إصدار بيانات الشجب والاستنكار ووعظ الناس بمكارم الاخلاق وتحريم الرشاوى السياسية والعادية، كل هذا كلام لم ينفع بالامس ولن يكون مجدياً بالغد، فالسلطة «كانت» و«مازالت» و«ستظل» تحيا على شراء الولاءات السياسية بحسب أسعار السوق المحلية.
وليس بالغريب أن يقبض نائب و»نواب» مقابلاً مادياً أو معنوياً بصورة تسهيل وإنجاز معاملات ناخبيه، وإنما الغريب ألّا يحدث مثل ذلك في بلد أسست دعائمه بداية ومنذ لحظة تفجر الثروة البترولية على فكرة انتهازية قوامها شراء الولاءات وإحلال قوانين السوق مكان معايير الأخلاق.
الكلام الآن عن اتهامات بجرائم غسل الأموال لبعض النواب الذين تفجرت حساباتهم بين ليلة وضحاها إلى ملايين الدنانير هو مجرد حديث «مأخوذة زبدته»، ولن يفيد أيضاً أن يكشف النائب أو الوزير أو كبار المسؤولين عن ذممهم المالية وأرصدتهم الحسابية، فما أسهل ان تفتح حساباً مصرفياً في الخارج ويتم تحويل مقابل رصيد الخدمات السياسية في ثوانٍ، وحين يطالب النائب مسلم البراك الحكومة بكشف حسابات النواب والتغييرات التي طرأت على ملكياتهم العقارية في السنوات الثلاث الماضية كأن ينتقل تصنيف عقاراتهم من فئة ذوي الدخل المحدود إلى خانة ذوي المال الممدود، فتلك الأسئلة المؤلمة وإن كانت تشفي الغليل إلا انها لا تداوي، والعليل هو «الدولة» كلها بنظامها السياسي الحاكم وشعبها المحكوم، والعلة اليوم هي اللامبالاة الشعبية للفساد المالي والإداري عند كبار القوم أياً كانت مراكزهم، وليست علتنا وليدة المصادفة الريعية فقط وإنما هي عمل خُطِّط له وتم تدبيره منذ زمن بعيد، فكانت هناك سياسة مدروسة لإفساد المواطنين وتخدير وعيهم، وتم بنجاح توسعة سياسة «دبلوماسية الدينار» ونقلها من علاقات الدولة مع الخارج إلى علاقة المواطن بالوطن، فأنا لا أستغرب مشاهدة قصور كبيرة وكثيرة فخمة يسمونها «شاليهات» يحيا أصحابها برغد العيش أيام العطل وهم من كانوا (وأعلم تاريخهم) في سالف الأيام على باب الله.
كانوا على «طقتنا» وأضحوا من أهل النعيم بعد أن رشهم النفط السياسي، وأقصد «بركة» العمل من «أجل» الوطن في النيابة البرلمانية أو الوزارة.
حالة اللامبالاة التي أشكو منها مصدرها فيروس تم تربيته في مختبرات السلطة، وحقن بأوردتنا، ونمنا بغيبوبة اللااكتراث، فما الجدوى من محاورة الجدران؟!.
التصنيف: حسن العيسى
مع آيمي
ابتدأت ديان جونسن عرضها ونقدها لكتاب «آيمي شوا» (أميركية من أصول صينية) وأستاذة القانون في جامعة ييل الرصينة بعبارات اقتبستها من مذكرات الرئيس أوباما (أحلام من والدي)، فالرئيس يتذكر أن والدته حين كان طفلاً في إندونيسيا كانت توقظه الساعة الرابعة صباحاً، وتبدأ معه دروس اللغة الإنكليزية مدة ثلاث ساعات قبل أن يذهب هو للمدرسة وتغادر هي للعمل، وحين كان الصغير أوباما يبدي امتعاضه ورفضه لهذه القسوة التربوية، كانت ترد عليه: «هذه ليست رحلة متعة بالنسبة إلي أيها الشقي»… شدة وصبر انتجا لنا محامياً وأستاذاً عريقاً في كلية حقوق هارفارد، ثم رئيساً للولايات المتحدة…! لنعود الآن لعرض ونقد آيمي شوا في كتابها «معركة أنشودة الزفاف للأم النمرة»، فآيمي شوا تتحدث في هذا الكتاب عن تجربتها في تربية ابنتيها «لولا» و»سوفي»، واحدة عازفة كمان والثانية عازفة بيانو من الدرجة الأولى، وهما متفوقتان في الدراسة بمعدل لا يقل عن «اي» وهو القمة، وتستعدان للتقدم لجامعة هارفارد، تمضي هذه الأم وتقرر أنه رغم مشاغلها كأستاذة قانون في «ييل»، إلا أنها تقضي ساعات طويلة يومياً مع ابنتيها، تدرس معهما مواد الرياضيات والتهجئة، ثم قراءة النوتة والعزف الفني، وتقرر الأستاذة «آيمي» انه عند الصينيين هي كارثة عندما تقل الدرجات عن الكمال، فمعدل «بي» غير مقبول أبداً، وبغير ذلك لن يكون لنا مكان تحت الشمس.
