حسن العيسى

نهاية مشاكس حر

مات ليلة الجمعة الماضية الكاتب الأميركي من أصل إنكليزي كريستوفر هتشنس، بعد صراع مرير مع سرطان الغدة، وكان هتشنس كاتباً “إشكالياً” بمعنى الكلمة، فلم ينسق لمذهب فكري محدد حتى يحمل وزره في ما بعد، فقد كان يعد من كُتاب اليسار التروتسكيين في شبابه، وذهب إلى كوبا في نهاية الستينيات بتأثير الحماس للثورة الكوبية، وعاد بتجربة سيئة عن الاستبداد، وكان أحد النجوم في أيام ثورة الشباب في ذلك العقد، وتم القبض عليه أكثر من مرة. إلا أنه كانت له مواقفه الراسخة ضد مؤسسة الحكم، وترك في ذكرياته بكتابه “هتج 22” لحظات عقلية ممتعة طاف فيها بطفولته وعلاقته مع والده الضابط الكبير بسلاح البحرية الإنكليزية، ثم إصرار والدته البولندية الأصل التي أرادت أن يكون لابنها الأكبر مكانه المميز بالأدب الإنكليزي في أعرق الجامعات الإنكليزية (كمبردج) وسطر في تلك الأيام بداية حبه وعلاقاته مع أصدقاء عمالقة في الأدب والنقد. وحسب مذكراته لم يكن يعرف أن والدته يهودية حتى انتحارها بسبب الاكتئاب وتجربة عشق فاشلة، ولابد أن مثل تلك الحكاية تركت آثارها الكبيرة في نفس الشاب الصغير.   المثير في كتابات هتشنس موقفه الرافض للأديان كلها بلا استثناء، وتعالت شرارة عدائه للدين ناراً ملتهبة بعد فتوى الخميني بهدر دم سلمان رشدي الذي كانت تربطه به علاقة صداقة وطيدة، ثم زادت جرعة عدائه بعد أحداث 11 سبتمبر، وكانت له قناعة ثابتة أن كل مؤمن بدين ما لابد أن يكون متطرفاً، لأن المؤمن يرى أن دينه هو الحق والآخر والآخرين على باطل. وطاف هتشنس طول الولايات المتحدة وعرضها يحاجج رجال الدين دون كلل أو تعب، وشاهدت إحدى مناظراته مع أربعة من الحاخامات اليهود، وكان الأربعة منفتحين على الرأي الآخر، وقال أحدهم صراحة “أنا مؤمن علماني وأصدق كل ما يقوله هتشنس، لكن بعد الموت قد تكون هناك حياة أخرى فما الضير أن أكون مؤمناً بها وما خسارتي؟”، لكن حتى بتلك المقولة لم يسلم قائلها من سهام هتشنس الناقدة. كان يتكلم هتشنس بهدوء وبثقة عالية ويقاطعه الجمهور بالتصفيق مرات ومرات.  غير الملحدين لم يسلموا من قلمه، حتى الرئيس الأسبق كلينتون اتهمه بإغواء الفتاة المسكينة لوينسكي، كما انتقد الأم تريزا وغاندي وأبدع في الهجوم على كيسنجر، حتى أن أخاه الكاتب بيتر هتشنس كان له هو الآخر نصيب من النقد المؤلم.  يقر كريستوفر- الذي قرأت الكثير من أعماله التي أنا على يقين أنها لن تترجم للعربية أبداً بحكم الثقافة المغلقة غير الواثقة من نفسها ومن إيمانها- أنه كان يشرب الخمر بكثرة ويهواها، لكن الخمر لم تؤثر على قدراته العقلية أبداً، وهذه لم تكن شهادته وحده فقط بل هي شهادة من عاصروه ولمسوا قدراته المذهلة، إذ كان يكتب أكثر من ألف كلمة يومياً حول أصعب وأدق مواضيع النقد في السياسة والفلسفة والأدب. حتى أنه قبل وفاته بأيام قليلة نهض من سريره بمساعدة أحد أصدقائه وأدوية السرطان والأشعة والمورفين كانت تنهش في جسده إلا أنها لم تؤثر على عقله الواعي، وكتب مقالاً طويلاً في الأدب (نشر مقدماً بعد وفاته في مجلة فنيتي فير عدد يناير المقبل). كان جسده ميتاً تقريباً، لكن عقله كان ينبض بالحياة وروح التحدي للموت.  وفي لقاء له قبل وفاته بأيام سئل: هل تخشى الموت؟ وألم تحن ساعة التوبة؟ فنفى بشدة وقال: “إنني لا أختلف عنك في أي شيء، فكلكم ستموتون، إلا أن معدل سرعتي للنهاية أخذت تتسارع أكثر منكم!”. مات هتشنس بعد أن اتهمه رفاقه اليساريون بالخيانة، لأنه شجّع وأيد التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق. كان يرى نهاية أي مستبد هي عمل خير في حد ذاته بصرف النظر عن نوايا المتدخلين، كما كان لهتشنس مواقفه الصلبة بشأن ضرورة تدخل قوات “النيتو” لإنقاذ مسلمي كوسوفو، وتركه أهل اليسار بحجة تهوره في هذين الموقفين حين نقض مقدساتهم بلا هوادة. من تلك النقطة عارضه كاتب الـ”نيويورك تايمز” كوهين في مرثيته بأن العبر لا تكون في نهاية طاغية ما بقدر ما تكون بخواتيم الأمور، أي بما يتركه غياب ذلك الطاغية من شرور قد تكون أكبر. ما يثير دهشتي اليوم هي تلك الشجاعة التي واجه بها هتشنس ساعات الموت، وقدراته العجيبة على العطاء العقلي حتى في لحظاته الأخيرة. فأكثر الناس يؤمنون خوفاً مما بعد الموت، فالحياة في حقيقتها عبث لا طائل منه (أدب اللا معقول)، ولا يشذ عنهم إلا فئتان هما على طرفي نقيض، وهما الملحدون والمؤمنون.  بقي القول إن الموت لم يمهل هتشنس ليقول كلمته في الثورات العربية اليوم، ويبدو لي أيضاً أن هتشنس رغم موسوعيته الضخمة لم يكن على صلة قوية بالفكر الصوفي وتاريخه الرائع والفكر الإسلامي.

