سعيد محمد سعيد

مشايخ الكروش الكبيرة

 

على المزاج والهوى، يحدد مشايخ الطائفية والتشدد والفتنة في الخليج والوطن العربي حسب «الموضة»، بين الحين والحين، عدواً للإسلام والمسلمين، كما يحلو لهم. ففي حقبة زمنية، طال أمد تحديد «طائفة كبيرة من المسلمين» بأنهم العدو الأول، وأنهم «أشد خطراً من اليهود»! وموضة اليوم، تحولت تجاه «خوارج العصر»، «داعش» والإرهابيين، الذي عاثوا فساداً منذ سنين، ولم يصبحوا عدواً للإسلام إلا أول أمس.

لنعترف، بأن مشايخ الفتنة والتكفير والتشدد الذين فُتحت لهم الفضائيات والصحف والمساحات الإعلامية العابرة للقارات هم السبب الأول والأكبر في تلويث فكر المجتمع، وخصوصاً العبث بفكر الشباب والناشئة، ولكنهم لن يتمكنوا اليوم من وضع حد لهيجان ذلك الغول الجاهلي الفتاك. وأجزم بأنهم لن يتمكنوا، ولهذا يتوجب على الحكومات الخليجية والعربية والإسلامية أن يكون لها استراتيجيات عاملة، وطنية في بعضها ومشتركة في بعضها الآخر، للتصدي لموجة النحر والقتل والدمار التي صنعها مشايخ الفتنة وسيفشل في صدها مشايخ الفتنة. وليت آثارها وانعكاساتها تقع فقط على رأس مشايخ الفتنة ذوي الكروش الكبيرة والعقول المبرمجة لتدمير كل شيء جميل في سماحة الإسلام.

ويمكن رؤية الأتون الطائفي المقيت الذي سيأتي على منطقة الخليج بأسرها ما لم تبادر الحكومات إلى منع أسباب استمراره، كونه سيؤدي دون شك إلى خلخلة النسيج الاجتماعي والوطني في دولنا، فالغول الطائفي لن يتجاوز أحداً في هجومه بشراسة، ولن ينفع وقت هجومه التندم على خطابات مشايخ الفتنة وإعلام التدمير ومصالح الفئات ذات الوطنية الزائفة! فكلما امتد الزمن وازدادت الطائفية ضراوةً، أصبح مجال التطويق والحل ضيقاً جداً جداً.

وفق قراءة الكثير من الباحثين المهتمين بشئون الخليج العربي، فإن «الغول الطائفي» يمثل واحداً من أكبر وأخطر التحديات الكارثية على حكومات وشعوب المنطقة حاضراً ومستقبلاً. وهذه المخاطر تزداد وتتضاعف يوماً بعد يوم في ظل تصاعد المد الطائفي في الإقليم قادماً من العراق وسورية ولبنان واليمن وتركيا، وفي الوقت ذاته، الغياب الواضح لمسار تعزيز قيم الوحدة الوطنية واعتماد مبدأ المواطنة والمساواة التزاماً بالدساتير والقوانين، أي تأثر مظلة الضمانات الأساسية حقوقاً وواجبات. (انظر مقال «الخليج أمام الغول الطائفي»، الوسط، 20 يناير 2013).

تخطئ القيادات والحكومات حين تستغيث بمشايخ «الكارثة» ظنّاً منها أنها ستعينهم وستنفعهم! ذلك خطأ استراتيجي فادح، فأولئك يصنعون الدمار والكراهية، لكنهم لا يمتلكون القدرة على البناء ونشر التسامح أبداً، فليس يقبلهم لا من يحبهم (حين يرونهم وقد تغير خطابهم) ولا من يكرههم (حين يدرك أنهم سبب في الكارثة)، ولهذا، فلو اتجهنا إلى الفئات المعتدلة من المفكرين والمثقفين والباحثين، وعلماء الدين المعتدلين في العالم العربي والإسلامي، ولاسيما في منطقتنا الخليجية، ففيها الكثير من الأسماء المحترمة، سنقف أمام عدة محاور للتصدي للخطر القادم، بدءًا من تحديد الثقافة والتنشئة الدينية المتطرفة وعلاج أسبابها، ثم تحليل وتفكيك أيديولجية الخطاب الديني المتطرف، وبعد ذلك يتسنى الانطلاق نحو معالجة الأسباب التي ترتبط بواقع معيشة المواطن اقتصادياً واجتماعياً.

وبالطبع من العبث إغفال معالجة المشكلات السياسية التي تعج بها المنطقة العربية، وعدم الاكتفاء بالتنظير فيما إذا كان ربيعاً أم خريفاً أم مؤامرة عربية، فأسوأ ما يفعله الإعلام العربي الهزيل هو إعادة وجوه التنظير الصفيقة التي طالما تلاعبت وتتلاعب بعقل المشاهد العربي.

بالطبع، لا يمكن إطلاقاً إغفال المخاطر الكبيرة المحيطة بمنطقة الخليج إثر التطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط وانعكاساتها عليها، ولا يمكن التغاضي عن مجموعة من مثيرات الخطر التي تشهدها العديد من دول الخليج، إلا أنه بالإمكان السيطرة على هذه المخاطر والحد منها، حينما تتصدى الحكومات بالدرجة الأولى، وقبل غيرها، للجهات التي تلعب على الوتر الطائفي داخلياً أولاً. فمتى ما سلمت الساحة الداخلية من هذه المعاول وأوقفت عند حدها، وشعر كل مواطن بأن حقوقه مصانة، فإن هذه الجبهة تقوى وتستقر وتكون قادرةً على صد أي اضطراب سلبي يهدد استقرار الوطن.

كما أن هناك ظاهرة واضحة مبنية على المصالح الفئوية والشخصية، وهي تلك التي تنضوي تحت عنوان «القرب من السلطة»، فمن الواضح أن هناك أطرافاً في منطقة الخليج تتلبس هذا القرب لتلعب على الوتر الطائفي وتثير المشاحنات والتناحر في وسائل الإعلام وفي سلوكياتها اليومية بهيئة لا يمكن أبداً أن يتم التغاضي والسكوت عنها، لكن هذا حاصل، ومع العلم اليقين بسوء ما يفعل هؤلاء، إلا أنهم يسرحون ويمرحون في منهج تدميري سيئ للغاية.

اليوم، لا يمكن إغفال أدوار قوى إقليمية تسعى إلى تأجيج الطائفية في المنطقة، تمهيداً لما تريد القيام به من سيطرة، ولعل أول أهداف هذه السيطرة ضمان أمن الكيان الصهيوني، وهذا يوجب قطعاً تنشيط الوعي الوطني، وقراءة الأوضاع بصورة حقيقية والتركيز على التعليم والإعلام. وهذه مسئولية الدولة بالدرجة الأولى، إلى جانب تنشيط مؤسسات المجتمع المدني والرموز السياسية والاجتماعية الذين سيكونون سداً منيعاً في وجه الطائفية، وسلاحاً بإمكانه الحد من مخاطرها ومنع أي تحرك طائفي مستقبلاً.

لكن بالنسبة لي شخصياً، فإن السهل جداً والصعب للغاية معاً، هو أن تتجه الحكومات إلى احترام مواطنيها، من خلال مفهوم «الوطن الجامع»، الذي يستوعب كل مكوناته، ويحترم كل أطيافه وتعبيراته المجتمعية، وليس بمنهج ومنطق الحكومات التي تعتبر الأوطان «شركات تملكها»، والشعوب «عمالاً لديها».

