سعيد محمد سعيد

«سعدون»… سلام الله عليه

 

لا أدري، هل أنا مخطئ فيما أشعره، أم يبادلني الإخوة القراء الكرام الشعور ذاته؟ ألا تجدون بأن هناك من ينفجر غيظاً وقهراً وحنقاً وعداوةً حين يرى أي صورة من صور المحبة بين المواطنين من مختلف الطوائف؟ وخصوصاً إذا كانوا من الطائفتين الكريمتين؟

ألا تلاحظون معي بأن هناك أنياباً مسنونةً متأهبة لأن تنهش كل فكرة جميلة بين أهل المبادرات الوطنية والاجتماعية والإنسانية التي تهدف إلى التصدي للأفكار الطائفية البغيضة؟ ثم ألا تلاحظون أن أولئك، كلما أصابهم الفشل، كلما عادوا من جديد؟ ترى، إلى ماذا ترمي خططهم وإلى متى سيستمرون؟.

مهما طال أمد تخطيط تلك الفئة فإنها إلى زوال وفشل لا محالة! مناسبة هذا الحديث، هو أن مواطنة بحرينية من طائفة، احترق منزلها حفظها الله وحفظ أسرتها وحفظ السامعين، فتنادى إليها نسوة من طائفة أخرى. أليس في هذا وضوح الصورة الأكمل للمعنى الإنساني والإسلامي للأخوة والتعاضد؟ لكن «أولاد إبليس» الذين يأكلون الجيف والعفن في الظلام، لا يحبون مثل تلك الصورة، فهب بعضهم كعادته، يكتب من جحره العفن في وسائل التواصل الاجتماعي يحذّر ويدعو للمقاطعة وأخذ الحيطة والرقابة الكاملة على مثل هذه الصورة الإنسانية الإسلامية لأنها وفق فهمه: «محاولة خداع فاشلة… لن ننسى خيانتهم… لن ننسى حقدهم»!

على أية حال، أقولها صريحةً، أولاد الحلال من أبناء الطائفتين الكريمتين، يعملون بصدق وإخلاص ومودة وتعاضد، وفي ذلك قمة الدور الوطني للحفاظ على النسيج والسلم الاجتماعي، لكن هناك من الأشرار من لا يزالون يمشون في دروب العداء والدخان الأسود يتصاعد من قلوبهم.

وسأعود إلى العام 2008، ويا لمحاسن الصدف، فقد كتبت ما نصه: «يبدو أن كل ما تبقى لدينا من علاقات طيبة ومحبة كمواطنين نعيش في كنف بلادنا الغالية سوى حكايات الأجداد، وقصص النسيج الإجتماعي المتماسك بين أهل البلد في زمان ولى ومضى! وشرفة نرى منها أياماً رائعة مضت حين نقرأ عن رحلات المقيظ بين السنة والشيعة للكاتب حمد النعيمي، وحين يطرب مسامعنا كبار السن في الطائفتين حين يروون لنا «كان يا ماكان» يحيي قلوبهم، وربما… ربما حين نشاهد «مسلسل سعدون»!.

أينما تذهب سترى الوجه الحقيقي أمامك: خطب جمعة، تصريحات نارية، مقالات طائفية، أوراق سرية وأخرى علنية… سوق يجد فيها تجار المصالح مساحات لا تنتهي لبيع بضائع من جميع الأصناف، لزبائن من جميع الفئات.

والأدهى من ذلك، أن الكل ضد الطائفية، والكل ضد العبث بمنجزات البلاد، والكل ضد تصنيف المواطنين وتلوين ولاءاتهم، والكل يتحدث عن الحقوق والواجبات، والكل، الكل بلا استثناء، يحملون هموم الوطن!

في لحظات، قد تسنح الفرصة للمواطن أن يفكّر في وضع الوطن، وأهل الوطن، وتراب الوطن، وينظر إلى حقيقة الأوضاع في هذا المجتمع الصغير الذي نفرح أن نطلق عليه اسم «البيت العود»، الذي يجمع السنة والشيعة، المسيح واليهود، العرب والعجم، العابر والمقيم. ولكن هناك «أكذوبة» ورثناها، وحقيقة أردنا لها أن تتوارى خلف المجهول، وهي شرارة، إن كبرت يوماً واشتد أوارها، قل علينا جميعاً السلام.

صراع خطير يمزق الأوصال، ليس في فمي ماء، ولكن في قصيدتي المتواضعة شجون:

يلوح من البعد جور الزمن

وبالقرب تبدو بقايا وطن

وشعب تهيأ كي ينتقم

من الأخ والجار وقت المحن

فبالأمس قالوا لنا بيتنا

كبير ولن يعتريه وهن

فإن كنت «شيعي».. فشيعتنا

وإن كنت «سني» ففيك السنن

ولكن سقطنا بلا عثرة

فنحن جميعاً نحب «الحسن»

ونجنح «للصلح» حين نرى

معاوية لا يستحق «اللعن»

ويسحقنا ظلم تاريخنا

ويجرفنا في الخلافة «فن»

وقالوا وقلنا كفانا أسى

ألا إننا جبل من ضغن

فنعشق تكسير أطرافنا

ونفرح حين نبيع العفن

وما أسعد الناس وقت الحريق

ووقت النعيق ووقت الفتن

وتؤلمنا شنشنات «الغريب»

يتاجر فينا بأغلى ثمن

كذبنا على بعضنا كذبة

بأنا جميعاً فداء الوطن

وهل يصدق القول وقت النفاق؟

عضيدي أمامي وخلفي طعن؟

كذبنا على بعضنا كذبة

فأين الحقيقة.. أين الوطن؟

***

سلام الله عليك يا «سعدون».

سعيد محمد سعيد

هل أنت «مسئول طائفي»؟

 

في الحقيقة، يصل البعض إلى درجة من الإفلاس المثير للضحك والشفقة في آن واحد. هذا «البعض»، حين يستهدف الصحافيين والإعلاميين من الزملاء ممن لا يتمكن من مجاراة أفكارهم ومقالاتهم المتميزة التي يختلف مستواها عن مستوى جماعته ذوي محبرة الأقلام السوداء النتنة، فيتعمد إلى الإساءة بخبث.

وجدت أن البعض «نبش» وأعاد نشر مقال قديم يعود إلى العام 2008 تحت عنوان: «هل أنت مسئول طائفي؟»، عبث في المحتوى وادعى أنني أطالب بمساءلة المسئول الطائفي من طائفة بعينها فقط! وكم هم أغبياء أولئك الذين صدقوه دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث (عندكم غوغل يا جماعة طمبورها)! وهنا، أعيد المقال وهو منشور بتاريخ يوم الأحد (6 يناير/ كانون الثاني 2008) في العدد (1948):

ترى، ماذا لو تم تنظيم حملة وطنية بإشراف جهة حكومية لتنظيف كل الوزارات والمؤسسات الحكومية، وكذلك الخاصة، من المسئولين ذوي الميول الطائفية والنزعة التفكيكية؟

لنتخيل، مجرد تخيل لا أكثر ولا أقل، أن تلك الحملة، ستفتح المجال أمام جميع الموظفين والموظفات والمواطنين والمقيمين للتقدم بشكاوى موثقة بالأدلة والقرائن للجنة العليا المشرفة على الحملة ضد المسئول أو «الشخص» الذي يتمتع بممارسة طائفية في كل تصرفاته، فيميز بين هذا المواطن ومواطن آخر، وينكل بموظف أو موظفة لا تتلاقى انتماءاتهم المذهبية مع أهوائه؟ هل سيكون العدد كبيراً؟ من الطائفتين؟ وهل سيجرؤ المواطن المسكين المتضرر من الممارسات الطائفية أن يخطو هذه الخطوة بكل جرأة وأمان وثقة؟ أم سيطلب العافية وعفا الله عما سلف؟

في ظني، لو قدر لتلك الحملة «الوهمية» المتخيلة أن تتم، لصارت طوابير خلق الله المتضررين من الأفعال الطائفية البغيضة في كثير من المواقع.. وربما، ربما أصبح الوضع شبيهاً بأزمة الشاحنات على جسر الملك فهد! وفي ظني أيضاً، أنه لو خصص لكل مواطن تضرر ذات يوم، أو لا يزال يتضرر، من ممارسة طائفية مدة ساعة كاملة ليتحدث عما واجهه من معاناة، فإن تلك الساعة لن تكفي!

