ترحَّم عليه المسلمون أم لم يترحموا، فهذا لن يغير من التاريخ الإنساني حين يحفر الكبار أسماءهم وأعمالهم العظيمة على صفحاته؛ فالدكتور عجيل النشمي، في تعليق له على وفاة ستيف جوبز، نصح الجمهور الإسلامي بأن من حقهم أن يذكروا الفوائد الكبيرة التي قدمها ستيف للعالم، ولكن ليس لهم أن يترحموا عليه!. وفقاً لفتاوى "علماء" الدين لا يجوز طلب الرحمة لغير المسلمين، فلنا أن نترحم على روح بن لادن، مثلاً، وعلى كل "أبطال القاعدة" الذين سفكوا دماء الأبرياء دون أن يفرقوا بين المسلم وغير المسلم، ولنا أن نترحم على صدام حسين وعلي الكيماوي وكل الحثالات البشرية التي حفرت جرائمها في ألواح الذاكرة العربية والإسلامية، ولكن مرة ثانية وثالثة ليس من حقنا أن نترحم على لويس باستير، مكتشف البسترة والبنسلين، ولا أن نترحم على أديسون ولا هنري فورد، ولا على أي من العلماء الحقيقيين الذين قدموا أعظم المساهمات للبشرية، وخدموا أو أنقذوا حياة ملايين البشر! لماذا لا يجوز طلب الرحمة لهم ولا يجوز أن نحييهم بتحية الإسلام؟ لأنهم كفار وليسوا مسلمين!
هؤلاء من أمثال ستيف جوبز، الذي هز نبأ موته عالم التكنولوجيا، وغيَّر من نمط حياتنا، وغيره، ليست أرواحهم بحاجة إلى طلب الرحمة عليهم من البشر المسلمين، وليس لنا أن نصادر مفاتيح طلب الرحمة في صناديق مشايخنا، فالرحمة وعدم الرحمة بيد الله وحده، لمن يؤمن، وليست رهناً بفقه "علماء" شرعنا.
في محاضرة لستيف جوبز عام ٢٠٠٥ بجامعة ستانفورد، وكانت تلك المحاضرة بعد سنتين من اكتشاف الأطباء لمرض سرطان البنكرياس فيه، ذكر الراحل تلك الفقرة عن معنى الموت وصراع الحياة، وأترجمها بتصرف "… تذكري أني سأموت قريباً هو أعظم تحد واجهته، لأنه منحني في الوقت ذاته القدرة على اتخاذ أكبر القرارات في حياتي، لأنه – تقريباً كل شيء – كل الآمال الكبيرة، والكبرياء، والخوف من حرج الفشل كل تلك الأمور تتضاءل وتتنحى جانباً حين نواجه شبح الموت، ليبقى ما هو عظيم فقط، وحين تتذكر أنك ستموت يوماً ما ستتجنب مصيدة الأسى على خسارة ما فات. ستبقى عارياً، وعليه فليس هناك ما يحول دون أن تتبع ما يمليه عليك قلبك…" هل نفكر قليلاً بحكمة ستيف جوبز وفلسفته وشجاعته قبل أن نفتي بجواز الرحمة عليه أو عدم جوازها، ويا الله لترحمنا برحمتك.
التصنيف: حسن العيسى
رشوة النفط
قبل شهرين تقريباً كتب المفكر فضل شلق في جريدة السفير مقالاً بعنوان "الإيراد الاجتماعي للنفط"، وتحدث عن فترة السبعينيات -بداية عصر الثروة بعد فوران أسعار النفط- وأذكر من مقاله هذه الفقرة "… في هذه الفترة قمع الفكر والجسد، أو اكتمل القمع، حتى صار كل من يقول كلمة غير مناسبة في كتاب أكاديمي في بلد نفطي أو غير نفطي، غير مرحب به إن لم يوضع في السجون، استعيض عن الفقر الروحي والكبت الجنسي بالاستهلاك الفاقع المفرط والسخيف. في هذه الفترة تم تدجين وتسخيف الوعي العربي، وجعل المذهب الواحد والحزب الواحد بإشراف المذهب الواحد (ولو من بعيد) الأقطار العربية سجناً للعرب، في هذه الفترة صارت رشوة الخصوم هي القاعدة، تم تدجين الجميع وإفساد النخب الثقافية والسياسية وفرض الانضباط على كل من تسول له نفسه الحديث عن مطالب الجماهير، وقضايا التحرر والعروبة…".
خطاب مثير لفضل شلق علق به جل الآفات السياسية والاجتماعية والثقافية على مشجب برميل النفط، البداية كانت منتصف السبعينيات من القرن الماضي، لكنها مستمرة إلى اليوم في دولنا، دولنا الخليجية التي حصَّنت نفسها من الربيع العربي بالمال، مال النفط أصبح وسيلة لشراء الولاءات وإسكات المعارضة وتدجينها، مع تسطيح وعي الجماهير في قضايا الحريات والديمقراطية والتنمية.
