تحت مظلة دولة المؤسسات الدستورية، يصبح من حق أيِّ فرد أن يلجأ إلى القضاء إذا أصابه سبٌّ أو قذفٌ وفق نصوص القانون، ولا مكان للاستثناء حين يكون المتضرر موظفاً عاماً.
لكن إذا كان هذا الموظف العام شخصية قيادية أو رمزاً سياسياً فهناك حدود وقيود يُمليها واقع الحريات الدستورية في الدولة، أوّلها حق النقد وحق إبداء الرأي في منهج وسياسة تلك الشخصية القيادية في إدارة مؤسسات الدولة، فلو لم يكُن للشيخ ناصر المحمد صفة سمو الشيخ ناصر محمد الأحمد رئيس مجلس الوزراء، لما كان هناك مكان ولا سبب لانتقاده، وهنا لا يُنتقَد "شخص" الشيخ ناصر، إنما يكون محل الانتقاد "ممارسة" سموه في إدارة شؤون الدولة، وبهذا تختلف دولة المؤسسات الدستورية عن دولة الاستبداد، ونفرق بين ممارسة السلطة العامة والتعسُّف في استعمال السلطة، حين يتم في الحالة الأخيرة إغراق أصحاب الرأي بسيل من الدعاوى تحت مبرر الضرر من جراء السبِّ أو القذف أو خرق قانون أمن الدولة أو المطبوعات أو النشر.
واهمٌ من تصوَّر أن قضية و"قضايا" الزميل محمد الجاسم انتهت، وأن "قضيتنا" تم كسبها بسبب الإفراج المؤقت عن الزميل.
قضيتنا، كما نكرر، عنوانها حرية الضمير وحرية نقد رموز المؤسسات العامة، مهما كانت قسوة وشدّة كلمات ممارسة حق النقد.
عنوان القضية في الأمس محمد الجاسم، واليوم تحمل عنوان خالد الفضالة، وغداً سيكون عنوانها أي فرد كتب أو تحدث منتقداً شخصية قيادية أوكل إليها قيادة مؤسسات الدولة.
نعرف أن لدينا نصوصاً تعارض أبسط المعايير الدستورية، ونعرف أن لدينا تراثاً عريضاً يكاد يقدِّس مؤسسة الحكم، وأن الخليفة هو ظلُّ الله في الأرض كما قال أحد خلفاء بني العباس، وأن مفهوم "الهيبة" يعني الجلال والرهبة وعدم جواز المساس بمن هم في مؤسسة الحكم… ونعرف أن لدينا مجلس نواب "لا يهش ولا ينش"، وأعجَز من أن يتصدى لتعديل التشريعات الجائرة المعارضة للدستور، ونعرف أن الحكومة تحيا في شهر عسل ممتد مع برلمان رجع الصدى، لكن في الوقت ذاته لدينا أمل كبير في "القِلّة" من النواب وأصحاب الرأي الذين تحركوا في الأمس مع الجاسم، أن يشدّوا عزمهم الآن، ليس من أجل خالد الفضالة ولا غيره من القادمين في دولة الرأي الواحد والفكر الواحد، إنما من أجل دولة الحريات ودولة الدستور.
التصنيف: حسن العيسى
طويت صفحة أخرى من الزمن (2)
"كنت أنام حالماً بنادية لطفي في "النظارة السوداء" وميرفت أمين في "أبي فوق الشجرة"، وأصحو مرتعباً على حقيقة يومي مع نجمة إبراهيم في "ريا وسكينة" وزينات صدقي في "إسماعيل يس طرزان".
الشاطئ الطويل الخالي من مطاعم الفاست فود وسيارات الاستعراض الشبابية تتسابق مسرعة ثم تستلقي بجثث أصحابها في حوادث السير لم تكن به في تلك الأيام الضائعة غير بضعة "حظور" (مفردها حظرة) لصيد الأسماك يملكها جيراننا من عائلات عوازم السالمية، ومرات كثيرة كنت أشاهد أحد أولاد المانع أو صديقنا عطية سفر- وكان طويلاً عملاقاً- وهم على ظهر "جالبوت" مركب صغير مصنع يدوياً من التنك والأسفلت الطري لمنع دخول الماء (نطلق عليه اسم طاري)، كان يلقبون "تيتانك" الدمنة "بالتناكه"، كان الطويل الصديق عطية مع شقيقي شملان يحملان فوق "التناكه" قفصاً من أسلاك دقيقة يسمونه "قرقور" توضع فيه بعض الأسماك الصغيرة الميتة وبعض القباقب (سرطان البحر) والشرايب السوداء (قنافذ البحر) تشابه إلى حد كبير "افروديتات" اليوم للبعض من رائدات "مولات" بني نفط.