ذات يوم، تحدثت مع واحد من كبار المسئولين عن معاناتنا كمواطنين من استمرار أشكال التمييز الطائفي في كثير من الجهات، وكأن هذه الممارسة الشائنة لا علاقة لها بدستور البلاد وعبارته الرئيسة الكبيرة (المواطنون سواسية)، فما كان منه إلا أن رفض بشدة هذا الكلام مؤكداً أن للمواطن، أي مواطن، الحق في شعوره بإنسانيته ومواطنته وحقوقه، وأن مثل هذه الأفكار من شأنها أن تحدث تأثيراً سيئاً على مستوى العلاقات الاجتماعية! وحين سألته عما إذا كانت العلاقات الاجتماعية تلك التي يتحدث عنها، قائمة على الحقوق والواجبات، وأنه لن ولم يضار مواطن من إقصاء أو تمييز بسبب انتمائه المذهبي ومعتقده، قال: «ولماذا يرضى المتضرر بهذا الوضع؟ لماذا لا يتقدم بشكوى ضد ذلك المسئول الذي سيكون حتماً فوقه مسئول أكبر»… لوهلة، ظننت أن المسألة بسيطة جداً… أنا مواطن، أساء المسئول الطائفي معاملته لي متعمداً، فتوجهت إلى المسئول الأكبر وشكوت له ظلامتي فأعاد حقي! لكن عدت لأقول، أن كل هذا أضغاث أحلام. وفي ظني أيضاً، أن كل مسئول طائفي يعلم، وهو في غاية الاطمئنان، أن لا أحد يجرؤ على الشكوى ضده، وإن حدث ذلك، فإن هذه الشكوى ستكون في عداد الملفات المغلقة، وسيدخل الشاكي في دوامة جديدة وشديدة من التنكيل والتقصد والحرمان من الترقيات حيث سيعمد ذلك المسئول إلى «غسل شراعه» في كل واردة وشاردة، ومع هذا، فما المانع من التجربة؟ كثيرة هي الشكاوى من الممارسات الطائفية الصادرة عن بعض المسئولين في مواقع مختلفة، لكن قلة هم أولئك الذين يرفضون هذه الممارسات ويتبعون الإجراءات والوسائل القانونية لرفض تلك الممارسات!

وبعيداً عن تلك الحملة المتخيلة، على الأقل، يتوجب على المسئول الطائفي أن يراقب الله، ويلتمس العذر لذلك الإنسان الذي يصب عليه جام طائفيته من باب «لقمة العيش»، أما بالنسبة لي، سأتريث قليلاً مع أي مسئول يتعمد الإساءة لي طائفياً.. لكنني لن أسكت عنه طويلاً!».

***

انتهى المقال، لكن لله الحمد، أن فعل أولئك الخفافيش، نفع في إعادة موضوع ذي مضمون صالح في 2014 أكثر منه في 2008.

سعيد محمد سعيد

أمامك طريق واحد… الواسطة!

 

إذا أردت أن تتفتح لك أبواب الفرج – إن كانت مغلقة في وجهك – وأنت من الناس الذين لديهم أفكار ومشروعات ودراسات تنفع البلد، وليس في مقدورك أن تصل إلى الشخص المسئول لتحصل على الدعم، فأمامك طريق واحد: وهو البحث عن واسطة قوية تأخذ بيدك إلى مكتب المسئول.

ومن الخطأ أن تعتقد في قرارة نفسك بأن الواسطة يجب أن تكون كبيرة وذات نفوذ! أبداً أبداً، اعتقادك غير صحيح، وكل ما عليك فعله هو أن تبحث عن شخص له «حظوة» ومقرب جداً من المسئول، و«يمون» عليه كما نقول بالعامية. فقد يكون ذلك الشخص إنساناً بسيطاً لكن المسئول يحبه ولا يرفض له طلباً. فتواضع قليلاً، واترك عنك المفاخرة بعلمك وشهاداتك الأكاديمية، وابحث عن ذلك الشخص. فالمقربون من الرؤوس الكبيرة اليوم، يمتلكون المقدرة لتسهيل الطريق أمامك. وماذا في ذلك؟

لا عيب إطلاقاً مادام أصحاب العقول والأفكار والمبادرات الإبداعية استسلموا للتهميش، فلا تستسلم. ولعلني كتبت قبل سنوات بضع «مقامات» تصلح لهذا «المقام»، وأعيدها لأنها ربما تناسب لمقامات سنوات قادمة – لا قدر الله – فما نريده هو العدالة لكل مواطن!

قال الراوي يا سادة يا كرام، بعد أن صلى على سيد الأنام، محمد عليه وعلى آله وصحبه الكرام السلام، إن مواطناً بحرينياً طموحاً أراد أن يقدّم مشروعاً يخدم فيه بلاده، ويعود نفعه على أهل البلد وعليه وعلى أولاده، فسهر الليالي يخطط ويكتب، ويعيد النظر مرة تلو الأخرى ويجدد أفكاره ويرتب، حتى أصبحت خطة المشروع مكتملةً من كل النواحي، وفائدته مضمونة للمواطنين في كل المدن والضواحي، ولم يكن ينقصه إلا خطوة… يقابل فيها مسئولاً ليناقش معه فكرة المشروع، فيحصل على السند والقوة.

حمل المواطن أوراقه، مليئاً بالحماس والطاقة، وتوجه إلى المسئول الأول، فتفاجأ بأن ليس في مقدوره أن يدخل ويتفضل، وجاءه الجواب بالرفض قبل أن يسأل، لكنه لم ييأس أو يتردد، ووجد في البحث عن مسئول آخر خطوة جيدة تزيل ما يمكن أن يتعقد. وراح إلى المسئول الثاني، فأمطره بالكلام المعسول والأماني، وأخبره بأنه سيتصل، وسيكون النقاش في الفكرة متصل. وخرج مسروراً لكنه لم يرجع. فلا المسئول عنه سأل. ولا سكرتيره اتصل!

لم يفقد الأمل بسبب ما قد حصل، فقصد المسئول الثالث والرابع، وتبعه الخامس والسادس والسابع، لكن المواطن فقد حماسه، وعاد يكرّر قوله عن التعس والنحاسة. قال محدثاً نفسه: «انتكست والله شر نكسة! فأقصى ما أتمنى خدمة بلادي، وأنفع الناس قبل نفسي وأولادي». وحينها قرّر صرف النظر، ليقبل القضاء والقدر! وهكذا حال الكثير مثله، اللاحقون بعده والسابقون قبله.

لكنه فوجئ ذات يوم، بفكرة أزاحت الهموم، قال له صديقه القديم: «إذا أردت يا أخي النعيم، وتضرب الضربة في الصميم، إذهب إلى فلان فهو الواسطة، وهو سيعطيك دروب الخارطة. فاسمع له يا صاحبي ما يقول. ونسأل الله لك القبول. فلان يا صاحبي صهر الوزير. وهو خدوم، ناصح قدير. يحبه الصغير والكبير»!

