سعيد محمد سعيد

لكي «لا ينجح» الحوار!

 

في العادة، يتداول المهتمون بالشأن السياسي، في كل مكان في العالم، وفي كل دولة تواجه أزمةً واضطراباً سياسيّاً… يتداولون ويتباحثون في أسس نجاح حوار ينهي تلك الأزمة ويعيد الأمور إلى نصابها باتفاق بين سلطة ومعارضة، لكي تتعافى الدولة وتبدأ مرحلة جديدة من العمل السياسي، لكن أن يكون التداول والتباحث في محور (لكي «لا ينجح» الحوار)، فهذا ما يمكن أن يوصف بأنه مؤشرات مسبقة لبقاء الأمور على ما هي عليه، بل ولربما تعقدت الأزمة وتشعبت وتضاعفت تبعاتها الخطيرة، وهذا ما يمكن أن توصف به حالة الحوار في بلادنا.

حتى اللحظة، لا يمكن لأي طرف أن يقدم قراءة واضحة لأسس الحوار الوشيك، وما إذا كان سيؤدي إلى إنهاء الأزمة السياسية في البلد أم لا؟ وحتى اللحظة أيضاً؛ ليس ممكناً تقديم ما يؤكد أن حوار التوافق الوطني الذي انعقد في شهر يوليو/ تموز 2011 قد أسهم فعلاً في وضع أسس وتوافقات لانطلاق سلسلة من الحلول، حتى يستكمل خطوة بخطوة! والأكثر تعقيداً من غياب القراءة الواضحة، هو الحيرة في وصف «المعارضة» التي هي ذاتها القوى السياسية وائتلاف شباب 14 فبراير، وهي ذاتها التي قادت حركة الاحتجاجات المطلبية طيلة عامين من عمر الأزمة، وهي ذاتها التي استخدمت تكتيكاتها السياسية في طرح مرئياتها المشتركة للمطالب وضمنتها «وثيقة المنامة»، وهي ذاتها التي صمدت بإصرار على تقديم الحل السياسي على الحل الأمني… هي ذاتها القوى المعارضة التي يجب أن تمثل الركن الرئيس في الحوار مع الحكومة. هل هي معارضة وطنية سياسية معترف بها؟ أم هي «ذراع خيانة» متصل بالخارج؟

أمامنا الآن معضلة معقدة تضاعف تعقيد قراءة الوضع المستقبلي للأزمة وآفاقها، ووفق، على الأقل، تصريح وزيرة الدولة لشئون الإعلام، المتحدث الرسمي باسم الحكومة سميرة رجب في تصريح نشرته «الشرق الأوسط» السعودية الخميس (24 يناير/كانون الثاني 2013)، فإن الحكومة «ستشارك في مؤتمر الحوار السياسي كمنسق لبرامج وفعاليات الحوار»، وهذا يعني في تصوري، غياباً حقيقيّاً للسلطة حين تكتفي بكونها «منسقاً لبرنامج مؤتمر»! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، الحكومة ستتولى تنفيذ التوصيات (التي سيتم التوافق عليها)، وماذا أيضاً… (لن تشارك في الحوار كطرف مقابل ماذا)… مقابل المعارضة السياسية. اذن، هناك معارضة سياسية معترف بها، وهناك أزمة، وهناك مرحلة مقبلة لتنفيذ توصيات ما… لكن الحكومة لن تشارك! هنا، يمكن أن نعطي دلالة منطقية على ما يمكن اخضاعه تحت مقولة «لكي لا ينجح الحوار»… أليس كذلك؟

في الحقيقة، لسنا في مرحلة تستدعي أن نتفنن في لي المصطلحات، وتلوين المفردات، وتقطيع الوقت، والتنظير المفضي إلى لا شيء! ولسنا أيضاً في حاجة إلى استجلاب الخبراء والسياسيين والمتابعين للوضع الإقليمي حتى يعيدوا تكرار قراءاتهم عن تعقيدات الوضع في العالم العربي وخطط القوى الإقليمية، والمخاطر المحيقة بمنطقة الشرق الأوسط… و… و، بالقدر ذاته من عدم حاجتنا إلى حوار توافق وطني، سواء في إعادة مراجعة المحاور السابقة التي لم يثبت تأثيرها في حل الأزمة ولو بنسبة يسيرة منظورة، أو استكماله في المحور السياسي؛ لطالما أن طبيعة استخدام المفردات والمصطلحات والتصريحات كلها تسير في اتجاه المبهم القابل للكثير من القراءات عدا… أن تكون قراءات صحيحة!

مع الاعتبار لكل المؤثرات الإقليمية؛ فإن بلادنا تمتلك من المقومات ما يجعل جبهتها الداخلية محصنة تحصيناً قويّاً بإنهاء الملف السياسي بتوافق قائم على الاستحقاق والعدالة الاجتماعية والإنصاف والمساءلة بين طرفين رئيسيين: السلطة وقوى المعارضة، ولعلني، وليسمح لي القارئ الكريم، أن أعيد ما طرحته في مقال سابق بعنوان: «الراقصون على حساب الوطن» (24 يونيو/حزيران 2012)، ونصه: «وربما كان من بين هذا المسار، حوار عام توافقي «للنظر في الأجواء التي سيحققها حوار السلطة والمعارضة»، تماماً كما كان ومضى على غرار حوار التوافق الوطني في صيغته التي رأيناها (ملتقى أو منتدى لا أكثر ولا أقل)، على أن تكون الأهداف بالدرجة الأولى لدى السلطة والمعارضة، هي الاحتكام لمبادئ سمو ولي العهد السبعة، باعتبارها الخيار المتاح والأسلم لإنقاذ البلد… تيسيراً للجهد والوقت وتحقيقاً للفائدة وإصابتها إصابة تامة، فإنه ليس هناك من داعٍ لدعوة 300 أو 400 أو ألف شخص لحوار ينتظم عقده وينخرط بسرعة ويذهب جفاء، قبل حوار مباشر بين السلطة والمعارضة التي طرحت كل ما لديها في وثيقة المنامة بكل وضوح». (انتهى الاقتباس).

في ترقب الحوار «المبهم» بالنسبة لي وللكثيرين قطعاً، يجب على القوى المعارضة أن تشارك وتقدم ما توافقت عليه ضمن «وثيقة المنامة»، وتراقب في الوقت ذاته ما إذا كان في الأفق بصيص أمل لحل سياسي ضمن حوار حتى لو كان مبهماً! ذلك حتى تعيد وتثبت تأكيد دستورية مطالبها وحرصها على المصلحة العليا للوطن ووجودها الوطني الذي لا نشك فيه. فقد سقطت جملة من النعوت التي ألصقت بها وأولها أنها «متآمرة مع الخارج»… أليس كذلك؟ فهي اليوم «معارضة سياسية»! وحتى نفهم نحن المواطنين بالضبط، من الذي يسعى ويصر على أن يطوِّل أمد الأزمة، ولكي… لا ينجح الحوار.

سعيد محمد سعيد

الخليج… أمام الغول الطائفي

 

وفق قراءة الكثير من الباحثين المهتمين بشئون الخليج العربي، فإن «الغول الطائفي» يمثل واحداً من أكبر وأخطر التحديات الكارثية على حكومات وشعوب المنطقة حاضراً ومستقبلاً. وهذه المخاطر تزداد وتتضاعف يوماً بعد يوم في ظل تصاعد المد الطائفي في الإقليم قادماً من العراق وسورية ولبنان واليمن وتركيا، وفي الوقت ذاته، الغياب الواضح لمسار تعزيز قيم الوحدة الوطنية واعتماد مبدأ المواطنة والمساواة التزاماً بالدساتير والقوانين… أي تأثر مظلة الضمانات الأساسية حقوقاً وواجبات.

لا يمكن إطلاقاً إغفال المخاطر الكبيرة المحيطة بمنطقة الخليج العربي إثر التطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط وانعكاساتها عليها، ولا يمكن التغاضي عن مجموعة من مثيرات الخطر التي تشهدها العديد من دول الخليج، إلا أنه بالإمكان السيطرة على هذه المخاطر والحد منها، حينما تتصدى الحكومات بالدرجة الأولى، وقبل غيرها، للجهات التي تلعب على الوتر الطائفي داخلياً أولاً. فمتى ما سلمت الساحة الداخلية من هذه المعاول وأوقفت عند حدها، وشعر كل مواطن بأن حقوقه مصانة، فإن هذه الجبهة تقوى وتستقر وتكون قادرة على صد أي اضطراب سلبي يهدد استقرار الوطن. كما أن هناك ظاهرة واضحة مبنية على المصالح الفئوية والشخصية، وهي تلك التي تنضوي تحت عنوان «الموالاة»، فمن الواضح أن هناك أطرافاً في منطقة الخليج تتلبس صفة الموالاة لتلعب على الوتر الطائفي وتثير المشاحنات والتناحر في وسائل الإعلام وفي سلوكياتها اليومية بهيئة لا يمكن أبداً أن يتم التغاضي والسكوت عنها، لكن هذا حاصل، ومع العلم اليقين بسوء ما يفعل هؤلاء، الا أنهم يسرحون ويمرحون في منهج تدميري سيئ للغاية.