ويرمى القرقور بالبحر وقت المد… وتربط فوقه بحبل قطعة خشب أو فلينة- لا أذكر تماماً- وتترك كوسيلة استدلال على مكان القرقور… ثم يعودون إليه بعد مدة لإفراغه من صيد اليوم… لا أذكر عدد المرات التي غزوت فيها تلك "القراقير" غائصاً هارباً من الملل، لا لأفرغها من جوفها من الصيد فهي ملك لأصدقاء وأقرباء… ولكنها كانت وسيلتي للتسلية بالعبث بها… ثم أصعد بعدها إلى سطح البحر… أبحث عن سمك حي له جسد كامل الدسم الإنساني يشبع نهمي المجنون… لكن لم يكن هناك شيء غير أمواج الخليج الواهنة يتلألأ فوقها ضوء شمس يخفت وهج حرارتها وقت ساعات العصر وقبيل الغروب، تظهر كأنها أهلة من الفضة اللامعة طفت بهدوء فوق سطح الركود… بأي قدر وبأي حق كتب علينا في أيام الحرمان تجرع كؤوس المرارة في ذلك الزمن الماضي… التي عادت إلينا اليوم أكثر ضجراً وسأماً… فأعود وأسرح بذكرياتي وأسأل عمن يفرض علينا حكم القهر… ومن يمارس اليوم حريته ويسلب حرياتنا في الوجود… في البهجة… في لمحة الشباب… وفي ضجر الكهولة.
مضت الأيام مسرعة تقضم بنهم من سنين العمر.
وحدث في أول سنة بكلية الحقوق بالجامعة أن تحدث الكثيرون عن "ثورة الشباب" عام 68 في فرنسا… وفي الولايات المتحدة… كان فكر المؤسسات الحاكمة وقيمها محل رفض عند شباب تنبض عروقهم بالعشق وقلب الدنيا على عوالم مؤسسات النظم، وما يفرض من السلطات الحاكمة، ووقف فلاسفة مثل ميشيل فوكو وسارتر سنداً لها، وغنى معها مطرب البيتلز جون لينون الذي قتل في بداية الثمانينيات… في تلك الأيام أحرقت السيارات والمحلات في باريس وانقلبت الأحوال، وأسقط الجنرال ديغول في استفتاء لاحق… لم يرحم شعب فرنسا محرره الإنسان الكبير… فتلك شعوب لم تكن تدين بغير دين الحرية، وولاؤها للجمال ولآمال الشباب العريضة لا للعطايا وشراء الولاءات، وفي الولايات المتحدة كان هناك نوع آخر من العنف ضد العنصرية… كان العالم يغلي ويموج بينما كنا نتجرع ذيول هزيمة حزيران المنكرة… ورحيل الحلم القومي العربي إلى غير رجعة… لينهض بعدها شعار "الإسلام هو الحل"… فبعد عبدالناصر يأتي الظواهري… وبعد بن بللا قدم بن لادن.
أطلقوا على ثورة الشباب "ثورة الجنس" في فرنسا… أما في الكويت… فتحركنا بعدها بسنة للمطالبة بالاختلاط في الجامعة… ولم نعرف من إرهاصاتها غير مسيرات بسيطة لمجلس الأمة ومحاضرة تشرح حركة ثورة الشباب في العالم من الدكتور اللبناني الراحل حسن صعب ألقاها في مدرج بكلية التجارة والاقتصاد… قدم المحاضر حسن مدير الجامعة المرحوم د. عبدالفتاح إسماعيل… أطال مدير الجامعة الحديث لتعريفنا بالمحاضر الكبير… مللنا… كنا ننظر إلى مدير الجامعة على أنه المتحدث باسم المؤسسة المحافظة التي تفرض العزل بين الجنسين وتجتر الخطاب الرسمي الممل والمكرر للدولة بمجلسيها النواب والوزراء… فقاطعه الطالب عدنان حسين بعبارة: يا دكتور لم نأت هنا لنسمعك… جئنا لنسمع الدكتور حسن صعب…
خجلت قليلاً من "دفاشة" (غياب الحلم) عدنان وهمست عندها ابنة العم نسيبة عبدالعزيز المطوع لعدنان… اص… عدنان… اصبر… عيب…! لكن كان عدنان ونحن وأوهامنا كما حاضر عنها حسن صعب في واد، وكان الواقع الحاكم في وادٍ آخر… مضت تلك الأيام… ولم نعد نملك منها غير فقاعات صغيرة في بحر الذكريات… ويظل الزمن يمضي والمكان يذوي ويزول ونزول معه، فلسنا في النهاية غير ذرة مكان في كون بلا نهاية ولا بداية.