وإذا كان نفطنا نعمة من ناحية البنية التحتية من مدارس وشوارع ومستشفيات… إلخ، فإنه أضحى نقمة في الفكر والأخلاق وقيم العمل. الرشوة في الكويت –ولا أتحدث عن "التبرطل" المليوني لبعض النواب- تكاد تكون القاعدة، فلا تستطيع أن تنهي معاملة ما بغير دفع المعلوم، هذا إذا لم يكن لك واسطة، والثقافة والفنون انحدرا إلى الحضيض، أين مسرحيات الأمس، وأين صرنا اليوم، استعضنا عنها بقمامات المسلسلات الرمضانية وغير الرمضانية، وحين يقدم مخرج مبدع مثل سليمان البسام عملاً مسرحياً فنياً راقياً، نجده يبحث عن مكان خارج الدولة أو تحت ستار سرية مكان العرض كي لا تجز سيوف الجهل رقبة عمله الفني، ولكم أن تقيسوا.
وبدلاً من الكتب والدوريات القيمة التي كانت تعج بالمكتبات، صارت معارض الكتاب هنا تدور بين عوالم تفسير الأحلام والسحر والجان وأصول الطبخ.
ثقافة الشباب اليوم مصدرها الوحيد الـ"آي فون" و"بلاك بيري"… لا شيء غير السخافة والاستهلاك الأعمى يهيمنان على الحياة الكويتية، ولا بهجة ولا فرحة تعلوان الوجوه بعد أن تمت إزاحتهما لتجثم مكانهما أتربة الملل والاكتئاب.
رشوة السلطة التشريعية وشراء مواقف بعض النواب ليسا بالأمر الغريب في محنة الدولة، وإنما الغريب ألا يحدث مثل ذلك في بلد "التسليع"، وحين يصير كل موقف وكل قضية مجرد سلع قابلة للبيع في "مولات" السياسة.
نسمع دائما كلمتي "الشق عود"، أي إن الهوة كبيرة ويصعب ردمها، فهل يعني هذا عجزنا عن الإصلاح؟! صارت الكتابات اليومية تعيد نفسها، صرنا نسرق ونجتر أفكارنا يومياً بعد أن نغير بالألفاظ فقط، فالضوء الأحمر يسطع، ومساحة "الممكن" للنشر محدودة بفضل قوانين النشر والجزاء ومصالح الملاك، وقبل كل ذلك محرمات المجتمع التي فصلتها مجاميع "المذهب الواحد".
الجميع أضحى رهن السلطة حين ترضى وتهب، وتعاقب وتزجر، حين تثور وتغضب، هي مالكة الأرزاق، وعليه فهي مالكة الأعناق. عليك أن تداهن وتمدح وتنافق حتى يرضى عنك وتحيا بصدقات بلدك، وأن تكون كثير الشكر لكل هذه النعم، وهي نعم النفط، وأنت سلعة تابعة لسلعة النفط.
من تريد رئيساً للوزراء؟
ببساطة وعفوية، صرح النائب عبدالرحمن العنجري لجريدة “الكويتية” بأنه يرغب في أن يكون رئيساً لمجلس الوزراء… وهذا حق مشروع لكل مواطن ومواطنة. دستورياً لم يقل العنجري غير حقيقة مشروعة، فلا دستور الدولة ولا أي قانون آخر يفرض أن يكون رئيس الوزراء من العائلة المالكة، لكن العرف السياسي “فَرض” منذ بدء العمل بالدستور أن يكون رئيس الوزراء هو ذاته ولي العهد والحاكم القادم، حتى تم الفصل بين ولاية العهد ورئاسة مجلس الوزراء بعد أن ساءت الحالة الصحية للشيخ سعد. تلك حكاية عُرف انتهى، لتستقر مكانه قاعدة عرفية جديدة، والتي تفصل بين منصب ولاية العهد ورئاسة مجلس الوزراء، وتلك أقرب إلى الممارسة الدستورية، فالجمع بين المنصبين يضفي حصانة أدبية أو “أخلاقية” على منصب “رئيس مجلس الوزراء” ليس لها أي أساس من الدستور، وتتباعد تماماً عن الحكم الديمقراطي. وإذا كان الدستور قد أجاز مساءلة رئيس مجلس الوزراء واستجوابه وبالتالي طرح “عدم التعاون مع الحكومة” فإن ظلال هيبة المشيخة استمر سلطانها ممتداً إلى منصب “رئاسة مجلس الوزراء” ولو تغيرت أسماء الأشخاص الشيوخ في هذا المنصب، أو تنازع أصحاب تلك الأسماء على هذا المنصب كي يسوى لبعضهم الطريق للحكم فيما بعد.
استمرار السلطان النفسي بحكر منصب رئاسة مجلس الوزراء في ذرية مبارك جعل كثيراً من الأفراد والنخب وقاعدة عريضة من الناس يتصورون أن مجرد طرح فكرة “شعبية ” رئاسة الوزراء هي من المحرمات، وسمعت مرات عديدة مثل ذلك الجدل الفارغ حين يسقط صاحبه مثل هذا السؤال الاتهامي للآخر: “من تريد أن يكون رئيسا للوزراء؟ أحمد السعدون أو مسلم البراك… أو… أو…”. في اتهام يضج بنبرة التهكم واستصغار الآخر الذي يجادل والنائب أو الشخص المعارض لسياسة سمو رئيس مجلس الوزراء!