تلك المسببات ذات درجة الخطر العالي، تساندها أيضاً قوى إقليمية من صالحها تغذية الطائفية في المنطقة ضمن توجهات وخطط مرسومة تستند على الطائفية كواحدة من أهم أركان تحقيق أهدافها، إلا أنه من الأهمية بمكان النظر إلى جانب مهم، وهو أن تتعامل كل الحكومات مع مواطنيها بوصفهم «مواطنين»، كما يرى الباحث ستيركوه ميكري في بحثه عن مخاطر الطائفية في الخليج، حيث يشدد على أنه من الخطأ الجسيم أن يتم التعامل مع المواطنين وفق انتمائهم القبلي أو المذهبي، بل لابد من أن تعالج تلك الآثار المترتبة على بقاء الانتماءات التقليدية باستخدام سياسة الجزرة والعصا (فسياسة الجزرة تتمحور في العطاء المالي الذي يضمن ولاء شيوخ القبائل وزعماء الطوائف، مع جهد لتسيّد طبقة معينة ذات ولاء ومصالح مشتركة مع الحكومات في الفضاءين القبلي والطائفي)، أما سياسة العصا فتظهر في السياسات والإجراءات الأمنية التي تستهدف إخماد أي صوت يطالب بإصلاح الأوضاع وبناء علاقة بين جميع المكونات على أساس المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وألا يتم إخضاع اي حركة مطلبية دستورية سلمية تحت العنوان الأمني.

اليوم، لا يمكن إغفال أدوار قوى إقليمية تسعى إلى تأجيج الطائفية في المنطقة تمهيداً لما تريد القيام به من سيطرة، ولعل أول أهداف هذه السيطرة ضمان أمن الكيان الصهيوني، وهذا يوجب قطعاً تنشيط الوعي الوطني، وقراءة الأوضاع بصورة حقيقية والتركيز على التعليم والإعلام، وهذه مسئولية الدولة، إلى جانب تنشيط مؤسسات المجتمع المدني والرموز السياسية والاجتماعية الذين سيكونون سداً منيعاً في وجه الطائفية وسلاحاً بإمكانه الحد من مخاطرها ومنع أي تحرك طائفي مستقبلاً… لكن هل هذا ممكن؟ بالطبع، في الإمكان تحقيق ذلك في صورة برامج عمل وطنية استراتيجية حقيقية وليست عناوين براقة للاستهلاك الإعلامي وحسب! ولعل الكاتب الصحافي محمد محفوظ قدم شرحاً مختصراً وعميقاً في مقال له بعنوان: «الخليج ومخاطر الفتنة الطائفية» نشره في النسخة الإلكترونية من صحيفة «الرياض»، تناول مجريات الأحداث وانعكاساتها على الداخل الخليجي على صعيد العلاقة بين المكونات المذهبية الموجودة في المجتمعات الخليجية، فهو يرى، ولا شك أن الجميع يتفق معه، أن الأوطان الخليجية ينبغي أن تسع جميع المواطنين بصرف النظر عن مذاهبهم وقبائلهم، وان أية محاولة لتضييق الوطن أو جعله بمقاس فئة أو شريحة دون الفئات والشرائح الأخرى، فإن هذه المحاولة تدشن لمرحلة من التوتر والتشظّي الاجتماعي والوطني. ولهذا فإننا بحاجة باستمرار لأن نعزز مفهوم الوطن الذي يستوعب جميع أبنائه، ويحتضن جميع مكوناته، ويحترم كل أطيافه وتعبيراته المجتمعية.

وبالفعل، يمكن رؤية الأتون الطائفي المقيت الذي سيأتي على منطقة الخليج بأسرها ما لم تبادر الحكومات إلى منع أسباب استمراره، كونه سيؤدي دون شك إلى خلخلة النسيج الاجتماعي والوطني في دولنا، فالغول الطائفي لن يتجاوز أحداً في هجومه بشراسة، ولن ينفع وقت هجومه التندم على خطابات مشايخ الفتنة وإعلام التدمير ومصالح الفئات ذات الوطنية الزائفة. فكلما امتد الزمن وازدادت الطائفية ضراوة، أصبح مجال التطويق والحل ضيقاً جداً جداً.

سعيد محمد سعيد

«بكتيريا»… الطائفة!

 

لا يمكن على الإطلاق إنكار وجود الممارسات الطائفية في كل المجتمعات الإسلامية بل وغير الإسلامية أيضاً، فتلك الممارسات تتخذ أشكالاً متعددة:

منها الطائفية الفردية، أي اعتناق فرد لثقافة الطائفية وفق تنشئته وتكوينه التربوي والثقافي والديني، ومنها طائفية الدول والحكومات التي تتبنى المنهج التمييزي بين مواطنيها، ثم هناك طائفية الكيانات والمؤسسات والتيارات، بيد أن أساس طائفية الحكومات والكيانات هو الفرد… أي أنها تتشكل من الأفراد الذين تشربوا – منذ صغرهم – كل الأفكار الطائفية البغيضة.

هناك حقيقة ترتبط بنشوء الطائفية وجذورها، ولاسيما في منطقة الخليج والعالم العربي والإسلامي، وهي أن الاستعمار زرع بذرة هذه الممارسة الدنيئة، ثم نشأت وتفرعت. وهي في حقيقتها قنبلة يزرعها المحتل قبل جلائه عن الدولة المستعمرة لتنفجر فيما بعد مسببة سلسلة من الانفجارات التي لا تتوقف! وفي هذا يقول الباحث سعيد الوجداني في دراسته «الطائفية الورم الخبيث في العالم العربي»، ان ظهور النظام الطائفي في البلاد العربية يكون دائماً مزاوجاً وملازماً لاحتلال الأجنبي لكل بلد عربي. لذا وللإحاطة أكثر بالموضوع، لا ينبغي حصر مناقشته في حدود الفترة الحاضرة المكشوفة عند الجميع وتجاهل خلفيته التاريخية، بل لابد من العودة إلى التاريخ والماضي البعيد لتلمس أصول المشكلة والتي لا تخص بلداً دون غيره، بل انها تعم كل البلاد العربية المهددة بهذا الطاعون الذي تجندت له الدوائر الامبريالية والصهيونية المتحرشة بالمنطقة العربية.

ويشدد الوجداني على أن النظام الطائفي، هو نظام سياسي من طبيعته انه يؤمّن للحاكمين والمحتلين وسيلة لتفريق المحكومين واستخدام أقلية مميّزة لقهر أكثرية مضطهدة. وقد اقترن ظهور هذا النظام بصورة خاصة بالمجتمعات الاقطاعية والاستبدادية التي تقوم على تجزئة السلطة السياسية، أكثر منها في المجتمعات الشديدة المركزية، وهذا لا يعني خلو المجتمعات الاسلامية من مقومات الاضطهاد الديني والتمييزي والطائفي. (انتهى الاقتباس).

وبالطبع، يبصم الجميع بالعشر على أن جذور الطائفية في بلداننا هي صنيعة الاستعمار! لا بأس، آمنا بالله… هي صنيعة الاستعمار، ولكن هل من المعقول أن تستمر الطائفية وتتعاظم إلى حد الاقتتال بين أبناء المجتمع فقط لأن الاستعمار وضع (تلك القنبلة) يوماً ما ومضى؟ أليس هناك من يتولى نزع فتيل تلك القنبلة؟ وكيف يمكن قبول تلك الحقيقة كما هي والواقع اليوم يكشف لنا أن دولاً وحكومات ومؤسسات ومحركات فتنة من مشايخ وكتاب ومنظرين ومؤيدين هم الذين أبقوا ذلك الفتيل بل ووفروا الدعم والرعاية والتشجيع لكل اتجاه طائفي مدمر للمجتمعات؟.

ان الطائفية بين مختلف المكونات الدينية إسلامية وغير اسلامية، بجذورها ومعطياتها ومدلولاتها قائمة ومسنودة وخطيرة ونتائجها المهولة ملموسة على أرض الواقع، إلا أن هناك ظاهرة أخطر بكثير من الفعل الطائفي بين المذاهب، وهي ظاهرة أرغب في تسميتها بـ «بكتيريا الطائفة»، تلك البكتيريا هي الطائفيون من الطائفة ذاتها، كيف؟ والجواب هو: من الطبيعي أن تجد طائفيين متشددين من السنة والشيعة يؤججون الفتنة، وتقف على ممارسات عنصرية لمسيحيين أو يهود أو حتى بوذيين يثيرون النعرات بين تلك الطوائف، لكن أن تجد طائفياً يؤجج ويؤلب ويفعل فعله الخسيس بين أبناء طائفته ذاتها، فهذا أمر أعلى وأخطر درجة من طائفيته ضد الطوائف الأخرى.