وجاء يوم الموعد المحدد، فصوب المواطن وسدد، أهدافه بحكمة ورقة، شارحاً الفكرة في دقة، لكنه شاهد صهر الوزير، مبرطماً يكرّر الزفير. فقال يا صاحبي ما ترى من فكرة يحتاجها الورى؟ فجاءه رد من البرود، لكنه كصفعة الخدود. عاتبه صهر الوزير ساعة، قال له لا ترتجي الشفاعة. مشروعك حبر على ورق، تفوحه وتشرب المرق!

***

إلى من يهمه الأمر: إذا أردتم للبلد أن تتطور وتتقدم وتنهض، أوقفوا المعايير القبلية والطائفية والتمييز والعنصرية، والازدراء والتشكيك في الانتماء الوطني، ورسّخوا مبدأ تكافؤ الفرص لكل أبناء البلد، مهما كانت ديانتهم وطائفتهم ومستواهم وميلهم السياسي والفكري والعقائدي… باختصار: لا تلونوا «الضمير» وفق هواكم.

سعيد محمد سعيد

مناصبكم… لا تستحقونها!

 

ولو عن طريق الخطأ، لنسأل: «ترى، لماذا لا تتم إقالة المسئولين المفسدين في حكومات العالم العربي والإسلامي مضافاً إليها بالطبع، دول العالم النامي؟ ولماذا لا نسمع أو نرى أو نشاهد إقالة وزراء أو مسئولين كبار متورطين في قضايا الفساد على مستوى دول الخليج العربي؟».

ولماذا يتحسر المواطن العربي حين يتابع في نشرة أخبار أو يقرأ في صحيفة عن رئيس وزراء أو وزير أو محافظ أو رئيس حزب، استقال من تلقاء نفسه لخطأ جسيم وقع في فترة إدارته، ويغمغم وهو يتابع: «اييييه… تعال شوف اللي عندنا.. وزارة أبوهم».

قبل أيام، تناقلت بعض وكالات الأنباء خبر استقالة أحد كبار المسئولين في حكومة رئيس الوزراء الإيطاني ماتيو رانتسي لاتهام ذلك المسئول، وهو أنطونيو غينيتل، بأنه مارس ضغوطاً على صحيفة محلية (حتى لا تنشر مقالاً يتعلق بابنه).

حسناً، البروفيسور السوداني عباس محجوب محمود، تناول بالبحث عنوان «أدب الاستقالة»، فمن بين ما كتبه هذا النص: «ذكر لي أحد الإخوة عن واقعة في بريطانيا في ستينيات القرن الماضي وفي أقصى شمال بريطانيا حيث تراكمت نفايات الفحم الحجري في منطقة ما نتيجة خطأ أو إهمال من جانب المسئولين من تلك المنطقة – مثلما يحدث عندنا دائماً- ما أدى لتراكم النفايات لعوامل مناخية مختلفة، وزحفت النفايات على مدرسة للأطفال فنجم عن ذلك خسارة كبيرة ما دفع رئيس مجلس إدارة الفحم أن يقدّم استقالته وهو في لندن باعتباره المسئول الأول عن هذا الحدث الذي وقع في مكان بعيد عنه وفي إحدى إداراته. ومع أن رئيس الوزراء لم يقبل استقالته إلا أنه أصرّ عليها، ولعل هذا ما دفع وزير الصناعة في السودان عبد الوهاب عثمان للاستقالة من الوزارة حيث أعطى درساً في تحمل مسئولية الإخفاق مع شهادة الجميع بأنه لا يتحمل مسئولية ما حدث في غير ولايته، والكثير ممن يستحقون الإقالة لإخفاقاتهم المتكررة وفشلهم يجازون بالنقل إلى موقعٍ ناجحٍ لممارسة هواية الفشل والإخفاق وتحطيم ما بني، بل تدعيم عدم المعرفة لما هو مطلوب منه أو مطلوب أن يتعلمه بقاعدة التكرار وسيلة من وسائل التعلم للشطار (…)، وبالمناسبة «الشاطر» في اللّغة العربية هو «من أعيا أهله خبثاً».(انتهى الاقتباس).

أليس في ذلك كلام عجيب جميل موجز؟ حسناً، إذا تجاوزنا المعادلة التي أفرزتها الأزمة، وتشظياتها وتبعاتها بين السلطة والموالاة والمعارضة، وصرفنا النظر عن الآثار السلبية التي نتجت عن الممارسة برمتها، والتصنيف برمته، سيبقى أمامنا تصنيفٌ آخر على المستوى الشعبي، أي بين عامة الناس في البلد لتصنيف بعضهم البعض أيضاً بين مواطن شريف «مع الحكومة» وآخر عميل «ضد الحكومة»! تصنيفٌ تبدو معادلته في قمة السخف.

والأكثر من ذلك، بل الأصعب والأشد تأثيراً، أن هناك بقعةً سوداء للغاية… يفضل من يحسب نفسه على الموالاة الحديث عنها إلا من وراء «جدار»! فيما هي متكررة بوضوح وجرأة وصدق وحماس على لسان أتباع المعارضة، وهي أن هناك مسئولين لا يستحقون البقاء في مناصبهم… أبداً! فلا هم متمكنون من إدارة أعمالهم وخدمة الوطن والمواطن بالشكل الذي يخلصون فيها للثقة، ولا هم يستطيعون حتى الوفاء بأبسط تصريح أو كلمة تصدر عنهم، ولا هم بقادرين على تغيير السلبيات المتراكمة في قطاعاتهم، إلى تحولات إيجابية.

إن المشكلة كبيرة، وكل الدول التي تحترم مسئولية صيانة الوطن وحماية حقوق المواطن، تبحث عن الأكفاء والمخلصين من ذوي التاريخ الوطني المشرف والناصع البياض، لتنصبهم في مواقع إدارة الدولة، وإن وجدت فيهم من ليس بكفؤ لتحمل المسئولية أزاحته، لا سيما أولئك من طراز (الوزارة وزارة أبوه)، فيحوّلها إلى (جهد جبار) من الإنجازات بتحكم أهله وحمولته ومن يعز عليه.

على أي حال، لن نفتأ نتحدث عن حقيقة الوضع الذين يعيشه المواطنون في البلد، فمن الصعب مراضاة الحكومة بالتطبيل والتصفيق الدائم، لأن في ذلك خيانة للوطن! من جهة أخرى، لا يعني أن انتقاد الحكومة، لابد وأن يأخذ الشكل العنيف القاسي الذي يربك الأوراق ويؤثر حتى على المنهج الوطني السلمي، فوضع اليد على مواطن الخلل والتقصير والتجاوز والفساد هو أمر مطلوب مع أنه لم يجدِ نفعاً طوال السنوات الماضية! وهذه حقيقة مرّة، لكن لا يجب أن يبقى الحال بلا (ديناميكا) تخرجنا من ذات المنهج والأسلوب والصدام والخلاف والتأجيج والطائفية ودعوات القتل والاحتراب وإشعال العلاقات، ثم يظهر من يتباكى على النسيج الوطني والسلم والوحدة الوطنية.

ولنبق في حدود رأي الشارع البحريني، فالغالبية العظمى من المواطنين أصابهم اليأس، ونقصد هنا يأسهم من أن تتبدل الأحوال إلى الأفضل. والسؤال الأصعب هو: من الذي لديه القدرة على تغيير ذلك اليأس والتحوّل إلى الأفضل مترجماً على أرض الواقع؟

والجواب البديهي: هي السلطة قطعاً! أليست هي من تستطيع فتح وإغلاق باب الرياح كما تريد؟.