لا يوجد هنا استبداد في الحكم، ولكن في رأيي، نرى ما هو أسوأ منه، حين تتأصل قداسة المنصب في نفوس أفراد أو نخب يفترض أنها تقرأ، وتعي الواقع المتغير، ثم تراهم يحاضرونك عن الديمقراطية والحريات، وهناك نقدهم الأبدي في الدواوين والمجالس الخاصة (وتشرههم) على سياسة الحكومة، وإدارة الدولة. هؤلاء يختزلون الدولة في الفرد، ويتناسون تماماً مبدأ حكم القانون والمؤسسات، وأن الدولة لا يرتبط بقاؤها وديمومتها بأشخاص معينين، وإنما بإرادة أهلها وتوافقهم. جزء كبير من مصيبتنا في هؤلاء من مثقفي النفط، وكارثتنا في هؤلاء المتعالين أشباه الحداثيين، حين ينتقدون الروح القبلية وهم أسوأ العنصريين القبليين، ويمارسون قبليتهم وعنصريتهم متصورين أنهم وحدهم أهل الديرة والبقية دخلاء عليها، بينما هم الدخلاء على روح المواطنة ومبدأ المساواة.. كم أتمنى صمتهم.
تحية لكم
شباب 16 سبتمبر وجماعة «نهج» الذين تجمعوا الأربعاء الماضي هم أمل الكويت للخروج من بئر الفساد العميقة، وبغير مثل تلك التجمعات وممارسة الرفض للسياسات الحكومية ستستمر الدولة في الغيبوبة وحالة اللااكتراث لما يحدث من فوضى الهبش والفساد المعمم في جل مرافق الدولة ومن غير استثناء.
حركة الشباب لم تطالب بميزات مادية من الدولة، ولم يدع الشباب إلى تحسين أوضاع فئات معينة في الدولة، كما حدث في الإضرابات الأخيرة، الشباب ارتفعوا بندائهم للتغيير في بنية السلطة وتركيبتها، فهي المسؤولة بداية ونهاية عن حالة فلتان الفساد في السنوات الأخيرة.
المطالبة بالإمارة الدستورية والدائرة الواحدة ونظام القوائم واستقلالية القضاء، يرى بعض النواب المخلصين أنها مُبالغ فيها، وأنها تتجاوز سقف التوافق السياسي بين السلطة الحاكمة والمعارضة، وربما في ذلك «بعض» الصحة (وليس كل الصحة) في ما يتعلق بالإمارة الدستورية، رغم أن دستور الدولة قد نص في المادة السادسة على «أن نظام الحكم ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات»، وبهذا وضع الأساس المفترض للإمارة الدستورية، ولبناء ديمقراطية حقيقية.
ولنقر الآن، أنه بعد خمسين عاماً على ولادة الدستور لم ترق الكويت لتصبح بلداً ديمقراطياً حقيقياً، ومنذ منتصف الستينيات، وإلى هذه اللحظة هناك تراجع واضح على صعيد الحريات، مع تغييب متعمد وجهل مركب لمفاهيم التنمية الحقيقية التي تدور وجوداً وعدماً حول تنمية الإنسان والفكر الإنساني، وليست هي مشروعات الأسمنت ومولات الاستهلاك، وأضحت الأسرة الحاكمة مع نخب تدور في فلكها تمسك بمفاصل الدولة من ألفها إلى يائها، وأضحى المال السياسي أداة استبداد وتشويه مرعب للوجه الديمقراطي، وبعض النواب اليوم وأيضا بالأمس وقبل التشكيلات الحكومية الأخيرة (كي نكون عادلين في أحكامنا) يمثلون الوجه الآخر للسلطة التنفيذية أو يعارضونها بالتافه من قضايا الدولة، وهم لا يقبضون دائماً من الداخل، فقد يدفع لهم من خارج حدود الدولة، فهم ليسوا نواب ضمير الأمة بل نواب فساد الذمة.
لم يكن هناك حاجة كي يتحرك شباب 16 سبتمبر لو أنهم وجدوا من ينصت لهم، ولما بالغوا مطالبين بشعبية منصب رئاسة الوزراء وهو أحد تجليات الإمارة الدستورية، لو أن السلطة سبقتهم وأصلحت من أمرها وأمر الناس الذين تحكمهم، لكنها لم تفعل، فلهم كل العذر في ذلك.
إسبارطيو الخليج
جاء في صفحة المحرر الأمني بـ«القبس» في عدد أمس مانشيت داخلي عنون بـ«حقوق البدون بعضها نفذ… والبقية حبر على ورق». بقراءة الموضوع يظهر أن العنوان غير متطابق مع صلب الموضوع، كلمة «حقوق» هنا غير موفقة، فهذه الكلمة تعنى أنه يمكن لصاحب الحق، حسب القوانين السارية وليس فقط حسب القانون الطبيعي – يمكن أن يقتَضي حقه جبراً باللجوء إلى القضاء، وهذا غير ممكن لحالات «البدون»، فاللجنة التنفيذية لأوضاع «البدون» هي الخصم وهي الحكم، ولا يمكن للإنسان «البدون» أن يحتكم إلى القضاء بداية لتقرير حقه من عدمه في الجنسية بحكم قانون تنظيم القضاء الذي حرَّم على القضاء النظر في مسائل الجنسية، وتلك صورة قبيحة وفذة لجريمة إنكار العدالة، حين يُصادَر حق الفرد في اللجوء إلى القضاء.