شغل كتاب آيمي جدلاً كبيراً في الولايات المتحدة، فالبعض امتدحها والبعض الآخر انتقدها وطالب بمحاكمتها بجريمة استغلال الأطفال. المعارضون الأميركيون يقولون إن طريقة آيمي في التعليم تقضي على روح المبادرة والاستقلال لدى الأطفال، والتركيز لأكثر من أربع ساعات على نوتة فنية فيه إرهاق شديد لعقل وروح الطفولة! ترد آيمي بأنه «ليس هذا وقت التنظيرات التربوية، فنحن كصينيين لا نكترث للدافع النفسي، وإنما نريد الجهد والنضال فقط، نبحث عن القوة وليس الضعف، اقلبوا العملة سترون أنه بالجهد الدؤوب سيبني الطفل ثقته بنفسه».
لن أمضي في عرض وجهات النظر «مع» أو «ضد» آيمي، فردها الأخير كان قاطعاً بمقولة: «انظروا أين وصلت الصين اليوم، وأين هي الولايات المتحدة؟ بالعمل والعمل الدؤوب فقط تعتلي الأمم المجد، وكنت سأتطرق إلى أزمة التربية في البيت الكويتي والخليجي، مثلاً هل سألنا أنفسنا في الماضي لماذا أبناء الفلسطينيين كانوا يحتلون المراكز الأولى في الثانوية العامة، واليوم أبناء مصر، رغم الظروف الصعبة لكل من الجاليتين، فلا دروس خصوصية، وأمهات (وهن الأساس التربوي) لن تجدهن يتسكعن في مولات الحداثة في «مدن الملح» أو يسرن برؤوس مائلة لليمين أو اليسار من طول المحادثات التلفونية، مجرد شقاء ومعاناة أنتجا هذا التحدي الكبير… إلا أنني تذكرت أن اليوم «كركيعان» وسأفتح الباب بعد قليل لأجد جيشاً من الأطفال تحيط بهم جيوش أعظم من الفلبينيات… قد تكون الأستاذة آيمي واحدة منهن، فكلهن من آسيا، ورحم الله أمهاتنا، وأجيال ما قبل حداثة النفط.
ملاحظة: تجدون عرض الكتاب ونقده في «نيويورك بوك رفيو» العدد الأخير.
تنفخ بقربة مقطوعة يا جاسم
تقريباً لأكثر من ثلاثين سنة والاقتصادي جاسم السعدون يكتب في الجرائد ويعد تقارير «الشال» ويتحدث وينصح، لا بل يكاد يزعق لكن لا أحد يسمع، ربما لدينا سلطة في الحكومة والمجلس مشكلة من طرش، فلا جاسم السعدون ولا كثيرون غيره من المخلصين الناصحين نفع حديثهم، ولا أحد من «أهل الحل والعقد» ينصت لهم، أما الكويتيون فهم لاهون، لاهون يعدون الأيام والساعات متى تدخل جيوبهم مكرمة حكومية، لأن المناسبة هي ختان ابن واحد كبير أو غير ذلك من أسباب توزيع الثروة على العائلة الكويتية، وهم (أهل الديرة) أيضاً مشغولون متى تأتي مبادرة من ناحية مجلس النواب تصب في قالب إسقاط فواتير الكهرباء والماء كإسقاط القروض للقادرين وغير القادرين، أصبح واجباً مقرراً ويومياً للكثير من الأسر ملاحقة أخبار الهبات والمنح والكوادر والإجازات وغيرها في بلد مهما كثرت أموال أهله فالملل والسأم يقتلهم… سجن كبير يضج بالمساجين الممتلئة جيوبهم وليس لهم مكان يتنفسون فيه غير المولات ومطاعم «الجنك فود»!