لقد ظهرت ملامح ظاهرة «بكتيريا الطائفي» مع ازدياد استخدام وسائل الاتصال التقنية والفضائيات والتواصل الاجتماعي إلى الدرجة التي أصبحنا فيها نتابع من يزعمون أنفسهم علماء دين من جهة، وسياسيين وإعلاميين وناشطين ومدونين ومثقفين وفئات مختلفة من جهة أخرى، سواء في الخليج أو في العالم العربي والإسلامي، يشنون حرباً ضروساً عبر تلك الوسائل مع من يختلفون معهم من طائفتهم. ولا تقتصر تلك الحرب على الخلاف في وجهات النظر أو الاتجاه الفكري أو ما شابه، بل تتعدى ذلك للتشهير وانتهاك الأعراض والشتائم وقائمة طويلة من الافتراءات والاحتراب والتهديد بالقتل. هذه الفئة من «بكتيريا الطائفي»، ليست من طبقة معينة أو مرحلة عمرية محددة، بل هي من مختلف الطبقات والأعمار، ويشمل ذلك التأجيج الخلاف الديني والسياسي والاجتماعي وليس محصوراً في الدائرة الدينية وحسب.

قد يسأل البعض عن الحل؟ وأقول جازماً، لا حل لمثل تلك الممارسات الخبيثة إلا بيد أصحابها من ناحية، وتطبيق القانون على من يمارس ذلك العمل الدنيء كونه يدخل تحت إطار «تهديد السلم الاجتماعي» من ناحية أخرى، لكن باختصار، ولطالما نحن نعيش في مجتمعات تشجع الطائفية والتمييز والعنصرية والتصادم بين الطوائف، فمن الطبيعي أن ترحب وتستمتع بما تفعله بكتيريا الطائفية في عقر دارها. أما كيفية التعاطي مع اولئك، فقرارك ومسئوليتك الشرعية والدينية والأخلاقية بيدك! فإما أن ترفضهم وتحتقرهم، وإما أن تصفق لهم وتشجعهم فتصبح منهم.

سعيد محمد سعيد

الطامة الكبرى… «تمام يا فندم»!

 

ربما شاهدنا العديد من المقاطع في المسرحيات والمسلسلات والدراما العربية والخليجية وربما في بعض الأفلام السينمائية، حينما يأتي أحد المسئولين الكبار مطمئناً على أوضاع الناس فتنبري له جوقة النفاق من المسئولين الأصغر فالأصغر، وتحف بهم في بعض الزيارات كروش وبشوت نسخة الرياء من المشايخ الذين يتحفونه بالكثير من الكلام الجميل عن حالة السعادة والرخاء التي يعيشها الناس، فتتلاقى مشاهد فيلم «الواد محروس بتاع الوزير» للفنان عادل امام مع مقاطع مسرحية «تخاريف» للفنان محمد صبحي مع الكثير الكثير من (التشليخ) الذي تختفي وراءه آلام ومعاناة وأوضاع الناس البشعة في مجتمعاتنا العربية.

تلك الممارسة الدنيئة، ومع شديد الأسف، أصبحت من المسلمات البديهية في كل المجتمعات العربية، فما يهم جوقة النفاق وكروش الرياء هو رضا الهوامير عنها، أما مسئوليتهم تجاه المواطنين الذين يعيشون في وضع شديد البؤس والشقاء فذلك لا يهمهم إطلاقاً. ما يهمهم هو ألا يغضب ولي الأمر أو يتكدر مزاجه فيذهبون في ستين داهية! والحال أن أي مسئول عربي يدعي أنه لا يعلم بأحوال مواطنيه فهو كاذب! بل يعلم بكل شيء، حتى وإن استساغ من (طبول الزفة) ما تملأ به أذناه من أكاذيب.

كل شي تمام يا فندم.

***

من كتاب «روائع التاريخ العثماني»، أمر السلطان محمد ببناء أحد الجوامع في مدينة اسطنبول، وكلف أحد المعماريين الروم واسمه ابسلانتي، بالإشراف على بناء هذا الجامع، إذ كان هذا الرومي معمارياً بارعاً، وكان من بين أوامر السلطان أن تكون أعمدة هذا الجامع من المرمر، وأن تكون هذه الأعمدة مرتفعة ليبدو الجامع فخماً، وحدد الارتفاع للمعماري.

المعماري الرومي أمر بقص هذه الأعمدة، وتقصير طولها دون أن يخبر السلطان، أو يستشيره في ذلك، وعندما سمع السلطان بذلك، استشاط غضباً، إذ ان هذه الأعمدة التي جلبت من مكان بعيد، لم تعد ذات فائدة في نظره، وفي ثورة غضبه هذا، أمر بقطع يد هذا المعماري، ومع أنه ندم على ذلك، إلا أنه كان ندماًً بعد فوات الأوان.

لم يسكت المعماري عن الظلم الذي لحقه، بل راجع قاضي اسطنبول الشيخ صاري خضر جلبي، الذي كان صيت عدالته قد ذاع وانتشر في جميع أنحاء الإمبراطورية، واشتكى إليه ما لحقه من ظلم من قبل السلطان. ولم يتردد القاضي في قبول هذه الشكوى، بل أرسل من فوره رسولاً إلى السلطان يستدعيه للمثول أمامه في المحكمة لوجود شكوى ضده من أحد الرعايا، ولم يتردد السلطان كذلك في قبول دعوة القاضي، فالحق والعدل يجب أن يكون فوق كل سلطان. وفي اليوم المحدد حضر السلطان إلى المحكمة، وتوجه للجلوس على المقعد فقال له القاضي: «لا يجوز لك الجلوس يا سيدي بل عليك الوقوف بجانب خصمك»! وقف السلطان بجانب خصمه الرومي الذي شرح مظلمته للقاضي، وعندما جاء دور السلطان في الكلام، أيد ما قاله الرومي.

وبعد انتهاء كلامه وقف ينتظر حكم القاضي، الذي فكر برهة ثم توجه إليه قائلاًَ: «شرعاً، يجب قطع يدك أيها السلطان قصاصاً»! ذهل المعماري الرومي، وارتجف دهشة من هذا الحكم الذي نطق به القاضي، والذي ما كان يدور بخلده أو بخياله لا من قريب ولا من بعيد، فقد كان أقصى ما يتوقعه أن يحكم له القاضي بتعويض مالي. أما أن يحكم له القاضي بقطع يد السلطان فاتح القسطنطينية الذي كانت دول أوروبا كلها ترتجف منه رعباً، فكان أمراً وراء الخيال! وبصوت ذاهل، وبعبارات متعثرة قال الرومي للقاضي انه يتنازل عن دعواه، وأن ما يرجوه منه هو الحكم له بتعويض مالي فقط، لأن قطع يد السلطان لن يفيده شيئاً! فحكم له القاضي بعشر قطع نقدية لكل يوم طوال حياته تعويضاً له عن الضرر البالغ الذي لحق به، لكن السلطان قرر أن يعطيه عشرين قطعة نقدية كل يوم تعبيراً عن فرحه لخلاصه من حكم القصاص، وتعبيراً عن ندمه كذلك.

***

يقال ان أحد السلاطين، جال في بعض أرجاء سلطنته بمعية عسسه ووزرائه وخدمه وحشمه وجوقة المنافقين إياها الذين اعتادوا على أن يحجبوا عن عينه الأحياء الفقيرة وقرى الفلاحين. سأل وزيره: كيف هي أوضاع الناس وما هي أحوالهم المعيشية؟ – كل شيء على ما يرام. الناس في خير حال ويدعون لكم بطول العمر والسعادة والخير والبقاء المديد يا فندم. يرفلون في بحبوحة من العيش الكريم. ينامون وعيونهم قريرة آمنين مطمئنين على معاشهم ومستقبل عيالهم. يعيشون في منازل جميلة ويركبون أحدث السيارات ويرتدون أفخر الملابس وأفخمها، ويقضون أمسياتهم في أروع الحدائق وأكبر المطاعم. كل شيء تمام يا فندم.

* هل أنت متأكد من ذلك؟ ولاسيما أن هناك من يشكو من افتقاره للمأوى والمأكل والمشرب؟ – هذا يا فندم في الأساطير القديمة. هذا ما نقرأه لأطفالنا عن كان يا ما كان. أما اليوم، فأقل إنسان، أبسط عامل، أفقر فلاح… يعيش في بيت رائع بحديقة تفتح النفس، وأنك لتجد في منزله خط انترنت وأطباقا لاقطة ولدى كل أفراد عائلته أحدث هواتف الآي فون والسامسونج.