حسن العيسى

احتفال الفلسفة بإمارة الإكسات

بمجرد أن النائب x محمد هايف (إكس بمعنى السابق) علم أن حفلاً سيقام في مدرسة متوسطة بمنطقة سعد العبدالله، بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة تتخلله ورشات عمل وندوات بريئة، سارع بإطلاق تهديداته التي اعتدناها منه ومن رفاقه في جيوش وسرايا جزاري ذبح العقول وسلخ العقلانية الإنسانية، متهما “الفلاسفة وما عليهم من شبهات… !” وأن الحفل فيه اختلاط للجنسين ولو كان هذا بفرض صحته هو “اختلاط أطفال” طاهر تتم فيه ندوات وحوارات تربي فيهم روح النقد والجدل الفكريين الغائبين عن إمبراطورية السلف المستبدة بالدولة الكويتية وشقيقاتها وجاراتها من الخليج الخامل إلى المحيط الفاشل. حفل سنوي للفلسفة يعني حفلة x وإكس تعني الآن مشهداً خلاعياً جنسياً بفيلم يستحيل أن يطأ دور السينما الكويتية المقطعة المشاهد، ومصنفاً بدرجة “إكس ريتد” لا يجوز للأطفال (ولا حتى العجائز الذين خمدت فيهم رغبات التناسل وجذوة العشق) مشاهدته والتفكير فيه، ومن هنا تصبح الفلسفة ذاتها “فاحشة جنسية” بدرجة x كبيرة من نتاج الغرب الكافر لا يصح أبداً الاحتفاء بها ويصبح المفكرون والفلاسفة من براميندس وسقراط في يونان ما قبل الميلاد حتى أكبر فلاسفة اليوم في الشرق والغرب دعاة فسق وفجور ودعارة، أي أن مكنة التفكير الحر ذاتها هي مشروع فسق متكامل يولد الشبهات ويهز عوالم اليقين وحقائقه المطلقة الكاملة التي تعيش تحت ظلالها أمة التكفير لا التفكير. زميلنا بمهنة المنطق العقلي الصارم، أي مهنة القانون وزير التربية x (أي السابق) أحمد المليفي، الذي يقوم بتسيير العاجل من الأمور في التعليم والعدل، سارع متجاوباً مع نداءات النائب x محمد هايف وألغى الاحتفال ربما متصوراً أن مثل هذا الاحتفال يعد “فعلاً فاضحاً يخل بالحياء العام” كجريمة تعاقب عليها قوانين الجزاء في الكويت وبقية الدول التي على شاكلتها في إمبراطوريات العيب وتقنين الأعراف الرجعية المتزمتة، وبجرة قلم ألغى الاحتفال وترك الزميل باسل الزير يئن حزناً على ما حدث في إمارة x ليكتب مقالاً في “القبس” بعنوان “تعال أعلمك الفلسفة”! ولا أدري من هم الذين يريد الزميل باسل تعليمهم الفلسفة! فهذه لا يمكن تعليمها لحزب الإكسات الذين يعيشون في عوالم المطلقات واليقينيات، فهم لا يؤمنون بحرية العقل بالتفكير، ويجرمون حق الإنسان بالمعرفة والتأمل وتدبر معنى الوجود، ويرون أن منجزات الإنسانية العلمية والروحية من بركة المصادفة والقدر المكتوب وليست نتاجاً عقلياً تراكمياً تم بجهد مضن لفلاسفة ومفكرين مهدوا لعصر الأنوار في أوروبا بنهايات القرن السابع عشر لتجني الإنسانية في ما بعد ثمار عذابهم وشقائهم في العلوم الطبيعية والاجتماعية، وكلها في النهاية نتاج الفلسفة التي يعتقد النائب x محمد هايف أنها شبهة، حسب فقهه وفقه من والاه من وزراء الإكسات…! ولقد أسمعت يا باسل لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي.