صفحتان كاملتان في جريدة «الجريدة» قبل يومين ضجت بنقد مر لجاسم السعدون تحدث فيهما عن غياب التخطيط وغياب الرؤية عند أهل القرار «… ففجوة الاعتماد المتزايد على الحكومة زادت في صناعة الاقتصاد، والمالية العامة أصبحت أكثر اعتماداً على النفط، موظفو الحكومة أصبحوا أقل عملاً وأكثر رواتب…» والمشكلة عند جاسم وغير جاسم من الواعين هي «الإدارة، مجلس الوزراء يشكل لتوزيع المنافع على الوزراء بدلاً من خلق مجلس وزراء يحقق منافع للدولة…»! لكن أين صرنا اليوم؟ افتحوا أي جريدة أجنبية أو طالعوا أي محطة تلفزيون غير محطات «هشك بشك» العربية، ستجدون الأخبار والمقالات كلها تتحدث بالدرجة الأولى عن الأزمة المالية في أوروبا وأزمة التصنيف المالي والسندات للولايات المتحدة، تلك الدولة التي تصنع «مكوكات الفضاء» وليس تصريحات الهباء مثل حالنا. يقولون ويقلقون من القادم الذي يبدو مخيفاً لهم وللعالم، يقلقون قلق العقلاء الذين ينظرون إلى المستقبل ويتلمسون أخطاء الماضي، وهو ماضي تاريخ الجشع والأنانية، وكأن الفقراء عندهم وطبعاً في الدول الفقيرة سيدفعون أكثر الأثمان، لكن ماذا عنا، ماذا يقول حصفاء الديرة لو نزلت أسعار البترول عن 88 دولاراً، كيف ستوفر الدولة الرواتب وكيف ستتكفل السلطة «بدهان سير» هذا أو ذاك من نواب الهبش حتى يسكت، هل سنرهن الأرض وما عليها، أم أننا نظن أننا كابن نوح سنأوي إلى جبل يعصمنا من الطوفان… ما العمل؟
لا تقولوا هذا كلام ناس ممتلئة أرصدتهم البنكية… ولا يفكرون بالموظف «الغلبان» الذي تنهش من لحمه ديون الأقساط وغلاء الأسعار، ربما يكون هذا صحيحاً عند النفوس المنهكة، لكن ماذا لو فكرنا دقيقة واحدة في الغد وماذا سنصنع وماذا يخبئ لأبنائنا ذلك الغد المقلق؟… وهو قادم لا محالة كالموت وهو قدر الإنسان.
قف عند حدك يا حضرة النائب
واجب النائب أن يمثل الأمة ويدافع عن مصالحها وليس له أن يطالب بإصدار فتاوى حل دماء الغير، هذا الخطاب للنائب محمد هايف الذي طالب بهوج وطيش دينيين «العلماء» بحل دماء السفير السوري في الكويت! من تحسب نفسك يا حضرة النائب حتى تطرح مثل هذه المطالبة الرعناء؟ فلا أنت ولا «علماؤك» لا من سلطانهم ولا من حقهم حل دماء البشر سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فهل طرحت الآن جلباب ممثل الأمة جانباً ولبست عمامة الراحل آية الخميني، وتوهمت أن السفير السوري هو الكاتب الإنكليزي سلمان رشدي! هل اختلطت عليك الأمور وتخيلت أننا في مكان غابر في الصومال الجائع أو في قرية منسية من قرى باكستان تأتمر بأمة سفك الدماء الطالبانيين؟ نحن هنا في دولة يحكمها الدستور والقوانين الوضعية، وليس من حق أحد أن يغتصب ذلك السلطان القانوني ويمسخه لمصلحة رغبات وهوى المتطرفين الدينيين، والدولة تحكمها مبادئ القانون الدولي في علاقتها مع غيرها من الدول الأخرى ولا تسيرها تطلعات هذا أو ذاك النائب في برلمانها. وإذا كان حضرة النائب محمد هايف يريد الثأر لدماء المدنيين في القطر السوري والضغط على نظامه الحاكم فليست الوسيلة المناسبة هي التحريض على قتل ممثلي الدول الأجنبية وحل دمائهم وكأنهم أغنام أعدت للذبح وفق الشرع الديني.