فلنسلم جدلاً بأنها ليست حقوقاً، بل مجرد رخص وربما «صدقات» من السلطة التنفيذية للبدون، وليست «مزايا» كما جاء في التحقيق الأمني لـ«القبس». فكلمة مزايا تعني وضعاً متميزاً لفئة أو فرد ما، وهذا لا ينطبق على «البدون»، فهم من غير «حقوق» ومن باب أولى هم من دون مزايا.
«الرخص» التي قررها مجلس الوزراء للبدون (من إحصاء ٦٥ ونسلهم) مثل التعليم، والعلاج ووثائق الزواج وجوازات السفر وشهادات الميلاد والعمل والبطاقة المدنية، جُلّها، باستثناء البطاقة التموينية، وفق تحقيق «القبس»، لم يحصل عليه «بعض» البدون، و«بعض الصدقات» لم يتم تطبيقها مثل التعليم والبطاقة المدنية. كلمة «بعض» الأولى مضللة، فهي قد تفهم على أنهم «قلة»، أو عدد محدود، أو تعني أن العدد غير معروف، وعبرها (البعض) ترتاح اللجنة التنفيذية ويهنأ رياء ضمائر المسؤولين، فهم أدوا الواجب، حتى ولو كانت هناك «حالات للبعض» الذين لم يحصلوا على صدقات اللجنة!
السبب حسب التحقيق الصحافي «قيود أمنية»، فإذا كان للبدون على سبيل المثال قريب ولو من الدرجة الرابعة، مثل ابن عم له جنسية عراقية أو سعودية أو إيرانية، أو كان ذلك القريب من الجيش الشعبي أيام الاحتلال أو سافر إلى أي من هذه الدول، يحرم «البدون» هنا من صدقة عطايا مجلس الوزراء، «فالأمن» هنا له أولوية على هدر كرامة بشر، أما «لا تزر وازرة وزر أخرى» ومبدأ شخصية العقوبة، بمفهوم ألا يمتد أثر العقوبة إلى غير مرتكب الفعل المدان، فليس لهذا أو ذاك مكان في ثقافة السلطة الأمنية نحو «البدون».
أهل إسبارطة اندثروا لتقديسهم «العرق» أي صلة الدم لبناء الهوية الإسبارطية، وسحقت الإمبراطورية الرومانية المدينة الإسبارطية في ما بعد، وعاملت تلك الإمبراطورية كل مَن يقطنون في أرضها على أنهم رعايا في الدولة الرومانية. فكم «إسبارطي» لدينا في الكويت، سواء كان مسؤولاً أو غير مسؤول كمواطن عادي يحيا هاجس القلق الدائم بتبديد النعم الكويتية على هؤلاء «البدون»!
كادر وكدر
انفجر بركان الإضرابات في جل دولة «الموظف العام»، وكل جماعة تقرب خبزتها من النار قبل الآخرين، وكلما أقرت حكومة الحصافة كادراً لنقابة ما تراكضت بقية النقابات للمطالبة بالمثل، وإذا كانت نقابة العاملين بالنفط قدماها راسختان في الارض، فبها وعبرها يتحرك الدم الأسود في شريان الدولة، إلا أن بقية النقابات التي تطالب اليوم ليس لها مكانة العاملين في القطاع النفطي، لذا لن تكون إضراباتهم مؤثرة على الأرجح، ومع ذلك، هناك شكوى عامة مفادها أن أسعار السلع والخدمات ازدادت غلاء، بشكل غير معقول ولم تعد الرواتب متناسبة مع النفقات (هذا ليس قاصراً على الكويت، التضخم يجثم فوق معظم صدور الأوربيين مثلما تنهش المجاعات بطون الصوماليين).
وجهتا نظر يحق لنا أن نستمع لهما بصدر رحب، الأولى، يقول أصحابها، إن مصيرنا الضياع، إذا ما ظلت الحكومة على نهج التبديد وشراء الولاءات، مباشرة عبر سياسيات الدعم السلعي والخدماتي، أو من خلال تعميم عطايا الكوادر على غير المستحقين، أو بطريقة غير مباشرة عبر مد يد العون الكريمة على حساب الأجيال لنواب الصدى، أي الذين يرددون صدى الصوت الحكومي، ويقفون معها في السراء والضراء، ودائماً يهذون بمثل دارج: «زوج أمي أقوله عمي»! أصحاب هذا الرأي يمثلون فئات عريضة من التجار، وكثير من «المثقفين» ( وأقول كلمة مثقفين بمنتهى التحفظ)، فهم يرون أن ثروات البلد تسرق من حلوق أجيالنا القريبة، وربما بأسرع مما نتصور، الجميع سيفلس مع إفلاس الدولة أو عسرها على الأقل، الهدر يتم عبر التشريع للكل أو عبر التنفيع المباشر للبعض، أي منح وإسقاط التزامات مالية لخدمات عامة، ودعم سلعي للمحتاج وغير المحتاج؛ وبالنهاية، نؤكد أن أموال اليوم الأسود تحرق بدم بارد، الآن، وفي اليوم الأبيض واننا نرى ليلا حالكا يتقدم شيئاً فشيئاً، هو آت آت لا محالة.
