب وحنق ضد الحكام الطغاة المستبدين… حاج شاب قال مازحاً: «لو أن أحداً من أولئك الحكام جاء معنا في حملة الرصيف، لعاد صالحاً يحكم بما يرضى الله… لكنهم لا يجرأون… بالكتير أوي… يعملوا عمرة… وحوالهم جيش من العساكر… حاجة مش علشان ربنا… علشان الشو بس».

هناك نقطة مهمة… لابد أن الكثير من الحجاج لاحظوها… حملة «الرصيف الصالح»… ليست رجالاً أو نساءً فحسب بل تجد بينهم مختلف الأعمار… فلم يعد مستغرباً أن تشاهد أطفالاً رضعاً ينامون بالقرب من أمهاتهم… قد تستغرب وأنت تحاول الهروب من كثافة الأدخنة (السامة) المتصاعدة من الحافلات فترى طفلاً رضيعاً نائماً وسط كل تلك السموم… لكن والحق يقال، فإن حجاج «حملة الرصيف الصالح» يمتلكون صبراً وقدرة على التحمل قلّ نظيرها… ويقضون مناسك حجهم، وهم في الغالب سعداء فرحون… حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور لكل حجاج بيت الله الحرام.

سعيد محمد سعيد

المصالحة الوطنية… لا شيء من ذلك (2)

 

لا يمكن بأي حال من الأحوال، الترويج لعنوان كبير كـ «المصالحة الوطنية» والادعاء بأن تلك المصالحة هي المؤدية إلى الاستقرار في المجتمع ما لم تتم مطابقة المفهوم والممارسة وفقاً لتعريف المصالحة الوطنية. وكما أشرت في المقال الأول باعتبارها – أي المصالحة الوطنية – هي آلية لحل النزاع، وهي بديل ونقيض لآلية «القوة» التي تفضلها العقليات التي لا تؤمن بالآخر، وبين استخدام «القوة»، واستخدام «المصالحة الوطنية»، هناك آليات أخرى تدخل بين هذين النقيضين، إذ إن هناك آليات «المقاضاة» و «الوساطة» و «التحاور والتفاوض» و «التحكيم»، وهناك خليط بين هذه الآليات.

وفي هذه الدائرة نستعرض بإيجاز أسس المطالبة بالمصالحة الوطنية في اليمن، الجزائر، والمغرب، كأمثلة، لنعرف بوضوح أن الأزمة في البحرين لا تتطلب مصالحة وطنية بقدر حاجتها إلى «مصالحة نوايا» أولاً بين السلطة والمعارضة، تتأسس على الإنصاف والمساءلة ومحاسبة كل طرف تسبب في الإضرار بالوطن والمواطن، لا على أسس الادعاء المزاجي، بل على أسس العدالة الكاملة.

ففي اليمن، وفقاً للكاتب عبدالله الذيفاني، فإن المصالحة الوطنية في اليمن «مطلوبة بامتياز»! ثم يفرع الأسباب: تجاوز غياب التنمية وانتشار حالة الفقر والبطالة، شيوع الاختلالات المعيشية البشعة، إعادة الاعتبار للجيش والأمن وإخراجه من أسر الفوضى والتبعية الحصرية لعائلة وعصابة مستفيدة وضعته في مواجهة شعبه. ثم يشير أيضاً إلى أن المصالحة في اليمن ضرورة لمنع الاستلاب السياسي.

ولنذهب إلى المصالحة الوطنية في الجزائر، فهي في الأساس مشروع مصالحة انطلق بعد أحداث العام 1991 السياسية البحتة، وقادها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بجمع الأطراف المتصارعة، ثم أخضع مشروع المصالحة لاستفتاء شعبي صوّت الشعب الجزائري لصالحه.

أما في المغرب، وكما يقول الباحث بمعهد الوارف للدراسات الإنسانية ادريس لكريني، فإن المصالحة الوطنية تأسست على تشكيل لجنة من الناشطين والمناضلين والحقوقيين والمتعقلين السياسيين السابقين، وفتحت اللجنة ملفات الانتهاكات الجسيمة التي شهدها المغرب في الفترة ما بين العام 1956 حتى العام 1999، كفلت رد الاعتبار للضحايا ومكّنت المتضررين من استعادة حقوقهم وتعويضاتها، وقدمت توصيات لتجاوز وقوع الأحداث ذاتها في المستقبل.

إذاً، وحتى نختصر المسافة بين معنى المصالحة الوطنية وحقيقتها، فلاشك أن في النموذج العراقي صورة أوضح، فالقوى السياسية هناك شدّدت على أن المصالحة الوطنية كمفهوم تصالحي مبني ومرتكز على أسس الوطنية الحقة هو مطلب شعبي وجماهيري مقبول من الكل، ولا يمكن رفضه كمفهوم علمي ووطني على أن يكون الطرح فيه موضوعياً شفافاً لا تعلوه أية ضبابية أو غموض، للوقوف على الأهداف المرجوة من ورائها. ولهذا كانت التساؤلات المطروحة هي المؤسس الثابت للمصالحة الوطنية: مع من ستتصالح حكومته؟ هل ستتصالح مع من قتله في الشمال أم مع الذي ذبحه في الجنوب أم مع الذي فجّره في الوسط أم ستكون مع أزلام النظام السابق وفلوله المتناثرة؟ أم مع الذي يريد سكب الزيت على نار الطائفية؟ أم التيارات الإرهابية التي استباحت ما استباحت من دماء الأبرياء طرف في معادلة الصلح؟

باختصار، لا يوجد في البحرين ولا سبب واحد وجيه لمصالحة وطنية! بل في ظني، أن من كان يروّج لهذا العنوان يريد أن يعطي صورة مغالطة مفادها أن في البحرين مشكلة بين الطوائف! وهذا الأمر لا يصمد لأن المشكلة سياسية متكررة وتظهر، كما عهدنا، كل عقد من الزمان، فلا نحتاج إلى مصالحة وطنية.

الأزمة بين سلطة ومعارضة، فالجمعيات السياسية المعارضة كرّرت موقفها الثابت بضرورة الحل السياسي للأزمة في البحرين عبر حوار جاد بين الممثلين الحقيقيين والقوى الفاعلة لجماهير شعب البحرين مع الحكومة، بضمانات جوهرية بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.

الجمعيات السياسية (الوفاق، التجمع القومي الديمقراطي، وعد، الوحدوي، الإخاء الوطني)، طالبت أيضاً بوقف ممارسة الشحن الطائفي من قبل الإعلام الرسمي، وأن استمرار وسائل الإعلام الرسمية وكتاب ومثقفين (معينين) في الهجوم على المعارضة وممارسة الشحن المذهبي وتأجيج الفتنة في البحرين، وهو ما يستدعي أن تكون لجنة جمع خطب الجمعة التي أعلنها وزير العدل قد سجلتها، بالإضافة إلى الشتائم والسب العلني بحق فئات عدة في المجتمع البحريني… كل تلك المحاور حقيقية، لم تتخذ السلطة ضدها أي إجراء إطلاقاً.