سعيد محمد سعيد

مات «إيرانيون»… احتفل «خليجيون»!

 

«حين تسقط طائرة ويتسبب ذلك في سقوط ضحايا أبرياء ويطربك ذلك… ابحث عن إنسانيتك المفقودة».

العبارة أعلاه، واحدة من عشرات، بل ربما مئات التغريدات على حساب «تويتر»، وردت تحت وسم (هاش تاق): «تحطم_طائرة_ركاب_إيرانية» انتشر بين المغردين بعد الحادث المؤسف بسقوط طائرة ركاب إيرانية قرب مطار مهرآباد بالعاصمة طهران يوم الأحد الماضي (10 أغسطس/ آب 2014)، وذلك خلال رحلة داخلية. وقد أجمعت التقارير الصحافية على مقتل جميع الركاب، ولكنها تفاوتت في تقدير عددهم؛ إذ قدر البعض العدد بـ20 راكباً، في حين رفعته تقارير أخرى إلى 50، فيما قالت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إيرنا) أن عدد القتلى 48 شخصاً على الأقل.

بالفعل، تحت ذلك الوسم، تستطيع أن تقرأ مستوى التخلف والرجعية والطائفية والأمراض النفسية والانحطاط، وأقبح قذارة وصل إليها البعض من الشامتين والمحتفلين والمهنئين والمباركين! كان ذلك واضحاً دون شك، وللأسف، غالبية أولئك المسوخ من جراثيم الطائفية هم من دول الخليج بتفاوت قطعاً. نفخ شيطاني قبيح جداً جمع أولئك الذين يسري في عروقهم إبليس الرجيم كما تسري الطائفية والأحقاد، حتى تجاوز بعض المرضى حدود الفرح والسرور للهجوم على المعتقدات والمذاهب.

تلك الصورة السيئة حقاً، بل هي الأسوأ من بين عشرات المشاهد والصور في المجتمعات الخليجية والإسلامية ذات الضمائر الميتة، والممارسات التي لا علاقة لها بسماحة الدين الإسلامي العظيم، ولا بالإنسانية أصلاً.

وبغض النظر عن أعمار ومستويات أولئك المغردين، إلا أن المجتمع الخليجي، مع كل ذلك الوحل السيء من جراثيم الطائفية، أظهر صوتاً أقوى هذه المرة، حين علا صوت المواطن «المسلم» الحقيقي، أو لنقل «العربي» الحقيقي، برفض ذلك الانحطاط الحيواني الشيطاني المقيت الذي اجتمع حوله الطائفيون (مثال: بعض الطائفيين استخدموا تغريدة واحدة مشتركة تقول: «بمثل هذا الخبر ما تدري أن تفرح وتدعي عليهم أو تحزن وتدعي لهم. لكن نقول إن كان بينهم (من طائفتي) فارحمه واغفر له»! هل لمثل هذه المفردات ارتباط بأخلاق الدين الإسلامي؟

على أية حال، فإن هذا هو الوجه المشرق الجميل، فالتغريدات التي كتبها ذوو القلوب المطمئنة والمتسامحة والرافضة للطائفية، كنست تغريدات ووسخ وقذارة الطائفيين، وإن استمروا في عفنهم، وكان العنوان الأكبر لهؤلاء الطيبين: «أوسخ إنسان هو من يشمت في ميت أياً كان مذهبه وجنسيته»، ومع أنهم ترّحموا على الضحايا، إلا أنهم كتبوا الكثير مما يكشف وجود فئة كريمة نقية من أبناء الخليج والعالم العربي والإسلامي، قبال جراثيم الطائفية التي تقتات ليل نهار على صديد أسيادهم ومشايخهم وكبرائهم ممن غذّوهم بكل هذه السموم ليفتكوا بالمجتمع.

الشيء المفرح حقاً لمن تابع الوسم، أن العديد من دواب الطائفية حذفوا تغريداتهم بعد أن تحرّك ضمير بعضهم ليستغفر الله، ثم يستغفر الله، ثم يستغفر.. لكن حتماً، سيعود بعضهم إلى سيرته الأولى. فمن عاش في زريبة الطائفية منذ ولادته، لا يخرج منها إلا إلى المقصب أو النفوق.

ثمة مواقف جميلة سطرتها تغريدات بعض المغردين المعروفين المناهضين للطائفية وأهلها يمكن ربطها بالأوسمة التغريدية التي تكشف وجه الطائفيين الممسوخ، فعلى سبيل المثال، كتب الصحافي البرلماني الكويتي مبارك البغيلي: «رئيس المخابرات الأميركية في 2006: سنضع لهم إسلاماً يناسبنا، ونجعلهم يقومون بالثورات فتنتشر الطائفية بينهم»، وساند التغريدة بقصاصةٍ من صحيفة عربية فيها تصريح رئيس وكالة المخابرات الأميركية السابق جيمس وولسي يقول فيه: «سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية، ومن بعدها، قادمون للزحف وسوف ننتصر».

ولعل الناشط نصير العمري كان شديداً: «العرب مضحكة.. تنتفخ أوداجهم نصرةً للدين والطائفة، والغرب يعبث بنفطهم وأوطانهم وكرامتهم. أغنامٌ تحرّكها الطائفية ويسوقها الحكام إلى مذبح صهيون». وكتب سعود مطلق السبيعي أيضاً: «المندسون والمحرّضون صبيان السفارات في الداخل والخارج يستغلون أي حدث محلي لتأليب الرأي العام بشعارات براقة لضرب وحدة المجتمع فاحذروهم».

المغرد نبيل المعجل طرح تساؤلاً: «س: ما سبب خلو منطقة الإحساء من القاعديين والداعشيين وقاطعي رؤوس البشر؟ ج: تعايش وتناغم وتسامح بين كل المذاهب والطوائف والملل». ووجّه في آخر الكلام سؤالاً لكل طائفي: «ما جوابك؟». أما عبدالله محمد البارقي فقد كان يسير في مسار المتفائلين: «ستشرق شمس التآلف والمحبة بين أهل القبلة حين تعي الأجيال الحاضرة معنى سماحة الإسلام، وتأفل شمس الطائفية البغيضة بينهم».

مهما كثرت النكرات في وسائل الإعلام الجديد، ومهما حشد الطائفيون قطعانهم، سيبقى الأصل في أهل الخليج أنهم يعرفون قيمة الإنسان دون النظر إلى دينه أو عرقه، فلن تتمكن حشرات الطائفية من تشويه ذلك الوجه المليء بالسماحة.

سعيد محمد سعيد

«الجيش العربي»… وين؟

 

صورتان مدهشتان انتشرتا كثيراً، وربما شاهدهما القارئ الكريم، خلال الأعوام القليلة الماضية، الصورة الأولى لعناصر من جيش «عربي» ينكلون بالمواطنين ويقمعونهم حتى النزيف ثم يصعدون على تلك الأجساد من النساء والرجال والصبية بعد إرغامهم على الانبطاح أرضاً؛ أما الصورة الثانية، فهي لكتيبة من الجيش الياباني وهي تساعد المنكوبين المتضررين من إعصار «تسونامي»، ثم يجعل عناصر من ذلك الجيش أنفسهم جسراً ليتمكن الناس من المشي عليهم والوصول إلى الضفة الأخرى بأمان.