وجهة النظر الثانية ترد ببساطة، بأن الأولين لم يتركوا شيئاً للآخرين، فبعد تاريخ ممتد من نهب وتكديس ثروات خيالية من مناقصات و»شطارة» ليست بالضرورة أخلاقية وليست دائماً «حلالاً»، عندكم أنتم يا أصحاب الوجهة الأولى؛ تأتون اليوم للموظف المسكين الذي يحيا بالراتب وحده (في معظم أو بعض الأحيان) وتستكثرون عليه «كادراً» أو «كويدراً» بسيطاً، لماذا لا يكون حالنا من حالكم، فأنتم السابقون ونحن اللاحقون.
وإذا كنتم تتهموننا بأن إنتاجنا كموظفين هو الأسوأ من بين الدول، وأننا أصحاب مقولة «تعال غداً فالمدير غائب»، ونحن من يغلق الباب أوقات العمل ويلتهم سندويشات الفول والفلافل، فماذا عنكم أنتم؟ هل أنتم برجوازية أوروبية أو غربية خلقت وصنعت وغيرت التاريخ! هل منكم هنري فورد، أو بيل غيتس، أو ستيفن جوبس، أنتم وكلاء بضائع وسلع، ولا أكثر، ونحن من يستهلكها، ندري أن الدولة قامت على أكتاف آبائكم وأجدادكم، لكن الأمور تغيرت بعد أن صارت الدولة (أقصد السلطة الحاكمة) هي التاجر الأكبر ورب العمل الكبير، هو يعطينا حقنا اليوم مثلما أخذتم أنتم حصصكم من الكعكة الكويتية، لكم نصيب ولنا نصيب.
لا أؤيد أياً من الطرفين، في بلد أصبح الكثيرون من أهله يقولون فقط «هات وهات»، لكني أؤيد دون تردد أن تقرر الدولة كادراً للفلبينيات ومن في حكمهن في الخدمة النهارية والليلية، فهن يقدمن «خدمات جليلة» للوطن وأهل الوطن، ولولاهن لأصبحنا في كدر!
النهار ولى وليل يجر وراءه ليلاً
اليوم مستنسخ من الأمس، وغداً سيكون مستنسخاً من اليوم، اللون الرمادي هو لون الحياة، هو لون غبار عالق في الهواء ودق بمسمار الجو الساخن، لا يريد أن يغادر ويتحدى بعناد مثير قانون تبدل الفصول.
تمضي في الصباح إلى عملك أو اللاعمل والفراغ ولا فرق بين الأمرين، فلا تشاهد غير سيارات وسيارات وخطوط من طوابير ممتدة من السيارات، تسير في دوائر مغلقة ببطء السلاحف، سيارات يقودها بشر غطوا رؤوسهم بملاءات بيضاء فوقها عُقُل يمضون في طريقهم، وقد يزجرك أحدهم بطريقة قيادته قائلاً: أنا مالك الطريق فتنحَّ جانباً، وسيارات مثلها، وأكثر منها يقودها بشر من بلاد الهند والسند رؤوسهم تلمع من دهن ثقيل حين تعكس أشعة شمس ملتهبة نفسها على مرآة رأس داكن تلاصقت خصلاته ببريل كريم، واختلط بعرق الكادحين المهاجرين.
لاحظ أن كثيرين منهم يقودون سياراتهم بخوف ووجل حين يرون سيارة شرطة من بعيد، وحين ثقل سير المرور، فتح أحدهم الباب بزاوية حادة، وبصق على الأسفلت بصقة بمسافة متر أولها في فمه وآخرها تهاوى على الأرض.
لا جمال ولا ألوان غير اللون الرمادي يسود الوجوه والوجود، ووجودنا لحظة لا يمكن حسابها من زمن هو المكان، هو مساحة فراغ بكون وأكوان بلا بداية ولا نهاية.
رجال يقودون سيارات ورجال يسيرون في الشوارع، لا أنثى، لا جسد رشيقا، لا كائن حيا يرطب حياة الصحراء، وهي صحراء جرداء وستظل صحراء خاوية ولو نطحت قرون عماراتها بطن السماء…
ملل أو “ملال” بالجمع وليس اكتئاباً، فالاكتئاب حالة “شخصية” ومرض يصيب فرداً أو أفراداً، والملل حالة “موضوعية” تخيم على الوجود الراكد، وتصيبك فجأة وأنت ساهم في اللاشيء طلقة ذكرى من عمر الشباب، تهمس بلوعة النوستالوجيا عن أيام مضت ولا تعود، تتذكر أغنية روسية قديمة، تأمركت، مطلعها يقول:
those were the days my friend
we thought they would never end
we would sing and dance forever and a day we would
live the life we choose
وتترجم معانيها بنثر “كانت تلك الأيام يا صديقي التي تصورنا أنها لن تنتهي، غنينا ورقصنا على طول المدى وعشنا الحياة التي اخترناها… أو قد تترجم “لوعة” الذكريات بكلمات الشاعر عبدالمحسن الرفاعي وغناء عبدالله الفضالة “أحط خدي على ايدي واحاسب روحي بروحي…”، ثم تتسلسل إلى وعيك التائه عبارات “كراب” في مسرحية “شرائط كراب” لصموئيل بيكت “…الآن اختتم هذا الشريط، ربما تكون أجمل سنوات عمري قد مضت، لكني لا أريدها أن تعود، على الرغم من النار المتأرجحة داخلي الآن، لا أريدها أن تعود” ( ترجمة د. نادية البهناوي).