حسن العيسى

لا عزاء للبدون

ليس بالعصي والقنابل الدخانية وخراطيم المياه والاعتقالات يمكن تأديب المتظاهرين من البدون، وقد تنجح وزارة الداخلية بقواتها الخاصة مرة ومرتين في قمعهم وإغلاق حناجرهم وكسر أقلامهم وتغريداتهم في ممارسة حقهم الأكيد بالتعبير عن أوضاعهم لبعض الوقت، ولكن ليس كل الوقت. فطالما هناك حبل متين يلف العنق الكويتي اسمه “بدون” وبلا هوية فسيظل هؤلاء شوكة في خاصرة الضمير الكويتي المخدر بصدقات وعطايا السلطة، وإذا انتصرت القوات الخاصة بتفريق مظاهرة حدثت أمس الأول مثلما نجحت تلك القوات قبلها في تشتيت المتجمعين المتظاهرين مرات سابقة “وأكدت استتباب الأمن والنظام” بقمع تجمعات البدون وغير البدون، فلا يمكن تصور غير العصا الأمنية للسلطة هي الحل الكويتي الأخير، بعد أن أصبحت هذه السلطة مقتنعة تماماً بالحلول السحرية التي قد يتفتق عنها عقل الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع غير محددي الجنسية، ولن يجد المحايد أي تصور لحل نهائي لمأساة البدون من ذلك الجهاز الحكومي غير خطاب متعال يضج بأدبيات متغطرسة مثل “منحناهم شهادات وفاة وميلاد” فماذا يريدون أكثر من ذلك؟!
السلطة عاجزة و”تتعاجز” عن حسم ملف الخمسة والثلاثين ألفاً من البدون المستحقين للجنسية حسب السجلات الرسمية للدولة، فهم سيشكلون تكلفة مالية عالية على الدولة، لأن الجنسية الكويتية بحد ذاتها هي شيك على بياض بلا تاريخ للكويتيين، ولا يريد الكثيرون الذين حررت بأسمائهم شيكات الجنسية أن يشاركهم أحد من “البدون” في الرصيد الكويتي المهدد بالنضوب، ومن هنا تكمن أزمة البدون وأزمة الهوية الكويتية كلها، فهي مواطنة تحتكر مفهوم الجنسية الثرية وتستبعد الغير من الدخول والمشاركة معها في عالم الخيرات، فهو عالم “مؤقت” ومهدد بالزوال بنضوب البترول في المستقبل، ويحفه بالحاضر مخاطر التبديد والسفه الحاليين في شراء الولاءات السياسية.
إذا تعذر تحقيق تقدم حقيقي للمستحقين للجنسية، وعددهم خمسة وثلاثون ألفاً، فماذا عن غيرهم من البدون (حقيقة أو زعماً) المتبقين، والذين تتجاوز أعدادهم السبعين ألفاً، كيف للحكومة أو المجلس القادمين أن يجدا حلاً مقبولاً ترضاه أغلبية أهل النعم من الكويتيين بمجلسهم وحكومتهم… يبدو أن الحل الأقرب للذهنية الكويتية تتجسد بترك الأمور على حالها تسير على البركة وبفلسفة “خل القرعة ترعى”، ولا عزاء للبدون.

حسن العيسى

هذه أختك

شرطة الكويت أضحت شرطة دينية لا تختلف موضوعاً عن جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية، رجال الشرطة، لا بارك الله في حماسهم ولا في غيرتهم على الأخلاق المزعومة، أخذوا يهدرون كرامة البشر وحرياتهم دون حكم القانون، ولو كان حقيقة يوجد مثل هذا النص “الدراكوني” في قوانين القهر والتزمت لقلنا ليذهب هو ومن شرعه للجحيم.
حكايات مؤلمة نقرأها بين فترة وأخرى بالصحف تثير شغف الفضوليين وتروي نهماً جنسياً مكبوتاً في دولة الحرمان، منها ما نشر في جريدة الراي بالأمس عن توقيف دورية شرطة سيارة فجراً فيها رجل وامرأة على طريق الشاليهات، لاحظوا أن الجريمة في الخيال المريض، والتي أثارت شكوك شرطتنا الدينية، هي وجود ذكر وأنثى معاً في سيارة بطريق الشاليهات بلحظات الفجر…! الشرطة بعد أن فردت عضلاتها بدوريات الدعم ساقت “المجرمين” للتوقيف في المخفر، رغم أن الضحية “المجرمة” تحدت الشرطة بعبارة ولو جاء وزير الداخلية فلن أركب الدورية… لكن في النهاية كان النصر لجيوش الدوريات السائرة بهدي السلطة وبركة أهل التقوى، وتم فضح المرأة ومرافقها.
أين الجريمة أو الاشتباه بها في مثل تلك الحكاية المقرفة، ومثلها مئات الحكايات التي تنشر في صحفنا اليومية؟ هل وجود رجل وامرأة في سيارة بحد ذاته يشكل جريمة؟! وهل يخول مثل ذلك “الوجود” شبهة الجريمة حتى يطلب رجال الأمن البطاقات الثبوتية “للمتهمين”؟ وهل استتب الأمن في الدولة وارتفعت رايات النصر لحزب الفضيلة على ربوع الديرة بعد أن تم اصطياد هؤلاء المجرمين؟! أين حقوق البشر في خصوصياتهم، وأين أضحت كراماتهم في خرافة دولة القانون؟! ما شأنكم يا شرطة الكويت بحقيقة علاقة ذلك الرجل والمرأة؟! شقيقته أو قريبته أو زوجته أو خطيبته أو حتى عشيقته… ليس هذا من شأنكم ولا شأن من ولاكم أن تكونوا “بصاصين” ومراقبين مرعبين على حرياتنا تهدرون أبسط كراماتنا… إذا نحيتم القانون جانباً وتشبثتم بإرثكم الديني فتذكروا حكاية الفاروق عمر حين سمع أن أحدهم يشرب الخمر في منزله فتسلق عمر سور المنزل ليعرف الحقيقة، وحين واجهه المتهم، قال له الأخير إن ارتكبت أنا معصية فقد ارتكبت أنت يا أمير المؤمنين ثلاثاً… فقد قال الله ولا تجسسوا وأنت تجسست، ونهى عن التسور وأنت تسورت… إلى بقية الرواية، التي انتهت بحياء العادل عمر مما فعل وأغلق القضية… فأين أنتم من الفاروق… وأين أنتم بعد أكثر من ألف سنة من مبدأ “دو بروسس”، أي مراعاة حكم القانون في الإجراءات الجزائية؟!
قبل سنوات طويلة وفي أيامنا الجميلة التي ولت من غير رجعة في السبعينيات أخبرني صديق عن حكاية نقطة تفتيش في الشارع، وكان صديقي برفقة زوجته حين وقف عند الدورية… وبعد أن قدم صديقي رخصة قيادته سأله شرطي نقطة التفتيش عن السيدة التي كانت برفقته، وما علاقته بها… فكان رد صديقي سريعاً وحاسماً: هذه أختك.