سعيد محمد سعيد

رحنا… «نفيش»!

 

لو تابعنا بدقة، التصريحات التي تأتي وتروح، تسمن وتضعف، تكبر وتصغر، تسطع وتخبو فيما يتعلق بكلمة «الحوار»، سنجد أنفسنا أمام واحدة من أشهر رقصات السامبا فشلاً! أو لنقل إننا نشاهد أمامنا بوضوح، التطبيق الفعلي للعبارة الشعبية البحرينية الشهيرة: «دودهو من دودهك من طقك»، في حين أن ما يؤسف له، هو تلك الشدة التي تحيط بالمجتمع البحريني من كل مكان، وكأن هذه الأزمة الشديدة بكل أبعادها، لا يُراد لها أن تنتهي إلا إذا تم العثور على «دودهو» وسؤاله عن أحواله وعمّا ألم به.

ولا أعتقد أن هناك أحداً في هذه البلاد الطيبة، مازال يصدق بأن هناك نية صادقة لإجراء حوار ينهي – على أقل تقدير – مسبقات حوار الطرشان إن جاز التعبير، والدخول في منطقة أكثر صدقاً مهما كانت العوائق، وإن أصاب المؤزّمين والمتاجرين الذين يعتاشون على الأزمات حالة من الهستيريا واستجمعوا قواهم لنقل البلد من حالة «الحريق الصغير» إلى «الحريق الهائل»، فيتوجب أن يكون من بين أهم المنطلقات، إيقاف أولئك عند حدهم والسلطة قادرة على ذلك دون شك.

بالمناسبة، فإن وصف «الحريق الصغير» ورد على لسان المفكر البحريني علي محمد فخرو، في ندوة نظمها نادي العروبة يوم الثلثاء (18 فبراير/ شباط 2014) بمشاركة أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة البحرين باقر النجار. وقد وصف فخرو الأزمة السياسية المستمرة منذ ثلاث سنوات وتبعاتها الخطيرة في بثّ الصدام الطائفي واستهداف النسيج الوطني والسلم الاجتماعي، بأنه حريق صغير يلزم رؤية وطنية عميقة تنقذ البلاد والعباد قبل التحوّل إلى «حريق هائل مدمر»، لاسيما على صعيد الصدام الطائفي والانقسام الخطير. وهو الأمر الذي يتوجب إدراكه من جانب كل الأطراف المعنية وعلى رأسهم السلطة.

وأهم المحاور التي بنى عليها فخرو والنجار رؤيتهما للخروج من المأزق، هي: الديمقراطية باعتبارها الطريق الصحيح للخروج من الطائفية والاحتقان من خلال برلمان «حقيقي»، وقضاء مستقل «موثوق بعدالته ونزاهته»، وتحريم الدعوات العلنية لأية مقاطعة اقتصادية «طائفية»، وضبط التجنيس حسب القانون وليس حسب الانتماء الطائفي، علاوةً على المحاسبة القانونية لأي تجاوز طائفي في الخطاب الديني، والمحاور في هذه الندوة تستحق القراءة بتأنٍ.

تلك الخلاصة التي طرحها وأجاد في تحليل أبعادها شخصيتان بحرينيتان لهما مكانتهما فكرياً وسياسياً واجتماعياً وعلمياً على مستوى البحرين والعالم العربي والإسلامي، لا يجب أن تهملها الأطراف المعنية، وعلى رأسها السلطة قطعاً.

من الصعب للغاية أن تبقى الأوضاع في بلادنا على حالها من الاحتقان والاشتعال وتبادل الاتهامات بالتخوين والتآمر، والدعوات الطائفية النتنة بالضرب بيد من حديد على كل من وضعه المؤزّمون في خانة التخوين والتآمر. ومن الأصعب أن تدور مفردة «الحوار» في وسائل الإعلام والصحف والتصريحات في حلقة مفرغة لا طائل من ورائها!

وكأي مواطن، يحق لي أن أتساءل مستغرباً: «ألهذا الحد تبدو الأزمة في البلاد عادية وبسيطة لدرجة التساهل والتمييع والتراخي في إيجاد أرضية واقعية لحوار ذي مغزى؟ ألهذه الدرجة بلغت درجة راحة وطمأنينة من لا يريد للأزمة أن تنتهي؟ هل نستغرب حين يصل المواطن إلى درجةٍ من التشاؤم والإحباط والتذمّر من لعبة الحوار؟».

إن استمرار التصريحات التي تعيد وتكرر وتصف الحوار… أو مرحلة ما يسبق الحوار، أو لنقل ضياع بوصلة الحوار لا تغني ولا تسمن من جوع؟ هل يستفيد الوطن والمواطن من كلام مكرّر من قبيل: «الحوار مستمر… الحوار سيستمر… نعمل لإنجاح الحوار… الحوار مسئولية كل الأطراف! سنبدأ الحوار… بدأ الحوار… ماضون في الحوار… الدولة الفلانية تؤيد الحوار، والدولة العلانية تؤكد على أهمية دخول كل الأطراف في الحوار! الحوار والحوار والحوار».!

وبالمقابل، هل يستفيد الوطن والمواطن من الأصوات النشاز التي تحذّر من الحوار، وتسخّف من الحوار، وترفض الحوار وتصفه بأنه حوارٌ مع خونة وإرهابيين، وأنه رضوخٌ لإملاءات وضغوط من الخارج؟

وأختم بالقول… لا يجب أن نستغرب حين يعلّق المواطن البسيط على الحوار بهيئته الحالية بقوله: «رحنا نفيش».

سعيد محمد سعيد

أسد الإسلام «أبو الفلافل»!

 

قد تجد هذه الشخصية المثيرة للجدل… «أبو الفلافل» في كل المجتمعات الإسلامية والعربية، بل قل «الخليجية» تحديداً. وهو واحد من أفشل وأرذل وأخبث وأسقط الشخصيات التي تتلاعب بعقول ذوي الميول الطائفية والاجرامية.

مثيرة للجدل شخصية «أبو الفلافل»، فقد عاش ردحاً من الزمن، ولايزال، تلاحقه أسوأ الأفعال والأوصاف والأخلاق لسوء واسوداد ملفه، لكنه رغم كل ما تلطخت به يداه ووجهه وبطنه وظهره من آثام وأوزار وخبائث، يتصدر اليوم مشهداً من أشد المشاهد لؤماً حين يتلبس بلبوس الدين والقيم والأخلاق والسنن والمبادئ، والإدعاء بالدفاع عن البلاد والعباد ووراثة الأنبياء. بقيت له درجتان، أقل وربما أكثر، فيصبح بين من يصدقه من قومه المغفلين الموتورين طائفياً… يصبح نبياً!

هذا وجه من الأوجه الظاهرة عن هذا الرجل ذو الوطنية العالية، والنبل والهمم والشدة والبأس والقوة والذود عن الدين، وكلها «فقاعات» لا نجدها إلا في بضع مقاطع من «اليوتيوب» يظهر فيها وكأنه واحد من كبار علماء الأمة! والوجه الآخر، أن من يتبعه هم نفس العدد ونفس المجموعة، ذات الفكر التحريضي، والصوت الطائفي، وذات العقلية التي تخلط السياسة بالمذهب، فتحارب من تختلف معه طائفياً من باب الخلاف السياسي وهكذا.

وعلى العموم، قلة أتباع «أبو الفلافل» هو في حد ذاته أمر طيب، ثم إن تميزهم بالطائفية والجهل وقبول التحريض لم يأتِ من فراغ، فهناك من يمتلك المال والنفوذ ليشجّعهم ويدفعهم لإثارة الصراع البغيض في المجتمع. وهم حتى الآن فاشلون مهزومون رغم سوء خطابهم وخطاب «أبوالفلافل»، على الرغم من بيع بضع صفات وسمات من قبيل أنه وقبيله، يتمتعون بوطنية صادقة! لا حقيقة ولا مقام لها إلا في مسار النفاق والتملق.