وبالمقابل، هناك جمعية الوسط العربي الإسلامي، التي أصدرت بياناً لها يوم الثلثاء (9 أكتوبر/ تشرين الأول 2012) أشارت فيه إلى أن ما يُروّج من منابر رسمية وغيرها بشأن الحوار لا يعدو كونه استهلاكاً إعلامياً يدفعه استهلال بالالتفاف على أسس وسيلة الحوار التي هي غاية المصالحة الوطنية. بل ذهب البيان الذي وصف الحوار المزعوم بـ «إعلام الاستهلاك المحلي»، يقابله مقاييس التعميم والتغييب المستخدمة عند المعارضة التي تقدم طرحاً يحتكر الكمال ويرمي غيره بالنقيصة. من يتسمون بالمعارضة يزعمون أنهم وحدهم من يمثل الشعب والباقي ورق في يد السلطة. وهم أيضاً، بهذا الزعم، وحدهم من يقول الحق والباقي يزهق مع باطله في قول لا يجب أن يرتفع إلى مسامع الآذان، وإن ارتفع فهو هزل وإن جد جده. وهم كذلك وحدهم من يلبس العباءة الوطنية والآخرون عليهم أسمال الطائفية البالية وملامح البلطجة والعمالة… وهكذا دواليك». (انتهي الاقتباس).

المشكلة ليست في كيفية صياغة المطالب أو الترويج للمصطلحات أو الادعاء بأحقية هذا الطرف أم ذاك، أو قل كتابة البيانات وإلقاء الخطب والمعلقات التي لا تشبه المعلقات إلا في كونها «جاهلية» فحسب. المشكلة، بل أس المشكلة، هي أننا نعيش في وطن يعاني أزمة، ولا تريد السلطة إنهاء هذه الأزمة. ولو أرادت لعرفت الطريق لذلك، من دون استخدام الحلول الأمنية التي ستضاعف في ظني، الأزمة أضعافاً مضاعفة مستقبلاً.

سعيد محمد سعيد

المصالحة الوطنية… لا شيء من ذلك!

 

هل البحرين بحاجة إلى مصالحة وطنية… وعلى أي أساس؟ هل الأزمة في البلاد تتطلب من ضمن خطوات الحل، أن تكون هناك مصالحة وطنية؟ لمن، ومع من، وكيف؟ ثم أصلاً، ماذا تعني المصالحة الوطنية في معناها السياسي والاجتماعي والوطني؟ ولو تم إعلان انطلاق مبادرة للمصالحة الوطنية، هل ستنجح من دون وجود منطلقات وأسباب ومسوغات لتلك المصالحة؟

من وجهة نظري، وانطلاقاً من فهمي الخاص لمعنى المصالحة الوطنية، فإن الأزمة في البلد لا تحتاج إلى مصالحة وطنية.. الحاجة الرئيسية تسبق ذلك العنوان. لماذا؟ لأن الأزمة في البلد بين سلطة ومعارضة، وليست بين مكونات المجتمع البحريني، حتى لو حاولنا وحاول آخرون جعلها أزمة طائفية، أو استخدموا أوصاف الصراع والتناحر الطائفي بين السنة والشيعة! فكل ما جرى طيلة الأشهر الـ 20 الماضية ما كان ليقع لو تم تقديم «المصلحة الوطنية» من كل الأطراف التي تمتلك القرار، حتى لا نصل إلى مرحلة يظهر فيها ضمن ما يظهر، عنوان «المصالحة الوطنية» غير المنطقي إطلاقاً!

لماذا هو غير منطقي؟ وهنا أكرر: لا يوجد في البلد صراع بين مكونات الشعب، ولا بين التيارات السياسية ذات القاعدة الجماهيرية الكبيرة، ولا بين المطالبين بالحقوق المشروعة.. الخلاف شئنا أم أبينا، هو بين سلطة ومعارضة.. لا بين سنة وشيعة، أو بين مذاهب وجماعات وتيارات.. لهذا، فأفق حل الأزمة في البحرين أفضل بكثير من أي دولة أخرى تشهد اضطراباً وخلافاً سياسياً.

نأتي للسؤال الأهم: «ماذا تعني المصالحة الوطنية، وهل يمكن تطبيقها على الوضع في البحرين أم أن استخدامها يجري فقط من باب اجترار مصطلحات مفرغة المعنى؟».

من المؤسف له أن بيئتنا السياسية تقتل معاني الكلمات كثيراً، ويصبح ترديد بعض المصطلحات مثل الإطار الذي لا يحتوي على صورة بداخله، وينضم مصطلح «المصالحة الوطنية» إلى قائمة المصطلحات التي تُفرَّغ من معناها ومضمونها.

«المصالحة الوطنية» تعتبر آلية لحل النزاع، وهي بديل ونقيض لآلية «القوة» التي تفضلها العقليات التي لا تؤمن بالآخر، وبين استخدام «القوة»، واستخدام «المصالحة الوطنية»، هناك آليات أخرى تدخل بين هذين النقيضين، إذ إن هناك آليات «المقاضاة» و«الوساطة» و«التحاور» و«التفاوض» و«التحكيم»، وهناك خليط بين هذه الآليات.

بالنسبة إلى آلية «القوة» المفضلة لدى البعض، فإنها تعتمد على استخدام القمع المباشر لتصفية وجود الآخر أو إذلاله عبر تلقينه درساً لا ينساه إلى الأبد، ووضعه في مستوى متدنٍّ جدّاً أسوأ مما كان عليه قبل بدء النزاع، بحيث يتأسف أنه فكر في الدخول في حلبة النزاع.. هذه الآلية تؤمن بأن إخضاع الآخر وإذلاله هي أفضل وسيلة حتى لو تطلّب ذلك إنهاك كل الإمكانات من أجل توفير القوة القامعة التي تخسف الأرض ومن عليها، وتؤدّب أية جهة تفكر في الاعتراض على مجريات الأمور». انتهى الاقتباس.. (انظر صحيفة الوسط – العدد 3421 – الخميس 19 يناير/كانون الثاني 2012 – مقال رئيس التحرير).

وفق هذه المعطيات لأسس المصالحة الوطنية، فإنه ولله الحمد، ورغم مظاهر مؤسفة شهدها المجتمع البحريني، إلا أنه بقي في سواده الأعظم، متماسكاً دينياً ووطنياً واجتماعياً بين مكوناته، بل وبرزت مبادرات، وإن كانت محدودة، إلا أنها بارزة مثل مبادرة «وطن يجمعنا»، ولقاءات الطائفتين التي بادرت بها الكثير من المجالس الأهلية. لهذا، ليس من المنتظر أن يتجه الوضع في البحرين نحو المصالحة الوطنية لـ «لا شيء»، مقابل الحاجة إلى إنهاء الأزمة السياسية وفق منظور المصارحة والمكاشفة والإنصاف وتقديم المصلحة الوطنية للجميع، وإن أتى عنوان المصالحة الوطنية بعدها فلا بأس؛ لأنه سيبقى بلا معنى مقابل ما يمكن أن تحققه سابقته.

وماذا عن تجارب بعض الدول العربية في مجال «المصارحة الوطنية»؟ وهل هي شبيهة بالأزمة في البحرين؟ ولعلنا نبدأ من اليمن، فالكاتب اليمني عبدالله الذيفاني شخّص مشروع المصالحة الوطنية في اليمن وفق معطيات الأزمة هناك، لذلك حددها في عدة محاور مؤكداً ضرورتها لتجاوز: اعتلالات الماضي، فساد الحاضر، غياب الدولة، انعدام المساءلة، تغييب القانون، دفن السيادة، وقهر الإرادات الجماهيرية المتطلعة للدولة، والمجتمع المدني المؤسَّس على التوازن التام بين الحقوق والواجبات لكافة المواطنين على قدم المساواة وبشراكة كاملة.