طويت صفحة أخرى من الزمن (1)
كانت الرمال في وقت المد ترتخي بكسل على امتداد شاطئ الدمنة، في أوقات الجزر كانت تظهر صخور الكلس (جير) الجارحة تغطيها أعشاب خضراء كالغائط المائع، تتخللها مساحات من الطين الداكن، في الجزر لم يكن يسمح لنا بالعوم، فكان الكبار يقولون لنا إن "الفراييل" ترقد في الطين وبين الصخور، و"الفراييل" جمع فريالة، وهي نوع من الأسماك الصغيرة تحمل شوكة سامة على ظهرها، وإذا لامسها السباح تغرز به وتصيبه أوجاع شديدة في باطن قدمه، ولا أعرف الاسم العلمي للفريالة، لكن في أوقات الجزر، كان جزر آخر يتمدد في صدري اسمه الفراغ والملل, فالبحر حين تكون "الماية طفوح" (المد) كانت فرحتنا به كبيرة فنبتهج بالسباحة، وحدث مرة أن تضاعفت بهجتي حين تمددت أمامي على الرمال الساخنة مجموعة من النساء الأجانب لا يغطي أجسادهن البيضاء غير قطعتين من الملابس، أما بقية الأجساد الطويلة النحيلة المستلقية على الرمال الساخنة من أجل "صن تان" فكانت عرايا، كن مرمراً من النور سقط سهواً في خليج "اوه يا مال"، كانت تلك المجموعة من السيدات اللواتي جئن في ذلك الصيف أداة معرفتي كيف يكون جمال الجسد الأنثوي، كنت أراقبهن بعين الصقر، وهو يدرك سلفاً غياب أمله في الغنيمة وخيبة أحلام المراهقة… لكن إن كان واقعي محروماً من متع إشباع الرغبة لمراهق صغير فلم يكن خيالي يعاني الحرمان… فكان هناك العوض الوقتي يتم تخديره مؤقتاً بحكم عادات الحرمان وسواطير العيب والممنوع بوسائل أخرى حين أنفرد بذاتي، أحاور فيها خيالات حوريات الإفرنج، وأحياناً ترافقني صور فوتوغرافية من مجلة الموعد أو الشبكة لنجمات السينما المصرية كسعاد حسني أو نوال أبوالفتوح وهما بالمايوه المحتشم ذي القطعة الواحدة، ويستر قليلاً من الفخذين، وتمضي معها لحظات… وينتهي كل شيء… يخمد بركان الحرمان قليلاً ليعود مرة ثانية بعد وقت قليل… وهكذا كانت تسحقنا سنوات المراهقة في "بئر الحرمان".
مثلث القهر والملل
دعا رئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي إلى "الابتعاد عن كل ما من شأنه إثارة الفتنة في البلاد، وأوصى بالحكمة والحوار"، تأتي دعوة الخرافي كنصيحة لطرشان السلفيات المتطرفة في دولة تتأصل فيها يوماً بعد يوم النزعات الطائفية والعرقية، كما تطفو على وجه الدولة الأورام السرطانية، مقدمة لتفتت المجتمع، وبداية "للبننة" و"عرقنة" الكويت إن لم يكن بالغد القريب فمن بعد الغد وعليكم الحساب.
سؤال مشروع للنائب عدنان المطوع عن حقيقة سؤال في التربية الإسلامية عن حكم دعاء القبور وسب الصحابة.
وجاء الرد سريعاً من النائب محمد هايف، مؤكداً أن انتقاد سؤال التربية الإسلامية تشكيك في عقيدتنا، وهي عقيدة السنة والجماعة!! يعني كل من لا يتفق مع فقه السنة والجماعة عند شعبنا هو خارج على الحقيقة الصحيحة التي وكيلها الوحيد والناطق الرسمي باسمها هم أهل السنة والجماعة، هم الأكثرية الكويتية والأكثرية العروبية والأكثرية الإسلامية، بهذا الحكم هم من يقرر حقيقة التاريخ، وفقهاؤهم الذين صبوا أحكامه في قوالب تناسب مصلحة الحكام، ومصالحهم هي الحقائق والأصول الثابتة، فالزمن ثابت على المكان، وعقيدة أهل المكان، وكل ما عداهم من واقع تاريخي، مثل حروب الصحابة بينهم وبين بعض وقتلاهم في موقعة الجمل وصفين، إفك وزور وهرطقات. وتلك فتن تاريخية لا يساءل عنها أحد، فانسوها فنحن أهل السنة والجماعة الذين اجتمعنا على الحقائق، وهكذا كان "إجماعنا" سواء تم اليوم أو قبل ألف وخمسمئة عام… فلا زمن يمضي ولا يحزنون!!
سؤال وزارة التربية للطلبة تحريضي على الغير من غير أهل السنة والجماعة من الشيعة و"برين ووش" لعقول الأطفال، وهو في النهاية سؤال عقيم يناقض هو والفكر الذي أملاه حرية العقيدة، كما ينص عليها دستور الدولة، وهو ينفي مبدأ حياد الدولة المفترض في عقائد المواطنين، فالدولة تغلب مذهب على آخر، وسحقت في أيام كئيبة حقوق البشر غير المسلمين حين حرمتهم من مزاولة طقوسهم مثل طائفة السيخ، وحرمت فرقة شيعية أخرى من بلاد الهند من بناء مسجدهم، واجتهد مجلس النواب عام ٨١ من القرن الماضي بحرمان غير المسلمين من الجنسية الكويتية، وأضحى مسيحيو الكويت مهددين بالانقراض ويلحقهم مسيحيو العراق، وغيرهم من الطوائف التي تمتد جذورها لآلاف السنين…!
دروب اللاتسامح والتعصب سالكة حتى جبال تورا بورا، والمستقبل عظيم للحريات الإنسانية لدينا، وويل لمن يدعو إلى علمانية الدولة وليبرالية الديمقراطية… فهذا كفر بواح وطعن لعقيدتنا… فلمَ يتكدر سجين الحرية محمد الجاسم في معتقلات أمن الدولة…! فنحن الأقلية قابعون في زنازين المجتمع المتخلف- اقرأوا التعليقات على الخبر في موقع أوان الإلكتروني كما نقل الخبر- ونحن بدورنا أيضاً سجناء سلطة جالسة تتفرج على مشاريع الجهل في مؤسساتها، وترفع العصي الكبيرة عالية "لتلسب" ظهور المتطاولين على هيبتها… في كويت اليوم "مثلث الديمقراطية" أو مثلث الملل والقهر.