أمثال أسد الإسلام «أبوالفلافل» لم تأتِ من فراغ، وقد قلت سابقاً وكتبت عدة مرات في هذا الاتجاه، أنه ومع شديد الأسف، تتوارى أصوات علماء الأمة الأفاضل ذوي الحرص على استقرار المجتمع الإسلامي وتختفي، فيما تتصدر خطب وأقوال وهستيريا مشايخ «الفتنة» ومدّعي الدين والعلم وحب الأوطان المتاجرين بالطائفية، وهم في الغالب نكراتٌ ليس لهم ثقل في الأمة، حتى وإن ذكرنا من بينهم علماً كبيراً أو علمين من لهم مكانة واحترام، لكنهما أسقطا نفسيهما في براثن الفتنة والدعوات التحريضية التي لاتزال آثارها باقية وماثلة في العالم الإسلامي لسبب أن دعوة جاهلية أو خطبة رعناء أو لقاء في قناة فضائية أحدثت بين بعض أبناء الأمة ما أحدثت من خلاف وشقاق وعداء وكراهية.

والحال كذلك، لا يظهر على السطح إلا دعوات الفتنة، فتنتشر سريعاً في كل مكان، ويعقبها حملات مؤيدة ومعارضة، فيما يندر أن تجد كلمة سواء من قبل علماء الأمة الأفاضل وقد احتوت كل هذا الهوس بالطائفية والتدمير والرغبة في رؤية الدماء والتناحر، وأولئك ومن يقف معهم يجدون في الوصول إلى نتيجة (منتظرة لهم) وهي الصدام الطائفي وتدمير السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي، غاية كبيرة وترفع آمالهم وتطلعاتهم لهدم المجتمع هدماً يفجر غيظهم. ولهذا، فإن تنامي ظاهرة الكراهية بين أبناء السنة والشيعة، ومن أهم أسبابها، رضا الحكومات والسلطات وأصحاب الشأن من المسئولين والوزراء عمّا يقوله ويفعله أمثال أسد الإسلام (أبو الفلافل)، فهو وأمثاله ليسوا سوى أدوات فتنة. وذات السلطات والحكومات والمسئولين وأصحاب القرار هم من يدفع في اتجاه تغييب الدور الحقيقي للعلماء العاملين.

إن مشايخ الحمق والهبل من الطائفتين (الشّيعة والسّنة) يدقّون طبول حرب وشيكة بين الشّيعة والسّنة، يصبّون الزّيت والبنزين على النّار بتصريحاتهم الغبيّة، والعامّة من ورائهم يتحرّكون بالروموت كنترول، مندفعين بلا وعي ولا عقل، إرادتهم توجّهها العاطفة الدّينيّة الجيّاشة، لا همّة لهم إلاّ في القتل والإفساد والأذى. عقولهم صادرها علماء دينهم فلم يعد لهم عليها سلطان، وبعزيمة تشحذها وتقوّيها الرّغبة في إحياء فريضة الجهاد ونيل إحدى الحسنيين، إمّا النّصر أو الاستشهاد يتواجه الفريقان في ساحات الوغى في بلدانهم وأوطانهم، وبذلك يكفي اللّه «إسرائيل» ومن ورائها أميركا شرّ القتال (الكاتب الجزائري باهي صالح: الكراهية بين السنة والشيعة).

دعونا من «أبي الفلافل» وأمثاله، واسمحوا لي أن أعرض عليكم نتائج استفتاء عربي حول قضية خطورة الخلاف السني الشيعي على السلم الاجتماعي في الدول العربية والإسلامية للنقاش… ذلك الاستفتاء شمل عينة مبحوثة تقدر بحوالي 1775 مشاركاً من مختلف المذاهب الإسلامية. ووفقاً للاستفتاء، رأت نسبة 18.08 في المئة (المصوتون = 321) أن تصعيد الخلاف السني الشيعي وراءه مخابرات دولية مثل الموساد وغيرها، بينما نسبة مقدارها 49.07 في المئة (المصوتون = 871) رأوا أن الفكر التكفيري السلفي والمنهج المتشدد المتعصب وراء الفتنة الطائفية في العالم العربي والإسلامي، بينما ذكرت شريحة أخرى نسبتها 12.56 في المئة (المصوتون = 223) أن التطرف الشيعي في ممارسات الشعائر وطرحه للمسائل التاريخية هو الذي سبّب الفتنة الطائفية بين المسلمين.

وأشارت نسبة مقدارها 5.79 في المئة (المصوتون = 106) إلى أن الجهل بمعرفة كل مذهب للمذهب الآخر هو وراء ظاهرة التعصب المذهبي. واعتبرت نسبة مقدارها 14.31 في المئة (المصوتون = 254) أن غياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات الدينية وراء ظهور التعصب المذهبي.

باختصار، وأكرر رأيي المتواضع، لا تنتشر الطائفية والأحقاد في أي مجتمع وفي أية دولة وفي أي بلد، إلا إذا كانت حكومة وسلطة ذلك البلد ترضى بالطائفية وترعاها وتشجّعها وتموّلها وتريد لها أن تنتشر. لا يوجد بلدٌ في العالم يطبّق قوانينه بصرامة على الطائفيين ويساءل كل من يمد لسانه بالإساءة إلى استقرار المجتمع والسلم الاجتماعي تجده يعاني من الطائفية.

إذاً، عيبٌ على الحكومات التي تزرع وتشجّع وترعى وتطبّق الطائفية أن تشكو منها… عارٌ كبيرٌ عليها.

سعيد محمد سعيد

شلخ… يُشلخ… تشليخاً!

 

هكذا، بيني وبين نفسي، قرّرت العودة إلى شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2010… لعنك الله يا إبليس! خزاك الله يا شيطان يا رجيم! على أية حال، لعنت الشيطان واطلعت على نماذج من الكلام الذي قيل آنذاك قبل أيام وجيزة من موعد الانتخابات البرلمانية على ألسنة بعض المترشحين، ممن صاروا فيما بعد نواباً، لكن (شلخهم) ما زال يلاحقهم قطعاً.

نضحك على أنفسنا كثيراً حين ننفخ في بالون التحولات الديمقراطية والمؤسسات والقانون والتطور والرفاهية، فهي تأتي من قبيل تجاهل البيانات والإحصائيات والدراسات المحكمة للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ونكتفي بترديد عبارات الإنشاء والنفاق! ويصبح أول من يشيد ويمدح مع شديد الأسف، هو من يفترض فيه أن يكون ممثلاً للشعب فتحوّل بقدرة قادر إلى ممثل للحكومة!

عجبًا! فواحد من أكثر الطائفيين كان يقول في تصريحاته الرنانة آنذاك: «هنالك من يتعمد أن يفرق بين الشعب من الداخل ويحاول أن يقلل من ولائه»، فمثل هذه العبارة الرنانة التي أطلقها ذلك المترشح الذي صار نائباً، ليست سوى للاستهلاك المقزز، لكنكم تعلمون بأن من السهل أن يملأ البعض المكتبات بكتب من تأليفهم أو من تأليف غيرهم… نصوص في نصوص في حبر على ورق، لكنها تخلو تماماً من الصدق والحقيقة. وكم كانت عروض تشغيل بعض «الصحافيين» نشطة ليقوموا بدور البوق لبعض المترشّحين، يكتبون لهم تصريحاتهم وكلماتهم وعباراتهم وبرامجهم وتشليخهم… عادي!