الاعتصامات الشعبية والمسيرات الرافضة لنهج النظام السوري في تعامله مع مواطنيه هي مسألة مشروعة كأبسط تعبير عن التضامن مع الشعب السوري في خلافه ومطالبته بالحرية في سورية، وغير ذلك فنحن كمواطنين لا نملك أي أمر آخر نحو استعداء ذلك البلد أو أي بلد آخر تحكمنا معه أعراف ومبادئ القانون الدولي في احترام سيادة الدول. هنا لابد من كلمة بحق تجمع حدس السياسي كتنظيم للإخوان المسلمين في الكويت، فقد كان بيان التحالف الوطني في رفض دعوة النائب محمد هايف الدموية مسألة مفروغاً منها، إلا أن رفض كتلة حدس مطالبة النائب محمد هايف يجب أن تحسب لها حين احتكمت إلى العقل وحكم القانون، فشكراً لها.
لماذا حسني مبارك فقط؟
هو حكم العدل أن يقف الرئيس المصري السابق حسني مبارك أمام «محكمة قانون»، ويحاكم حضورياً لا غيابياً مثل زين العابدين بن علي – وعساها أن تكون محكمة قانون إن شاء الله، لا محكمة شعب تحل فيها مشاعر الغضب والثأر الجماهيريين مكان النص القانوني، هي سابقة تعد الأولى أن يحاكم رئيس عربي في محكمة تتم تحت ظلال حكم مصري وطني، لا تحت حراسة ورقابة قوات احتلال أجنبية مثلما حدث مع صدام حسين.
نتمنى أن تنتهي المحكمة الخاصة بالرئيس حسني مبارك ونجليه ومن سار معهم على دروب الفساد وسرقة قوت الشعب بحكم العدل، والعدل هنا هو الإنصاف، هو إنصاف حين يتساوى تحت حكم القانون الكبير مع الصغير والوضيع، فلا فرق بين من قتل بدافع سرقة مال خاص ومَن قتل الأبرياء كي ينهب المال العام، ويدوم سلطان حكمه إلى يوم غير معلوم.
لنقف هنا متسائلين… إذا كان هذا هو حكم العدل للمصريين أولاً وأخيراً، فلنتحفظ بعض الشيء بشأن ما إذا كانت المحاكمة عادلة، بمعنى أنه لم يقدم حسني مبارك ومن معه إلى المقصلة قرباناً للثورة وتمويهاً لحقيقة أن النظام في واقع أمره لم يتغير، فتمت التضحية ببعض الرؤوس الكبيرة والصغيرة لتبقى مرتفعة عالياً رؤوس أخرى بعيدة عن الشبهات، كأنها حركات حاوٍ يشغلنا بيده اليمنى كي نسهو عما تهبشه يده اليسرى! تلك كانت مسألة أولى في الإنصاف. المسألة الثانية: أين هو الإنصاف «العربي» الآن، وليس الإنصاف المصري؟ فأين المساواة تحت حكم العدالة العربية، إن كان هناك ما يسمى عدالة أو «ربما» خرافة عربية! لماذا الرئيس المصري تحديداً؟ هل كان وحيداً في دنيا الاستبداد والفساد واستغلال النفوذ العربي؟! أم أن له أشقاء في القيادات العربية مازالوا يجثمون كالبعير على صدور شعوبهم؟ فلماذا يحاكم حسني مبارك (وفق منهج الإنصاف العروبي) ويترك غيره؟ فهناك قيادات عربية يظهر معها حسني مبارك نسبياً أشبه بالمهاتما غاندي في تسامحه وعفوه، وهناك من أشقائه في القيادات العربية من يبدو الرئيس مبارك معهم كأنه احتذى في حكمه بالخليفة عمر بن الخطاب في أمانته وعدله، فلماذا فقط زج بحسني مبارك في قفص الاتهام وتركت بقية الشعوب العربية وشأنها مع نماذج كصدام حسين ومن هم على شاكلته؟!
بودي أن أذكر بقية كل أسماء الدول العربية وقياداتها الصدامية… لكن قانون المطبوعات والنشر الكويتي يحظر ذلك… وهذا الأخير من بركات «أشقائنا»العرب!
بالحوار ننهي الأزمات
بالحوار الهادئ لا بالتصريحات العنترية يمكن الوصول إلى اتفاق بين الكويت والعراق حول أزمة ميناء مبارك.
ليس من مصلحة الكويت أن تتبنى سياسة متصلبة مع الدولة العراقية الآن بشأن موضوع الميناء، وفي المقابل ليست للعراق مصلحة في خلق أزمة بناء الميناء حين تمارس الدولة الكويتية سيادتها على إقليمها.