أزمة إدارة دولة لا انقطاع كهرباء
رفض مجلس الأمة توفير الدعم المالي لوزارة الكهرباء لمعالجة انقطاع الكهرباء، لكنه أقر توصية بتكليف ديوان المحاسبة فحص إجراءات سلامة إجراءات الصيانة… الخ! "وتيتي تيتي لا رحتي ولا جيتي" هكذا سارت الأمور، وستظل "تيتي" المجلس و"تيتي" الحكومة في مكانهما تراوحان، ليس في أزمة انقطاع الكهرباء في عدة مناطق، وإنما في رداءة معظم خدمات الدولة من فوضى المرور وحروب الشوارع إلى طوابير الانتظار الممتدة في المستشفيات، الى انتظار ممتد للسكن حتى قطع الكهرباء عن مناطق البؤس في الدولة، مثل الجليب والفروانية وجحور سكن العمال الأجانب، وكأنهم على تعاسة أحوالهم هم السبب في تبديد الكهرباء!
إذا تركنا فزعة نواب العوازم للوزير ولدهم جانباً، وهم على حق في ذلك، فالأزمة قبل الشريعان وستظل إلى ما بعد الشريعان، وحتى آخر نقطة من برميل النفط، فالمسألة ليست في حاجة إلى شطارة لجان تقص وخشية دائمة من شركات بناء المحطات بأنها "ستبوق" وسيثري التجار الوكلاء على حساب مستقبل البلد بقدر ما هي مسألة إدارة الأزمات في الدولة. لماذا لم ينطق أحد من النواب أو الوزراء بالحقيقة؟ حقيقة نعرفها ولا حاجة إلى المجادلة فيها، فمن يكترث ومن يبالي حين يكون معدل تزايد استهلاك الكهرباء بأكثر من معدل زيادة السكان، ومن يهتم بفواتير الكهرباء ما دامت الحكومة تدعم سعرها بأكثر من تسعين في المئة من تكلفة الإنتاج، تكلفة تقارب العشرين فلساً للكيلوات، وتباع بفلسين للمستهلك… وقدمت عدة دراسات جديدة تقسم الاستهلاك على شرائح، تدعم الحكومة منها أصحاب الدخول الضعيفة الذين يقل استهلاكهم عن حدود معينة، ويتناقص الدعم عكسياً مع ارتفاع الاستهلاك… فماذا حدث لتلك الدراسات وأين الحكومة منها؟ ربما ضاعت في ركام أغبرة فلسفة إسقاط الفواتير!
إذن لماذا يهتم أصحاب الدخول العالية بمعدلات الاستهلاك ونصائح "المسجات" التي تبعثها الوزارة لنا عن ضرورة التوفير في الاستهلاك… فلنترك الأمور على حالها ولنظل على أنانيتنا و"خلوا القرعة ترعى" على حساب مستقبل الدولة… فليست هي مسألة محولات تالفة ولا ضعف محطات الكهرباء، ولسنا في حاجة إلى لجان تقصي حقائق… فالدولة غارقة في محيط من لجان التنفيع، من لجان الوسطية وتهيئة الأجواء لتطبيق الشريعة، حتى لجنة محاربة الطائفية والعنصرية… كلها لجان "بلوشي" وجدت فيها السلطة متنفساً كأفضل وسيلة للهروب من المسؤولية وعدم مواجهة الواقع… هو واقع الحالة الريعية للدولة وغياب المسؤولية وقراءة المستقبل المقلق… أزمتنا ليس اسمها انقطاع الكهرباء أو تفجر محطة ضخ مجار وتدمير البيئة، بل هي أزمة إدارة دولة بكاملها… وغياب كهرباء التفكير والحصافة عند مديري الدولة ولا يبدو أن لها حلاً.