رأى بيكت عبثية الحياة وأقسم على ألا معناها، وصاغ مع كامو وجان جينيه وغيرهما أدب اللامعقول، وقبلهم كان أبو العلاء المعري في “غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادِ، وشبيه صوت النعي إذا قيس بصوت البشير في كل نادِ”. شبه المعري هو شبهنا حين لا تفترق حالة العزاء عن حالة مباركة زواج، بغير عبارة “عظم الله أجركم” في الأولى، ومبروك في الحالة الثانية مع مصاحبة عشاء دسم يجثم على صدرك في ليل طويل.
جوعى الصومال وإثيوبيا لا يعانون “الملل” الذي نتجرعه هنا في الكويت، فالجائع والفقير فرحتهما في لقمة أكل ترد الروح وليس لقمة بهجة أجهضت من جوف الفراغ. الجوع يقتل الجسد، والفراغ يقتل الروح، وبلدنا من غير روح، ولننته مترنمين مع “كراب”… “النهار ولى، وليل يجر وراءه ليلا” لكن، لحظة، فأنت لست مثل “كراب”، فأنت تشتاق إلى أيام العمر الجميل، وبالتأكيد، تتمني أن تعود وتتوسل للزمن: “ارجع يا زمان”، إلا أن الزمن لن يعود، وسيمضي بلا نهاية، وتتذكر أن عمرك نقطة ضئيلة تبقى في مساحة من غير حدود.
أيهما أهم سكراب الكهرباء أم سكراب النواب؟
يسأل الكاتب زايد الزيد في مقال له بجريدة «الآن» الإلكترونية: «لماذا وحدها فضيحة الأرصدة المالية المتراكمة لدى نواب تتحمس لها قوى الفساد وأصحاب المصالح ويتركون قضايا الفساد الأخرى الأكثر وضوحاً والأوفر أدلة مثل فضيحة سكراب الطوارئ؟!». تساؤل زايد في مكانه ونتساءل معه حائرين في الوقت ذاته عن حقيقة ازدواجية معايير الحماس «الإعلامي» لـ«قوى الفساد وأصحاب المصالح» (تعبير زايد)!. ويمكن أن نضيف أيضاً تساؤلاً آخر، عن معنى اللا اكتراث واللامبالاة الحكوميين في معظم قضايا الفساد المالي، إن لم تكن الحكومة تعمل جاهدة على طمسها أو التقليل من أهميتها؟ هل يعني مثل هذا الخطاب للزميل زايد أن قضية الأرصدة المالية المليونية التي تفجرت فجأة لا تستحق أن يسلط عليها الضوء الإعلامي الكويتي لأن هناك قضايا فساد أكبر لـ»أصحاب المصالح» و»أوفر أدلة» صمَت عنها إعلام أصحاب المصالح، وجرى التعتيم عليها بسبق إصرار، بل إن هناك حظراً ومنعاً من النشر لاعتبارات سلطة وقوة رأس المال المهيمنة على معظم وسائل الإعلام الخاصة، فهي تضج بالصراخ والعويل عن المال العام وتبديد الثروات المستقبلية للدولة على الكوادر والزيادات المالية وكل رشاوى السلطة لتخدير الوعي الشعبي، وتسكت و»تصهين» وسائل الإعلام هذه «لقوى الفساد والمصالح» حين تقترب الفضائح منها، وهي «فضائح» مسكوت عنها قسراً إلا في همس منتديات الأصدقاء وجلسات «الحش الدواويني»!.
لي ملاحظة أخرى على تساؤل الزميل زايد، وهي: إذا كانت الفضائح الأخرى المسكوت عنها «أوفر أدلة» من قضية تفجر فجائي مليوني في أرصدة بعض النواب، فهل كان من واجب البنك الوطني وكبار ملاك أسهمه، على سبيل المثال، أن يصمتوا ولا يتقدموا ببلاغ إلى النيابة العامة، لأن هناك فضائح «أوفر أدلة» غيرها! مثل هذا الكلام لزايد يذكرني بمقال قديم كتبه الدكتور إسماعيل الشطي منذ زمن طويل ـ الله يذكره بالخيرـ في قضية ناقلات النفط، فحواه أن هناك جرائم وفضائح كبرى لم يتم تسليط الضوء عليها، والمسألة ـ حسبما أذكر من مقاله – لا تقتصر على تهم الناقلات!