باستثناء الجيشين المصري والتونسي، وهناك من ينتقدهما قطعاً، واجهت الشعوب العربية في فترة الحراكات المطلبية، سمها ربيعاً عربياً إن شئت وأنا أسميها مرحلة المطالبة بالحقوق العربية، واجهت ممارسات مرعبة لا علاقة لها لا بالقيم الإنسانية ولا الدينية ولا الوطنية من بعض الجيوش العربية التي بدا واضحاً أن عقيدتها هي غرس منهج «العصابات المسلحة» وليس «حماة الأوطان». وبالتالي، كانت الصدمة وخيبة الأمل في الأمة كبيرة تجاه تلك الجيوش التي قال عنها المحامي والسياسي ووزير حقوق الإنسان في حكومة حمادي الجبالي بتونس سمير ديلو: «هي في الأغلب جيوش توجه ترسانتها العسكرية لشعوبها وليس لأعدائها».

خيبة الأمل في الأمة كبيرة دون شك، ولربما تتضاعف الآن، أكثر من أي وقت مضى، مع ضراوة أحداث غزة وبسالة المقاومة الفلسطينية في الصمود والتصدي، في حين أن كلمات عبارة أو أغنية من قبيل «الجيش العربي وين.. الشعب العربي وين… وين الملايين»، من الممكن أن تكون مدعاةً للبكاء بفجاعة.

لقد سلبت أحداث الوطن العربي وثوراته، وعلى الخصوص في سورية والعراق وأحداث لبنان، واستمرار الأوضاع القتالية في ليبيا واضطرابات مصر وتونس، سلبت النظر عن القضية الرئيسية (فلسطين)، ثم عادت اليوم من جديد إلى واجهة الأحداث والدماء تنزف في كل الوطن العربي والإسلامي.

إذاً، الولاء المبرمج لدى الجيوش العربية هو الولاء لأنظمة الحكم مهما كان منهج ذلك النظام، والتفاني في خدمته وسحق شعوبهم – الذين هم في الغالب أهلهم وذووهم – ليصبح جهادهم المعقوف هذا بعين الله ولأجل الثواب العظيم والمنزلة الرفيعة زعماً!

وليس غريبًا أن تجد عناصر من تلك الجيوش المبرمجة يتجاوزون حدودهم مع رب العالمين، في حين أنهم لا يرضون أبداً بأن يأتي ذكر سيادة الرئيس أو دولة فلان ومقام علان إلا بالتهليل والتكبير والتبجيل. فعلاً، تلك الفئة، هي منهج «العصابات المسلحة» وليس أبداً لهم علاقة بالفكر الإنساني والوطني والديني.

لكن، ما هي العقيدة العسكرية أو عقيدة الجيش؟ حسب الموسوعة الحرة «ويكيبيديا»، فإن الناتو (حلف شمال الأطلسي)، استخدم التعريف المستخدم بين دوله الأعضاء: «العقيدة العسكرية هي مُجمل المبادئ الأساسية التي تتخذها القوات العسكرية لإنجاز مهامها، وهي قواعد مُلزمة وإن ظلت المواقف القتالية المختلفة الحكم الأساسي لاتباع أي من قواعد العقيدة العسكرية»، وجاء في تعريف الشق الاجتماعي السياسي بجميع المسائل المتعلقة بطريقة الأداء والاقتصاديات والقواعد الاجتماعية والأهداف السياسية المتعلقة بالحرب، وهو بالتالي الجانب الأكثر تأثيراً وثباتاً خلال النزاع العسكري، وعليه يتعيّن على الجانب العسكري التقني الالتزام بتحقيق الأهداف السياسية المتوقعة من الحرب. ويتلخّص هذا الجانب في خلق تكوين عسكري وتسليح القوات المسلحة بأحدث الأساليب التقنية والالتزام بالأساليب العلمية الحديثة في تدريب القوات وتوصيف التشكيلات العسكرية وتوظيفها وإدارة العمليات العسكرية المختلفة والحرب بأكملها». انتهى الاقتباس بخلاصة أن العقيدة تتكامل في مواجهة الأعداء وليس الشعوب.

وفي ذلك المسار، خصص الكاتب والصحافي اللبناني زهير ماجد مساحة كبيرة من أطروحاته لهذا الموضوع المهم، فهو يرى أن الجيش ينتصر لعقيدته، ولكل جيش عقيدة قتالية، يواجه من أجلها كما يموت لأجلها، لكن الطامة الكبرى التي يحددها ماجد هي أن أكثر الجيوش العربية ترهلت، وبعضها أصابه نحس الهزائم أمام «إسرائيل»، فأصيبت بلعنة القتال ضدها. تحول الجيش الاسرائيلي عند البعض إلى بعبع مخيف مهاب قبل أن يتقدّم إلى قتاله أي كان، وهذه الفكرة كسرتها عقيدة «حزب الله» الذي انتصرت به قبل سلاح مقاتليه وصمودهم في أرض القتال مع الصهاينة، ومع الوقت، صار على تلك الجيوش العربية أن تستعد لتكون قوى أمن داخلية، من المؤسف أن عقيدتها العسكرية، صار مشكوكاً بأمرها بعد أن حوّلت سلاحها للداخل، عندما صار أعداء الداخل أشبه بأعداء الخارج لا بل أخطر منهم.

ثم يورد الكاتب جوانب من أوضاع الجيوش اللبنانية والسورية والمصرية والتونسية والليبية والعراقية واليمنية وما يحل عليها وفيها ومنها من بلاء وانكسار ومواجهة ضد أعداء الوطن الداخليين والخارجيين، ومن بينهم المجموعات الإرهابية والعصابات المسلحة، ليشدّد على أن «إسرائيل» هي المحرك الأول والمستفيد الأول والمتآمر الأول لتحطيم تلك الجيوش. وهذا أمر صلاح لها لإعادة تثبيت عقيدتها وإدارة بندقيتها من الشعوب إلى الصهاينة، رغم قوة ونفوذ وأموال أعوان الاستعمار.

سعيد محمد سعيد

تكريس الصراع السني – الشيعي

 

هل يمكن القول، كما نكرر دائماً، أن الصهاينة ودوائرهم وعملائهم يقفون وراء تكريس الصراع السني – الشيعي في المجتمع الإسلامي؟ وهل هذا المجتمع، دولاً وحكومات ومؤسسات وشعوباً، لديه القابلية لأن يأكل الطعم المسموم وينفذ الأجندات الطائفية؟ ولماذا تفشل جهود المؤسسات والهيئات الإسلامية المعتدلة، كالأزهر الشريف والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب مثلاً، في صد تلك المؤامرة؟

مع وجود الكثير من الدلائل والحقائق، سنعتمد على مؤتمر «هرتزيليا» الثالث عشر، وسنعود إلى شهر مارس/ آذار من العام 2013، ولنعيد النظر قليلاً في أهم توصية صدرت عن ذلك المؤتمر، وهي «ضرورة تكريس الصراع السني – الشيعي، وتشكيل محورين من دول المنطقة: سني وشيعي»… (انظر المقال المنشور في الوسط، الأحد 0 أبريل/ نيسان 2013 تحت عنوان: «هرتزيليا تشكر جهود الطائفيين»).