طويت صفحة من الذكريات
عتبات الدرج كانت مرتفعةً على طفل في السادسة أو الخامسة من عمره، فأنا لا أتذكّر عمري يقيناً في تلك الأيام، لكن كان عليَّ الصعود إلى السطح في المساء بعد صلاة العشاء، ففوق السطح كنت أتدثَّر ببهجة جميلة قبل النوم… أذكر أن سطح المنزل كان مُقسَّماً إلى قسمين، مكان للنوم، وآخر لقضاء الحاجة… ولم تكُن الحاجة سوى ممارسة عملية الإخراج تحت شمس الظهيرة أو تحت النجوم في المساء… كان من حظي السعيد أنه كانت لي أولوية قضاء حاجتي فوق القسم الآخر من السطح (أقصد قسم الإخراج)، فدورة المياه العربية كانت مُرعبة، أذكرها اليوم مثلما أذكر وصف الكاتب المغربي الطاهر بن جلون للسجن في رواية "تلك العتمة الباهرة"، كانت دار الخلاء مظلمة مخيفة تنبعث منها الروائح الكريهة الخانقة من كل صوب, "سراي زهيوي" صغير يضيء بوهن فيها، وكان عليَّ أن أجلس القُرفصاء مع الضوء الخافت، ضوء "الزهيوي" كان باهتاً، وزهيوي آخر حقيقي يتأمّلني بهدوء، ثم يحرك "شنبيه" إلى الأعلى والأسفل، كان "مايسترو" في حركة الشاربين، "مايسترو" فرقة كاملة مرعبة تشاهدك بهدوء وأنت تقضي حاجتك البشرية… نسيت أن أقول لكم إن "الزهيوي" بالكويتي يعني "الصرصار"، إذ كان الصرصار الحشرة يرعبنا كأطفال ويضيء لنا النور الجميل حين أسمينا الفانوس الذي يضيء على الغاز باسمه… واسمٌ على مُسمَّى…
لم يكُن المساء في تلك الأيام ملتهباً مثلما هي الحال اليوم، ولا يهمني ولا أكترث بأهل الأرصاد الجوية، عن صيف مضى كانت الحرارة فيه أعلى من المعدل أو أقل منه… أعلم يقيناً أنها كانت أهون وصيفنا كان أجمل وأحلى…
ففي عصرية كل خميس "الذي ذبحنا فيه إبليس"، كنا نخرج إلى الدمنة (السالمية) و"الدجة" أو "الحالة"، وهو مربع من التراب يحيط به أسمنت بنيّ مُشقّق من حوافّه الأربع،كنا نقضي الأمسيات هناك، نتسامر وننام على نغم هدير الموج… لا جبال الألب في سويسرا ولا "روكي ماونتز" في كولورادو أميركا… كانت "الحالة" هي حالنا… بساطة وسماحة… لا سياسة ولا قلق ولا صداع رأس… كانت الأمور بخير… لم أكُن أعرف من السياسة غير صورة الرئيس محمد نجيب ببذلته العسكرية ونياشينه، صورة علّقها شقيقي المرحوم حمد العيسى في دار "الباغدير" (غرفة المنام وربما كان أصل كلمة "باغدير" فارسياً)، ثم غيّرها فيما بعد بصورة جمال عبدالناصر… وأيضا بوجهه المهيب وهندامه العسكري الأنيق… كان حمد يقول لنا إنه بطل العروبة… ثم رحلت الصورة… أو ربما بقيت في ذاكرتنا كصورة "دوريان غري" لأوسكار وايلد… ففيها يكبر البطل النرجسي دوريان ويشيخ وتدوم الصورة كما كانت في الماضي… كما هي الحال في العقل العربي الأسطوري… لا يحفل بحركة الزمن… إنما يقدّس ذكرى الماضي الغابر… ويجترّ الأمس… ويحلم بعودته كما هو الأمر في حكايات ألف ليلة وليلة، وكان ويا ما كان…
ما شأني اليوم، وماذا يهم قارئ هذه الجريدة أن أسرد عليه ومضة سريعة من الذكرى، وأقرأ عليه صفحة مطوية من الماضي الجميل… هي ذكريات لم "تعبر أفق خيالي"، فقلبي مازال على "حقيقته" لا على غفوته… يحاول أن يفهم معنى الزمن… ويجاهد كي يدرك معنى الحياة ومغزى الفناء…
أيام مضت… وانتهت… لكنها تظل باقية في تجاويف الذكريات… تظل دائمة في عمر الزمن، ويظل وجودنا معها أزلياً… فالوجود دائم لا ينتهي.. والزمان مُطلَق… ولسنا سوى صور لصقت عشوائياً على شاشة التاريخ…
لم تنتهِ حكايتي في بيت شرق… فهي صورة محفورة على جدار الزمن… فلماذا نتكدّر حين يغيب أديسون وكاريير عندما تنقطع الكهرباء بضع ساعات في جهنم الطقس ونصرخ: واهي… جهنم… حر… الله يسامح حكومتنا الدائمة بعون الله تصرف وتصرف الملايين على الفارغ والمليان… وهي ثابتة كأبي الهول… الطقس في الدنيا يتبدل ويتغير وهي لا تتغير ثابتة مُطلَقة كقدر مُطلَق وأسطورة من خيالات هوميروس… احملوا الأسرّة إلى الأعلى… فوق سطوح منازلكم… تأمّلوا النجوم كما تأمّلتها في الأمس البعيد… وإذا لم تروها بسبب الغبار وعيونكم المترفة… فما عليكم سوى اللجوء إلى الخيال والوهم… فلسنا في النهاية غير وهم قصير من الملل والسأم في كون بني نفط الصغير.
أين أنتم؟
أكاد أردد مقولة الدكتور عبدالله النفيسي أثناء احتجازه أيام دواوين الاثنين حين نسيت قضيته ولم يزره أحد في معتقله، وقال: "أنا غسلت إيدي من الشعب"، فهل أقول مثله اليوم ولست معتقلاً مثلما كان النفيسي، لكنني مرهون بالقلق على حرية الضمير وحق الكلمة وأنا أشاهد وألمس باليد العارية اللامبالاة عند معظم ما يسمى "مؤسسات المجتمع المدني" في مأساة اعتقال الزميل محمد الجاسم…! بيان واحد يتيم موقع من عشر جمعيات فقط، أما جمعيتا الصحافيين والمحامين، ومحمد الجاسم عضو في الاثنتين، فما أذكره أنهما لو صمتتا لكان أفضل من صيغة بيانيهما المهلهلين اللذين يبدو أن أربابهما جاهدوا لإمساك العصا من منتصفها.