* عجباً… وهل هناك أقل إنسان وأبسط عامل وأفقر فلاح يعيش بيننا؟ ظننت أن الجميع في بحبوبة من العيش كما تقول؟ – عفوك يا مولاي عفوك. خانني التعبير. خلاص ماعودها. زلة لسان يا فندم. فمن أين لنا الفقراء والبسطاء وخيرك يغمر الجميع.

* عال عال. وماذا عن الكلام الذي يتناقله الناس هنا وهناك عن الظلم والفساد وانتهاك الحقوق والذي منه؟ – أبداًً… أبداً. كل ذلك هراء. كلها أكاذيب وافتراءات وأفكار دخيلة مدسوسة. يا فندم كل شيء على ما يرام، وكل ما في الأمر، أن بعض ناكري النعمة، ممن لا يملأ عيونهم إلا التراب، أخذتهم مساوئ الحقد والطمع والغل والضغينة. نعم، قلوبهم سوداء فيسعون لتشويه كل هذه النعم يا مولاي يا فندم.

* أها… سمعت شيئاًً من هذا القبيل على أحد المواقع الإلكترونية. كتبوا عنك وعن غيرك من المسئولين أنكم لصوص وتتكسبون من مناصبكم وتلهفون ما تصل إليه أيديكم من أموال… وما إلى ذلك؟ – أرأيت يا مولاي أرأيت؟ وهل يعقل هذا؟ ومن أين لنا كل هذا الفراغ من الوقت ونحن نطوي الليل بالنهار في السهر لخدمة المواطن. من أين لنا الوقت لنفعل كل ذلك. وقتنا كله مخصص لراحة أصغر مواطن. صدقني يا فندم، كل شي تمام التمام. اطمئن… فنحن نخاف الله ولا نفعل إلا ما يرضيه. إي والله…

في صلاة أمي وأبوي.

* أتعلم أنك أكبر منافق وكذاب ومدلس و «جليل حيا»؟ – بالتأكيد أعلم يا مولاي. كل ما تقوله تمام يا فندم. وهل أنا وأمثالي إلا الطامة الكبرى يا فندم.

سعيد محمد سعيد

صرخة الأدباء العرب المكتومة

 

بقدر ما أفرح البيان الختامي للمؤتمر العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الكثيرين يوم الأربعاء (25 ديسمبر/ كانون الأول 2012)، بقدر ما أحسست، كما أحس الكثيرون أيضاً، بأن في «بيان الحريات» صرخة مكتومة موجعة!

ولربما جاء المؤتمر الذي استضافته البحرين في الفترة من 22 حتى 25 ديسمبر 2012 في نسخته الخامسة والعشرين، كفرصة سانحة لأن يسجل المشاركون موقفاً للتاريخ، ويطلقون تلك الصرخة التي لم تكن مكتومة بقسوة خلال العامين الماضيين في ظل ثورات الشعوب فحسب… بل كانت مكتومة منذ عقود من الزمن.

كنا على الدوام ومنذ سنين طوال، نسمع، في التصريحات وفي الكتابات الصحافية وفي الديباجات العظيمة المنمقة للحكام والرؤوس الكبيرة؛ أن الأدباء والكتاب والمفكرين هم نخبة الأمة وحصنها، وهم الذين يبنون نهضتها بفكرهم، وهم وهم وهم… بل حتى البيان الختامي ذاته لم يخلُ من مثل تلك الديباجة (وإن بصياغة قلَّ نظيرها) كما في هذه الفقرة نصّاً: «وتأسيساً على حرية الكتاب والأدباء وجمهرة المبدعين من حيث سياق الإبداع الأتم، وضرورة الوعي والكتابة؛ فإن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، يرى في الحرية فضاءً لما يحقق الخير العام الذي يجد في صميم الحرية ضمانة لتوسيع الجماليات في منازلة القبح والانكسار و(السقوط الكابي) والمريب».(انتهى الاقتباس).

الحرية كما يراها المثقفون هنا، تواجه في صميمها القبيح وتنازل السقوط الكابي! والكابي بحسب المعجم الوسيط، هو التراب الذي لا يستقر على وجه الأرض أو الفحم الذي خمدت ناره، ولعل استخدام مثل هذه المفردات، يعكس حقيقة ما تشعره هذه الفئة قبال دورها المهم المقصى قسراً… إي نعم.. كثيراً ما سمعنا عن أدوار النخبة المثقفة في المجتمعات العربية ومكانتها، لكن كل ذلك انكشف – بدرجة مذهلة – منذ أن عصفت بالمنطقة العربية رياح الثورات العام 2010! فتوارى الدور النهضوي لتلك الفئة، واستبدلت بنماذج من الكتاب والأدباء والإعلاميين والفنانين والراقصين والراقصات والساقطين والساقطات ممن قاموا بالدور نيابة عن مثقفي الأمة الحقيقيين. فكان نتاج عمل (البدلاء) الرخيص كمن استخدم (خشباً) كوقود لزيادة تأجيج الشعوب عبر الضحك على عقولهم وخداعهم، والتكسب من وراء أدوار أدوات السلطة في تخدير الشعوب والعبث بفكرها وثقافتها وحقها في المعرفة النقية.

قبال ذلك، وجد المثقف الحقيقي نفسه محاصراً بثلاثة خيارات: إما الانضمام إلى جوقة البدلاء الرخيصة وهذا ما تسامى عنه الكثيرون؛ أو اللعب على الحبلين بمسك العصا من المنتصف ودغدغة السلطة تارة والشعوب تارة أخرى وهذا ما فعله القليلون؛ والخيار الثالث هو ألا تأخذه في الله لومة لائم وأن يقول الحق ويناصر المطالب المشروعة، ويقدم رقبته من أجل صلاح الأوطان والشعوب، وهؤلاء قلة أيضاً لربما تجدونهم اليوم في السجون أو في المنافي، قريبة من الأوطان كانت أم بعيدة.

لماذا وصفت انكشاف أدوار مثقفي الأمة بـ «درجة مذهلة»، في باكورة الثورات أكبر مما كان عليه الوضع في السابق؟ ذلك أيضاً عرج عليه البيان في تعديده لما يتعرض له المثقفون من تهديد وإهمال وتضييق واستهداف لم يكن وليد الثورات، بل كان هو الوضع السائد منذ عقود مضت في الوطن العربي، أليس كذلك؟ لكن مع ذلك، فإن الأدباء العرب قدموا «الإحسان» قائلين في بيانهم: «إن التحولات التي يمر بها وطننا العربي، وما يتعرض له من خلخلة هنا أو هناك، ليحتم على المؤتمر العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب أن يضطلع بمسئولياته في حماية الكتابة والمبدعين بما يجعلهم يمارسون دورهم المعرفي والحضاري باقتدار وعافية وعنفوان (كيف؟)… بعيداً عن الرقابة الجاثمة واستهداف المبدعين وملاحقتهم وسجنهم والحد من حريتهم وانتقاصها».

وفي الواقع؛ تمنيت أن يوجه الاتحاد في مؤتمره أصابع الاتهام إلى الحكومات العربية التي أجرمت في حق شعوبها وتبنت الحركات المتشددة المعادية للحقوق وللحياة الكريمة، وهو يشير إلى تصاعد محاولات بعض الحركات الأصولية والسلفية والميليشيات المسلحة والطائفية التي تلجأ للحد من الحريات المدنية العامة ومصادرتها، والحد من حرية الفكر والتعبير ومصادرة الكتب أو سحبها من بعض معارض الكتب العامة! فتلك ممارسة رأى فيها الاتحاد (سياقات لا تليق بالإبداع والمبدعين)، لكن هناك إشارة لا بأس بها وهي أن مداخلات الاتحاد العام في أكثر من مجال آتت أُكلها حيث تم التراجع عن بعض الأفعال التي استهدفت الكتاب، وليس آخرها الإفراج عن الشاعر القطري محمد العجمي.

الصرخة المكتومة للأدباء صدحت باستهداف السلطات في غير بلد عربي للأدباء والكتاب بالملاحقة والسجن، وعدم رعاية الأدباء، واستمرار إغلاق بعض وسائل الإعلام من صحف وقنوات فضائية، ومحاصرتها، ومحاولات الاعتداء على العاملين فيها والمتعاملين معها، مواجهة المسيرات والاحتجاجات والتجمعات والاعتصامات السلمية والمعلن عنها بغير وسيلة تصل إلى القمع المسلح في كثير من الأحيان. أما بالنسبة للتهديدات، فهذه وردت أيضاً بصيغة تقول إن الأدباء والفنانين والمثقفين في غير بلد عربي تعرضوا لتهديدات مباشرة أو غير مباشرة من قبل قوى وتيارات وجماعات دينية وطائفية متطرفة ضد حرية التعبير والفكر، من خلال التهديد بتكفير وتأثيم الثقافة أو بعض تنوعاتها ومظاهرها، أما مسألة الحيلولة دون دخول بعض الإصدارات من وإلى بعض الدول العربية؛ فهذه نشيدة قديمة ما عادت تُطرب.