ولقراءة المشهد بوضوح، حري بنا أن نعيد التذكير بالتقسيم الإسرائيلي، فإن هناك محور شر هو المحور الشيعي، ويبحث الصهاينة عن محور بديل أسموه «المحور السني» تكون نواته من الملكيات العربية التي تخشى أن يصل قطار الثورات العربية إليها، إضافةً إلى مصر وتركيا، اللتين أشار إليهما تقرير المؤتمر بـ «الأطراف التي عملت على إنهاء الأزمة في أعقاب العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة في 2012»، وأن هذه الأطراف «تجسد التغيير، حتى لو كان محدوداً، الذي طرأ في المجموعة السنية في المنطقة، والمهتمة بعمل علاقات مع إسرائيل، سواء مباشرة أو غير ذلك، بهدف الحفاظ على الأمن الإقليمي».

وهذه الجزئية الخطيرة بحثها مؤتمر الصهاينة بتكثيف عميق، فاختيار مصر وتركيا إضافةً إلى الأردن للانضمام للمحور السني المرتقب، الذي من المفترض أن يكون متحالفاً مع «إسرائيل» والغرب، لم يأتِ من فراغ، فـ «التحركات الدبلوماسية حول العملية في غزة والأزمة السورية تشير إلى تعاون وتنسيق متزايد بين الولايات المتحدة الأميركية، مصر، تركيا، الأردن ودول الخليج»، بحسب التقرير، الذي يرى في تشكيل هذا المحور ضرورة استراتيجية، و»صفقة شاملة» من شأنها أن تزيد من أمن «إسرائيل»، وتدفع نحو شرق أوسط جديد.

لكن، هل انتبه الباحثون والمخططون الاستراتيجيون العرب والمسلمون، لتلك التوصيات ووضعوها تحت مجهر البحث؟ حسب متابعتي المتواضعة، فإن الباحث المصري في الشئون الإسرائيلية طارق فهمي أعد دراسة مفصلة حول المؤتمر وتوصياته، وما يهمنا هنا هو الجانب المتعلق بتأجيج الصراع السني – الشيعي، فالباحث توقف عند أوراق عمل من واقع القراءة التحليلية أمام المخاطر التي تواجه «إسرائيل» داخلياً، فمن المهم إشغال الأنظمة السياسية العربية والشعوب الإسلامية بالصراع الطائفي.

وفى هذا الإطار، كما يرى الباحث فهمي، يمكن تصور آليات التعامل الإسرائيلى فى المحيط الإقليمى والدولى التي تراها دوائر الاستخبارات في الكيان الصهيوني، فنجاح ثورات التحرر والمطالبة بالحقوق والديمقراطية وإحياء المناهضة والمقاومة للكيان المحتل، ستجعل الأنظمة السياسية العربية أقل خضوعاً للمطالب الإسرائيلية بفعل تنامي وزن الشارع العربي في القرار السياسي، وهو أمر قد يخلق حالة من الاضطراب الواسع في المنطقة بشكل يؤثر على الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.

الصفقة الشاملة التي يخطط لها الصهاينة، ومع انتقادهم لما أسموه «سياسة الاختفاء من أمام العاصفة»، وهو المصطلح الذي يوجب استفادة الصهاينة من الاضطرابات في المنطقة واستغلال الفرص لتحقيق المزيد من التدمير للمجتمعات الإسلامية والعربية، تعتبر بالنسبة للصهاينة من أنجح الصفقات وأيسرها تحقيقاً! كيف؟

الصهاينة يدركون أن الحليف الأقوى لهم وهو الولايات المتحدة الأميركية، يتحكم في المنطقة كيفما يشاء، ولهذا، فمن السهولة بمكان ضمان استمرار الصراع المذهبي بين السنة والشيعة في الأمة وتأجيجه إلى الدرجة التي تضاعف الحريق المدمر، ولأن هناك بيئات حاضنة، من قادة وأنصار وأتباع الايديولوجيا الطائفية، فإن الصورة التي نشهدها اليوم في المجتمعات الإسلامية من احتدام الصدام الطائفي، ومشاركة حكام في إشعال المزيد من النيران الطائفية، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن المجتمعات الإسلامية حينما تتصارع مذهبياً فليس من أجل «الدين الإسلامي وأبناء الأمة»، إنما بالتأكيد، هو لصالح الغرب عموماً والصهاينة تحديداً.

الإعلام العربي والإسلامي، في واجهته الكبرى التي تظهر اليوم من خلال آلة التدمير في الفضائيات الطائفية ووسائل الإعلام الجديد، تعمل باجتهاد من أجل إشعال الصراع المذهبي إلى أعلى درجاته، وتطبق سياسات كيان العدو ضد العرب والمسلمين لتمزيقهم، وتبدو الكثير من الحكومات العربية متآمرة مع هذا الاتجاه، لكن ربما يعيد الصهاينة حساباتهم مع العدوان الوحشي على غزة وصمود المقاومة الفلسطينية، ومع ذلك، لن يعيد الطائفيون وأسيادهم حساباتهم إلا في حالة كونها تصب في صالح أسيادهم الصهاينة.

سعيد محمد سعيد

أمير المؤمنين في «جنيف»

 

لا أعتقد أبداً أن تقرير العام 2002 الصادر عن الأمم المتحدة، والذي أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم، يأتي بمثابة «الاعتراف» أو «التقدير» لمكانة وعلم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، بل العكس صحيح، أن ذلك التقرير هو الذي تشرّف وعلا مكانه باسم الإمام علي (ع) كمثل أعلى في إشاعة العدالة واحترام حقوق الناس من مسلمين وغير مسلمين، وتطوير العلم والمعرفة.

وهل هذا وحسب؟ أبداً، بل يمكن اعتبار ذكر الإمام علي (ع) في التقرير الأممي كرمز إسلامي عظيم واصل منهج النبي الأكرم محمد (ص) في تأسيس الدولة على أركان الدين الصحيح والعدل والتسامح والتعددية، وإطلاق الحريات واحترام العلم والعلماء وترسيخ مفاهيم العيش الكريم لكل من يعيش في كنف الدولة الإسلامية أياً كان دينه وجنسه ولونه.

مثل تلك التعاليم العظيمة، لا يحتاج إليها حكام اليوم لأنهم لا يعرفونها ولن يعرفونها. تلك المبادئ والتعاليم العظيمة التي استمدها أمير المؤمنين (ع) من كتاب الله، القرآن الكريم، ومن سيرة صحبته المقدسة مع رسول الله (ص)، لم تكن لتنتهي مع ضربة الخارجي ابن ملجم المرادي في صلاة فجر يوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك بالسيف المسموم، لتنقل الإمام إلى جوار ربه يوم الحادي والعشرين من الشهر الفضيل سنة 40 للهجرة المباركة.

بل ومنذ رحيله قبل 1395 سنة، استهدفته دول وقوى وأقطاب أموية وعباسية وحكومات متعاقبة بأبواقها العفنة وأصواتها القبيحة لتنال من ذلك المقام، فما كان من أولئك إلا أن توافدوا على أحقر مواقع التاريخ، فيما بقي نور وعلم أمير المؤمنين (ع) يفجر غضب قلوبهم المريضة. والسؤال هو: «لماذا كل هذا الحقد»؟ وقد نجد الإجابة في الفقرة التالية:

من رسالة أمير المؤمنين (ع) إلى القائد المظفر مالك الأشتر، فقرة لو طبقها كل حكام الدنيا وكل إنسان على وجه الأرض لعاشت البشرية في سعادة: «وإن عقدت بينك وبين (عدو لك) عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة واجعل‏ نفسك جنة دون‏ ما أعطيت‏ فإنه ليس من فرائض الله شي‏ء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود».