لنترك جمعياتنا المتعايشة على صدقات وهبات السلطة، وهي تكيل بيانات الشكر والعرفان لأريحيتها وكرمها، ونهمس في آذانهم: إن من يقبض يخسر حريته، ويصبح صوته صدى يردد كلمات الواهب. لنبحث عن نواب الأمة من الذين توسمت فيهم خيراً… أين هم؟ ذكروني بغير النائب مسلم البراك، وهو كوكب في سماء الناشطين من أجل حرية الضمير، ومعه قلة من التكتل الشعبي مثل خالد الطاحوس، وبضعة نواب آخرين، من غير هذا الكوكب ورفاقه من النجوم المتلألئة في ليلنا، ومعهم الزميل أحمد الديين وقلة من كتاب الضمير، يرافقهم نواب سابقون مثل مشاري العصيمي والدكتور فهد الخنة والكبيران الخطيب والنيباري، من غير هؤلاء انتفضوا ورفضوا ما يحدث لحرية الضمير وسجين الرأي؟ من غير مسلم البراك وأحمد الديين وغانم النجار، ومعهم شباب واعون قد دعوا إلى التجمعات الشعبية، وأصدروا بيانات الرفض… وقالوا كلمة "لا" كبيرة لما حدث لتكبيل صاحب الرأي بالقيود، وزجه في سجون أمن الدولة من أجل كلمات نقد ونصح لمسؤولين ولا أكثر…؟
كم مضى على حبس الجاسم…؟ لا نعد بالأيام ولا بالأسابيع… وخشيتي أن نبدأ الحساب بالشهور وغداً بالسنين لا قدر الله… فأين أنتم يا نواب الشعب؟ وأين أنتم يا وكلاء الحق بعد أن خيط فم من فوضكم وصوت لكم بكلبشات الحديد…؟ أين دفاعكم عن الحريات…؟ أين اقتراحاتكم لتعديل قوانين الجور ونسف الكلمات المطاطة في قوانين أمن الدولة والجزاء والمطبوعات والنشر…؟ ليست هي قضية محمد الجاسم الآن… هي قضية حرياتنا وحرياتكم… ليست هي قضية محمد أو زيد أو فلان من الناس الذين اختلفنا معهم في السابق، وتحفظنا على مواقفهم وإنما هي قضية موضوع… عنوانها حرية الضمير.
لا أحد يريد أن يتدخل في القضاء ولا في سلطانه، فلا تتذرعوا بتلك الذريعة، ولا بتلك الحجج الواهية… لأن من حقنا أن نتدخل ونستنكر على من أوصل الأمور إلى هذا الحد، وطرق باب القضاء من دون مبرر معقول… من حقنا أن نفرق كبشر أحرار بين حكم القانون والتعسف في حكمه… لا تقولوا لنا إنه ليس من مصلحة الدولة أن تصل مسألة الجاسم إلى المنتديات الدولية… فهذا مصلحة لحرية البشر… وما هو صالح لهم يكون بالضرورة صالحاً للدولة… لتصل حكايتنا إلى أسماع منظمة العفو الدولية وبقية منظمات حقوق الإنسان والدول المهتمة بالشأن الإنساني… لأننا بصراحة نكاد نفقد الأمل بكم، ومللنا ثرثرتكم… فإذا كنتم لا تسمعون… فهم حتماً بالخارج سينصتون… فسيادة الدولة ليست مطلقة في عالم اليوم… فحرية الضمير تضع حدوداً واضحة لهذه السيادة في الدول التي تتبجح بديمقراطيتها المزعومة وبحرية إعلامها المقهورة… تذكروا يا سادة أننا مواطنون ولسنا رعية في فيافي الجدب.
واحات في صحراء د. النفيسي
ما قاله الدكتور عبدالله النفيسي في أحد الدواوين بشأن السيد المهري من أن السيد المهري جاء "سباحة من البحر" خطأ، ومهما تكن شدة الخلاف القديم بين الدكتور النفيسي والسيد المهري فإنه لا يبرر أي نزعة استعلاء على الغير مهما تباينت أصولنا واختلفت توجهاتنا، فنحن أبناء وطن واحد في النهاية، ويفترض أن نكون متحدين في القاسم الإنساني، لكن يظل الدكتور النفيسي مثالاً حياً للمثقف القلق، ويفترض بهذا المثقف أن يتعالى بإنسانيته فوق اعتبارات العرق والطائفة وكل إشكال "القبائلية".