ويرى أيضاً، أن المصالحة الوطنية مطلوبة لتجاوز لغة السلاح، وصفير الصواريخ التي تهدد الحياة، وتدمر الأخضر واليابس، وتقتل الأحياء بكل أنواعهم وأجناسهم وفئاتهم وأعمارهم، وبما يقر السلام والأمن والاستقرار، وحق الحياة للفرد والمجتمع على النحو الذي ترتضيها خياراتهم. وللحديث بقية…

سعيد محمد سعيد

من أسقط العالم الإسلامي؟

 

في موقعه الذي خصصه لكتابه «من أسقط العالم الإسلامي؟»، وقبل إصداره، فتح المؤلف سعيد المحفوظ المجال للمفكرين والمثقفين وعلماء الدين وعامة الناس ليطرحوا الإجابات التي يؤمنون بها، ويقدموا وجهات نظرهم لأسباب ذلك السقوط، وهل هو سقوط فعلاًً أم تراجع؟ أم نكسة؟ وفرع التساؤلات لتشمل متى بدأ الانهيار والسقوط؟ كيف سقط؟ ومتى كان ذلك؟.

توالت الإجابات على هذا التساؤل لتتصدرها التالية: «علماء الدنيا، الاستبداد، البعد عن العقيدة، ترك الجهاد في سبيل الله». وأجمع البعض على أن أسباب السقوط هي كثرة ذنوب المسلمين، فشل التربية الأخلاقية وضياع الأهداف، تخاذل المسلمين أنفسهم تجاه الكثير من القضايا. وطالب آخرون بتغيير اسم الكتاب إلى «أسباب تأخر وانحطاط العالم الإسلامي»، هل هو سقوط أم هبوط أم نكسة؟ فيما رأى طرف ثالث أن العالم الإسلامي لا يسقط إنما يتعثر أو يتأخر ثم يقوم بعد ذلك. واكتفى آخر بالقول ان الحديث في أسباب السقوط يطول، إلا أن الأمة لم تعمل بدينها الحق ظاهراً وباطناً، فيما كانت بعض الإجابات ملتهبة بالتركيز على أن الذي أسقط العالم الإسلامي هم القادة العرب والحكام، والعلماء المقربون من البلاط.

ولكن الكاتب، في دعوته للمشاركة، أورد مقدمة نصها «جهودٌ تبذل من بعض المخلصين والغيورين لإخراج أمتنا الإسلامية مما هي فيه الآن من انهزامية وتشتت، وعدم اتحاد كلمتها، إلى العزة والكرامة والتمكين، ولكن هذه الجهود التي بذلت ومازالت تبذل إلى الآن، لم تكن في مستوى تطلعات أبناء هذه الأمة، لأنها لم تحدث الأثر الفعال الذي يروي غليل هذه الأمة».

وأرجع غياب الأثر الفعال إلى أمرين: الأول هو أن هذه الجهود مبعثرة هنا وهناك، والثاني أنها تصادمت بدل أن تتحد، وصار الخلاف بينها خلاف تضاد وليس خلاف تنوع.

ونظراً لأهمية دور الغيورين والمصلحين في النهوض بالأمة، فلابد من مشاركة الجميع بدءاً بأهل العلم والفكر، مع الاستمرار في الحوار والمناقشة حتى نصل إلى جميع شرائح المجتمع. فالأمة الإسلامية كانت في يوم من الأيام في الأعلى فهوت، فإذا أردنا الصعود بها علينا أن نعرف كيف سقطت؟ فإذا عرفنا سبب السقوط سهل علينا إعطاء العلاج المناسب للصعود. والسؤال المطروح هو: من أسقط العالم الإسلامي؟ ومتى بدأ الانهيار والسقوط ؟ وبصيغة أخرى: كيف سقط العالم الإسلامي؟ ومتى كان ذلك؟ و ما هي الأسباب التي أدت إلى سقوطه؟

الكاتب، استخلص – كما يقول في مقدمة الكتاب – بعد تأمله بحال الأمة وتفحصه للإجابات التي وردت الموقع عن أسباب سقوط المسلمين خريطة محددة لأسباب السقوط وكيفية النهوض ولخصها في رسم توضيحي. ذلك الرسم شمل العنصر الرئيسي الذي يرتفع بالمجتمع الإسلامي أو يهبط به هو علماؤه، فإيمان الأمة وأعمالها الصالحة هي التي تؤدي إلى نصر الله، والعلماء هم المعنيون بنشر دين الله الحق داخل المجتمع لزرع الإيمان والتقوى داخل القلوب، وهم الذين يستطيعون توجيه الشعوب والحكام لاتخاذ قرارات عادلة والحكم بما أنزل الله وتعظيم حدود الله في الأرض والعيش بمنظور يرضي الله من الأوجه كافة.

لكن كمحصلة نهائية وواضحة، ومع إجماع الآراء على دور القلة القليلة من علماء المسلمين «الصالحين» الذين لا تجد الكثير من حكومات العالم الإسلامي فيهم سوى «عناصر لا تطاق»، وبزوغ نجم «الطالحين» ممن لا يليق بهم اسم «علماء»، فإن التشخيص الحقيقي لكل ما يقع على الأمة الإسلامية من ابتلاء هو فساد العلماء. فالمؤلف يرى، كما يرى الجميع بنظرة بدهية، أنه إذا فسد العلماء فسد منهجهم وفسد منهج من ينقلون عنهم من الدعاة وطلبة العلم، وفساد المنهج يعني تخبط وتضارب الفتاوى والفُرقة بين أفراد المجتمع. وقد رأينا كم أثر تضارب مناهج العلماء في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم تعد هناك ثقة في فتواهم. بل في بعض بلداننا العربية لم تعد هناك قيمةٌ لهؤلاء العلماء والدعاة، ما أدى إلى اجتهادات خارج إطار القواعد التي أنزلها الله لتنظيم حياتنا بما ينفعنا، فبنى الناس على قواعد غير ثابتة، وبدأ البناء في التهاوي، ذلك أن فساد المنهج يعني أيضاً، كما يقول المؤلف نصاً: «انتشار سوء الخلق والتشدد، ويعني سوء سمعة الدين، ما يؤدي إلى بحث الناس عن مناهج أخرى تأويهم فيلجأون إلى المفاهيم الليبرالية واليسارية والعلمانية، أما غياب القدوة فتدفعهم إلى الارتباط بفئة الفنانين ولاعبي الكرة والإقبال على صحافة الفضائح والشائعات وتضييع الوقت فيما يغضب الله، ومن الطبيعي أن يصبح حكام هؤلاء ظالمين! فضياع المنهج يعني تفشي الظلم بين الناس، فيولي الله عليهم من هو مثلهم، فينتشر الفساد، فالحاكم الفاسد لا يعنيه إلا نفسه… فلا يعنيه شعبه أو أرضه أو كرامته، إنما هو الجاه والمال، فيفتح بلاده لأطماع الغرب وسيطرتهم ويفتح معها أبواب الذل والهوان فلا عزة إلا مع الله».

ويصل المؤلف إلى ما رآه نتيجةً حتميةً… إن السقوط يبدأ ويستمر حين يغمر قلوب العلماء حب الدنيا فيتبعون أهواءهم ويفتحون للشيطان مداخل يلهو فيها كيفما شاء. لكن المؤلف يجزم بأن سقوط الأمة الإسلامية يستمر بالمعاصي التي ترتكبها دون خشية أو شعور بمراقبة الله، وكأن الإنسان وُجِد في الدنيا ليقتطف منها ما يحلو له فيدهس بأرجله على جثث الآخرين من حوله غير ناظر تحت قدميه.