بالعودة إلى التقرير الذي صدر عن الأمم المتحدة في جنيف ووقعت عليه 200 دولة، حسبما أعلن في حينها، تضمن مقتطفات من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب «نهج البلاغة» التي يسرد فيها درراً من الوصايا لقادة الجند لنشر العدالة بين الناس، كل الناس. فلم نجد أبداً في أي مفصل من تفريعات تلك الوصايا ما يحدث اليوم من أفكار طاحنة في عقول بعض الحكام والقيادات من الذين يشاركون حتى في نشر الطائفية والقمع والانتقام من رعيتهم.

من المهم الإشارة إلى أن ذلك التقرير الدولي، صح أم لم يصح القول، دعا الدول العربية والإسلامية للأخذ بهذه الوصايا في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، لأنها «لاتزال بعيدة عن عالم الديمقراطية، ومنع تمثيل السكان، وعدم مشاركة المرأة في شئون الحياة، وبعيدة عن التطور وأساليب المعرفة»، بل وبعضها يصر على أن يعيش في الجاهلية وأن يعيد الناس رغماً عنهم إلى الجاهلية بكل قبحها. ولربما رأينا كيف أن الكثير من الناس ممن يتغنون بالعروبة انسلخوا عن عروبتهم واختاروا طريق الهمج الرعاع.

أمير المؤمنين علي (ع)، الذي هو من تحتاج إليه شعوب الأرض والأمم المتحدة لترسيخ وتعزيز أسس السلام في السياسة والحكم وإدارة البلاد والمشورة بين الحاكم والمحكوم، له أيضاً مفاصل الإدارة الحقيقية في محاربة الفساد الإداري والمالي وتحقيق مصالح الناس وعدم الاعتداء على حقوقهم المشروعة. وللحاكم الصالح شروط حدّدها الإمام عليه السلام، وهذه الشروط يلزم تطبيقها ليس على الحكام فقط، بل على من يضعون أنفسهم مشايخ دين وأئمة علم وإرشاد: «إن من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس».

سعيد محمد سعيد

«ولدهم»… جوائز ترضية؟

 

إذا كانت دول الخليج ماضية بشكل حقيقي في معالجة مشكلة تدهور مستويات الإنتاج وتدني الأداء، فعليها أن تعيد النظر في التعيينات القائمة على معايير الولاء للعائلة أو للقبيلة، أو لدرجة القرب من أصحاب النفوذ… هذه ليست تعيينات، وإنما جوائز ترضية لا طائل من ورائها.

حتى جوائز الترضية، وإن كانت في الغالب، تُمنح لأطراف أو أشخاص أو مشاركين أو متنافسين تقديراً لأداء متميز، لكنه لم يصل إلى درجة التحكيم الأعلى، لا يمكن أن نلويها لتناسب أسلوب تعيين بعض المسئولين في المناصب القيادية والإدارية، ليس لأنهم أبناء الوطن الأكفاء المؤهلون، بل لأنهم من ذوي القربى والصفوة وممن يطلق على الواحد منهم شعبياً «ولدهم».

«ولدهم» هذا، إن كان مؤهلاً تأهيلاً علمياً جيداً ومحترفاً ومبدعاً وقادراً على العطاء فلا بأس، أما إذا كان تعيينه فقط من باب التمييز والطائفية والتقريب والترضيات، فستبقى المجتمعات التي تمارس هذا الأسلوب، ومن ضمنها دول الخليج، تعاني الكثير الكثير من التعقيدات وسوء الإدارة والتصادم الدائم بين المدخلات والمخرجات في كل المجالات التي يتبوأ فيها «ولدهم» غير المؤهل، منصباً لا يستحقه.

ومع أن هناك مشكلة، لكنها ليست كبيرة في بعض الدول الخليجية وظاهرة في دول أخرى، إلا أن بعض الكفاءات من هذه الدولة حظيت بالتقدير والأولوية لدى دولة أخرى في ذات المنظومة! حتى أن إحدى دول مجلس التعاون الخليجي أجرت مسحاً في قطاع العمل لمعرفة حجم الاحتياج الوظيفي لاستقطاب كوادر من أبناء المجلس بمميزات تصل إلى نسبة 90 في المئة مما يحصل عليها مواطنها!

مع وجود فرص عمل كثيرة تتصل باستراتيجية العمل العامة في تلك الدولة حتى العام 2016، وحتى في الاستعداد للرد على «الاتهامات المتوقعة» من أن تلك الدولة «تسرق» كوادر دولة أخرى جارة، كان الجواب المعد سلفاً: «استقطاب أو تقديم فرص عمل للكوادر الخليجية هو أحد الحلول للمساعدة في امتصاص أزمة البطالة».

في بريطانيا أيضاً، يُقال أن من «بين أبرز المبادرات الحكومية التي يمكن أن يستفيد منها رواد الأعمال الخليجيون، بمساندة الهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار في برنامج (سيريوس)، وبرنامج رواد الأعمال العالمي، هي تأسيس مشاريع في بريطانيا، ولأن الإنجليز يعلمون بأن هناك كوادر خليجية في شتى القطاعات لا تحصل على فرص مناسبة لإثبات وجودها في بلدانها، فإنها تشجع رواد الأعمال الخليجيين الذين يرغبون في تأسيس مشاريع في بريطانيا، وستوفر لهم التدرب العالي والخبرة المتميزة».

إذاً، ومع وجود فرص قريبة وبعيدة للكوادر الخليجية المؤهلة والقادرة على التطوير والمشاركة في مشاريع التنمية، نتساءل: «أليس في مقدور منظومة دول مجلس التعاون الخليجي صياغة مشروع مشترك للاستفادة من الطاقات والعقول والكوادر الوطنية المؤهلة في المجالات التي تحتاج فيها إليهم بدلاً من استمرار تطبيق منهج «ولدهم»؟ أو استمرار استقطاب الخواجات وذوي العيون الزرقاء للعمل في قطاعات ومناصب يستطيع أبناء الخليج التميّز فيها؟».

من الصعب جداً أن تجد المتفوقين والمتميزين دراسياً يصبحون في الخطوط الثالثة والرابعة وربما قبل الأخيرة، في حين أن المتعثرين دراسياً وذوي المعدلات المتواضعة يتقدمون الصفوف لأنهم أًصحاب حظوة ونفوذ وأبوهم ربما كان «ولدهم»… فما يتوجب على الحكومات فعله هو اعتبار كل أبناء البلد الأكفاء والمجدين والواعدين «أولادها» بدون تمييز أو طائفية أو إقصاء أو تعمد بغيض لسلب حقوق هذا المواطن أو ذاك، بناءً على التقييم السخيف لدرجة الانتماء ونوعها وصبغتها وآلية تحديدها.

ربما لا تزال بعض الحكومات في الخليج لا تدرك التأثير السلبي لشغل المناصب الإدارية بنموذج «ولدهم» السيّء، لكن شيئاً فشيئاً، ومع تردي الكثير من الخدمات والمشاريع بسبب افتقار بعض المسئولين للكفاءة والتأهيل والإبداع، فإن على تلك الدول إعادة هدم وبناء تلك الفكرة من جديد.. اختاروا الكفاءات التي لها ولاء للوطن.. فقط.

سعيد محمد سعيد

بس… بالـ «كلام»!

 

بالتأكيد، لن يأكل المواطن «لقمة عيش» وهو يقرأ أطناناً من التصريحات والإنجازات والفتوحات والانطلاقات في الصحف وفي وسائل التواصل الاجتماعي وهو لا يرى شيئاً على أرض الواقع!