مسألة سيادة الكويت وحقها في استغلال أرضها مسألة غير قابلة للنقاش، إلا أن ممارسة تلك السيادة الإقليمية يجب أن تكون من دون تعسف ومن دون الإضرار بالغير، والغير هو العراق اليوم، فالعراقيون – أو على الأقل فئة فاعلة ومؤثرة منهم – يرون أن بناء الميناء سيعني خنق العراق، وغلق المنافذ البحرية المحدودة المطلة على الخليج، وهو بالتالي يجعل إقامة موانئ عراقية غير ذات جدوى.
هذا التصور العراقي، سواء كان حقيقياً أو وهماً، ينطلق أساساً من رفض العراقيين لواقع تقسيم الحدود بين الدولتين في أعقاب حرب تحرير الكويت، وهم يرون أن مثل هذا التقسيم حرمهم العمق البحري لسواحل الخليج، مع أن مثل ذلك التقسيم الذي فرض على نظام صدام المهزوم يتفق مع الاتفاقيات الدولية التي تقسم المنطقة بين الدولتين، إلا أنه في المحصلة الأخيرة تظل الحدود بين جميع دول المنطقة – وحتى العالم العربي الخارج من الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى – مجرد «خطوط على الرمال « رسمتها بريطانيا وفرنسا الدولتان اللتان ورثتا التركة العثمانية.
وحتى إن قبلنا مثل هذا الحقيقة التاريخية وما نتج عنها من أزمات متواترة بين دول المنطقة، والتي كانت قبائل متنقلة لا تعرف لها حدوداً في صحارى الجفاف والقحط، يظل هناك واقع مستقر كُرِّس كحق تاريخي أكيد للدولة على إقليمها.
على سبيل المثال منطقة الإلزاس واللورين بين فرنسا وألمانيا ظلت لعقود أرضاً ملتهبة للصراع بين الدولتين، وانتهت بعد الحرب الكونية الثانية بإقرار ألمانيا المهزومة بالسيادة الفرنسية عليها، والآن تكاد تمحى الحدود بين الدولتين وبقية الدول الأوروبية، والسبب هو سيادة روح الديمقراطية والحوار العقلي بين الدول الأوروبية في حل نزاعاتها التاريخية.
العراق اليوم ديمقراطي رغم علله الطائفية والقبلية، والكويت أفضل من غيرها تقريباً من بقية دول الخليج على الدرب الديمقراطي، فما الذي يمنع أن تشرع أبواب الحوار بين الدولتين حول الميناء وبقية القضايا العالقة بينهما؟ فليس هناك أي مبرر لاستمرارها، فلتكن الديمقراطية وسيلة ارتقاء الحوار أولاً ثم الاتفاق ثانياً، وليست سبباً للنزاعات المدمرة.
نحن وهم
ضج عدد من الكتاب الغربيين إزاء الجريمة البشعة للنازي النرويجي «أندري بريفك» بعد تفجير أوسلو وقتله للعشرات من الشباب في معسكر تابع لحزب العمل النرويجي. خوف هؤلاء الكتاب الإنسانيين وشجبهم للجريمة نابع من خشيتهم على مصير التعددية الاجتماعية في النرويج وفي أوروبا عموماً، فالمتهم لم يُخفِ شعوره بكراهيته العميقة للمسلمين المهاجرين، وخشيته من تشويه «ثقافتهم الدخيلة» للثقافة الأوروبية… تلك المشاعر العدائية ليست قاصرة على هذا الجاني، وما يخشاه هؤلاء الكتاب أصحاب الضمير أن يشارك الكثيرون في أوروبا بريفك مثل تلك المشاعر، فشويب سلطان السكرتير العام السابق للمجلس الإسلامي في النرويج، كتب في «فورن افيرز» إن عدد المسلمين في النرويج يقارب المئة ألف وهناك مئة مسجد في النرويج، ورغم التسامح الكبير للنرويجيين هناك فإن نمو عدد المسلمين وشيوع عاداتهم مثل ختان الأطفال وطريقة الذبح للبهائم والحجاب ولّدت مشاعر القلق لدى النرويجيين، وبرزت أصوات ماكرة في الإعلام تحذر من المسلمين، إلا أن المؤسسة السياسية في النرويج تفعل الكثير لتنمية الحوار الثقافي بين المسلمين النرويجيين وغيرهم.