على أية حال، من الحري بمن يطلقون على أنفسهم «علماء» وهم يلهثون ليل نهار لتدمير المجتمع الإسلامي بأفكارهم الهدامة، أن يطلعوا على مثل هذا الكتاب وغيره، مع أن أولئك الذين لم يؤثر فيهم كتاب الله، لن تؤثر فيهم قطعاً مؤلفات يرون أن «عبقريتهم» أعلى منها بكثير.

سعيد محمد سعيد

أذناب «إيران» (2)

 

اختتمت المقال السابق بكلام للمفكر البحريني علي محمد فخرو، وأعيد نصه هنا للانطلاق إلى محاور أخرى في إلقاء الضوء على التهمة «العبيطة»:

«أذناب إيران»، وهي قول فخرو: «الاخوة الإيرانيون يلتزمون بوطنيتهم الإيرانية، والاخوة العرب يلتزمون بعروبتهم ووطنيتهم المحلية، ونحن سنة وشيعة نرفض أن ننجر في معركة هي أفضل ما تريده الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في مشروعهما الاستعماري الجديد. إن مصر التي قادت النضال في الأمة العربية والأمة الإسلامية من أجل تحريرهما ونهضتهما لا يمكن أبداً أن تضع نفسها في خندق الآخرين، ومن هنا الرجاء التام أن يكون التصريح فهم بخطأ لا ترضاه مصر لنفسها». (انتهى الاقتباس).

والسؤال: هل يمكن تتبع منشأ هذه التهمة؟ وفي أي ظروف ولدت؟ هل هي من نتائج الثورة الإيرانية أم قبلها؟ إن معرفة منشأ التهمة أمرٌ في غاية الأهمية، ذلك أن انتشارها بالشكل الذي نراه اليوم، لا يمكن أن يكون محصلة طبيعية – فقط – لعنوان «تصدير الثورة الإيرانية». ولست مراوغاً هنا في القول أن كل جماعة، أياًً كان انتماؤها المذهبي والسياسي، تتصل فكرياً وسياسياً وثقافياً بمشروع ثورة في أي مكان في العالم ويثبت عليها ذلك فهي من توابع تلك الثورة، أذناباً أم أنصاراً أم خلايا نائمة، لكن أن تلصق بها التهم هكذا جزافاً فهذا من باب «الاستحمار» دون شك.

نعود للسؤال: هل يمكن تتبع منشأ تهمة «أذناب إيران» المفروضة على المسلمين الشيعة في عالم اليوم؟ هنا، يجدر بنا أن نشير إلى سلسلة أبحاث طرحها الكاتب العراقي عبدالخالق حسين تحت عنوان «الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق»، تناول فيها جانباً تاريخياً مهماً إبان احتلال العراق من قبل الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وفيه شكل واضح من أشكال نشأة التهمة، فقد قاوم أبناء العشائر الشيعية، وبفتاوى علماء الدين، الإنجليز في حرب الجهاد، ومن ثم ثورة العشرين، الأمر الذي دفع الإنجليز ومن ناصرهم من العراقيين الذين حكموا العراق، إلى معاداة الشيعة وحرمانهم من المشاركة في السلطة.

ويستطرد الكاتب بالقول: «ولذلك عندما أصدرت الحكومة العراقية (والتي ترأسها آنذاك أناس ممن خدموا في الدولة العثمانية)، قانون الجنسية العراقية في العام 1924، قسمت العراقيين آنذاك إلى قسمين: تبعية عثمانية وتبعية إيرانية، واعتبرت التبعية العثمانية مواطنين من الدرجة الأولى، والتبعية الإيرانية مواطنين من الدرجة الثانية، وهم الشيعة وبالأخص من سكان الجنوب والوسط الذين كانوا يعانون الأمرين في الحصول على الجنسية والوظائف في مؤسسات الدولة، وليأتي بعد نحو خمسين سنة نظام فاشي يستغل هذا القانون المفرّق فيتخذه ذريعةً للتعبير عن حقده الطائفي، فيهجِّر مئات الألوف من الشيعة من العرب والأكراد الفيلية بحجة التبعية الإيرانية، ويلقيهم على الحدود الإيرانية الملغومة أثناء الحرب بعد مصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، وحتى وثائقهم الرسمية من شهادات دراسية وغيرها التي تثبت عراقيتهم، ويحجز عشرات الألوف من شبابهم، وخاصة الكرد الفيلية، ليعدمهم فيما بعد بالجملة ويدفنهم في مقابر جماعية، بينما لم يتم تهجير مواطن واحد من أصل تركي أو هندي أو أفغاني أو باكستاني، مما يدل على أن سبب التهجير كان طائفياً دون أي شك، الغرض منه تغيير ديموغرافية العراق، حيث رافق تلك الحملة استيراد نحو أربعة ملايين من البلاد العربية».

وما جرى بعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958 من حملات هستيرية، ومؤامرات ضد الشعب العراقي وحكومته الوطنية، تكررت الحملة ذاتها بعد سقوط حكم البعث الفاشي في العراق في العام 2003، حيث تصاعدت تهمة الشعوبية والحملة الطائفية ضد الشيعة، وجن جنون الطائفيين العرب ووسائل إعلامهم، بمن فيهم زعماء دول عربية كبرى، حيث راحوا يثيرون مخاوف العرب من بعبع «الهلال الشيعي»، و»الدولة الشيعية»، و»الهيمنة الإيرانية على العراق»! بينما الذي يجري في العراق هو السعي الحثيث لبناء نظام ديمقراطي حقيقي، على أساس دولة المواطنة، يتمتع فيها جميع أبناء الشعب بالمساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، دون أي تمييز عرقي أو ديني أو مذهبي.

كما وتصاعدت حملة الطعن بعراقية ووطنية السياسيين الشيعة وحدهم، واعتبر كل سياسي شيعي هو طائفي ما لم يساهم في اتهام الشيعة بالطائفية، ولم يتركوا سياسياً شيعياً إلا ونسبوا له لقباً إيرانياً، وطعنوا حتى في شهاداتهم الأكاديمية.

في كتابه «أبحاث مختارة في القومية العربية»، وتحديداً في جزئه الأول صفحة 95، كتب ساطع الحصري «إن كل شعب يتكلم العربية هو شعب عربي، ومن ينتسب إلى شعب من هذه الشعوب العربية، هو عربي…الخ»، ولكن المشكلة عند الحصري أنه عندما تعود المسألة للشيعة العرب في العراق، فيصفهم بالعجمة ويعاملهم كعجمٍ معادين للعرب وليسوا من بلاد الرافدين!» (الفصل السادس من هذا الكتاب).

ختاماً.. فإن الإطالة في استحضار المزيد من القراءات والآراء والأبحاث في منشأ التهمة السخيفة لربما يأخذ صفة التشعيب والتعقيد الذي لا طائل من ورائه طالما أن هناك عقولاً قبلت التهمة بوصفها «ثابتة بالمطلق»!

لا بأس.. فحين يتم ضبط خلايا شيعية هنا، أو مجموعة شيعية هناك في أي قطر، بالأدلة الدامغة على تآمرها مع إيران، فلهم أن يسموهم بما شاءوا من تسميات «أذناب إيران، فئران إيران، روافض إيران»، أما أن تلتصق تلك التهمة بتمامها وكمالها على كل مسلم شيعي في أي مكان في العالم، فذلك من قبيل «قمة الاستحمار السياسي الطائفي»، وذلك أيضاً أفضل ما تريده الولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل» في مشروعهما الاستعماري الجديد، وهو درسٌ قدّمه المفكر البحريني علي محمد فخرو لكل عقل يرفض «الاستحمار».