يبدو لي أن على المسئولين في الدولة أن يتنبهوا لموجة «بس بالكلام» التي لم يقصر الأخ غلام في مسلسل «درب الزلق» في تأسيس قاعدتها في الكثير من المجتمعات التي يعاني فيها الناس من ثقل ملفات كثيرة في الإسكان والتوظيف، ومستوى الأجور والتعليم والصحة، فيما لا يتعب حنك المسئول من تكرار إنجازاته الخارقة.

لابد من تحويل الهرج الذي لا طائل من ورائه إلى عمل حقيقي. نعم، هناك عمل دون شك على أرض الواقع، وهناك مشاريع، وهناك برامج. هناك خدمات لا بأس بها، لكن هناك الكثير الكثير من الكلام والوعود الوردية التي جعلت شريحة كبيرة من المواطنين، يتذمرون ويشمئزون و(ينقهرون) أيضاً من تكرار الكلام الذي للأسف، وجدنا أن هناك من يلمعه ببريق كاذب من نواب وأعضاء بلديين وخطباء منابر.

حالة «بس بالكلام» ليست جيدة بالمرة، فهي حالة لها من السوء ما يمكن أن يجعل المواطن يتشبع من مدد الانتظار والأمل والترقب، ثم يجد كل ذلك سراباً لا مكان له في حياته!

* بس بالكلام: منذ مطلع العام 2000 وما تلاه من سنوات، لنقل بين 2001 إلى 2007، كانت قائمة المشاريع والتخطيطات والتمطيطات والاستعدادات التي تتحدث عن تطوير حوالي عشر مناطق ساحلية ملأت الدنيا. كل يوم تصريح في الصحافة، وكل يوم زيارة يقوم بها الوزير علان والمسئول فلتان. بل شمرت بعض القطاعات الاستثمارية عن سواعدها لبدء المرحلة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم العاشرة ثم الحقيقة… هي المرحلة «صفر».!

* بس بالكلام: حين أزور -حالي حال غيري من المواطنين- السوق المركزي هذه الأيام، أيام الشهر الفضيل، لا سيما وقت الظهيرة مع اشتداد حرارة الشمس، أعود إلى فترة منتصف التسعينيات حينما كان الحديث عن مفاجآت عظيمة كبرى في المستقبل لتكييف السوق المركزي. رسومات هندسية تروح وأخرى تجيء. صورٌ في الصحافة لمسئولين يتحلقون حول خارطة، هذا يؤشر على الورق وذاك يؤشر إلى (ما أدري وين)، وفي النهاية… خلها على الله!

* بس بالكلام: يبدو لي أن الحديث عن العدد المتوقع للبيوت الآيلة للسقوط التي كانت ضمن «الحلم الجميل» لهدمها وإعادة بنائها ربما أكثر بكثير من عددها الحقيقي. حتى الآن، ووفق خدمات «بس بالكلام» المتقدمة، فإن الآلاف في انتظار تلك العملية المبهرة، الهدم والبناء، ومن بينهم ذوو حالات خاصة ومتقاعدون وأسر معوزة وأرامل، لكن المشكلة ليست فقط «بس بالكلام»، بل يضاف إليها «بس ميزانية ما ميش».

* بس بالكلام: لجان واجتماعات وتصريحات ولقاءات تعقد بين الحين والحين، زعماً بأنها تدخل ضمن التوجه لمحاصرة الطائفية والتمييز المذهبي ومعاقبة كل من يسيء إلى أي مواطن مهما كان دينه ومذهبه. والغريب في أن كل ذلك، وعلى الرغم من أنه هراء في هراء، إلا أن البعض من المواطنين المساكين يصدّقون، ويدعون بالخير وطول العمر والتوفيق لمن سار على هذا الطريق، ليترجم الأقوال إلى أفعال في مواجهة كل الطائفيين وكل الفاسدين والمفسدين، وكل الداعين إلى ضرب أتباع هذا المذهب أو ذاك بيد من حديد. لكن الأغرب أن كل ذلك الكلام والهرج والمرج، يذهب هباءً ويبقى الطائفيون والمفسدون والناعقون وأسود الطائفية في قوة بأس… من يشهد للعروس؟

* بس بالكلام: الخدمات الإسكانية ومشاريعها على مد البصر، هنا وهناك رغم شح الأراضي. الغريب، وبعيداً عن «بس بالكلام»، هو أن 918 طلباً لمواطنين تم إحياؤها بعد إلغائها، والسبب كما قيل وقيل وقيل.. تحويل نوع الخدمة الإسكانية المطلوبة إلى خدمة أخرى، (الأمر الذي ترتب عليه إلغاء الطلب الإسكاني الأول واعتماد الطلب الإسكاني الحديث اعتباراً من تاريخ التقدم به)! أها… مو «بس بالكلام يبه»، اعتباراً من هذا الأسبوع سيتم استقبال المواطنين المستفيدين من ماذا؟ من بيت؟ لا. من أرض؟ لا. إذاً، من وحدة سكنية تمشي الحال… لا؟

سيتم استقبال 918 مواطناً من «المستفيدين» من «إحياء طلباتهم».. أويلي ويلاه.. رؤية واستراتيجية وفلوس لا نعرف أين تذهب حيناً، ونعرف حيناً آخر… وتاليها بس بالكلام.

سعيد محمد سعيد

نواب الشعب… لخولة أطلال؟

 

رأيت فيما يرى خيراً، اللهم اجعله خيراً. أنني مرغماً، وجدت نفسي في محفل كبير جداً امتلأ بالناس والأجناس وكبار القوم وعلية البشر، وإذا برجل له شارب كقوس «النصر» يرتدي جلباباً عظيماً مزخرفاً مطرزاً يقصدني مباشرةً وهو يضحك ويقول: «أهلاً وسهلاً أيها الرجل. حياك حياك. هاهنا نحتفل ونحتفي بنوابنا العظماء تقديراً لما بذلوا من جهد وعمل وسهر وكد وكدح من أجل هذا الوطن وأبناء هذا الوطن، وحاضر هذا الوطن، وخير هذا الوطن. حياك تفضل (شفيك متردد.. حياك يبه). كل ما نريده منك هو أن تُلقي على مسامعنا بيتين من الشعر تقديراً ومديحاً لهذه الكوكبة العظيمة من الـ (رياييل).. الـ (موب) مقصرين.

في الحقيقة، وجدت نفسي متورطاً أيما ورطة. قلت له بأنني لست شاعراً أيها الرجل المليء برائحة العود، إنما أنا من محبي الشعر، ثم أنني لست على استعداد لهذا المحفل. ابتسم ثم ضحك ضحكة عالية وقال: «لا بأس يا ولدي. ما عليك زود. كل ما أريده منك هو أن تقول بيتين من الشعر تُطيب بهما خاطر هؤلاء الرجال الذي ضحوا وتعبوا وقدموا الكثير للبلد».

وضع الرجل يده على كتفي، وأنا مازلت في الحلم يا جماعة، وابتسم فنظرت إليه وقلت: «بصراحة أنا لا أرى رصيد أولئك الرجال الذين تريد مدحهم إلا كالحاً بالسواد والخيبة».