الكاتب النرويجي «اسلاك مايير» في «واشنغتون بوست» أعلن سخطه الشديد على مشاعر الكراهية نحو المسلمين كما تجلت في جريمة بريفك، ويرى أن ظاهرة «إسلامفوبيا» لم تكن معروفة قبل ثلاثين عاماً، فهو يذكر أن المدرسين الذين تعلم منهم في طفولته كانوا شديدي العقاب لأي مظهر من مظاهر الكراهية للغير، فلم يكن يسمح لأحد أن يقول إن السود أغبياء وإن المسلمين قتلة وإن البيض أكثر رقياً من غيرهم، إلا أن تغيرات كثيرة طرأت علي النرويج في السنوات الاخيرة بعد أحداث 11 سبتمبر ومشاركة النرويج في حرب الخليج الثانية وحرب أفغانستان، لكن رغم كل ذلك فالنرويج لم تفقد «براءتها» من التعصب العرقي والديني، وجرائم «بريفك» يتحملها مرتكبها وحده، لكن في الوقت ذاته هناك واجب على النرويجيين لتعميق الحوار الثقافي بينهم، فليس مقبولاً تمييز الناس على أساس «نحن» و»هم». (انتهى الاقتباس من اسلاك).
تقسيم البشر بين «نحن» و»هم» هو المصيبة الآن، فأصحاب الفكر الديني المتشدد والقوميات المتعصبة هم سادة هذا التقسيم بين البشر، وليس «بريفك» إلا نسخة مسيحية من بن لادن والظواهري وأتباعهما، وهناك نسخ مماثلة ليهود متعصبين، الفرق في النهاية أن ثقافة التسامح هناك تقف حائلاً دون تمدد تيار التعصب الديني والقومي وفلسفة «نحن وهم» البغيضة، ولديهم المؤسسات الثقافية الراسخة لمحاربة جنون «نحن وهم»، بينما ليس لدينا مثل تراثهم ولا مؤسساتهم حتى الآن، فهناك مئة مسجد في النرويج، بينما هنا تبقى قضية السماح ببناء كنيسة يتيمة للأقباط تائهة في أضابير المجلس البلدي ووزارة الأوقاف…!
أبشروا بطول السلامة
أظهر النواب الإسلاميون «قلقهم» غير المبرر من أن حكومة الشيخ ناصر المحمد ستنصاع لدعوة التحالف الوطني وتبادر إلى إلغاء قانون منع الاختلاط، بسبب أزمة القبول في الجامعة وأزمات «اللامعقول» في جامعة الدولة والدولة برمتها.
هؤلاء النواب يريدوننا أن نصدق أن الحكومة «يمكن» أن تساير الليبراليين هذه المرة وتلغي قانون «الطهارة الجامعية» بمعنى أن الاجتماع مع الأنثى في الجامعة ينقض وضوء الطلاب والطالبات…! من «صجكم» يا حضرات النواب؟ معقول أن حكومة الشيخ ناصر ستهلل للتحالف الوطني والمنبر الديمقراطي لأنها فقط عينت اثنين من الشباب المحسوبين على التحالف أو المنبر في وظائف قيادية بالدولة، مع أن الدولة كلها أطلقت لحيتها وقصرت جلبابها منذ زمن طويل ومن بداية تحالفها القديم مع الجماعات الدينية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم لا شيء تغير غير السير الحثيث للدولة على دروب التزمت الديني، ولم يكن تعيين أي مواطن تقدمي في منصب قيادي كوزير أو غير ذلك غير ذر للرماد في العيون، وكان التقدميون ودعاة الحداثة الوزراء والقياديون مجرد «حصان طروادة» الحكومي الديني في بيوت القوى التقدمية إن صحت التسمية الأخيرة.
هل نسي المتزمتون أن قانون منع الاختلاط أقر أيام وزير التربية التقدمي المرحوم أحمد الربعي!
لم يقلق النائب وليد الطبطبائي أو محمد هايف أو فيصل المسلم وما حاجتهم للتهديد والوعيد بالمساءلة السياسية لرئيس الحكومة، فهم يعلمون أن هذه الحكومة حالها من حال من سبقتها لن تقدم ولن تؤخر في موضوع الاختلاط بالجامعة ولا في أي موضوع آخر يكدر خاطر القوى الدينية المتزمتة، فتلك الجماعات رضينا أم لم نرض تملك حصة الأسد في الشارع الكويتي «المتدروش»، وأولى أولويات السلطة في مثل ظروفها السياسية القلقة لغياب الرؤية والمنهج عند أربابها هي سد باب الذرائع اليوم عن كل ما يثير أوجاعها السياسية، وغلق باب قانون الطهارة الجامعية هو إغلاق باب الريح، الذي ستسده الحكومة وتستريح، فأبشروا يا نواب بطول السلامة.