سعيد محمد سعيد

«أذناب» إيران

 

هل تدرك حكومات دول المنطقة، بل قل الحكومات العربية والإسلامية قاطبة إن شئت، مخاطر «تكريس» تهمة انعدام ولاء الشيعة لأوطانهم واعتبارهم، ضمن اسطوانة مقيتة، بأنهم أذناب لإيران؟ وهل هناك «مكاسب محددة» من وراء الترويج لهذا الاتهام بأدلة واهية مكررة لا تكاد تصمد؟ وأيهما أفضل، تعزيز المواطنة الكاملة لجميع المواطنين، أم إبقاء التهمة قائمة دون نظر إلى انعكاساتها الخطيرة، والتي اعتمدتها الكثير من الوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية وشخصيات خليجية وعربية وإسلامية؟

وهل يعقل أن يتم اعتماد حجج وبراهين للتشكيك في ولاء الشيعة بناءً على انتمائهم المذهبي، أو وفقاً لنشاطهم المعارض للحكومات، وكذلك اعتبار وجود مرجعية فقهية في إيران يقلدها ملايين الشيعة في العالم، على أنها شكل من أشكال الولاء المطلق إلى إيران؟ وتجاوزاً، هل يمكن قبول وجود مجموعات شيعية لها ولاء لإيران وتخابر وتنسيق، على أنها التهمة الشاملة الكاملة لكل الشيعة في العالم؟

قائمة التساؤلات المشروعة لا يمكن أن تكون محدودة… فيما في المقابل، يتوجب على الشيعة في دولهم أن يثبتوا دائماً أن ولاءهم لأوطانهم، وعلى كل مواطن شيعي متهم أن يقدم قرابين الولاء دائماً وأبداً… وفي الغالب تخضع تلك المواقف لعناوين التقية والكذب، وكذلك اعتماد «التشكيك لا محالة»! وهذا الوضع له تأثيره البالغ على استقرار النسيج الاجتماعي الوطني، وبدلاً من أن تتجه تلك الدول والحكومات لقطع الطريق على من يستهدف التشكيك في انتماء الشيعة، وإدماجهم، حالهم حال كل الطوائف، تحت إطار المواطنة الكاملة والحقوق السياسية والاجتماعية والدينية، تفسح المجال لخطاب إعلامي وديني متطرف ينال من المواطنين الشيعة… فهم «أذناب إيران» لا محالة. كل ذلك لا يحل المعضل الكبير بل يزيده تعقيداً، أما الحل، فهو من السهولة بمكان: يمنع التشكيك في انتماء أي مواطن، ويقدم إلى المساءلة القانونية كل من يتعمد التشكيك في ولاء وانتماء وحقوق أي مواطن.

الشيعة في الخليج، وفي كل الدول العربية والإسلامية، لهم وجودهم قطعاً، وربما اختلف الوضع في منطقة الخليج العربي ليتأسس على الوجود التاريخي، وفي مقابل هذه الحقيقة هناك تهمة أخرى أكبر… الشيعة على مر التاريخ أيضاً متآمرون وخونة، ويريدون بالأمة الإسلامية شراً، وهو كلام لا يعدو كونه شنشنة أخزم.

بأدنى مستوى من الجهد، يمكن رؤية المدى الشاسع لمراحل انتقال التهمة من على ألسنة البعض، ألا وهي (أذناب إيران)، إلى خطابات وشخصيات معتمدة في الكثير من وسائل الإعلام. نعم، لا يمكن اعتبار وسائل الإعلام في فضاء مفتوح بأنها ليست مسئولة، وفي ذات الوقت، لا يمكن القبول بالتمادي الواضح في وضع الشيعة تحت هذا الاتهام.

ويمكن أيضاً تحديد أكثر العبارات شيوعاً: «الشيعة هم أذناب إيران… ينفذون تعليمات ولاية الفقيه، فلا وطنية ولا انتماء لهم لأوطانهم… يخططون منذ عقود للنيل من أهل السنة… حقوقهم مصانة محفوظة من جانب حكوماتهم، لكنهم يتآمرون مع إيران من خلال شبكات تجسس وأعمال عنف وتخريب… الشيعة ينتظرون ساعة الصفر… هناك جيش شيعي على أهبة الاستعداد… خلايا نائمة موزعة في دول المنطقة، يسعون لتطبيق النموذج الإيراني في دولهم.. إيران هي التي تمول مؤامراتهم وأعمالهم التخريبية… لابد للحكومات من أن تكشف خطر الشيعة.. و..و..و..».

لعل السؤال الذي يطرح نفسه :»ما هي الفائدة التي ترجوها الحكومات إن سعت لإبقاء تهمة «أذناب إيران» على الشيعة؟ ثم ما هي الفائدة التي يمكن أن تحققها لو ألغت هذه التهمة العقدة وأعادت بناء جسور الثقة بلا فواصل مع الكيانات الشيعية الدينية والسياسية والاجتماعية، ورفضت بحزم، أن يشكك أي طرف في انتماء الشيعة؟»، بلا شك، فإن إبقاء التهمة ينضوي تحت عنوان المخاطر المستمرة في تجزيء المجتمعات، فيما بناء الثقة سيعود قطعاً بالنفع على تلك الحكومات، وليس من المعقول أن تصب هذه الحكومة أو تلك جام غضبها وخلافاتها مع إيران على الشيعة، أو أن تلصق بهم التآمر والتخطيط والعمل على قلب الأنظمة وما إلى ذلك من اتهامات، دونما أن يكون هناك نهاية منطقية لمثل هذه التهم المتراكمة المؤثرة على الداخل الوطني في ظل وضع إقليمي مضطرب.

لكن، ماهي حقيقة الانتماء الوطني للمواطنين الشيعة في أوطانهم؟ الحقيقة الواحدة المطلقة التي تعرفها الحكومات المشككة في ولاء مواطنيها الشيعة، أو لنقل أقطاب قوى في تلك الحكومات، ويحاولون تدميرها وإحلال تهمة «أذناب إيران» محلها، هي أن الشيعة على مر التاريخ كانوا ولا يزالون ركنا رئيساً في الأمة، مهما كانت مستحدثات الاتهام الجيوسياسي إن جاز التعبير.

حسناً، سأعود بالقاريء الكريم إلى شهر أبريل/نيسان من العام 2006، لأقدم نموذجاً سيئاً للغاية، وهو الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك حينما أطلق اتهامه الشهير للشيعة بالولاء لإيران، وكانت ردود الفعل قوية دون شك، سواء اعتبرها البعض تقية أم كذباً أم خداعاً، لتتمحور على أنه لا مجال أبداً للتشكيك في ولاء الشيعة لأوطانهم وأن مثل هذه الاتهامات أن هي جزء من مخططات الفتنة، أليس كذلك؟

نعم هو كذلك، ومن أجمل وأعمق الآراء التي طرحتها الصحافة في رصدها لردود الأفعال آنذاك، ما نقل عن المفكر البحريني علي محمد فخرو الذي قدم توصيفاً عميقاً بقوله :»أنا أتمنى أن هناك سوء فهم كبيراً لهذا التصريح من قبل الذين أعلنوه، ولكن في جميع الأحوال أعتقد أنه من الضروري التذكير بأنه في العراق تأسس الحزب القومي العربي (حزب البعث) من قبل شيعة العراق أولاً، لتمسكهم بعروبتهم وأمتهم العربية، وفي الحرب العراقية الإيرانية مات عشرات الألوف من الشيعة، وهم يدافعون عن وطنهم وعن عروبتهم، وفي لبنان كان الشيعة هم الذين حرروا جنوب لبنان من دنس الصهيونية باسم عروبة لبنان وباسم الإسلام، وفي البحرين كان الشيعة أول من صوَّت لعروبة البحرين عند استقلالها من الاستعمار البريطاني، وأول من أسند بقاء الحكم العربي في هذه الجزيرة».