لم ينتهِ الأمر هنا! فهناك «البيان الختامي» الآخر الذي شمل العديد من النقاط المهمة، لعل أهمها هو التصدي للخطاب التكفيري والإقصائي الذي تكون عناصره مهددة للأمن القومي الثقافي وللوحدة الوطنية، وأن يترافق مع ذلك الترشيد والحكمة، والتأكيد على ضرورة تكريس فكرة الدولة المدنية.

جميل جدّاً… لربما تكون الإجابة المتخيلة أو المتوقعة أو الواردة بقوة من جانب الحكومات العربية كرد على بياني الأدباء والكتاب العرب: «أحسنتم… شكر الله سعيكم»، فالميت لا تجوز عليه إلا الرحمة.

سعيد محمد سعيد

«تويتر» خطبة الجمعة… الفاضح!

 

«ليه تورط نفسك يا شيخ؟ أجل إذا منت قدها وش لك تضرب على صدرك؟»… تلك العبارة ردّ بها أحد المغردين «الظرفاء» على أحد خطباء الجمعة الذين أصبحوا يدعون، عبر تويترهم، متابعيهم إلى اختيار موضوع «خطبتهم» للجمعة المقبلة! أي أنهم يفتحون المجال للناس لمشاركتهم في اختيار موضوع الخطبة كاستفتاء محدود إن جاز لنا وصفه.

ذلك أمر جيد لا بأس به، ولم لا؟ فلطالما أن هذا الخطيب أو ذاك مهتم بأمور الأمة وقضاياها وشئونها ويتواصل مع «بني الإسلام» للوقوف على قضية مهمة يطرحها في خطبته، فهو ربما يدخل تحت عنوان «البدعة الحسنة»! لكن ليس كل المغردين بالطبع سيتهافتون على الرد باقتراح الدعوة بطول عمر ولاة الأمر وشكر النعم والدعاء على الكفار والبكاء على حال الأمة والتحشيد لنيل البركات سخاءً رخاءً!

هذا صعبٌ للغاية وخصوصاً مع انتشار استخدام «تويتر» في العالم، والذي تشير تقديرات موقعي «سوشال بيكرز» و «انفوغراف» إلى أنه من بين نحو 200 مليون مستخدم لـ «تويتر»، هناك في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما يقارب 44 مليون حساب لمغردين حقيقيين ووهميين، مثقفين وجهلة، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، طيبين وخبيثين، جادين وهزليين.

المهم، أن ذلك الخطيب تلقى من العناوين ما يشيب له شعر رأسه ولحيته! فمن طالبه بالحديث عن الظلم والاستبداد، ومن دعاه لأن يكشف خنوع بعض الحكام للغرب وتآمرهم ضد الإسلام، ومن وعده بتقبيل رأسه وقدمه إذا طالب بمحاربة الفساد وفضح رؤوس الفساد والسرقة والنهب من «الهوامير»؛ ومن دعاه للتوقف هو شخصياً عن إثارة الفتن الطائفية! وآخرون طالبوه بالاعتذار عن إساءاتٍ كثيرةٍ وجّهها هو نفسه لعلماء وطلبة علوم دينية، وغيرها من الردود التي فتح المجال لها بنفسه حين دعا الناس لهذا الاستفتاء. وحين وجد نفسه محاصراً طالب الناس بعدم طرح عناوين لموضوعات «تفرّق الأمة»، فردّ عليه ذلك الظريف بالعبارة أعلاه: «ليه تورط نفسك يا شيخ؟ إذا منت قدها وش لك تضرب على صدرك؟».

هكذا، ومع اعتبار «تويتر» واحداً من أهم أدوات التواصل الاجتماعي والإعلامي الإلكتروني في العالم قاطبةً، وفي منطقة الشرق الأوسط والدول الإسلامية، فإن التعامل مع جيل جديد من الشباب يطرحون آراءهم وأفكارهم بكل حرية، في القضايا العامة، لا يمكن أن ينحصر فقط في رغبات الوجاهة والانتشار والشهرة بقدر القيام بالمسئولية الدينية والوطنية، ولاسيما من قبل الخطباء والوعاظ. ويحق لهذه الفئة المتنامية في مجتمعاتنا أن تناقش وتتساءل وتطالب وتدعو أيضاً لأن يقوم خطيب (ضرب على صدره) بكامل مسئوليته في طرح القضايا التي تهمّ الأمة فعلياً، وليس من باب التشدق والتفلسف.

ولاشك في أن المجتمع الإسلامي ابتلي خلال العقدين الماضيين، ولربما مع انتفاض الكثير من المجتمعات العربية في ثورة المطالبة بالحقوق المشروعة منذ أواخر العام 2010… ابتلي بنماذج من الخطاب الديني المتشدد المدعوم في كثير من الأحيان من حكومات وجماعات وأقطاب قوى داخلية وخارجية، وصعد الخطاب الفتنوي الطائفي بشكل كبير بلغ أوجه في الشتم والتخوين والتكفير الواضح لمن يختلف مع «خطيب الفتنة» في منبره السيىء، في حين أصبح الخطاب المعتدل من الصور المتوارية خلف الأفق. وفي ذلك خطرٌ كبيرٌ على الأمة التي يتوجب على كل فرد منها، ومن منطلق مسئوليته الفردية، أن يرفض مثل هذا الاعوجاج الواضح ولا يقبل به.

بالمناسبة، تنبهت مؤسسة الإرشاد الديني في اليمن، على سبيل المثال، وغيرها بالطبع، لمخاطر مثل هذا الخطاب فأصدرت دراسةً حول أزمة الخطاب الديني المتشدد وملامحه، وحدّدت عدة محاور لعنف ذلك الخطاب تجاه: الذات، العقل والإرادة، تجاه المرأة، تجاه الآخر وكذلك العنف الدعوي. وما يهمنا هو العنف الدعوي والعنف تجاه الآخر، فقد جاء في الدراسة أن العنف الدعوي هو استخدام أسلوب الترهيب في مقابل إسقاط أسلوب الترغيب وتفريغ الدين من محتواه المتسامح، فتجد لغة الدعاة قد انطبعت بالطابع التهديدي واللغة المنذرة والصوت العالي، ما كرّس نمط الملقي الآمر المنذر والمتلقي المطيع المنصاع، والداعي المُتَهِم والمدعو المُتَهَم في عملية الاتصال الدعوي، وأُهملت لغة الحوار والإقناع والترغيب والجذب بالطرق التي تحترم ذات ونفسية المتلقين ولا تحتويهم، أو تجعل منهم صورةً للشر أو الخطيئة. وهذا خطأ مشينٌ بعملية الدعوة، وأسوأ ما فيه التنفير والشعور المبطّن للداعية بأنه كامل ومثالي، والمدعوين قاصرون وخاطئون، وهو ما يفقدهم الثقة فيه.

أما في محور العنف تجاه الآخر، فأشارت الدراسة، وهي للشيخ يحيى أحمد النجار، إلى أن الخطاب المتشدد يعتبر الآخر ديانةً كان أو عالَماً غريباً، إما عدواً مطلقاً أو طامعاً مطلقاً، فهو منبوذ ومستبعد من إمكانية التفاعل معه، ومقصي من أي درجة قبول. وهذا أوقع العقل الإسلامي في ازدواجية نفي الآخر نظرياً، والتعاطي مع منجزاته الحضارية والتكنولوجية واقعياً، كما أن التقييمات الدينية العامة للمجتمعات خطأ كبيرٌ، لأن هذه المجتمعات تتكوّن من اتجاهات وتيارات وأفراد وجماعات ليسوا على مبدأ واحد، ولا على موقفٍ مشترك، والخطاب الديني ملزمٌ بالتواصل معهم وإبلاغهم بالدين بأفضل وسيلة.

أما بعد، فأخطر ما في ذلك الخطاب المتشدد، أن يكون مسكوتاً عنه من جانب الحكومات التي تفضله، وأن يصبح الخطاب المعتدل، موضع عداء من الحكومات التي لا تريد أن تسمعه أو تترك الحرية المطلقة لغيرها أن يسمع، وهذا بالتأكيد، معول هدم للسلم الاجتماعي لا علاقة له بالدين الإسلامي.

سعيد محمد سعيد

البحرين لا تنجب «خونة»!