في صفحة من صفحات صحفنا المحلية في ذلك العام، ما بدا وكأنه «ديوان مظالم» لكثرة ما قال بعض المترشحين يومها أنهم لا ولم ولن وليس وما ومهما ولو.. قطعوا رقابهم لن يتخلوا عن حقوق المواطن البحريني في العيش مطمئناً على أمنه ولقمة عيشه وحقوقه مهما كان مذهبه، فيما زبد آخر على ما يبدو وهو يصرخ: «الوطن أمانة.. ودورنا أن نحافظ على الوطن! لا تهمنا المجاملات. لن نكون أداةً في يد الحكومة! الحكومة إن أحسنت سنشكرها وإن أساءت سنستخدم أدواتنا النيابية»! أقول بس استريح.. معظم أوقاتك في البرلمان (سايلنت).

أما آخر فكان في الحقيقة يعبّر عمّا في أنفسنا كمواطنين حين تحدّث عن السعي الحثيث لزيادة الرواتب والأجور والامتيازات. بل وحدّد ثلاث أو أربع فئات من الأسر المعوزة التي تستحق الدعم المالي، وغير ذلك، كان مصراً حينها على ألا يستمر العبث في المال العام وفي الثروات وفي توزيعها العادل. وذلك العادل لم نر منه إلا الغزوات! ولربما كانت له بضع مواقف لا بأس بها فيما مضى من السنين، إلا أنه سوّد صفحته بأدائه النيابي المخجل القائم فقط على التصريحات النارية الفارغة.

ولعل ما فجّره أحدهم يمثل في تاريخ البحرين القديم والحديث تحولاً لم تعرفه أية ديمقراطية في العالم حينما قال أنه سيضرب بيدٍ من حديد على المفسدين والفاسدين، وأهل الفساد وفساد الفساد، وكم أعجب الناس ذلك الكلام لا سيما حين يقول كلامه في الصحافة مرفقةً بصورة (عينه حمراء)… يا ولد.

فاز ودخل المجلس وأصبح يلعلع في غالب لعلعته ضد أية خطوةٍ في صالح المواطن!

وكم كسرت خاطري شعوب موزمبيق وتشاد ودول القرن الأفريقي وأنا أستمع لذلك المترشح الذي تظاهر بعبوسه وحزنه على «معاشات» البحرينيين المثقلين بالأقساط والالتزامات المالية، وكما كان شديداً قوياً حازماً حينما رفع صوته وسبابته (تتتلوح يميناً وشمالاً) معلناً أنه لن يتهاون مع الحكومة، ولا مع أي مسئول يتمتع هو وجماعته فيما المواطن المستحق يضيع في سيل المحسوبيات والفساد وغياب تكافؤ الفرص… يعني صدقني!

لكن الحقيقة، كان أحد المترشحين، وهو الآن يقوم بواجبه في المجلس النيابي، وجدت له تصريحاً مؤرخاً في الثالث من شهر أكتوبر 2011 تحدّث فيه عن أهل الرشا والرشاوي، خصوصاً أولئك الذين يدّعون الفضيلة والشفافية، وهذا ما وجدناه من الرجل ومعه أسماء قليلة من النواب «القلة الصادقة» الموصوفين اليوم بالمشاكسين لا يتجاوزون خمسة أو ستة نواب. يسمّيهم غالبية المواطنين بأنهم: صوت صادق، أما من يزعجه كلامهم فيعتبرهم: (ميانين)… لكن الذي ملأ رؤوس الناس بالتشليخ والكلام السخيف، فهو عندهم: مخلص محب للوطن! فيا جماعة (شلخ..يُشلخ.. تشليخاً)… كل شيء مسجّل عليكم فرداً فرداً، وكلمةً كلمة يا أصحاب السعادة!

سعيد محمد سعيد

«الطائفية»… مستقبل أسود

 

كان الله في عون أهل القلوب الطيبة من أبناء منطقة الخليج العربي، ولنقل أبناء العالم العربي والإسلامي من الدعاة والمشايخ الأفاضل والمفكرين والمثقفين والناشطين والكتاب والإعلاميين، بل وبسطاء الناس المخلصين الذين يحاولون العمل وفق ما أوتوا من قدرة لمواجهة ذلك الغول الذي يسمنه أقطاب العداء للحياة وللسلم وللمحبة… غول الطائفية.

هذه النماذج الرائعة الكريمة، تتعرض للتنكيل والاستهداف لا لشيء إلا لأنها ترفض كل ممارسة وفكر وسلوك طائفي، وهذه الضربات تأتي بالتأكيد ممن يعملون ليل نهار لتمزيق المجتمع الإسلامي بالطائفية، فقد تيسر لأولئك «الوحوش» المال والإعلام والدعم ليقوموا بدورهم على أكمل وجه! وقد تفننوا في ذلك كثيراً إلى درجة أن هناك موضةً خبيثةً بدأت في الانتشار في مجتمعاتنا، ليس على مستوى الخطابة والإعلام والصحافة ومناصب التطبيل، بل حتى على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي. قد تجد نكرةً من جراثيم الطائفية وقد استل سيفه باحثاً عن «من يدهن سيره»، ويملأ ركابه فضةً أو ذهباً، عندما يغرد ويكتب وينتج أفلاماً وينشيء المواقع الإلكترونية بهدف واحد يريد به وجه الله سبحانه وتعالى ألا هو: «إشعال نار الفتنة والصدام والتناحر المذهبي»، ولا تستغربوا حين يفعل ذلك ثم يرفع حنجرته الكريهة بالتكبير.

هناك في المقابل، بضع أفكار يسيرة من أصحاب القلوب الطيبة الذين يبذلون كل ما أوتوا من جهدٍ لمحاربة داء الطائفية، لاسيّما على مستوى منطقة الخليج العربي، وقد كان لي الشرف أن أكون واحداً ممن دعموا حملة «الطائفية مستقبل أسود» التي ابتكرتها ونفذتها مؤسسة «قيثارة» للإنتاج والتوزيع الفني.

كانت فكرة الشباب تقوم على أساس التصدي للحملات الطائفية المغرضة التي نشطت فضائيات ومواقع الكترونية وحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد في تأجيجها وتسميم المجتمع الإسلامي بها. وهذا الأمر لم يكن مريحاً بالنسبة لفنانين خليجيين صادقين من الطائفتين الكريمتين. كانوا يراقبون ذلك المد المتصاعد بقذارةٍ لا مثيل لها، مدعوماً من لحى وبشوت خبيثة، ومن فضائيات ومواقع الكترونية، ومن مصادر أموال مصبوغة بالدناءة، فنهضت بضعة أفكار على أيدي شباب خليجيين لإنتاج الأفلام القصيرة والمقاطع الترويجية التي تنادي بمحاربة الفكر الطائفي المريض، من خلال مخاطبة العقول والضمائر.

على مدى دقيقة و39 ثانية، انتشرت الحلقة الأولى من الحملة (الطائفية مستقبل أسود)، وقد كتبت عنها تقريراً مفصلاً حال بثها، وأذكر القاريء الكريم بمضمون ذلك الفيلم القصير الرائع الذي وقعت عليه عيون مئات الآلاف ويتغلغل إلى عقولهم قبل وجدانهم… ففي ذلك المشهد، يبدو اثنان من الأصدقاء من الطائفتين الكريمتين، تسبقهما مشاهد تحريض وتأجيج وقتل وإرهاب وعنصرية تبثها القنوات الطائفية، ما تلبث أن تعكس أثرها الصدامي بين الاثنين فيبدآن بالتشابك بالأيدي إلى حد التقاتل وإدماء الرؤوس والأجساد، وتحطيم الصورة التذكارية التي تمثل العلاقة الجميلة بينهما.