ولنركِّز على فقرة من قول المفكر فخرو لنطبقها على واقع اليوم، ولنعرف أبعاد تهمة «أذناب إيران» :»الأخوة الإيرانيون يلتزمون بوطنيتهم الإيرانية، والأخوة العرب يلتزمون بعروبتهم ووطنيتهم المحلية، ونحن سنة وشيعة نرفض أن ننجر في معركة هي أفضل ما تريده الولايات المتحدة الأميركية و»إسرائيل» في مشروعهما الاستعماري الجديد. إن مصر التي قادت النضال في الأمة العربية والأمة الإسلامية من أجل تحريرهما ونهضتهما لا يمكن أبداً أن تضع نفسها في خندق الآخرين، ومن هنا الرجاء التام أن يكون التصريح فهم بخطأ لا ترضاه مصر لنفسها».

للحديث صلة…

سعيد محمد سعيد

طوفان غضب «محمدي»

 

«براءة المسلمين»… كان ذلك هو الاسم المقترح للفيلم المسيء الى خاتم الأنبياء والرسل نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الكرام المنتجبين، والى الدين الإسلامي! والذي تسببت مقاطعه الفجة الساقطة الى غليان غضب في الأمة الإسلامية بدأ بانتقام، غير مبرر ووحشي، بقتل السفير الأميركي في ليبيا كريس ستيفنز وثلاثة موظفين اميركيين مساء الثلثاء (11 سبتمبر/ أيلول 2012)، وتحول ايضاً الى طوفان استنكار وغضب، مبرر ومشروع، في كل الدول الإسلامية تفاوت من حيث الشدة والحدة.

مسلسل الإساءة للدين الإسلامي ولرموزه لم يعد شكلاً مستغرباً من أشكال إظهار العداء للدين ولأتباعه! ولا يمكن اعتبار هذه الحملات المسعورة محدودة في أهداف كيانات ومجموعات معادية للدين الإسلامي، بل تدعمها دول وتمولها ثم تدعي بعد ذلك احترامها لهذا الدين كما هو حال الولايات المتحدة الأميركية ذاتها… لكن جملةً صريحةً أراها بارزة: «نعم هناك حملات ممنهجة للإساءة الى الإسلام من قبل الغرب… السؤال: هل لدى الدول الإسلامية اعلام يحمل خطاباً معتدلاً يواجه كل تلك الحملات؟ أبداً! بل يوجد مقابل ذلك نمو مذهل لظاهرة (إعلام الفتنة) لزرع الشقاق والخلاف والتناحر بين أبناء الأمة الإسلامية، حتى أن هناك قائمة من مشايخ الطائفية أصبحت معروفة لدى ملايين المسلمين… مهمتها إكمال الجزء الرئيس من حملات العداء الغربية، من خلال تدميرها المجتمع الإسلامي من الداخل واثارة العداوات وخصوصاً بين المسلمين سنة وشيعة، وبين المسلمين والمسيحيين، بل وبين أبناء طائفة بعينها».

هناك الكثير من خبايا الفيلم المسيء الذي أشعل الأمة الإسلامية غضباً… وحسناً فعل أبناء الأمة بحشودهم المليونية السلمية التي أوصلت رسالة، ليفهمها من يفهمها وليتجاهلها من يتجاهلها، مفادها أن رمز الإسلام العظيم «محمد» عليه أفضل الصلاة والسلام، لم يترك خلفه أمة ستبقى الى آخر عهدها خانعة… ميتة… يائسة! هي تحيا من جديد لتواجه الظلم والاستبداد والجور ومخططات النيل من دينها.

من بين تلك الخبايا، ما كشفته مجلة «هوليوود ريبوتر» الأميركية المتخصصة في السينما الأسبوع الماضي، حينما تحدثت عن الفيلم شديد الرداءة مضموناً واسلوباً وتصويراً وخدعاً سينمائية ساذجة، ووصفته بأنه من المستحيل أن يكلف 5 ملايين دولار! والملفت للنظر، أن المجلة استطاعت الوصول الى ممثلة مغمورة تدعى (ساندي لي غارسيا) من مواليد كاليفورنيا وتبلغ من العمر 46 عاماً، شاركت بدور ثانوي في (حفلة الزار الأميركية ضد الإسلام)، بعد أن قرأت اعلاناً في مجلة (باسكيتيدج) عن طلب ممثلين لفيلم «محاربي الصحراء» وهو فيلم يتحدث عن مغامرات في الصحراء العربية، وأعلن عن أنه سيحتوي على بعض المشاهد العارية.

وبحسب المجلة: «ظهرت ساندي غارسيا مرة أخرى على القناة العاشرة الإسرائيلية، لتؤكد أن «العبارات التي نطقها الممثلون أثناء أداء أدوراهم كانت مختلفة وتم دبلجتها وتغييرها، بحيث أصبح الفيلم عن الإسلام والرسول»، فمثلاً ورد لفظ الله على لسانها في لقطة من الفيلم، ثم سمعتها على لسانها نفسه «محمد» بعد الدبلجة، وأضافت أن المخرج «باسيلي» (ويعتقد أنه اسم مستعار)، اتصل بها قبل 6 أشهر، وطلب منها إعادة بعض العبارات من جديد، لسماعها في الفيلم بطريقة أفضل، ويبدو أنها نطقت كلمة «محمد» في الإعادة دون أن تعي ما يقصد بها، فتم إدخال كلمة «محمد» بكل عبارة ورد فيها الاسم على لسانها، وهذا ما حدث مع بقية الممثلين. (انتهى الاقتباس).

مثل تلك التبريرات لا تصمد! حتى ادعاء وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بأنها لا تعلم شيئاً عن الفيلم (السخيف) لا تصمد أيضاً! بيد أننا كمسلمين أمام مأزق كبير، فالغرب والشرق، عاكفان على نشر الصور المغلوطة عن الدين الإسلامي… الغرب افتقد الرغبة في التعرف على حقيقة الدين الاسلامي، واستسلم للصورة التقليدية عنه والتي قامت وسائل الاعلام التي يسيطر عليها اللوبي اليهودي بتكريسها، ولم يسع لمعرفة الصورة الصحيحة عن الاسلام من مصادره الأصلية، مكتفياً بكتب مغرضة ومحرفة وتفتقد الموضوعية تقف وراءها جهات معادية للدين الاسلامي، وبعضها الآخر (معتمد)، لكنه احتوى من الإساءات للدين الإسلامي ولخاتم الرسل (ص) ما جعلها مؤلفيها بمثابة (نصوص صحيحة وأسانيدها من الثقاة)! فيما فشل الإعلام الإسلامي في الوصول للغرب وفي إيجاد آليات للتعريف بحقيقة الاسلام وتعاليمه هناك، ولم يتبن أية خطط جادة لتوضيح مبادئ وتعاليم الاسلام التي تحترم الآخر ولا تقر الاعتداء عليه.