حسن العيسى

الأمل الغنوشي

«الربيع العربي أو ربيع الأصوليات» (سجعان القزي، النهار)، «العلمانيون والانتصار المرحلي للقوى الإسلامية» (سلام الكواكبي، المصدر السابق)، «صعود الإسلام الليبرالي» (السيد ياسين، الحياة)، «إلى الجحيم أيها العلمانيون» (سوسن الأبطح، الشرق الأوسط).
تلك كانت مجرد نماذج بسيطة لعناوين زوايا لمثقفين وكتاب في الصحف العربية، وفي الصحف الأجنبية هناك خطاب مشابه وإن كان أكثر دقة بالتحليل من الرأي العربي بصورة مجملة، والمشترك في تلك الخطابات هو حالة الانبهار بصعود واقتراب التيار الإسلامي إلى الحكم في الربيع العربي أو الربيع «الملتحي» أو «الربيع المنقب»، ولنا أن نختار الكثير من النعوت التي قد ترضي قليلاً من الغرور شبه العلماني، أو تطفئ بعضاً من غليله. هي حالة انبهار وليست دهشة، فنحن ننبهر من حدث كبير، وفي الأغلب يكون متوقعاً، لكننا لا نندهش منه طالما كان في خانة التوقع، الانبهار من كتاب الصحافة العربية جاء مغلفاً أحياناً بحنق وجلد للذات مع نوع من الشماتة على الخطاب العلماني، مثل مقال سوسن الأبطح، وأحياناً يرافق هذا الانبهار نوع من العزاء للنفس، والتمني بنهاية جميلة تنسجم مع حلمنا بالحريات العامة والفردية حين نردف كلمة الإسلام بـ»الليبرالي» (السيد ياسين)، وتبقى هناك دائماً القواسم المشتركة في التحليل التي تفسر صعود النجم الإسلامي بفشل المشروع القومي العربي، وتحالف النخب العلمانية مع النظم السلطوية أو «تعالي» تلك النخب على الشارع العربي وتناسي قضاياه اليومية من أحوال معيشية فقيرة وبائسة، ويرافقها انعدام كامل لأبسط حريات الفرد المسحوقة كرامته من عصر الاستعمار الغربي الخارجي حتى الزمن الأسود المتمثل في الاستعمار الداخلي للسلطات الحاكمة والآفلة حتماً.
طبعاً هناك «الرتوش» والبهارات التي يمكن إضافتها لوعاء طبخ تفسيرات صعود التيار الديني، مثل داء «البترو دولار»، وكيف ساهمت أرصدة الدول الخليجية الضخمة الناتجة من تصاعد أسعار البترول في ضرب قوى اليسار والقومية مع الضخ المالي المتواصل للجماعات الإسلامية، فتلك الجماعات ضحت بالروح في تحرير أفغانستان من «الكفار» الشيوعيين في ثمانينيات القرن الماضي قبل أن تنقلب على أسيادها، وكانت الأموال تسيل من الخليج والأرواح من دول الفقر العربية والسلاح من الأميركان والغرب، حتى يعجل بسقوط الإمبريالية السوفياتية، ويصفى الجو لمركز الإمبريالية الغربية وحواشيها العربية… ألم يكتب محمد حسنين هيكل عن نهاية الثورة وبداية عصر الثروة…! أما اليوم فأسعار النفط العالية تخدر الداخل الخليجي وتقيه من أنواء العواصف المقتربة، وفي الوقت ذاته تروم إلى احتواء الربيع الملتحي… وتمضي قائمة تحليلات الكتاب والمثقفين العلمانيين المنبهرة إلى ما شاء الله، وكأن الأنظمة العربية السلطوية كانت فعلاً علمانية وليبرالية…! ولم تكن غير كأس جميل يحتوي على بيرة مغشوشة…! (نسب هذا التعبير إلى إحسان عبدالقدوس في تعليقه على طه حسين ولا أعرف مدى صحة هذا النسب).
أياً كانت مصداقية التفسيرات والتبريرات السابقة، فإن القدر المتيقن هو مثلما قال توماس فريدمان في مأثورته، ولم أقرأ له مأثورات سابقة، تقول إن العرب لا يمكنهم القفز من المرحلة الاستبدادية إلى المرحلة الجفرسونية (نسبة إلى توماس جفرسون كأهم واضعي الدستور الأميركي مع تكريس مبادئ الحريات فيه) دون المرور بالمرحلة الخمينية… فليكن وصف المرحلة الحاضرة بالخمينية طالما اقتنعنا بأنه لا يمكن دائماً في الثورات حرق المراحل… إلا أن الأمل يبقى بأن المرحلة «الخمينية» تتقدم صعوداً لتصل إلى العتبة الغنوشية في تونس أو الطيبية في تركيا، ولا يتعطل مصعدها في السراديب المظلمة للسلفيات المغلقة والجهادية… وليس لنا غير هذا الأمل.