جرائم الفساد لوزراء أو نواب أو مسؤولين كبار تتحد في موضوع «انتقائية» الفضح والنشر والتحريض الإعلامي في بعضها دون البعض الآخر، ووفق المصالح المادية للمرتكبين، ولا أعلم في مثل زمننا الأغبر كم فرداً منا لم تصبه جرثومة الفساد، التي تم خلقها وتطويرها، كما ذكرتُ من قبل، في مختبرات السلطة! إلا أن الحد الأدنى الذي يجب أن يتفق عليه هو أن السكوت عن جريمةٍ ما لا يبرر الصمت عن جرائم أخرى، أو بكلام آخر فإن عدم نشر بعض فضائح الفساد والصمت عنها لا يبرران «حماسة» نشر فضائح غيرها، لأن أبطالها من غير جماعتنا، ولنتحسس كلنا «البطحات» التي على رؤوسنا، ولنفضحها متى أمكننا ذلك، ونصمت عنها بألمٍ حين تمارس سلطة رأس المال سلطانها ونفوذها، ولنُعَزِّ النفس بعبارات مثل: لا حول ولا قوة إلا بالله، و«هذا سيفوه وهذه خلاجينه»…
في الذكرى العاشرة
إذا لم يكن تحرير الكويت عام 91 سبب انقلاب وحش «القاعدة» على خالقه «فرانكشتين» الأميركي، فقد كان المناسبة كي تعلن القاعدة عداءها لصانعها وحلفائه، وكانت جريمة 11 سبتمبر 2001 على مركز التجارة الدولية والبنتاغون في نيويورك أظهر تجليات العداء، فقد سبق تلك الجريمة البشعة محاولة تفجير مركز التجارة عام 93 والاعتداء على مدمرة سفن أميركية في اليمن «التعيس»، بعدها تمت محاولة تفجير السفارة الأميركية بكينيا.
فقد أسامة بن لادن ما تبقى من عقله حين دخلت القوات الأميركية المملكة العربية السعودية، وتوهم بخبله الأصولي أن أقدام الجنود الأميركان ستدنس أرض الحرمين، وعرض أن يتولى تنظيمه من الأفغان العرب مهمة تحرير الكويت، ويمكننا أن نتصور حدوث التحرير، لكن بعد عشرة آلاف سنة من النضال مع جيوش أم المعارك.
يمكن عد جريمة 11 سبتمبر على أنها أبشع جرائم العصر الحديث حين لم يفرق الإرهابيون في أهدافهم بين المدنيين والعسكريين، فذبحهم كلهم «حلال» حسب الثقافة الدينية التي ترعرع عليها بن لادن ورفاقه، ووجد فيهم الغرب، أيام الحرب الباردة، أعظم أغبياء في التاريخ ليكونوا عونه ضد الملاحدة السوفيات الذين كانوا في أفغانستان بطلب من حكومتها في ذلك الوقت.
لم يكن في بشاعة تلك الجريمة وأكثر منها غير «هولوكوست» (المحرقة) لليهود في ألمانيا في الحرب الكونية الثانية، ثم تشريد الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه من قبل ضحايا الأمس اليهود.
جريمة 11 سبتمبر مهدت الأرض لسيادة اليمين الجديد، فنهض رفاق الراحل «ريغان» مثل بيرل (أمير الظلام) وولفوتز وغيرهما ليعلنوا ما ينبغي أن تكون عليه السياسة الأميركية في تقسيم العالم إما معنا أو ضدنا، وإن ضرورات الحرب على الإرهاب تملي نشر مبادئ الديمقراطية ولو بالقوة، وكان العراق أرض التجربة الخصبة لها كما تصوروا!
ورسخت كونداليزا رايس سياسة التخلص من الأنظمة التسلطية ونشر الديمقراطية بدولنا، فهذا، عندها، أجدى للمصلحة الأميركية، لكن على أرض الواقع ومع ارتفاع تكلفة تلك الحروب الممتدة في أفغانستان والعراق كان لابد، في ما بعد، من «تعديل» إخراج فيلم مذهب «نشر» الديمقراطية والحريات بما يتوافق طبعاً مع المصالح الغربية والأميركية، وهذا حكم السياسة وليس حكم الأخلاق والمبادئ السامية.
ولم يعد ذلك الشعار القائل «طالما ظل أنبوب النفط يضخ فلا شأن لنا مع النظام الحاكم مطلقاً»، وإنما يصبح انتقائياً، فما لا يمكن السكوت عنه في ليبيا، يمكن غض الطرف عنه في أماكن أخرى في دولنا، وتم في ما بعد إدخال تعديلات على فلسفة مثلث الشيطان وأدبيات «لماذا يكرهوننا»، أو «ما على العرب غير لوم أنفسهم» وهو ما كتبه الأميركي اللبناني فؤاد عجمي.
ماذا سيكون عليه الحال بعد اليوم، الذي نشهد فيه ربيع العالم العربي وترافقه أزمة اقتصادية تجتاح أوروبا وأميركا تكاد تنفخ الروح في كارل ماركس، وليست مجرد دعوات لإحياء الكينزية في عدم ترك القطاع الخاص يفعل ما يشاء حين استغل وشوه فكر رب الاقتصاد الكلاسيكي آدم سميث؟
ليست هي تمردات وثورات «كرامة» فقط كما في دولنا العربية، وإنما هي شرارات افتقار الطبقة الوسطى وضريبة غالية تدفعها تلك الطبقة بينما «النخب» المالية تحيا في بحبوحة ورغد العيش! ماذا عنا في دول الخليج وماذا سنفعل غير تكرار عبارات مثل «وين رايحين المعازيب احنا وياهم» و»نحن بخير طالما أسعار ذهبنا الأسود بعافية وألف خير»؟!