 

بسهولة مطلقة، ودون أي موانع، يستطيع أن يتغنّى أصحاب الولاء والانتماء المصلحي المزيف، وهم يدّعون أنهم يحبون الوطن ويمجدون أيامه الوطنية، أن ينعشوا تجارتهم في مناسبة وطنية بكرنفالية مغلفة بالحقد تقوم على شعار «الخونة»!؛ فالمساحة مفتوحة لديهم لأن يرموا من يخالفهم مذهبياً وسياسياً من أبناء الوطن بتلك التهمة، وكأنهم بذلك يعبرون عن سعادتهم بالعيد الوطني أو يوم الاستقلال أو أية مناسبة وطنية.

البحرين لا تنجب «خونة»، شاء المتّهِمون المرجفون أم أبوا! وإذا كانت هذه التهمة مستساغة لذيذة المذاق لأن تطلق تحديداً على جمهور المعارضة الوطنية، فإن عليهم أن يدركوا بأن إحياء الأيام الوطنية إنما ينطلق في جوهره من الترويج الإيجابي لما يمكن أن يسهم في استقرار الوطن وإنهاء ملفاته السياسية والحقوقية والاقتصادية والمعيشية المضنية.

ليست صورة «النفاق» الممجوج تلك التي يتمتع بها أدعياء المواطنة الحقة نافعة للوطن بأي حال من الأحوال، فهم يعلمون جيداً أنهم يتسببون في إلحاق أكبر الضرر بالسلم الاجتماعي لتبقى مصالحهم الذاتية، لكن هذا الأمر، والذي يتوجب على السلطة أن تتصدى له ولرؤوسه من المتكسبين من إشعال نيران التأزيم، سببت ولاتزال، إرباكاً في الحالة البحرينية حتى وإن سلمنا أن هناك «حواراً ذا مغزى»، فإن تجار الوطنية الزائفة، يعمدون إلى تكرار تلك الاتهامات السخيفة، خصوصاً أنهم يرون من قالوا عنهم طيلة عامين «خونة»، مدعوين للتحاور!

***

مررت على أرشيف السادس عشر من ديسمبر/كانون الأول، لأقف على بضع كتابات جميلة في «الوسط»، ففي ذلك اليوم من العام 2002، كتب رئيس التحرير، منصور الجمري، في مقال بعنوان: «المصلحة العامة أولاً وأخيراً»… «إن البؤر الفاسدة تمتص خيرات البلاد تماماً كما تمتص الثقوب السوداء في الفضاء الكوني كل شيء يمر أمامها ويختفي ذلك الشيء إلى ما لا نهاية».

وفي فقرةٍ أخرى من المقال ذاته: «ما فائدة الديمقراطية وحرية التعبير إذا لم نتمكن، مجتمعاً ودولة، من الوقوف أمام المفسدين مهما كان هؤلاء؟ والحديث الذي يدور بين الناس هو أن المفسد إذا كان من أصحاب النفوذ فإن العقاب لن يطوله لأن لديه أكثر من وسيلة للتخلص من المشكلة. أما إذا كان ممن كتبت لهم التعاسة في الحظ وليس له نفوذ فإن فساده الصغير ستتم ملاحقته قانونياً».

شخصياً، كتبت في يوم السادس عشر من ديسمبر من العام 2005 في مقال عنوانه: «البضاعة الكاسدة»، أنه «لا مكان للبضاعة الكاسدة التي تخصص البعض في التسويق لها وترويجها في دكاكينهم المشبوهة ومتاجرهم الرخيصة، حين يصر أولئك التجار على ترويج بضاعة (التشكيك في الولاء والانتماء) ويمارسون الطقوس السوقية (متعددة الوسائط) ويعملون جاهدين مستغلين كل منبر ومحفل ومعقل للصياح بصوت عالٍ لإسماع الحكومة ومسئوليها ولإيناس مريديهم بتوجيه تهم التشكيك في ولاء مواطنين في هذا البلد الكريم، والإصرار على توجيه هذه التهمة في صور ذات ألوان متعددة ومقاسات مختلفة تناسب المرحلة، من أجل أن يقولوا: إنهم أصحاب الولاء والإنتماء الحقيقي للبحرين ولحكومتها ولشعبها ولترابها… أمّا دونهم من الناس والأجناس والمذاهب والمشارب.. فلا.

تلك بضاعة كاسدة حقاً؛ فالوطن ليس قصيدة تلقى على مسامع الجماهير، وليس أهزوجة في كرنفال بهيج، وليس أرضاً بلا سماء. ليس الوطن مسرحاً للتناحر وإثبات الولاء بهدم الولاء، وإعلان الانتماء بطمس الإنتماء.

الوطن نبض لا يتوقف، ينطلق من قلوب كل البحرينيين ويسري في عروقهم، فتمتد أياديهم بالعطاء والبناء والخير… لا بالهدم والتفتيت والشر».

وتحت عنوان: «وهل الوطن إلا الحب»، عاد بنا الزميل، حيدر محمد، إلى السادس عشر من ديسمبر من العام 2007، فكتب: «مازالت هناك عشرات الآلاف من العوائل البحرينية التي لا تعيش استقراراً أسرياً بسبب الضغط المعيشي الذي تضاعف مع التضخم غير المسبوق في الغلاء الفاحش الذي طال كل ما قد يتصوره أحد، حتى في المواد الاستهلاكية الحيوية، وهناك التحدي الكبير الذي يتمثل في تقلص الطبقة الوسطى، وكل ذلك يدعو المجتمع للضغط في اتجاه إعادة توزيع الثروة، والخطوة الأولى هي تحديد الموارد والمداخيل وتحديد آليات عصرية لتوزيع الثروة تضمن الرقابة البرلمانية الفعالة، وكذلك تحديد المخزون المتوافر من الأراضي، وتوزيعها وفق نظام عادل، وهذه المعالجات المهمة ضرورية، بمعنى أن عدم تحقيقها سيجعل من مشروعنا الإصلاحي قاصراً عن تلمس احتياجات الطبقات الشعبية العريضة». (انتهى الاقتباس).

كثيرة هي القضايا والهموم والشئون والشجون التي يمكن أن نطرحها بكل صراحة لكي نبني، حتى وإن اتهمنا المرجفون بأننا نسعى للهدم. مشكلة المجتمع البحريني أنه ابتلي بجوقة من المنافقين الذين يتكاثرون بشكل مذهل، ليخونوا الوطن بنفاقهم وروحهم العدائية للنسيج الوطني وللسلم الاجتماعي، ثم يدّعون أنهم أسهموا في إعلاء عنوان الوحدة الوطنية.

كل عام وهذا الوطن الكريم العريق بخير.

سعيد محمد سعيد

العودة الى «خنوع الشعوب العربية»

 

يتمنى أتباع «العقلية المتخاذلة»، وهم يتابعون أوضاع الثورات العربية وارتداداتها، أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل اشتعال تلك الثورات! فتلك أيام «سكينة» وهدوء واطمئنان «وكفى الله المؤمنين شر القتال»، حتى وإن كانت تحت سيطرة الحكم الشمولي الاستبدادي! الركاز الذي يعتمدون عليه في نظرتهم تلك هو حالة الاضطراب المستمرة في دول الثورات التي لم تهدأ حتى الآن، وكأن الناس ثارت لكي تطيح بطاغية مستبد وتنتخب آخر والسلام، حتى وإن بدأ يلعب بذيله.

العودة الى زمن «خنوع الشعوب العربية» أمر مستحيل، فالأمة اليوم أمام جيل شبابي لا يقبل بالحلول المخادعة ولا أنصاف الحلول، ولا يمكن استدراجه للوقوع في شباك شكل جديد من الحكم استغل انتفاضة الشباب العربي ليصعد على أكتافهم ثم يمارس شكلاً جديداً من الحكم الاستبدادي.

الشعوب العربية تقودها اليوم حركات الشباب المتعلم الذي لن يقبل بأن تكون الأمة، تحت نظام حكم، لا يعترف بالشعوب كمصدر للسلطات. ولن يتباكى ليقول: «ليت الماضي يعود وكفى»! فهو يؤمن بأن لكل مواطن عربي الحق في أن يعيش حرّاً لا عبداً لأي نظام حاكم يدير البلد وفق هوى حزبه.

ما تعيشه الأمة العربية، سواء في بلدانها التي لاتزال الثورات فيها ممتدة عبر مسارات جديدة، أم تلك التي ستصلها لا محالة، ارتدادات تلك المسارات (إن لم تبادر الأنظمة إلى الإصلاح الحقيقي الذي تنشده شعوبها)، ما تعيشه هو انتفاضات شبابية عصية على الاستيعاب الإيديولوجي كما يقول الباحث الموريتاني السيد ولد أباه في كتابه: «الثورات العربية الجديدة: المسار والمصير.. يوميات مشهد متواصل»، الذي ناقش الحركات الاحتجاجية في أكثر من بلد عربي ليجزم بأن رهان تلك الحركات يتمثل في إنتاج صيغ عيش جديدة، وخروج من منطق القمع والوصاية، والتأكيد على قيم الحرية الفردية والفاعلية الإنسانية في مجتمعات متكلِّسة ضاقت فيها فرص الاندماج الجماعي والإبداع الفردي وفرص التداول على السلطة.