مع ذلك يسلط الدكتور عبدالله بقعة الضوء المثيرة على كثير من مواقع الظلام في الدولة والمجتمع الكويتي، فحين يقرر أن الديمقراطية في الكويت صحراوية على أرض رخام فهذا وصف صحيح برأيي، فهي اليوم "صحراوية" بفكرها الجاف وقسوة بيئتها وبسبب حالة الاستقطاب القبائلي مهما كانت هذه القبائلية ملتحفة ومتغطية بمسميات مختلفة مثل العائلة والطائفة والشللية والعرق… هي اليوم صحراء جرداء عانى عبدالله النفيسي ونحن معه خواءَها وخواء الفكر الذي أنتجها، وليس هذا عيب الديمقراطية كأسمى مراحل التطور السياسي وإنما هي كذلك عندنا بسبب هيمنة السلطة الواحدة على سمائها منذ عام 67 من القرن الماضي عام تزوير الانتخابات، ثم في أوائل الثمانينيات حين غيرت وعدلت الدوائر الانتخابية لتكرس التقسيمات العشائرية والطائفية، فحرمت تبعاً لذلك هذه الديمقراطية أمطار التحديث والتطور والثقافة وكل أسباب التقدم والمعرفة، وتم عبر سنين طويلة مسخ هذه الديمقراطية الوليدة في المنطقة من الداخل الكويتي ومن الخارج الذين رأوا فيها شذوذا عن معايير ونواميس العروبة في ديمومة البقاء بالحكم الى ما شاء الله. فانتهينا اليوم إلى ما نحن فيه.
يهمني كذلك تقسيم الدكتور النفيسي للمجتمع الكويتي إلى أربعة أقسام، قسم واحد يريد الاستمرار في السلطة، وقسم ثانٍ يسعى إلى الحكم وهو كارثة السياسة الكويتية الآن، وقسم ثالت من المثقفين والكتاب والصحافيين القلقين من اللاجدوى، وهي "لا جدوى" كويتية بصدق وليست فلسفية عبثية وجودية من الحياة وخلوها من المعنى، هذا القسم الذي يرى الأمور تسير من سيئ الى أسوأ، ويشاهد الدولة تعبر حفرة صغيرة لتقع في بئر عميقة! هي "لا جدوى" فراغ الفكر والكتابة الجادة حين تضج صفحات عديدة من جرائدنا ووسائل إعلامنا بثرثرة مسح الجوخ ويعلوها أتربة الرياء واجترار معانٍ منتهية الصلاحية لكنها تلائم ثقافة "الجمهور عاوز كده"، وكان هذا ما فهمته وفسرته عن القسم الرابع في المجتمع الكويتي من حديث الدكتور عبدالله النفيسي.
مهما يكن عليه الأمر، ومهما كان جدب صحرائنا في السنوات الأخيرة، تبقَ هناك واحات قليلة وارفة الظلال فيها، يجتهد ويعمل بها عدد من نواب الأمة ومن أصحاب الرأي الذي لا ينشد أصحابه عرض الدنيا… فليس بإمكاننا أن نفقد الأمل في الغد مهما طالت واستدامت جروحنا، فبالأمل نبقى وبنخيل واحاته سنستظل ببسمة الفرح ولن "نغسل أيدينا" من قدر التاريخ وسنة التغيير.
حكومة تأمر ومجلس يطيع… شتبون بعد؟!
الحمد لله، كل دول العالم "السنعة" لديها حكومة واحدة تدير الدولة، لكننا في الكويت أفضل منهم، وهذا بالتأكيد لأننا لسنا من دول "السنع". الحمد لله لدينا حكومتان، مبنى الحكومة الأولى قرب قصر السيف ويطل على البحر، واسمها مجلس الوزراء، وحكومة أخرى، تقابلها تقريباً، واسمها "مجلس الأمة". ويا بخت الحكومة رقم واحد، فلديها وكلاء يمثلونها ويبصمون على قراراتها في كل المناسبات، بالحق وبالباطل. ويا بختنا بالاثنتين! صورة ومرآة عاكسة والعكس صحيح، مايسترو حكومي وكومبارس مجلسي، ولو قلبت الصورة فلن يختلف الأمر في دولة المركز المالي ومركز الحريات الفكرية للمنطقة!
كيف نفسر إقرار سرية الجلسة من نواب حكومة رقم 2 حتى قبل الاستماع إلى أسباب السرية المزعومة! وما الدواعي إلى طلب السرية؟ وما وجه الخطورة في علنية الجلسة؟! موضوع استجواب النائب خالد الطاحوس لم يكن عن قضايا تمس أمن الدولة أو مما يعرض مصالحها العظمى للخطر، أو يهدد أمنها الاجتماعي والاقتصادي كما تكرر وتدندن مدونات قوانين الجزاء وأمن الدولة والمطبوعات والنشر في نصوص "الماغنا كارتا" الكويتية. كان موضوع الاستجواب قضية لا تلامس وعي الكثيرين من أهل الكويت، هم وحكومتهم ومجلسهم، كان عن البيئة والكارثة البيئية، سواء كانت في أم الهيمان أم في أي مكان آخر في دولة بني نفط. ربما لم يكن مُهِمّاً أن يعرف الناس بلغة الأرقام سواء تقدم بها النائب خالد الطاحوس أو شمَّر د. البصيري عن ساعديه للرد عليها وقبرها في مهدها؛ فقد تم إصدار حكم مُبَيَّتة أسبابه مسبقاً حتى قبل الاستماع إلى مرافعة الادعاء أو الدفاع، وهكذا تصاغ الأحكام العادلة "ولا بلاش"! أحكام جاهزة مُعَلَّبة تحت الطلب من غير مرافعة ومن دون سماع لا اتهام ولا دفاع، المهم ما تريده "حكومة الحكومة" يصير، ويصبح أمراً واقعاً، تفرك الحكومة مصباح علاء الدين بيدَي الواسطة والمال الحلال فيرد عليها المارد: أمرك مطاع يا مولاتي! هكذا علينا أن نفهم الديمقراطية، وهكذا يكون مبدأ الفصل بين السلطات في كويت القرن الحادي والعشرين!