11 سبتمبر 2001 قد يكون بداية لانقلاب تاريخي لا نعرف فك رموزه، فلنكن على حذر من الغد القادم، ولنخطط لأسوأ الفروض، فالأمور لا تسير دائما على البركة كما يتوهم الكبار.
نحن أكثر صبراً منه
«ديفد بلين» الأميركي لم يكن ساحراً ولا حاوياً، ولم تكن موسوعة ويكيبيديا منصفة معه حين صنفته كحاوٍ عظيم، كان ديفد بلين عملاقاً في ضبط نفسه، جباراً في صبره، زاهداً في حياته، وكان أكثر من ذلك بكثير. قضى ديفد 63 ساعة كاملة واقفاً من دون نوم في ساحة تايمز سكوير يحيط به قالب من الجليد، لم يكن يرتدي ما يقيه من صقيع البرد ولا يمكنه أن يتحرك ولو بمقدار شعرة واحدة في وقفته، وإلّا صعقه الجليد. وفي مخاطرة أخرى، تمدد ديفد بلين أسبوعاً كاملاً في تابوت ودفن تحت الأرض كجثة هامدة من دون حياة، ولم يكن لديه غير الماء ليشرب، وأيضا، وقبل أن أنسى الكثير من حكاياته العجيبة، أمضى ديفد أربعة وأربعين يوماً كاملة مستلقياً على ظهره في قالب زجاجي وتُرك طافياً فوق لجة نهر التيمز وفقد أربعة وخمسين رطلاً، وكان أشد الألم الذي عاناه هو أن يبدأ جسده يأكل من عضلاته كي يبقي على طاقة الحياة، وكتبت عن ذلك الخبر المدهش مجلة «نيوانغلند» للطب، وتلك من أعظم المجلات الطبية في العالم، ومن غير المعقول أن «تفبرك» تحليل الخبر تلك الجريدة العلمية الرصينة، وتبالغ فيه لإثارة شغف القراء مثل بعض جرائدنا المحلية، الله يستر عليهم، ويحميهم من العين.
وضرب ديفد بلين رقماً قياسياً جديداً في البقاء من دون تنفس حين غطس في الماء أمام المشاهدين في برنامج «أوبرا وينفيري» التلفزيوني، ولأنه كان متدرباً على الطفو دون حراك إلّا أنه في ذلك البرنامج وأمام الكاميرات الساطعة كان عليه أن يشد من عضلاته كي يبقى في العمق ويفقد بعضا من تركيزه الذهني، وإثر ذلك كاد يموت حين تزايدت نبضات قلبه، وشعر بألم شديد في صدره، إلّا أنه صبر وطفا قليلاً وسجل رقم سبع عشرة دقيقة من دون تنفس ونجا.
يقول ديفد: إنه لا معنى لحياتي إن لم أحطم قيود الراحة والسكينة، وهذه حياتي منذ أن وعيت على الدنيا، وكأنه يقرر بهذا، حسب رأي الباحث «بويمستر» فلسفة القديس الزاهد سينت سيمون الذي سكن في كوخ ضئيل فوق عمود لعقود طويلة في الصحراء السورية في القرن الخامس بعد الميلاد، وكانت حكمة القديس سيمون تقول إنه كلما تعذب الجسد ازدهرت الروح. لم تكن سورية في تلك الأيام تحت حكم الأسد!
تلك كانت ومضات سريعة سجلتها لكم بترجمتي المتواضعة من كتاب حديث للباحثين روي بوميستر وجون تيرني تحت عنوان «قوة الإرادة: إعادة كشف أعظم قوة للإنسان». الكتاب يحاول أن يعيد تفسير معنى الثبات والصبر والتغلب على المحن النفسية، مثل الإدمان والقلق والوسواس القهري بشتى أشكالها وأنواعها بمنهج علمي دقيق، ولا يهمني في هذا المقال كتاب الباحثين في حد ذاته، فالكتاب ضخم ويضم معلومات مفيدة وقيّمة، ما يثير تساؤلي الآن هو مقدار تحمل وصبر «ديفد بلين» الجسدي والنفسي، فهل تتصورون أن مثل ديفد بلين، وإن كان أسطورة للجلد وتحمل مشاق الأمور، يستطيع أن يعيش في الكويت أسبوعاً واحداً، يقرأ كل يوم أخبارنا المحلية، ويتابع نشاط حكومتنا الثابتة كالجبال ويلاحق تصريحات نوابنا، ويبتهج في ليالينا التي تزينها نجوم الفرح والحرية وتكحل عيونها كل أشكال الفنون والمعارض والمسرحيات الرائعة…؟ أشك في ذلك، فنحن الأساطير الخليجية، روتها للتاريخ حبابة بنت هوميروس!