والمطالب السياسية، كما يرى المؤلف، تدخل نفسها في هذا المنطق، باعتبارها تتجاوز التسيير الديمقراطي للحقل السياسي، ومن هنا نُدرك أن هذه الثورات الشبابية العصيَّة على الاستيعاب الإيديولوجي، تنضح بالمُثل الليبرالية الحالمة، وتجسِّد حالة الانفصام العميقة بين الطبقة السياسية والأجيال الصاعدة في العالم العربي. بل ويؤمن المؤلف بأن أحداث تلك الثورات وأدواتها الاحتجاجية لم تكن إلا تعبيراً واضحاً عن هذه السِّمات المذكورة، فلا فرق هنا بين منطق الانتحار بالاحتراق والاحتشاد الاحتفائي في الميادين العامة، فكلاهما استخدام ناجع لسلاح الجسد في فظاعته التعبيرية المؤلمة في «الاحتراق»، أو في متعته الاحتفالية! فقد جاء الجسد هنا مُحمَّلاً بقدرات ائتلافية ترابطية، لا تحتاج إلى خطابة السياسيين والدعاة والحكماء. ومِن هنا تكمن المصاعب الجمّة لصياغة مطالب الشباب الثائر في مشاريع سـياسية أو رؤى إيديولوجية منسجمة. (انتهى الاقتباس).

القوى الشبابية ذاتها الفاعلة على الساحة العربية اليوم، ليست منساقةً إلى فكرة أن القوى الإقليمية ستعينها في حركاتها المطلبية للتحرر من الأنظمة الاستبدادية، وقد تناول الباحث صبحي غندور (موقع اتجاهات)، البحث في مصير الحراك الشعبي العربي، وله وجهة نظر مهمة يؤكد فيها على أنه «ساذج» من يعتقد بأن «القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة، بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسئول الأول عن تخلّفها وعن أنظمتها وعن تقسيمها، ثم عن زرع إسرائيل في قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها واستنزاف الدول المجاورة لها في حروبٍ متواصلة، وقد كانت هذه الدول الكبرى، ولاتزال، مصدر الدعم والتسليح والتمويل لهذه الحروب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين والعرب، وها هي الآن تتحدّث عن الحرّية للشعوب العربية، بينما لايزال محظوراً لدى هذه الدول أيُّ تفكيرٍ لتجديد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فكيف بمقاومته عسكريّاً! الانتفاضات الشعبية العربية تحدث في أوطانٍ غير مستقرّة، لا دستوريّاً ولا اجتماعيّاً، ولا هي (أي هذه الانتفاضات) موحّدة سياسيّاً أو فكريّاً، ولا هي متحرّرة من أشكال مختلفة من التدخّل الأجنبي والإقليمي، وهذا الأمر يزيد الآن من مسئولية قوى التغيير والمعارضات العربية، ومن أهمّية تنبّهها لألا تكون وسيلةً لخدمة أهداف ومصالح غير أهداف ومصالح شعوبها».

والباحث يلقي باللائمة أيضاً على القوى السياسية المعارضة في الوطن العربي حينما عجزت عن البناء السليم لنفسها: فكراً وأسلوباً وقيادات، فساهمت عن قصدٍ أو غير قصد في خدمة الحكومات والحكّام المستبدين الفاسدين، فهناك ملاحظات كثيرة على ماهيّة «الأفكار»، وطبيعة «القيادات» التي تستثمر «أساليب» الانتفاضات العربية، فلا يجوز طبعاً أن تكون «الأساليب» السليمة لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تسرق التضحيات والإنجازات الكبرى، وتُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية من تغييراتٍ كانت تحدث من خلال بعض الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلحة، ثم تتحوّل لاحقاً إلى أسوأ ممّا كان قبلها من واقع. أيضاً، لا نجد الآن في كلّ الانتفاضات الشعبية العربية، التوازنَ السليم المطلوب بين شعارات: الديمقراطية والعدالة والتحرّر والوحدة الوطنية ومسألة الهوية العربية.

التغيير الإيجابي المطلوب في عموم المنطقة العربية، هو مدى تحقيق هذه الشعارات معاً، وليس شعار الديمقراطية فقط – كما يحلل صبحي غندور – إلاّ إذا كان ما يحدث الآن هو تنفيذٌ لما دعا إليه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في العام 2004 في قمّة «الناتو» في إسطنبول، من تشجيع للتيارات السياسية الدينية على الأخذ بالنموذج التركي الذي يجمع بين الإسلام والديمقراطية، في دولةٍ هي عضوٌ في «الناتو» ولها علاقات طبيعية مع «إسرائيل»!

سعيد محمد سعيد

جمبازية السياسة والإعلام الجمبازي

 

لعلَّ من أفضل «حسنات» حركات المواطن العربي المطالبة بالحقوق المشروعة التي شهدناها منذ ثورة الياسمين في تونس واستمرارها في مختلف بقاع الوطن العربي حتى اليوم تحت مسمى الربيع العربي، هي افتضاح أمر الكثيرين من جمبازية السياسة… وخصوصاً المحسوبين على الحكومات! وسقوط الإعلام الجمبازي بعد أن قفز بصورة غير مسبوقة في الحياة اليومية للمواطن العربي.

طيلة العامين 2011 و2012 تابع ملايين العرب ألعاب جمباز مسلية جدّاً ظهر فيها أولئك الساسة على الشاشات الفضائية وهم يمارسون الجمباز السياسي في أعلى درجات الإتقان والمهارة بالصورة التي تفوقوا فيها كثيراً على وزير الإعلام (الشهير في عهد المقبور صدام حسين) محمد سعيد الصحاف، حتى أن طرفة انتشرت بين العراقيين وغيرهم تقول إن الصحاف عقد مؤتمراً صحافيّاً أعلن فيه أن اسقاط أحد تماثيل صدام كان (إنزالاً) بهدف «الصيانة» وليس كما يدعي «العلوج»! وتندر آخرون بالقول إن الصحاف «مات»! لكنه اتصل من قبره مؤكداً أنه لا يزال على قيد الحياة وسيوافيكم بالتفاصيل قريباً.

على أية حال، أسهمت «جمبازية» الساسة والمتحدثون باسم الأنظمة الديكتاتورية المتهاوية في إضافة حالة من الوعي بين الجماهير، وخصوصاً مع الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني الهائل؛ بحيث أصبح من اليسير كشف تناقضهم وتحايلهم بتقديم التصريحات المتناقضة نصوصاً ومقاطع صوتية ومرئية، وكان لنماذج النفاق والانقلاب واللعب على الحبلين أثرها في وضع أصحابها في قائمة الكذابين المتملقين المنبوذين.

*سئل أحدهم في حوار فضائي بينما كان ملايين المصريين يحتشدون في ميدان التحرير منذ انطلاقة ثورتهم يوم (25 يناير كانون الثاني 2011) عما ستؤول إليه الأوضاع في مصر، وهل سيتنحى مبارك أم لا؟ فقال :»إزاي وليه يتنحى الريس؟ فكل هؤلاء الذين يقفون الآن ضده؛ إنما هم يطبقون أجندات خارجية، ويتآمرون مع قوى اقليمية للإضرار بمصر وشعبها… شعب مصر مش هيتنازل عن الريس أبداً… فليكن معلوماً».

وبعد سقوط مبارك، شارك الرجل ذاته في مداخلة بأحد البرامج وكان «يلعلع» بعالي الصوت بأن عهد مبارك كان عهد الاستبداد والظلم والفساد والعبث بمقدرات مصر وأبناء مصر وحكم القطب الأوحد… وأنه من الناس الذين كانوا سيضحون بكل ما يملكون من أجل إسقاط ذلك الطاغية!

آخر عرفه الشعب المصري بهجومه المستمر على المتظاهرين في الميدان، وكان في كل مرة يتفنن في اختيار الصفات والتهم والافتراءات، لكنه بعد سقوط مبارك صار يتحدث عن الإنجاز التاريخي الذي حققه أبناء مصر المخلصون الأوفياء الذين (تفخر بهم مصر ويفخر بهم الجميع).