حسن العيسى

البدون وإعلان حقوق الإنسان

مضت ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالأمس من دون أن يذكر أحد ندبة كبيرة (من جملة ندوب كثيرة) في الوجه الكويتي اسمها “بدون”، وهم “الأوادم” التائهون في فضاء الجنسية الكويتي بجنات نعمها وسخائها للفرد الكويتي، وقبل أيام أقامت منظمة هيومان رايتس ووتش وباسم الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان حفل العشاء الخيري الذي يعقد أول مرة في دولة خليجية مثل الكويت، وكان هم الحكومة تلميع وجه الكويت في ملفات تلك المنظمة بدعوة أعضائها إلى لقاء كبار المسؤولين بحفلات العشاء الدسمة، وربما فكرت الحكومة في دهان سير وفد المنظمة بحكم عاداتنا وتقاليدنا السياسية، بينما كان الزوار من أعضاء منظمة أوضاع البدون، التي تخترق مبادئ حقوق الإنسان، وتساءل أحد أعضاء الوفد الزائر عن سبب عدم منح ٣٥ ألف فرد (من أصل مئة وستة آلاف بدون) الجنسية الكويتية طالما أنهم يستحقونها حسب الإقرارات الرسمية الحكومية، ولم يجد صاحب السؤال جواباً غير “الفورمة” المعتادة من أن البدون تصرف لهم شهادات ميلاد ووفاة وبطاقة تموين، وفي بعض الأحيان توفر الدولة سكناً للعاملين منهم في الجيش والشرطة وقطاع النفط، أما “حقهم” في المواطنة فلا يبدو أنه من الشأن الحكومي، ولا من شأن أغلبية نواب الأمس سواء كانوا من المعارضة أو الموالاة.
أكثر من ذلك ليس من حق البدون التعبير عن أوضاعهم، فالتجمع بساحة الإرادة ميزة للكويتيين فقط كما تقول وزارة الداخلية، أما البدون فليس لهم غير حق الصمت وعدم البوح عن أوضاعهم المعلقة بين المواطنة والغربة. السؤال الآن هو ما إذا كان أي من المرشحين للمجلس القادم سيتبنى قضية البدون في برنامجه الانتخابي، وتحديداً البدون المستحقين للجنسية، أم سيهمل ملفهم؟! الإجابة تكاد تكون معروفة، فالبدون ليس لهم صوت انتخابي ولا يملكون قوة ضغط سياسية كافية، وبالتالي فلا يمكن تصور أن وضعهم سيحمل أي ثقل عند معظم المرشحين، وعلى ذلك سيظل بدون الكويت في مكانهم يراوحون. وستمضي ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من دون ذكرى.