«خذ..خذ. تفضل. خذ هذا الميكرفون وقل بيتين من الشعر وإلا (بلعن حبايبك هنيه.. يلله تكلم)». بعد موجة الغضب السريعة من ذلك الرجل، مسكت الميكرفون وقلت للمحفل العظيم من نواب الشعب الذين قدموا في ثلاث سنوات ما لم يقدمه أجدادنا أبداً، وما كان لهم أن يقدموه، قلت متحدثاً في مكبر الصوت:

مكرٌ مفرٌ مقبلٌ مدبرٌ معاً

كجلمود صخر حطه السيل من عل

صفق ذلك الرجل مسروراً وهو ينظر إلى ذلك المحفل الذي امتلأ بالتصفيق لي على ذلك البيت المسروق من الشاعر العظيم امرئ القيس، وزاد الرجل قوله: «لقد أفرحتني. هل أستطيع القول أن ما قدمه هؤلاء الرجال للوطن جعلك كمواطن قوياً كالحصان: مكر مفر مقبل مدبر معاً. مرحى.. مرحى». أجبته: «لا يا حجي، أنا لست الحصان. أنا جلمود الصخر الذي حطّه السيل من عل بسبب سواد وجه بعض الناس وما فعلوه من تجاوز للأمانة وللمسئولية الوطنية. أما المواطن كحال الصخرة التي تهاوت وسقطت و…». قبل أن أكمل، استدعى بعض الرجال قائلاً: «تعالوا. أخرجوه من هنا.. أبعدوه تلله عليكم».

على أية حال، كان من بين أولئك الرجال، رجل رقيق القلب. قال وقد أبعدني عن القاعة: «هذا الحفل له أهمية بالغة، ألا تعرف أنك تعيش في بلد يسير بالمقلوب؟ فمن يدعي حب الوطن والدفاع عنه تمثيلاً وزيفاً يتم تكريمه وترفيعه، ومن يعمل بصدق وإيمان وقناعة وإخلاص للوطن يصبح خائناً متآمراً. وشفيك إنت ما تفهم. المهم، سآخذك لمرفاعة (شرفة) تجلس فيها هناك دون أن يراك أحد. وسأحضر لك ما لذ وطاب من الشراب والطعام وتجلس لتتابع هذا الحفل البهيج. لا تتحرك ولا تصدر صوتاً حتى لا يكتشفك أحد. يلله فج».

ما حدث بعد ذلك كان مفاجئاً ومدهشاً للجميع، فقد أمسك مكبر الصوت رجل آخر فحمد الله وأثنى عليه واستهل بالإشارة إلى تاريخ البلد وأهل البلد، وحضارتها الضاربة في التاريخ مستذكراً الأدباء والعلماء والمشايخ والأفاضل والشعراء ومنهم طرفة بن العبد الذي قال في أروع أبياته:

لخولة إطلال ببرقة ثمهد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

فأنتم الطل أيها السادة! وأنتم كالبرق أيها الكرام. وأنتم كالوشم.. كل ما قدمتموه لا يتعدى أن يكون (خرطي في خرطي)!

«أسكتوووه.. أخرسوووه»! صرخ ذلك الرجل صاحب الجلباب المطرز، إلا أن الرجل المتحدث كان أشد بأساً مما كنت عليه حتى جرى هنا وهناك ورأيته يقترب من المكان الذي أنا مختبيء فيه فأخرجت رأسي ولوّحت بيدي حتى رآني ودخل مختبئاً معي وواصل حديثه في مكبر الصوت مطمئناً: «فيا أيها السادة. شكراً لكم. لقد رفعتم مستوى المعيشة من جيد إلى سيء. شكراً لكم أيها السادة.. فقد كنتم عوناً للمواطن وخير عون. تنصرون الظالم على المظلوم. شكراً لكم أيها السادة، فما قدمتموه من عمل، رفع اقتصاد البلد من الكساد إلى دون الكساد. شكراً لكم فقائمة أفضالكم وإنجازاتكم العظيمة، لا يمكن ذكرها بالتفصيل، فإن التفصيل فيها يعني إصابة الناس بمسببات الموت المفاجيء. لكن ما أقول إلا… حسبي الله ونعم الوكيل فيكم. حسبنا الله ونعم الوكيل».

على أي حال، استيقظت من ذلك الحلم وأنا أكرّر: «أي والله…

مكر مفر مقبل مدبر معاً

لخولة إطلال ببرقة ثمهد

مبارك عليكم الشهر الفضيل أعزائي، جعله الله شهر خير ويمن وبركات على الجميع. وبعض الناس عاد تعال شوفهم… قمة في الخشوع بعد أعوام من الخنوع!

سعيد محمد سعيد

مخابرات السيد «المسئول»!

 

من بين الدراسات الاجتماعية الجميلة التي اطلعت عليها مؤخراً دراسة بعنوان: «الوشاية وأثرها على أمن المجتمع» للباحث وليد إبراهيم المهوس (من المملكة العربية السعودية)، ويكمن عمقها في أن الباحث التفت إلى ظاهرة منتشرة في المجتمع الخليجي بشكل مذهل، وهي واحدة من أهم أسباب سوء الإنتاجية والتدهور المهني والأخلاقي في الكثير من أماكن العمل، حكومية وغير حكومية.

ولعل من أهم صور تلك الظاهرة في أماكن العمل، الاستعانة بفريق «مخابرات السيد المسئول» الذي يكلف مجموعة من الموظفين والموظفات للعمل كآذان وأبصار تنقل له كل شاردة وواردة، حتى أن الباحث جمع في سلوك أمثال أولئك الوشاة صفات الحسد والرذيلة والكذب والنميمة والغيبة والبهتان وشيوع المفاسد الخلقية والاجتماعية وقتل الثقة بين أفراد المجتمع.

في الحقيقة، قد تنتابك حال من الضحك الهستيري إلى درجة البكاء وأنت تستمع إلى معاناة موظف أو موظفة وقعا تحت نيران «المسئول» وقصفه المستمر، بسبب «وشاية» نقلها إليه أحد الموظفين أو الموظفات من «ناقلي الكلام والفتانين كما نقول بالعامية»، ومن دون تَثبُّت من صحة النقل أو عدمه، فتنتفخ أوداج المسئول ويستشيط غضباً ويجعل الموظف المتهم هدفاً لتشفية الغليل فيحرمه من الترقية، ويضيق عليه الخناق، وقد يكتب التقرير تلو التقرير عن سوء أداء الموظف.

وليس الباحث «المهوس» من تناول هذه الظاهرة المضرة وحقق تجاوباً كبيراً كون الناس يشعرون بها، فهناك دراسات اجتماعية أيضاً تناولت ممارسات بعض المسئولين الذين يوظفون إمكانات بعض موظفيهم لا من أجل المزيد من الإنتاج وتطوير العمل، ولكن من أجل المراقبة والترصد ونقل الكلام، وينقلون ما صح وما لم يصح، إلى السيد المسئول… وللأسف، فإن هناك الكثير من المسئولين يعشقون هذا الفعل فيستمعون بأذن واحدة ويرون بعين واحدة.

قبل عدة سنوات، وقبل أن ينتشر استخدام البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي والوسائط التقنية الحديثة والمواقع الالكترونية، كتبت تحقيقاً صحافياً كان عنوانه «الرسائل الصفراء»، وتلك الرسائل كانت عبارة عن وشاية تصل إلى مكاتب بعض المسئولين من مصادر مجهولة، وفي مضامينها الكثير الكثير مما يندى له الجبين، فمن اتهام لمسئولٍ ما بالطائفية، إلى تشويه سمعة موظف أو موظفة، إلى كشف عمليات سرقة واختلاسات ومن بين تلك الرسائل، هناك الكثير من محاولات الإطاحة بموظف أو موظفة عبر معلومات هي في غالبها مكذوبة.