الرئيس الخرافي صرَّح متسائلاً: إذا كانت سرية الجلسات إفراغاً للدستور من محتواه فلماذا وضع المُشرِّع هذه المادة؟ جوابي للرئيس يكون بسؤال آخر أتقدم به، وهو: لماذا قرر المشرع الدستوري مبدأ علنية الجلسات بدايةً وفق المادة 94 من الدستور؟ المبدأ والأصل هو علنية الجلسات، وبهذه العلنية تتحقق الرقابة الشعبية، وبهذه العلنية تتحقق الديمقراطية الصحيحة، أما سرية الجلسات فقد أجازها المُشرِّع على سبيل الاستثناء وللضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وليس من قدرها سرية استجوابات الشيوخ! وفي النهاية لنقل شكراً للحكومة رقم واحد التي تُقرِّر، وشُكْرٌ آخر لحكومة المجلس التي تبصم.
نحو النهاية في الصليبيخات
يلتف طريق الأسفلت الضيق ويتعرج، وأسير فوقه أو أسير معه، فأنا ذاهب لتقديم واجب العزاء لقريب أو صديق، لا تهم صفته، وإنما الطريق يسير بسرعة، وأتأمل على يميني ويساري شواهد القبور، بعضها محا الزمن أثرها، وبعضها مازالت أسماء القابعين تحت الثرى ظاهرة، كلها تسألني عن معنى الحياة وجدوى الوجود. أسير بالسيارة، وبرأسي تدور الذكريات… مررت، على الزمن، أم الزمن يمر علي، لا أدري…؟ تلك مقابر الشيوخ على اليمين، وبعدها مقابر الشهداء، وأسير تحيط بي شواهد القبور من كل صوب… لم يعد للمكان معنى… هو الزمن… هو الدهر… هؤلاء توفوا في الستينيات… وهؤلاء في السبعينيات… في الثمانينيات ولا بداية ولا نهاية… ثم ماذا بعد…؟! يمضي الزمن ويترك شهوده على لحظة الحياة وبرهة الرحيل. أتمهل في قيادة السيارة، ربما في هذا "مكان الزمن" قبر والدي، وأتذكر أبيات شعره البسيطة "… مضى تسعون من عمري… كأني لم أكن بها أدري… أيوم مر أو ساعة أم أحلام بها أجري… فيا مولاي وفقني لما ترضاه في أمري…"، وعسى الله أن يوفقه لما يرضاه من أمره.
تظل شواهد القبور تحدثني عن الزمن… تخاطبني بلغة من جوفي عن لحظات فرح ولحظات حزن مضت كلها، رحلت وطواها الزمن.
هذا قبر فايز المطوع… ملأ حياتي بفرح كبير بعفويته وجموحه… قربه يرقد صديقي الفنان راشد الخضر، مات شاباً يافعاً… وترك لنا "يا نار شبي من ضلوعي حطبك"، وولع الزمن نار الفناء الدائمة من ضلوعه خشبها… ومات في لحظة سهو… وهذا قبر فلان وهذا قبر أمي… وهذا قبر رجب أمين، الذين أعرفهم ممن رحلوا أكثر من بقوا… رحلوا جميعاً من دون سابق إنذار… هل أقول رحلهم القدر الى زمن آخر أم الى العدم؟! لا أدري… زمن لا يعرف الزمن ولا يعرف التوقيت… يركض الزمن بسرعة الزمن فلا توجد فيه بداية ولا نهاية… لا يمكن حساب الزمن فلا ساعات ولا أيام ولا شهور ولا سنوات ولا شيء.
يا له من زمن… أمضي معه متكئاً على كتفيه محلقاً للمجهول… وتعود الذكرى في وجداني، ماذا تملكت… من بضاعة مغشوشة لهذه الدنيا… لا شيء…! وتطل علي عبارات في لحظة خاطفة لمارسيل بروست من رواية "البحث عن الزمن المفقود" قال فيها "… والزمان لا يموت كلياً… حسبما يتبدى لنا، ولكنه يظل بداخلنا، فليس المهم أن نعيش بين هذه الأوهام ومن أجلها، بل نبحث في ذكرياتنا عن الجنات المفقودة…" الجزء الأول، جانب من منازل سوان.
وأظل أنبش في دفاتر الذكريات عن زمني المفقود… فهل ندرك معنى الزمن… أم انتشينا من خمر المكان…؟! والمكان ليس إلا وهماً كبيراً… وسأقف بعد قليل معزياً في "المكان"…. أو أتقبل التعازي… لا فرق بين الأمرين… فاليوم نقف نتقبل التعازي أو نعزي… وغداً… والغد هو القدر المجهول… سيقفون لي ولك في مقبرة الصليبيخات… يعزون في رحيلي ورحيلك، فقد كنا ومضة خاطفة من الزمن… ماذا تملك الآن…؟ غير "الآن" والآن هو الذكرى تجوب بلا هدف في جوف ماضيك… وهو الحلم حين يزورنا في المنام… فلنتسل بما مضى… وعفا الله عمن تركنا نجتر الذكريات ونأسى على ما فات.