كلام مأخوذ خيره
كأن الحكومة تخاطب نواب المجلس، وخصوصاً نواب الاستهلاك، حين كلفت لجنة التخطيط والتنمية «العمل على تحديث الدراسات الكفيلة بإصلاح الوضع الاقتصادي»، ثم استمع مجلس الوزراء إلى شرح من محافظ البنك المركزي عن الأوضاع الاقتصادية العالمية (وهي في أزمة كبيرة)، واثر المصروفات في بند الرواتب والأجور، وهو يكاد يستغرق مورد النفط… إلخ.
الحكومة تصرح وكأن كلامها جديد علينا ولم نشبع ونسأم منه منذ زمن طويل! شروح محافظ البنك المركزي وتحذيراته ستدخل من الأذن اليمنى للحكومة وتخرج من الأذن اليسرى، أما الدراسات التي كلف بها المجلس الأعلى للتخطيط فأبصم أنها ستوضع على أرفف النسيان، وسيعلوها الغبار بارتفاع شبر…! إذن، لأجل مَن هذا الخطاب يا حكومة؟ لنواب الصرف أم لأجل ذاتك كتكفير عن عقدة ذنب كبيرة منك حين تراخيت في مواجهة الاستهلاك الريعي والفساد، أم أن هذا الخطاب من أجل الاستهلاك السياسي لا أكثر؟ أرجح الجواب الأخير.
فالحكومات المتعاقبة، وليس حكومات الشيخ ناصر المحمد كي نكون منصفين، هي التي خلقت هؤلاء النواب والجمهور الذي انتخبهم منذ البداية، الكارثة كانت أبعد من البقاشيش السياسية لما بعد التحرير مباشرة (خمسمئة دينار للصامدين، وفتح الأبواب للعمالة الأجنبية رغم أن الصامدين أظهروا معدنهم الصلب في الاعتماد على الذات أيام الاحتلال)، وامتدت سياسة التسكيت وشراء الولاءات حتى هذه اللحظة، فكان يكفي أن يطالب أي نائب، ولو كان وحيداً، بأي مطلب يثقل كاهل الميزانية ويدمر روح المساهمة الوطنية في الواجب العام حتى تبادر الحكومة بالبصم عليه، والحساب عليكم من إسقاط فواتير الكهرباء والماء حتى صرف الألف دينار لكل مواطن، وتكفل الدولة «بماجلة» البيت لأربعة عشر شهراً، والسطور لن تتسع لعدد مناسبات الرشوة السياسية للمواطنين سواء جاءت بتشريع ملزم أم بالصرف من تحت الطاولة لمن أحبتهم عين الحكومة فلم يضمهم الدهر!
كانت الحكومات تصرف وتنفق بلا حساب ومن غير عمل مقابل للمواطن، ليس من أجل عيون هذا المواطن، بل كي يتم تخدير وعيه وتربية روح اللامبالاة في قضايا الإنفاق العام، فكأن الحكومات تقول له «خذ المعلوم وصهين…» ونجحت السلطة إلى حد كبير في سياسة تربية روح الإنفاق والتواكل للمواطنين، لكن على حساب المستقبل والجيل القادم الذي سيواجه المجهول، الحكومة اليوم لن تستطيع الرد على أي نائب يتكلم بحق أو باطل عن حاجات أو (تدليع) فئة من الشعب، فبيت الحكومة من زجاج، ويسهل على هذا النائب أن يرد بمطولات عن قضايا الفساد الحكومي، وكيف تمالئ السلطة هذه الجماعة أو تلك من المتنفذين… فلماذا يكون حلالاً على الكبار حراماً على الصغار! منطق بسيط ولكنه يصيب بيت الحكومة الزجاجي بسهولة… والحل لن يكون بغير العودة السلطوية إلى سياسة التسكيت وشراء الصمت ولو كانت الدولة على شفا الإفلاس. في النهاية أعتقد جازماً أن هذه الحكومة غير قادرة على الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي، فقبل كل ذلك يفترض أن يكون لديها منهج ورؤية لإصلاح اجتماعي أولاً، وهذا يتطلب إصلاح الفرد بالتعليم الجيد وخلق روح المبادرة والإبداع بالتشجيع، وأن يكون ولاة الأمر قدوة حسنة له، وهذا محل شك كبير.