حسن العيسى

تسييس السياسة هو حدثنا التاريخي

حيرتني نائبة الحكم والأمثال التي يسجلها التاريخ الإنساني بسطور من ذهب سلوى الجسار ويا رب تحفظها من العين، فقد بصمت معها، وهللت لها حين ألقت مأثورتها العظيمة، في زمان من يوم عصيب، وبمكان اسمه برلمان التابعين، حين دوى صوتها عالياً وسط صمت الحاضرين بعبارة: “يا جماعة لا تسيسون السياسية…”!! وعم السكون والهدوء المكان، وظللت غيوم الوقار والحكمة سماء المجلس.
ماذا تقول نائبة “تسييس السياسة” اليوم! هي تدعو بضمير حي للنقاء الأخلاقي، وأن “… نضع النقاط على الحروف في شأن ما أثير عن وجود وثائق ومستندات لتحويلات مالية من جهات خارجية، ودعت إلى وضعها بيد القضاء الكويتي النزيه”، مشيرة إلى أنه بات من الواضح أن هناك من لديه علاقات مع جهات خارجية… كما جاء في جريدة السياسة عدد أمس…! ما هذه الكلمات يا سلوى فقد حفرت بها اسمك الرصين على صخور الزمن؟ نقاط، حروف، قضائية، علاقات، خارجية…!
حتى لا يتوه القارئ، فنائبة الحكم التاريخية تقصد النائبين أحمد السعدون ومسلم البراك (وربما غيرهما من نواب المعارضة) وما يثار الآن عنهما هذه الأيام في حفلات الانتقام وثارات الفساد السياسي من أنهما يقبضان من الدولة القطرية…!
أي نقاط وأي حروف تتحدث عنها نائبة “تسييس السياسة”! فمثلا لو وضعنا نقطة كما تريد سلوى على “الحاء” لأصبحت كلمة “حروف… خروف”، وخروف هي مفرد خرفان، والخرفان تتبع الراعي في أغلب الأحوال، ولو كان يجرها للمسلخ للتوسد في ما بعد منتصف موائد المرشحين ويحيط بها الرز ودعوات الصالحين بكمال الأمور…! ولنعد إلى كلمة أخرى مثل “نقاط”، فاذا أضفنا نقطة على “النون” وقبلها الألف واللام تصير النون تاء بمعنى “التقاط”، ونقول إن زيداً أو عَمراً من النواب “التقط” ورقة ملاحظة من وزير ما في جلسة للبرلمان، وإن نائباً أو نواباً “التقطوا بضعة ملايين في حساباتهم المصرفية مصدرها مجهول وسيبقى مجهولاً بحكمة الستر على الفضائح، وتلك حكمة من “عاداتنا وتقاليدنا” الاجتماعية ومن مأثوراتنا السياسية، فمثلاً إذا لاحظت عيباً أخلاقياً ما، ولو ارتفع هذا العيب والانحراف إلى مصاف الجريمة، نقول “استر على ما واجهت”، وأعتقد أن السلطة الحاكمة ستقتدي بحكمنا الاجتماعية وأعرافنا السياسية، وستستر آخر الأمر على مساكين البرلمان، كما سترت من عقود ممتدة طويلة على فساد معمم في جل مؤسسات الدولة.
ولماذا تريد سلوى زج القضاء في استعراضات الثأر السياسي للمجروحين، وما شأن القضاء بمثل هذه الإشاعات الانتقامية من السعدون والبراك. ارفعي نقطة من حرف القاف في “قضاء”، وتصير الكلمة فضاء، وهي كلمة تعني مساحة زمن بلا بداية ولا نهاية.
في آخر الأمر، كنت أود أن أعلق (وبالمناسبة زوايانا هي زوايا تعليق على أخبار، في أغلب الأوقات وليست مقالات لخلق فكر) على دعوة النائب سعدون حماد للقيادة السياسية إلى وقف التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية بعد أن فوجئ بما أثير من “تقديم رئيس وزراء قطر الشيخ حمد بن جاسم 200 مليون ريال إلى نائب كويتي وبالتزامن مع الاستجوابات”، لكن عدلت عن هذا بعد التفكير قليلاً في السجل السياسي لتصريحات النائب سعدون الحماد، فهي لا تستحق التعليق عليها، فالحدث التاريخي، يبدأ بمأساة ويعيد نفسه على صورة ملهاة، كما قال ماركس، ومجلس مدموغ بدمغة ماركة النائب سعدون حماد هو حدث تاريخي بذاته كان مأساة تراجيديا وسيعيد نفسه بشكل ملهاة.