ينظر كل منهما إلى الآخر وهو يلهث في حالة غضب مؤجج إلى أعلى حد، ثم تهدأ النفوس، ويجلس الإثنان ليشاهدا مباراة في كرة قدم وهما في غاية الانسجام والمحبة، ضمن فاصل على الشاشة، تظهر عبارة: «أيها السني، إن الشيعة الروافض هم العدو الأول للسنة»، فينظر السني إلى صديقه الشيعي بريبة، وكذلك الحال حين تختفي تلك العبارة وتظهر عبارة آخرى تقول: «أيها الشيعي، إن السنة النواصب هم العدو الأول للشيعة»، فيتبادل الصديقان نظرةً حادةً، ويعودان للصراع والتشابك من جديد في الوقت الذي تبث فيه الشاشة مشاهد التفجيرات والإرهاب والمسلحين، حتى تصبح الغرفة التي تجمع الاثنين وكأنها ساحة حرب. تضطرب الغرفة بما فيها وتهتز إلى أن يتحرك الرف الذي يحمل القرآن الكريم، وقبل سقوط كتاب الله المقدس على الأرض، يهرع الإثنان للإمساك به، وينتهي المشهد بمسك المصحف من الطرفين حفاظاً عليه وتظهر عبارة: «الطائفية مستقبل أسود… ما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا».

حسناً… جميل ذلك العمل دون ريب، لكن لدي سؤال أوجهه إلى المسئولين في تلفزيونات دول مجلس التعاون وملاك الفضائيات، ألا يستحق هذا الجهد الجميل، وبإمكانيات محدودة من هؤلاء الفنانين، أن تقدّموا لهم الدعم والمساندة من جهة، وتتبنوا أعمالهم وتشجعوهم على تنفيذ المزيد منها من جهة ثانية؟

على أية حال، نودّ أن نرفع كل الشكر والتقدير إلى فريق العمل من الفنانين والكتاب والفنيين: الممثلان عبدالرحمن بودي، مراد أبو السعود، موسى ثنيان وفاضل الشعلة اللذين كتبا السيناريو، أحمد الجارودي (التصوير والمونتاج)، ميثم البحراني (الإضاءة)، مهدي الجصاص (المكياج)، ونرفع صوتنا معكم أيضاً: «لا مكان للطائفيين الذين يريدون أن يجعلوا مستقبلنا أسود، بتآمرهم مع أعداء الأمة الإسلامية وخصوصاً الصهاينة وما يحيكونه في مؤتمراتهم من مؤامرات، يفسح لها الطائفيون المجال وينفذونها من أجل وزن ثقيل من المال، ووزر ثقيل من العار».

سعيد محمد سعيد

زار «الدوائر الحمراء»

 

كم هو عار كبير أن يؤسس بضع نفر من الناس المهووسين بالطائفية والكراهية موضة «الدوائر الحمراء» على مخالفيهم ثم يصبح المجتمع البحريني هو أكثر المجتمعات، مع شديد الأسف، ريادةً وتميزاً في هذا الفعل الشنيع؟

وكم هو خبيث ذلك السلوك الذي أصبح ملازماً لحفلات زار طائفية بغيضة، بل يمضي أصحابه ضمن نواياهم الخبيثة أيضاً في استمرار ذلك الفعل حتى لو كان هناك بصيص أمل، ولو بنسبةٍ ضئيلة، لإخراج البلد من أزمتها السياسية!

نقاشات كثيرة شهدتها المجالس والمنتديات واللقاءات على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، كان من بين ما ناقشته موضوع التفريق بين «السياسي» و«المذهبي»، إلا أن هذه النقاشات رغم عمق معالجتها من قبل سياسيين وناشطين ومثقفين في مجتمعنا، بقيت في دائرة «الدواويح الحمراء». بمعنى أن هناك نشوءًا لمنهج يقوم على أساس تخوين كل من يختلف مع أصحاب «زار الدوائر الحمراء» مهما كان موضوع الاختلاف، سياسياً أم مذهبياً!

ولهذا، تواصل جراثيم «الدواويح» عملها في مواقع الكترونية وحسابات تواصل اجتماعي لتستهدف كل من وضعته هي بمزاجها، في دائرة التخوين، وبالتالي، وفي وقت تحتاج فيه البلاد إلى العمل المخلص لإنهاء الأزمة السياسية، نجد أن البعض ابتكر بخبثه المعتاد، استهداف من يريد استهدافه تحت عناوين من قبيل: «حتى لا ننسى الخونة»، أو «هؤلاء هم من تريدون التحاور معهم». وقد تجد أسوأ من تلك العناوين من قبيل: «لن نترك الخونة في سلام»، وتتشارك جراثيم الدواويح الحمراء في حفلة الزار بتقديم تشكيلات من الصور في مسيرات واعتصامات وفعاليات وأكثرها بالطبع في دوار اللؤلؤة، تقاطع الفاروق، دوار الشهداء، دوار مجلس التعاون، وسمه ما شئت، ليعود الهوس لدى البعض بتدويح صور من وقع عليهم الاختيار، لتنهال بعدها عبارات التخوين والشتم والدعوات للقتل والدموية والقصاص والتسفير والتدمير.

ثمة ردة فعل مغايرة من جانب المستهدفين أنفسهم، يجدها البعض ردة فعل طبيعية ويجدها فريق آخر أنها «لا تناسب المرحلة والناس تريد تبريد الأجواء وتهيئة المجال للإنصاف والمصالحة»، لكن في كل الحالات، ولطالما أن هناك من يقبل القول بأن عالم المواقع الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي ما هو إلا عالم «افتراضي» تكثر فيه الأسماء المستعارة والنوايا المخبأة والأهداف المشبوهة، عليه أن يطبق هذا القول على من قام برد الفعل من خلال نشر صور وتغريدات ومواقف لأناس عرّضوه للضرر واتهموه وخوّنوه.

وفريق آخر أعاد تذكير الناس بتصريحات وتغريدات لمسئولين وسياسيين وناشطين أسهموا بدرجة كبيرة في تأجيج الاحتقان الطائفي وإحداث شرخ ليس من السهل علاجه، وصل إلى حد التكفير ودعوات القتل المسمومة بسلاح الدفاع عن الوطن، حتى أصبح جلياً لدى الكثير من المواطنين أن هناك فئة من المؤزّمين والطائفيين ممن ملأوا الدنيا صراخاً بدعوات حب الوطن، ما هم إلا تجار أزمات ولا يمكن أن يعيشوا في أجواء سلام وإنصاف وقانون وحقوق. بل ربما اهتزت أركانهم وشعروا بزلزال عنيف حينما يبصرون بأن حقوقاً بالمساواة والمواطنة ستشمل كل المواطنين، ولو فرضاً وتخميناً، فتكون ردة فعلهم إطلاق ذات النيران المدمرة التي تحذر من «الخونة» و»المتآمرين» على حد زعمهم، وإنهم لم ولن يقبلوا بحوار أو تفاهم أو حلول يشارك فيها أولئك الأعداء العتيدون.