ولكن الغريب في الأمر، أن بعض الجهات، حكومية وخاصة، من انتشرت فيها الرسائل الصفراء، كانت تحقق بشراسة مع الموظف أو الموظفة (المقصود) في الرسالة مجهولة المصدر، وكأن كل ما ورد فيها صحيح، ويلزم على من أنكر أن يأتي بالبيِّنة! يعني أن المتهم هو الذي يتوجب عليه تقديم البيِّنة، وليس المدعي قطعاً لأنه… مجهول!

قد لا أتفق مع الباحثين الذين خلصوا إلى توصيات من قبيل قيام مؤسسات المجتمع التربوية بغرس روح الجماعة وأسس الإيمان وتوعية المجتمع بأثر الوشاية السيء على كل أفراده، وإقامة المحاضرات وحث الدعاة والمربين والباحثين للتصدي لها، فهذه كلها نقاط جميلة… لكن الأهم والأسرع والأكثر تأثيراً من وجهة نظري هو الدقة في اختيار المسئولين، ومن يثبت أنه يمارس هذه الممارسات الشنيعة، فلا أقل من مساءلته ومعاقبته فهو وجه سيء لفاقدي القدرة على حمل الأمانة الوطنية، ولقمة عيش الناس ليست لعبةً في يد أمثال أولئك المرضى النفسانيين.

سعيد محمد سعيد

حوار مع «بو درياه»!

 

ربما يتحول فضاء التخيُل إلى فسحة مواتية بكل إسقاطاته، لهذا اخترت شخصية «بودرياه» الفارسي، الأسطورة التي كانت منتشرة قديماً في الخليج، لكي أتحاور معها علني أصل إلى «شفرة» تكشف اللغز. سألته بادئ الأمر: «هل أنت شخصية وهمية تراثية قديمة جاءت من بلاد فارس، أم أنت حقيقة لا تزال على قيد الحياة ومازلت تبث الرعب والخوف في نفوس أهل الخليج؟».

– بالفعل، أنا شخصية من محض الخيال وفي ذات الوقت أنا حقيقة! أنا أبو البحر! أنا المخيف المرعب. يقول البعض عني أنني شخصية خرافية، ولكن لا عليك منهم، أنا موجود بشحمي ولحمي، ألا ترى أنني المخيف المرعب كما قلت لك أم لا؟».

– بلى بلى. أنت المخيف المرعب حقاً، عدا أنني لست أعرفك سوى من حدود كونك تنتمي إلى عالم الجن والخرافات والخزعبلات. حكايات كثيرة عنك يتناقلها أهل الخليج منذ القدم كونك تثير الرعب وتتعمد إلحاق الأذى بالناس، خصوصاً الذين يعيشون على السواحل. يقولون، ولا أدرى مدى صحة ما يقولون، أنك تستهدف البحر وأهل البحر، وتعتدي على الصيادين وغواصي اللؤلؤ… أليس كذلك؟

– بلا شك، أنا كذلك! خذ يا بني هذه الحقيقة: كنت أتسلل إلى البوانيش والسنابيك وقوارب الصيد بين صلاتي المغرب والعشاء، واستمتع بخطف البحارة ولربما وجدت صياداً نائماً فاختطفته. ههههه. تذكرت أمراً مضحكاً! قالوا عني أنني بعد الاختطاف، ألتهم الضحايا وأغرق القوارب… والله العظيم في حياة أمي وأبوي هذا غير صحيح.

– أها… تعني أنك مظلوم ومفترى عليك؟ وأنك فقط تخطف الصيادين والبحارة ولكنك لا تأكلهم.

– لا، لست مظلوماً تماماً، لكن في المنزلة بين المنزلتين. لا أحب أن يتهمني أحد بما ليس له صلة بما أفعل.

– قرأت عنك شيئاً غريباً، وسمعته من بعض كبار السن، وهو أن الناس في قديم الزمان كانوا يقومون بتكليف مجموعة من الرجال الأشداء لحراسة البحر والساحل والقوارب، ومع ذلك كنت تباغتهم وتهاجم، حتى أن بعض القصص أو المرويات التراثية كانت تشير إلى أن الحراس، حين يشعرون بقرب هجومك ينادون: «هاتو المشارة والجدوم»، أي أنهم يتأهبون للهجوم عليك بالمنشار والقدوم والمطرقة، وربما استخدموا قضبان الحديد أو الخشب فتهرب. تخاف فتهرب في الظلام الحالك رغم أنك قوي كما تقول ويقولون.

– ههههه. هذا صحيح، سمعتهم أكثر من مرة يحاولون إخافتي باستخدام المنشار والمطارق والحديد، لكن ثق تماماً أنني ما هربت يوماً. ودعني أقل لك بأن كل الخرافات والأكاذيب التي تحاك عني هي لا تهمني أصلاً. اسمع يا هذا، من بين ما سمعته عني أنني في بعض الليالي، وفي قلب البحر، أظهر في هيئة رجل يغرق ويطلب الغوث! لا، بل قالوا بأنهم لو أنقذوني وأركبوني إلى السفينة، فإنني سأغرقها بعد أن أقتلهم وأسرق طعامهم ومؤنهم. يا حجي (وين فيني شدة أسوي كل هذا؟)! أها… تذكرت، قالوا أنني خرافة لكي يخيفوا الأطفال والشباب من الذهاب إلى البحر ليلاً حتى أنهم ألزموا بعض الشباب بحفظ آيات من القرآن الكريم لاتقاء شري. ولا أدري، كيف فعلوا ذلك وأين إيمانهم بالله سبحانه وتعالى؟ يحفظون القرآن فقط لاتقاء شري… (إشدعوة). أنا اختطف ولا أقتل. شرير أنا ولكن حبوب ولطيف.

– وفي هذا الزمن، أقصد في عصرنا الحاضر، بماذا تستمتع؟ هل تصر على إخافة أهل الخليج؟ أجاب:

– (والله شوف يا الّلخو)! دعني أكن صريحاً معك. فكما تعلم، ومن علم الانثروبولوجيا إن كنت تهتم به، فلكل شعوب الدنيا خرافاتها وأساطيرها وحكاياتها، والمشكلة أنهم يزيدون ويحطون فيها على كيفهم. ولهذا، فالناس أعداء ما جهلوا. وما أردت قوله هو أنك إن أردت أن تجعلني في حياتك بما أنا عليه (بو درياه المرعب المخيف)، فهذه مشكلتك، وإن اعتبرتني بودرياه الخرافة فقط فهذه أيضاً مشكلتك! عليك أن تعتبرني بودرياه فقط هكذا… دون أوصاف وملامح.

قلت له: والله يا بودرياه الحديث معك جميل، لكنك ستبقى مخيفاً مرعباً. مادامت هناك الكثير من العقول التي يمكن ملؤها بالخرافات والأباطيل والخزعبلات، فأنت بلاشك مهم. لكن على أية حال، لو طلبت منك أن تصارحني بالحقيقة، حقيقتك أنت، حقيقة تلك الأسطورة المخيفة على ضفاف الخليج. اعتبرني صديقك وكاشفني… فمن تكون بالضبط؟

– أخبرك ولا تخبر أحداً بالسر إطلاقاً. أنا بالفعل مجرد خرافة.

استانست الحين.