حسن العيسى

نحو معارضة حزبية

ملاحظة محمد الجاسم للمعارضة في موقع “ميزان” صحيحة؛ فبعد أن وجه نصحه إلى الشيخ جابر المبارك بأن “العين عليه” رغم الوضع الصعب الذي يجد فيه الشيخ جابر نفسه بسبب أسرته (مجلس الشيوخ الحاكم) وبسبب التركة السياسية لمن سبقه (حدد الزميل محمد الجاسم هذه التركة بالشيخ ناصر المحمد ودور رئيس مجلس الأمة السيد جاسم الخرافي) بينما أعتقد أن الميراث المر يمتد إلى ما قبل الشيخ ناصر المحمد بكثير، وكانت بداية تراكماته تعلو ويخبو معها وهج ضوء “درة الخليج” عند لحظة إغلاق قبر الشيخ عبدالله السالم. يعود الزميل الجاسم بخطابه للمعارضة بأن عليها الآن أن تنقل نفسها إلى العمل الإيجابي (معارضة البناء)، وضربَ مثلاً وأمثلة للعمل الإيجابي المفروض على المعارضة العمل على تحقيقها، كتعديل قانون الإجراءات الجزائية، وأيضاً قانون تنظيم القضاء، كي لا تتكرر مسائل مثل احتجاز المواطنين على ذمة الحبس الاحتياطي مدداً طويلة في قضايا سياسية، ويختل التوازن المفترض بين التهمة (التي لم تصبح بعدُ جريمة بحكم نهائي) والعقوبة، فالحبس الاحتياطي هو إجراء احترازي (خشية من هروب المتهم) ولا يفترض أن يكون عقوبة بحد ذاته.
ولنتحدث عن المعارضة الإيجابية، وأرى أن أي معارضة، ولو لم يكن لها برنامج سياسي، أو قصرت دورها على الانتقاد والاعتصامات، هي “بطبيعتها” وبسبب علة وجودها، إيجابية مهما اختلفنا أو اتفقنا معها، فلا أحد يتصور وجود أي نظام حاكم من دون معارضة، مهما كان ذلك النظام كاملاً في عمله ومنهجه السياسي، وسواء حكمنا على هذه المعارضة بالرجعية والتخلف الحضاري أو بالتغريبية، حين تتبنى المرجعية الغربية. لكن العور والعيوب التي يفترض أن تضلع في تقويمها وإصلاحها تلك المعارضة يجب ألا تكون قاصرة على تعديل قانون الإجراءات الجزائية أو تكريس مبدأ استقلال القضاء والنأي به عن التجاذبات السياسية، فالمسألة يجب أن تكون حزمة تصورات لمشروعات قوانين تقتلع قوانين كثيرة من جذورها، قوانين أحالت أوراق الدستور إلى ورق تنظيف الواجهة السياسية للدولة (كدولة دستورية) في الشكل، ولكنها حقيقة ليست كذلك.
هناك أمثلة كثيرة لهذه القوانين المخجلة، وهناك أمثلة أكثر لمشروعات قوانين تائهة، وهناك غياب متعمد أو “لا اكتراث” لتنفيذ تلك القوانين القائمة (على سبيل المثال لا الحصر قانون المرور ونسله المتمثل في حرب الشوارع) وهناك تصورات يمكن أن نفكر فيها، من قانون الجنسية الظالم لمستحقيها إلى الكثير من مواد قانون الجزاء، حين تصادر أبسط الحقوق والحريات الخاصة، إلى قانون المطبوعات والنشر، إلى قانون العزل الجنسي في الجامعات، إلى غياب تشريعات تنظم حقوق العمالة المنزلية… والقائمة طويلة، والعبرة ليست بوجود قانون ظالم أو غياب قانون كان يمكن أن يحقق العدالة، بل الداء هنا هو غياب إرادة جادة في تحقيق العدل والإصلاح عند أهل السلطة.
حتى تضطلع تلك المعارضة المحصورة في تكتلات سياسية بهذا الدور (الإيجابي) يجب أن تشرع في تحويل نفسها إلى أحزاب سياسية منظمة ببرنامج عمل واضح، سواء باركت السلطة الحاكمة تلك الأحزاب أم لعنتها. وحين تصبح لدينا أحزاب نقرأ برامج عملها بعيون ثاقبة ونقيّم مواقف قياداتها، يمكن لنا عندئذ ـ وعندئذ فقط ـ أن نرفع الرأس قليلاً.

حسن العيسى

دربك صعب وطويل

أي حكومة قادمة لن تكون غير وجه آخر للسلطة، وبفرض تعيين الشيخ جابر المبارك رئيساً لمجلس الوزراء، ثم استقالة هذه الحكومة الجديدة، وحل المجلس “الكربوني” (بمعنى أنه صورة كربونية من السلطة الحاكمة)، والدعوة إلى انتخابات جديدة ونزيهة (والله العالم)، ثم عودة الشيخ جابر المبارك لرئاسة الوزراء، بحكومة كفاءات ونزاهة ورؤية واضحة للمستقبل، كل هذا لن يحل الأزمة السياسية (ومعها الاقتصادية القادمة لا محالة)، فلدينا عقدتان، ليستا جديدتين على الحال الكويتي السائب.
الأولى هي عقدة بيت الحكم القابعة في أسرة الصباح، فليس هناك خلافات فقط في الرأي واجتهادات متباينة بين كبار وشباب الأسرة حول آلية إدارة الدولة، فقد نمت تلك التباينات إلى مرحلة الفعل وتصيد المتنافسين بعضهم لبعض في الأخطاء الكبيرة والزلات البسيطة، بهدف إزاحة الآخر والانفراد بالكرسي القادم، وتمثلت حروب الشيوخ، بعد أن اندمجوا تماماً في هذا الدور المعارض، في خلق قواعد شعبية وإعلامية تضرب الطار بالمقلوب لهذا الشيخ أو ذاك، واختلاق معارضة “مشيخية” تركب سفن المعارضة الشعبية، وتظهر تلك المعارضة المشيخية صورتها على أنها لوحة فنية رائعة ببرواز النزاهة الأنيق وتتجلى لنا كعاشق متيم بالديمقراطية والحريات، وتعمل من أجل التغيير والإصلاح، وكل الحلم الرومانسي للناس، بينما يدرك الواعون أن “هذا سيفوه وهذي خلاجينه”، وهذه المعارضة المشيخية في حقيقتها “قبلة على الشفتين وخنجر في القلب” بتعبير شيللر في مسرحية اللصوص…! كيف يمكن حل أزمة بيت الحكم وصراعات أبنائه، وليس هذا الصراع جديداً على حكم القصور في الكويت وغير الكويت في دول الحكم الوراثي، من غير الاحتكام لحكم مؤسسة القانون؟ والقانون هنا ليس مجرد النصوص المكتوبة بل هو الأحكام النافذة التي يفترض احترامها، حتى يتم بالتالي خلق مؤسسة حكم محكومة بضوابط قانونية يخلقها ويشارك فيها ويراقبها نواب الشعب.
العقدة الثانية وهي مرتبطة حتماً بالأولى، اسمها الناس، هي الشعب، وهي نواب الشعب، فالبترول مثلما كان نعمة لخلق دولة الرفاهية فقد ابتكر بالتزامن معها النقمة حين قتل روح العمل والمثابرة، وأصبحت روح الاتكال على جهد وعمل الغير من غير الكويتيين هي السائدة، ونتج عن ذلك سلبيات عدم الاكتراث للمال العام وخواء الفكر، وتسطيح وعي الناس بحاضرهم ومستقبلهم، وأضحت الدروشة الدينية ودورها في غياب العقل النقدي هي سمة الثقافة النفطية، فصدقات القطاع العام (الذي يجلس على قمته شيوخ الديرة) في اختلاق الوظيفة وزيادات الرواتب والكوادر ليست بقصد تحقيق دولة الرعاية الاجتماعية، كما تتمثل نماذجها في الدول الاسكندنافية، وإنما هدفت إلى تدجين البشر وتسطيح إدراكهم حتى نقول في النهاية “والله شيوخنا ما قصروا”…! ولن يمكن حل هذه العقدة الثانية بغير حل الأولى، مع العمل الدؤوب الجدي لتعميق ثقافة ووعي أهل الديرة عبر الإعلام ومناهج التعليم الجيدة، والانفتاح على الثقافة الإنسانية… وهذه دروبها شائكة وليست سهلة، لكن بغيرها سنظل على “طمام المرحوم”… بعد أن شبع موتاً.