لا بأس… من الممكن تجاوز مثل هذا العبث الصبياني في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وما لف لفها باعتباره من أعمال أصحاب البطولات «الكارتونية» من خفافيش الظلام، ومن المقبول أيضاً تجاوز بضع كتابات لعدد من الصحافيين والكتاب الذين تأسست أفكارهم على الصدام الطائفي فأصبحوا أسرى لهذا الطرح والمنهج، لكن أن يكون هناك سياسي أو ناشط أو شيخ دين أو برلماني، حالي أم سابق، ينتمي إلى تجمع أو ائتلاف أو جمعية، وربما يكون عضواً في حوارات ونقاشات ومرئيات، ويقف أمام الناس ليكرر مقولات من قبيل: «تحدّث إلى جماعتك الشيعة… لا علاقة لك بالمواطن السني»، فيما آخر يخطب صادحاً: «حذرنا من الإنقلابيين فلن نضع اليد معهم»، فإن هذه واحدة من النماذج التي تشير إلى تطوّر نمطية «الدواويح الحمراء» لتصبح منهجاً تأزيمياً يلزم إيقافه بالقانون… فهل ذلك ممكن؟

ليس الربط بين التحولات الإقليمية من حولنا ومدى الحاجة إلى إنهاء الأزمة سياسياً بالأمر المغفول عنه، لكن الأمر الأخطر المغفول عنه فعلاً هو أن يتحطم المجتمع البحريني على يد أصوات لا تريد للوطن خيراً ولا سلاماً. إنما تريد لتجارتها وحساباتها أن تتضاعف وتنتعش مع دوام الأزمات. هؤلاء هم من يجب أن توضع على صورهم الدوائر الحمراء وينالوا عقابهم إن كان في النية فعلاً إنقاذ البلد.

سعيد محمد سعيد

ثلاجة الموتى!

 

هنا، مجرد سطور «قصة قصيرة»، والباب مفتوح لمن يشاء، لأن يسقط مضامينها على من يشاء وكيف يشاء! «شاءت الأقدار أن يستقر حاله في الحياة كحارس لثلاجة موتى… عرفه الناس منذ سنين كعالم وأستاذ ووجيه له مكانته في المجتمع، إلا أن تحولاً خطيراً ظل طيّ الكتمان، حوّل حاله من أحد الوجوه الكريمة، إلى واحد من أبشع الوجوه الكريهة».

العمل مع الموتى بالنسبة له كان خانقاً مضجراً مدمّراً في بداية الأمر، لكنه اعتاد المكوث لساعات وساعات، حتى بعد انتهاء أوقات العمل، بين تلك الجثامين التي لا روح فيها! أما الجانب الأكثر امتاعاً ودهشةً له، أن مع تابوت كل جثة، عُلقت ورقة فيها بعض التفاصيل عن صاحبها في أيام حياته… يقضي الساعات ليقرأ في تلك الأوراق.. يبكي حيناً، يفرح حيناً، ويخطط حيناً آخر.

بادئ ذي بدء، حينما أبلغه مسئوله الكبير أن هذه التوابيت (ليست مخيفة)، فهي فاقدة للحياة، وحتى يطمئنه أكثر، شجّعه لأن يتعرف عليها من خلال أوراق التعريف مع كل تابوت. وكانت البداية مع جثة قديمة جداً بالية، مضت سنون ولم يسأل عنها أحد. في ورقة التعريف قرأ هذا النص: «أنا المسجى هنا في هذا التابوت… عشت حقيراً ومت حقيراً. بلغت من العمر مبلغاً لم أجد مع تقدمي فيه أي فارق في حياتي سوى أنني كنت أريد أن أعيش، وفي الوقت ذاته، أريد أن أحرم غيري من العيش. في حياتي، التافهة الحقيرة، أردت أن استحوذ على الخير كله، لكنني أموت قهراً وحنقاً وغيظاً حينما تمتد يد آخر لتصل إلى ثمرة واحدة مما سقطت عيني عليها. كلهم خونة. لا أطيقهم… فليذهبوا إلى الجحيم.

وحتى كتابة هذه السطور، هل ذهبوا إلى الجحيم؟ أم أنا الذي سبقتهم… ختاماً، بلغوا تحياتي للحمار ابن الحمار الذي يعيش في حظيرة كبيرة بجوار منزلي المتهالك».

العبارة الأخيرة، جعلت حارس الثلاجة يتبسم بعد تجهم وعلامات حزن وكدر علت وجهه وهو يقرأ النص. تبسم، ثم تبسم، ثم ضحك! ومع أن من حوله موتى فضّل أن يكتم ضحكته.

في التابوت الآخر جثة امرأة، وبالطبع لأنه من أهل الدين والمروءة والأخلاق، فإنه ما كان أبداً يقبل بأن يأتي أي زائر من أقرباء المتوفية ليرى وجهها ويتعرف عليها إلا أن تكون امرأةً مثلها. أي نعم، فلم يكن يماري أو يتساهل في أمور الشرع، لهذا، ترحم عليها وسحب ورقة التعريف ليقرأ ما فيها: «والله إنني فضلت الموت على أن ينتهك الكلاب عرضي. عشت عزيزة نفس رغم فقري. لكنني في أشد هبوب عصف الباغين والطاغين والمارقين، كنت على استعداد تام أن أضحي بكل ما أملك في حياتي… إلا شرفي، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. أما تلك الكلاب التي ما فتئت تهتك أعراض الناس، فإن مصيرهم كمصير ذلك الذي تعفن في تابوت أسود.. ربما.. ربما تجدون واحداً في مكان ما هنا أو هناك».

لا حول ولا قوة إلا بالله. لعن الله تلك الكلاب… قالها وهو ينصرف ليفتح باب المشرحة حيث جرس بابها يرن. أمام الباب، وجد مجموعةً من الناس وهم في حالة هلع وبكاء. رجل يرتجف وتلعثم في الكلام. امرأةٌ تنحب وتحثو التراب على رأسها. شباب وشابات توزعوا هنا وهناك في وجوم وحزن وترقب. قال الرجل الذي اقترب من الباب: «افتح… افتح أيها الحارس. قل لي بالله عليك: هل وصلتكم قبل قليل سيارة إسعاف تحمل جثمان ضمير؟». استغرب الحارس لحظة ثم ما لبث أن ضحك ضحكة مجلجلة: «ههههه… لا بأس يا صاحبي. لا تنتظر خبراً مثل هذا. فلا أعتقد أن من تبحث عنه موجود في هذه المدينة. إبحث عنه في مدينة أخرى، لكن ها.. حذارِ أن تخدع نفسك وتبحث عن شيء اسمه أفلاطونية الخيال، المدينة الفاضلة لا وجود لها فلا تتعب نفسك. وعن جثمان الضمير الذي سألت عنه، يسعدني أن أقول بأننا لم نستلمه، لأن لا حياة فيه فهو جماد. ومن مات قد مات منذ أجل طويل.

«يا للهول.. هناك تابوت أسود».. في يوم عمل ممل كان يتجول داخل أروقة ثلاجة الموتى. وفي مكان قصي، رأى تابوتاً أسود، ترى أيكون ذلك التابوت هو الذي كتبت سطوره تلك المرأة التي دافعت عن شرفها حتى الموت؟ اقترب من التابوت وعفونته تخترق كمامة الأنف التي يرتديها. كان همه أن يصل إلى ورقة التعريف. حينها، وقتما وقعت بين يديه، صدمته العبارة: «أنا الذي أنقذت العالم فكاد يذهب من بين أيدينا. أنا الذي وقفت كالحامي عن بني البشر في كل بقاع الأرض. أنا الذي حميت الأوطان من أن تختطف على أيدي «هارماغيدون»… لكن من سوء حظي.. أقصد سبب موتي، أنني وجدت في اغتصاب نخيلات باسقات شامخات أمراً مسلياً. بقيت النخيلات وسقطت أنا في الجحيم. ويحي… ويحي».

بعد قراءة نص التابوت الأسود، لا يزال حارس الثلاجة هائماً بلا صواب، يبحث عن شيء يكتبه كتعريف على تابوته قبل أن يموت.