بيانات الشجب والاستنكار والمظاهرات التي اجتاحت الأمة الإسلامية صورة محمودة قطعاً، لكن الخطر على الهوية الإسلامية – من وجهة نظري المتواضعة – هي من الداخل الإسلامي! فهناك اقطاب طائفية لاتزال تنفخ بقوة في نار الطائفية والصدام بين المسلمين وسائر أتباع الديانات السماوية بصمت رهيب من الأنظمة، كما أنها تحظى بالدعم من خلال مدد مالي وإعلامي متعدد الاتجاهات… حتى أن بعض أولئك انتهز الغضب العارم ليترك الفيلم وما سبقه من حملات عدائية، ويتفرغ لإثارة سمومه في المجتمعات الإسلامية بين السنة والشيعة.

سعيد محمد سعيد

الحكومات تذهب… وتبقى الشعوب

 

طرح الكاتب وحيد عبدالمجيد، في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، مقالاً عميق المعاني بعنوان: «ديمقراطية عربية بدون ثورات»، ولعل الكاتب أخضع التجربة المغربية تحت المجهر، انطلاقاً من الاستفتاء على الدستور المغربي ليقول (إن التغيير ممكن عبر الإصلاح التدريجي، وإن الانتفاضات والثورات الشعبية الجذرية ليست الطريق الوحيد للتحول نحو الديمقراطية في العالم العربي)، لكن الكاتب قال أيضاً، استناداً على التجربة المغربية، إن العاهل المغربي (تفاعل) مع المطالب الديمقراطية التي طرحها بعض الشباب عبر «الإنترنت»، حيث اعتبر الكاتب مطالبات الشباب جاءت اقتداءً بمجريات الحركات الشبابية كما هو الحال في دول المطالبة بالحقوق المشروعة، والموسومة بمسمى (الربيع العربي).

لقد اتجه الكثير من المفكرين والكتاب إلى بحث أساس ومنطلقات المد الشبابي العربي الجديد المطالب بالتحول نحو الديمقراطية… من قاعدة أن الحكومات تسقط… وتعيش الشعوب، حتى أن الكاتب وحيد عبدالمجيد، بطرحه للنموذج المغربي أشار إلى هذه الجزئية، بقوله (إن تحول هذا النمط المغربي إلى نموذج عربي يتطلب استمرار المنهج الإصلاحي على مختلف المستويات، من الدستور والسياسة إلى المجتمع والاقتصاد، وفتح أبواب المؤسسات أمام الشباب الذي مازال بعضه غاضباً حتى لا يبقى الشارع ملجأه! إنه نموذج التحول الديمقراطي بدون ثورات، ذلك الذي يمكن للمغرب أن يقدمه في الفترة المقبلة». (انتهى الاقتباس).

ولعلني أنقل للقارئ الكريم أيضاً رؤية الكاتب شاكر النابلسي (منتدى الحوار المتمدن)، الذي ناقش الكثير من الأفكار التي وردت في كتاب أستاذ علم الاجتماع في جامعة البحرين، الباحث والمفكر البحريني باقر سلمان النجار، الذي حاز كتابه «الديمقراطية العصية في الخليج العربي» على جائزة الشيخ زايد آل نهيان للكتاب، فالنابلسي طرح سؤالاً مهماً: «هل الديمقراطية في الخليج العربي عصيّة حقاً؟»، ليسترسل في القول إننا ندرك إشكالية الديمقراطية في الخليج العربي خاصة فهي إشكالية اجتماعية، قبل أن تكون إشكالية سياسية! بمعنى أن تحقيق الديمقراطية في الخليج، أو في أي بلد على سطح هذه الكرة، لن يتم إلا إذا شعر جميع المواطنين دون استثناء، أن هذا الوطن هو وطن الجميع، وهو مُلك الجميع، وليس وطن أو مُلك فئة معينة من الناس، وأن دولة الوطن، هي دولة الجميع، وليست دولة فئة معينة من الناس، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع المدني الحديث، ويقضي هذا الأساس، إقامة نوع من الاتفاق أو «العقد الاجتماعي»، الذي يساعد الشعب على الانتظام في دولة واحدة، وبذا يكون المجتمع المدني بكل بساطة – كما يقول عالم الاجتماع العراقي فالح عبدالجبار في كتابه «المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب»، ص 11» – «هو كل تجمع بشري خرج من حالة الطبيعة (الفطرية) إلى الحالة المدنية، التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي… وبذا، فإن المجتمع المدني هو المجتمع الذي يُعبِّر عن كل واحد فيه، وهو كلٌ يضمُ المجتمع والدولة معاً. (انتهى الاقتباس).

ولكن، ما هو المقدم في الولاء، هل الولاء للأوطان، أم للحكومات؟ وخصوصاً في ظل وجود من يروّج لفكرة أن (من لا يحب الحكومة، فهو خائن للوطن) مع الفارق الكبير بين الحكومات والأوطان… الولاء للأوطان قطعاً، وليس للحكومات التي تُستبدل وتبقى الأوطان والشعوب.

وفي هذا المحور، يرى الباحث عبدالفتاح ماضي (منتدى المعرفة) في بحثه القيم: «بناء النظم الديمقراطية العربية»، أن من أهم أولويات ومطالب الحراك الشعبي العربي الراهن التي تحتاج إلى معالجات سياسية ودستورية مسألتا الإرث الاستبدادي الذي خلفته نظم حكم الفرد، والحالة الثورية وتصور البعض أنه بالإمكان تحقيق كل شيء عبر النزول إلى الشارع… هذا بالطبع بجانب إشكالية الهُوية والمرجعية العليا للنظام السياسي، وأوجه الفساد والإفساد، وضعف النخب السياسية، ودور المؤسسة العسكرية، وعدم ثقة الناس في السياسة والسياسيين، إلا أن مقابل هذا الطرح، يرى كاتب آخر هو باسم الجسر في مقالته: «(الطريق الصعب إلى الديمقراطية – صحيفة «الشرق الأوسط» – 20 يوليو/ تموز 2011)، فالأخير يرى أنه يمكن أن تنطلق جهود معالجة الإرث الاستبدادي من تعريف الديمقراطية من حيث هي ترتيبات مؤسسية وآليات لضمان الحكم الصالح عن طريق تقييد سلطة الحكام وتعزيز مشاركة الجماهير في الشأن العام.

ويأتي على رأس هذه الآليات والترتيبات استقلال القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية استقلالاً تاماً، وقيامه بدور الرقابة القضائية في تقييد سلطة الحكام من خلال دور مجلس الدولة والقضاء الإداري في الرقابة على مشروعية أعمال السلطة التنفيذية ومنع تعسف الإدارة في تنفيذ القوانين، ودور المحكمة الدستورية العليا في الرقابة على دستورية القوانين للحيلولة دون مخالفة البرلمان نصوص الدستور.

أما ثاني هذه الترتيبات فهو تجنب النظم الرئاسية على النمط الأميركي، فهي لا تصلح للدول العربية نظراً للإرث الفردي والخوف من تشكيل مراكز نفوذ جديدة حول الرئيس الجديد. ولهذا فقد يكون تبني النظام شبه الرئاسي هو الأنسب نظراً لحاجة هذه الدول إلى انتقال سلمي واضح للسلطة لرئيس منتخب، وحاجتها، في الوقت ذاته، إلى تقسيم السلطة التنفيذية بين الرئيس المنتخب والوزارة التي يجب أن يشكلها حزب (أو أحزاب) الأغلبية في البرلمان الذي يقوم بدوره بمراقبة أعمال الوزارة، ومع تحديد واضح لصلاحيات كلٍّ من الرئيس والوزارة.