كيف نحتفل باليوبيل الذهبي للدستور؟
حتى يكون الاحتفال بمرور خمسين عاماً على الدستور متناسباً مع رغبة سمو أمير البلاد لابد أن تتجاوز هذه المناسبة الشكل الاحتفالي الذي يتمثل عادة في البهرجة الإعلامية، كما يتجسد في خطابات المسؤولين الوعظية التي تذكرنا بنعم الدولة علينا وإنجازات الحكومة الكبرى من أجل رفاهية وراحة المواطنين، ثم يتعالى هذا الشكل الاحتفالي ليصل إلى خواء المهرجانات والأغاني الوطنية و»اللمبات» الملونة التي تزين المباني الحكومية لنتوه بهذا المكياج الرسمي المتأصل في عادات الدولة وتقاليدها الحكومية.
تجاوز هذا «المكياج» الرسمي أصبح اليوم ضرورة بعد التغيرات التي تعصف بالمنطقة لنصل إلى العمق والمضمون الدستوريين في ذكرى الدستور «الذهبية»، التي أضحى معها الدستور بعد خمسين عاماً معدناً صدئاً ومجرد «تنك» يلمع من غير روح تنبض بالحياة وتنمو وتكبر مع الزمن، فاليوم نحتفل بالذكرى الذهبية ونأسى على الأيام الذهبية لهذا الدستور وهذه الدولة. تلك الأيام التي ولت إلى غير رجعة، الأيام الذهبية كانت سنوات الستينيات من القرن الماضي، وهي أيام ولادة دستور والسنوات القليلة التي تبعتها، ولم يمض وقت طويل حتى بدأ يظهر تململ «شيوخنا» من الدستور وأحكامه، فكان تزوير الانتخابات البرلمانية في النصف الثاني من الستينيات، وبعدها كانت سنين أو شهور المجلس محكومة برغبات التفرد بالسلطة، فإما أن يساير المجلس النيابي دولة الشيوخ أو الحل اللادستوري، وبعد التحرير حتى بداية الألفية الثانية وإن كفت السلطة الحاكمة عن هز عصي الحل غير الدستوري بوجه المجلس، وتقدمت بخطوة كبيرة نحو منح المرأة حقوقها الدستورية في الانتخابات والترشيح إلا أنها وقفت عند تلك الحدود متوهمة أن هذا هو كامل «الجسد» الدستوري ولا شيء بعده، فالدستور والديمقراطية في الفهم القاصر هما صناديق انتخابات فقط، فالأحزاب السياسية ممنوعة وقانون التجمعات رغم إلغاء المحكمة الدستورية أهم مواده لكن الحكومة مازالت تسير تحت ظله، أما مشروع استقلال القضاء فتم وضعه بأدراج النسيان، وأهم من كل ذلك فإن حرية التعبير وبقية حريات الضمير تئن من وطأة وزارة «الحقيقة» ministry of truth أي وزارة الإعلام بالتعبير «الأوريلي» (نسبة إلى جورج أوريل برواية ١٩٨٤)، فهذه الوزارة مع قوانين الجزاء والمطبوعات والنشر تحسب كل كلمة تنشر في المدونات الإلكترونية وتبحث عن أي سبب لخنق الرأي الناقد للسلطة، فهي بصورة أخرى وزارة مخابرات بلباس مدني، وهي سلطة نافذة «لتوصيل الطلبات» إلى السلطة الحاكمة، فأي ديمقراطية «دستورية» نتحدت عنها اليوم وهذه الوزارة وأسلحتها القانونية «الستينية» تشحذ سكاكينها لنحر المدونات والتويتر والفيس بوك أبناء ثورة الاتصالات!
أما على صعيد الحريات الفردية الخاصة فقد تدهورت ببركة القوى الرجعية التي رعتها السلطة في السنوات الماضية لحسبات داخلية كضرب اليساريين والقوميين، وخارجية تنفيذاً لرغبات العم سام بمحاربة الشيوعيين الكفار في أفغانستان، ثم أضحت تلك الجماعات أبشع صورة للإرهاب الدولي بعد أن كانت الطفل المدلل لدولنا والراعي الغربي.
دعونا نحتفل غداً باليوبيل الذهبي للدستور، تحقيقاً لرغبة أمير البلاد وأبناء الوطن، وليكن الاحتفال على مستوى المضمون لا الشكل.