أما في اليمن، فالنماذج كثيرة، لكن أحد المشايخ؛ هاجم ثورة الشعب اليمني باعتبارها همجية وعواقبها بلاء، وأن كل الثورات لا تأتي على المجتمعات الإسلامية الا بالنكبات، ناصحاً بالعمل بالمنهج الشرعي في التعامل مع ولي الأمر وليس بهمجية «ارحل… ارحل»، حتى أنه قال: هل ترضى أميركا بأن يقال لمسئوليها :»ارحل… ارحل؟ وأن تظل غنماً بلا راعٍ؟»، فتلك الثورات في نظره ثورة ماسونية والثوار شأنهم شأن المجرمين يريدون إفساد البلد، وما أن تطورت الأحداث وتنحى علي عبدالله صالح حتى سارع في الثناء على شباب الثورة وإخلاصهم وتفانيهم وحبهم لوطنهم ووقوفهم صفّاً واحداً في وجه الاستبداد.

جمبازية السياسة أولئك ما كانوا ليظهروا ويتجاوزوا حدودهم ثم يسقطوا بعد ذلك لو كان الإعلام العربي يمتلك خطاباً مهنيّاً ووطنيّاً وأخلاقيّاً، وهذه واحدة من أهم القضايا التي ناقشتها ورشة عمل قيمة عقدت في القاهرة بتاريخ (27 سبتمبر/ أيلول من العام الماضي 2011) تحت عنوان: «آفاق الإعلام العربي في عصر الثورة»، بتنظيم من المنظمة العربية لحقوق الإنسان.

الجميل في تلك الورشة أن أسماء إعلامية لامعة ومحترمة في الوطن العربي شاركت فيها من أمثال محسن عوض، خولة مطر، علاء شلبي، محمد فائق وغيرهم، انتقدوا فتح المجال (لجمبازية السياسة)! فالمشهد الإعلامي العربي – كما شخصوه – قائم على تعظيم ثقافة الاستهلاك والتسطيح السياسي والفكري والاعتماد على التحريض والإثارة في مواجهة الجماهير، وأن أخطر ما قام به الإعلام العربي هو «خنق الحقيقة» عبر التعتيم عليها وهو دور يتجاوز التزييف، بدلاً من أن يقوم بشرح الحدث وإيقاعاته وإنزال الرسالة إلى مجرى الحياة اليومية.

خطر جمبازية السياسة والإعلام الجمبازي المساند لهم أيضاً يكمن في كونه مجرداً من الإطار المرجعي الوطني والمهني والأخلاقي، ولهذا انتشرت في الإعلام العربي مصطلحات من قبيل :»الفلول – العملاء – الخونة – المتآمرون – الفوضى – الانتقام والتشفي – الاعتصام والتظاهر – الضرب – القتل – الهمج – أعداء الوطن» وقائمة طويلة غير منتهية من المصطلحات والاتهامات والشتائم، ساهمت في تشتيت المواطن العربي أكثر مما رفعت قدرته ووعيه على الاختيار، حتى نفع ذلك في تحقيق ميزة أكبر وهي :»عدم تشرف الإنسان العربي بجمبازية السياسة والإعلام الجمبازي» ووضعهم في خانة (عباقرة الخداع والتضليل).

سعيد محمد سعيد

فكر «الحسين»… التحرر من العبودية

 

في نظر المستشرق الإنجليزي برسي سايكوس، وهو يصف العصبة المؤمنة المدافعة عن الدين الإسلامي تحت راية الحسين (ع) في كربلاء العام 61 للهجرة (680 للميلاد)، فإن الشجاعة الشريفة هي التي منحت لجيش الحسين الصغير العدد في كربلاء هذا الخلود… فهو يقول نصاً: «حقاً… إن الشجاعة والبطولة التي أبدتها هذه الفئة القليلة، على درجة بحيث دفعت كل من سمعها إلى إطرائها والثناء عليها لا إرادياً. هذه الفئة الشجاعة الشريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لا زوال له إلى الأبد».

بينما كنت أشق طرقي متجهاً إلى مركز النعيم الصحي مساء يوم الجمعة لحضور انطلاق حملة الإمام الحسين (ع) للتبرع بالدم في عامها الرابع عشر، قرأت عبارة في لافتة قماشية لها العديد من الدلالات: «الحسين ليس شخصاً، بل هو مشروع. وليس فرداً، بل هو منهج، وليس كلمة بل هو راية». ولعلني وجدت رابطاً بين هذه العبارة وعبارة المستشرق سايكوس، وعندما حاولت أن أبحث عن مصدرها، لم أجد في الحقيقة غير النص الذي كتبه الكاتب العراقي وسام رحمن اليوسفي في موقع «قراءات» ومنه هذه الفقرة: «اعتمد الحسين (ع) على قوّة المنطق، واعتمد عدوه على منطق القوة، ولما سقطت قوة عدوه، انتصر منطق الحسين، وكان انتصاره أبدياً. قبل عاشوراء، كانت كربلاء اسماً لمدينة صغيرة، أما بعد عاشوراء فقد أصبحت عنواناً لحضارة شاملة. تمزقت رايته ولم تنكس. وتمزقت أشلاؤه ولم يركع. وذبحوا أولاده وإخوانه وأصحابه ولم يهن!

إنها عزة الإيمان في أعظم تجلياتها. كان ما فعله الحسين (ع) وأصحابه صعباً عليهم، أن يقاتلوا أو يقتلوا، ولكنهم لو لم يفعلوا ما صنعوا، لكان عليهم أصعب».

ثم يقول اليوسفي: «الحسين (ع) ليس شخصاً، بل هو مشروع وليس فرداً، بل هو منهج وليس كلمة، بل هو راية، ولو شاء الحسين (ع) أن يعتذر عن الجهاد، لوجد كل الأعذار التي يتوسل ببعضها الناس للتقاعس عنه».

جميل هو ذلك النص حقيقةً، ولهذا فإن فكر الإمام الحسين (ع)، هو الفكر الذي تحتاجه الأمة الإسلامية بل وتحتاجه كل الشعوب المسحوقة التي تتشوق للتحرر من العبودية. ولعلني أستشهد هنا بنص آخر للكاتب العراقي ماجد الأسدي، فإن الأفكار الفاسدة في مجتمعنا الإسلامي، والتي فرضها عليه المتمصلحون من الفساد، هي ما يتوجب على الناس التخلص من قيوده، يقول الأسدي: «إننا الآن في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها العالم الإسلامي والعربي من تفكك ودمار ونزاعات طائفية، لابد من التحرر من هذه الأفكار المعادية المفسدة، وعلينا أن نتخذ من فكر الحسين (ع)، ومواقفه العادلة والشجاعة نبراساً ينير لنا صفحات الإنسانية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلك من مكارم الأخلاق في الدين الإسلامي التي تتطلب الجهد والعمل لصناعة الإنسان القويم في المواقف العصيبة».

هناك صلة وثيقة بين نهضة الإمام الحسين (ع)، ومنهج الإصلاح في أمة جده المصطفى محمد (ص). هكذا نقرأ ما كتبه، على سبيل المثال، المستشار القانوني والمحامي عبدالإله عبدالرزاق الزركاني، بقوله إن علينا أن ندرك تماماً وأن نستلهم من ثورة الإمام الحسين (ع) – التي جسدت أروع صور التضحية – الدفاع عن مبدأ مشروع النور القرآني الذي بدأ الرسول محمد

(ص) بنشر رسالته الإنسانية. رسالة الإسلام المشرق الذي نقل الإنسان من الظلمات إلى النور، فكانت قيادة الإمام الحسين ابن فاطمة بنت محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام لا تبحث عن منصب أو مال أو جاه أو حكم، كونها في جوهرها منهجاً مستمداً من القرآن الكريم تهدف لحماية حرية الإنسان وكرامته، ومنحه حقوقه في العيش بحياة كريمة من غير ذل أو ظلم أو استعباد.

لذا، تناول الكثير من المفكرين والعلماء والأدباء من شتى الأديان والمذاهب، أهداف الإمام الحسين (ع) كقضية أممية، حتى وصفها البعض بأن «كربلاء هي الدستور الحسيني للحق والسلام والتآخي بين كل الشعوب المحبة للسلام والتحرر لطلبه الإصلاح، حيث كان ينشد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقطع الإمام (ع) الشك باليقين عندما حدّد هدف رسالته في تحقيق الحق وتعزيز الكرامات لنشر العدل وإقرار المساواة، ضماناً وحمايةً لحرية الإنسان وحقوقه المشروعة».

ورحم الله الشاعر الكبير المرحوم محمد مهدي الجواهري حينما قال في قصيدته الخالدة «آمنت بالحسين»:

كأن يداً من وراء الضريح

حمراء مبتورة الأصبع

تمد إلى عالم بالخنوع

والضيم ذي شرق مترع

تخبط في غابة أطبقت

على مذئب منه أو مسبع

لتبدل منه جديب الضمير

بآخر معشوشب ممرع