ويطرح الجسر محوراً مهماً يتعلق بوسائل تمكين الشباب، والمواطنين بشكل عام، من ممارسة السلطة، عن طريق تبني النظم الجديدة بعض مظاهر الديمقراطية، فبجانب استخدام أسلوب الاستفتاء الشعبي مع وضع الضمانات اللازمة لحصره في القضايا الجوهرية ومنع إساءة استخدامه لتجاوز دور البرلمان، يمكن تبني الاقتراح الشعبي الذي يسمح للناخبين باقتراح مشروع قانون ورفعه للبرلمان لمناقشته فإذا تم إقراره أو رفضه، يعرض على الشعب لاستفتائه فيه، كما الحال في سويسرا وكندا.

الجانب المهم، كخلاصة، هو أن الديمقراطية الحقيقية تسهم في إعادة ثقة الناس بالسياسة، وفي دفع المواطنين إلى الاهتمام بالشأن العام وزرع الأمل فيهم بإمكانية تغيير السياسات والأشخاص، بجانب تحسين أداء الحكام ونوعية الحكم الديمقراطي… وخلاصة الخلاصة: العدالة الإجتماعية التي هي ضالة الشعوب المحرومة منها… فالحكومات المستبدة ستسقط حتماً، أما الشعوب فهي الباقية وستحقق تطلعاتها.

سعيد محمد سعيد

صاحب الفضيلة «…»!

 

أرسل له أحدهم بكحلة البذاءة مكتوباً قصيراً كتب فيه: «لقد أقضت مضجعهم… زين تسوي فيهم»… فما كان منه إلا أن أجابه بعبارةٍ تناسب صاحب الفضيلة بكل ما في قلبه من غل وقذارة: «أنا ثابت… لا أحيد عن مبادئي في الخسة والنذالة والوقاحة»… متناسياً أنه – من شدة فجاجته ورعونته ونتانة الوحل الذي تربى فيه – أساء إلى الناس عامداً قاصداً ترويج بضاعته الكاسدة بلا حياء ولا أدنى خلق، فما كان من الناس الغيورين إلا أن ألقموه حجراً، لكنه استمر في نباحه.

صاحب الفضيلة «الوقح»، وجد نفسه ذات ليلة مظلمة حالكة السواد، مترنحاً… مسهداً يخير نفسه على خطرين: (إما أن أنال لقب صاحب السعادة والفضيلة والوجاهة، أو أنني سأبقى متمسكاً بما نشأت عليه من عفن! وفي كلا الحالتين، لابد لي من أن أحظى بأمنيتي تلك حتى وإن كانت مقرونة بالـ «وقح»).

تنقل صاحب الفضيلة من وادٍ الى وادٍ، ومن يراع إلى يراع، وبذل كل ما في وسعه من نفاق وتملق لأن يكون له موضع قدم في مرتبة «علية القوم»، فلم يكن نصيبه من كل تعبه ونصبه ومشقته إلا المزيد من الازدراء والفشل! وأشد ما كان يؤلمه، وهذا هو الأمر العجيب المستغرب، أنه اكتشف أن من حوله كلهم من ذات طينته! العفن عفن، والمنافق منافق، والأحمق أحمق، فضجّ وهاج وماج، وزاد وجده وانكساره لكنه قرر أن يستغيث بواحدةٍ من أدهى ساحرات الدنيا… علّها تشور عليه مشورة ينال فيها ما تمنى.

«سيدتي العظيمة… يا أعظم ساحرات الكون… جئتك (بائعاً ومخلصاً)… لقد اسوّدت الدنيا في عيني وألهبتني سياط المذلة والإخفاق، فهل لك أن ترشديني إلى طريق خلاصي فأكون لك عبداً مطيعاً مؤتمراً بما تأمرين… أنت تفصّلين وأنا ألبس… سيان عندي إن كنت أنت الراعية وأنا الكلب الأمين… أم أنت الكلبة وأنا العظم اللعين»… قالها وانحنى ينتظر منها أن تنطق ببنت شفة.. لكنها صمتت! وطال وقت صمتها وهو ينتظر منحنياً علّها ترأف بحاله.

رمقته بنظرة فيها من الخبث ما يليق به ثم قالت: «لعمري لم أرَ في حياتي أسود وجه مثلك؟ أفبعد أن تشرّق وتغرّب… وتخيط وتبيط… تأتيني طالباً المشورة وأنت تعلم سلفاً، ومنذ سنين، أنني في حاجة إلى شخص مثلك؟ ها… أتريدني الآن أن أحشّد عليك عفاريتي فيجعلونك قديداً يرمى لوحوش البيداء… ها… هيّا اخرج… اغرب عن وجهي فما بلغني عنك من رغبةٍ عارمةٍ في أن تسحب البساط من تحت قدمي وتصبح أنت المقدّم عليّ… يجعلني أمقتك وأحتقر شأنك الحقير أصلاً».

«لا يا مولاتي… من أبلغك عني تلك الأكاذيب؟ إنما أنا منك وإليك… نعم، أخذتني الدنيا عنك قليلاً ولكنني إنما كنت أستعد لأن أُبلى بلاءً حسناً في سبيل نيل رضاك… بس عاد سامحيني… لقد أحدث كلامك في فؤادي شرخاً ما أحدثه شارخ… وقطع نياط قلبي بأشد ما ملكه جزّار من سواطير المطابخ… حتى لكأنني أهيم بين الناس صارخاً بعويل ما صدر من صارخ… تكفين يا مولاتي تكفين، فإنني من يدك هذه إلى يدك تلك… اِؤْمُريني ستجدينني رهن إشارتك».

تصاعد الدخان من مجمرة وضعتها الساحرة أمامها بعد أن رمت فيها ما رمت ثم قالت له مهددةً متوعدة: «سيكون لك ما أردت على ألا تعصي لي أمراً، ولا تفشي لي سراً، فإنك تعلم من أمري ما تعلم… أونسيتَ عفاريتي؟ أونسيتَ أنني إن أردت أن أكويك بجحيم سحري فإنّ أنهار الدنيا لن تطفئ حريقك…».

قفز ثم عاد لينحني: «بلى… بلى… أعلم كل ذلك؟ وهل أنا إلا مخلوق لا وجود لي إلا بوجودك… فَأمُري ما تشائين»… نبشت الساحرة في خرقة من القماش وضعتها قرب تكيتها وأخرجت منها كيساً حريرياً ألقته إليه وقالت: «خذ… في هذا الكيس، تعاويذ الشر… ليس عليك إلا أن تندسّ بين الناس وتنشر العداوة بينهم… وإذا وجدت الأحبة مجتمعين فاستخدم تلك التعاويذ لتفرق بينهم… وإن وجدت البشر في وئام، فدمر ما بينهم من ود… اسعَ سعيك وكد كيدك… فستجد فيما تفعل ما تأمل… وأراك بعد حين من الزمن… وقد جئتني بما يثلج صدري ويفرح فؤادي مما صنعت… هيا اذهب».

خرج ولم يعد… خرج وغاب طويلاً… لكنه بعد طول غياب عاد مرتمياً بين يدي الساحرة… صرخت: «ماذا دهاك… أصدقني القول؟ هل فعلت ما أمرتك؟»… ردّ وهو يهزّ رأسه بجنون: «نعم يا سيدتي… نعم… لقد نالني مما أمّلت ما نالني… أصبحت يا سيدتي… صاحب الفضيلة«…».

* هي قصة من خيال الواقع… فاختاروا من دلالاتها ما شئتم!.