حسن العيسى

حدكم

نسأل القوى الإسلامية المعارضة، وعلى رأسها حدس (الإخوان المسلمون في الكويت): ماذا تريدون من معارضة السلطة السياسية الآن، وما حقيقة نواياكم في النهاية؟
نحن معكم وقبلكم في معارضة الحكومة الغارقة في ملفات الفساد وإفساد النواب وكل المجتمع الكويتي، ولا أحد يختلف معكم في أن هذه الحكومة (وجل الحكومات التي سبقتها منذ نهاية الستينيات حتى اليوم) لم تملك يوماً ما أي برنامج سياسي أو اقتصادي تنموي، وكل مؤشرات التنمية الحقيقية تسير سلباً، والناس تم إغراقهم في لعبة الكوادر والرشاوى الشعبية.
وفي خلاصة الأمر كلها حكومات تمشي على البركة وعبقريتها في حل المشاكل الآنية يمكن أن توجز في كلمتين “دهان السير” ولا شيء بعد ذلك، و”دعوا القرعة ترعى لمستقبل البلد”.
هذه حقائق أولية ندركها ويعرفها أي صغير في الحضانة الكويتية، لكن أنتم في المعارضة الإسلامية (ويمكن لكم حصة الأسد في حشد شباب الاعتصامات)، أكرر، ماذا تريدون في النهاية، فإصلاح النظام وإزاحة الحكومة مسألة يمكن حلها بالحشود الجماهيرية، ويمكن حلها من خلال الدستور والقوانين الحالية، أما أن تحشروا لنا والناس منتشون في ربيعهم مسألة “وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية” فلنقل لكم إنكم خرجتم عن السكة، وسنرفض مثل هذا الطرح جملة وتفصيلاً، فمعنا مسلمون ومؤمنون، ومعنا مسلمون ولكن ربما غير مؤمنين، والدستور والقوانين (التي تنقبت وتحجبت) يفترض أنها تقرر حرية العقيدة دون خلاف، ومثلما لكم حرية عقيدتكم في الإيمان، لغيركم عقيدته في عدم الإيمان، والمطالبة بتطبيق الشريعة تفرض علينا فقهكم ورؤيتكم للدين، وليس هذا من حقكم، وإن قلتم إن 99.9 في المئة من الشعب الكويتي مسلم، والكويت بلد إسلامي، فإنه، حتى هذا “النكرة” الـ 1 في المئة له حق في عقيدة عدم الاعتقاد، ورفض أي إملاء قانوني بالقهر على سند أنه أخلاقي ديني! فلا إكراه في الدين.
حين دسستم “تطبيق الشريعة” في بيانكم استطردتم بعدها في عبارات تتسول مشاعر خلق الله الدينية، وتحدثتم عن تطبيق القانون على الجميع وإعادة الثقة، ووقف الإعلام الفاسد (ولا أعرف ما علاقة الشرع بصحافة القرن الـ21 التكنولوجية وفسادها) وضرب النواب، وأيضاً لا أفهم الرابط بين الأمرين، فضرب النواب ومحاسبة “الإعلام الفاسد” وشراء ذمم عدد من نواب الشعب كلها قضايا يمكن أن يحسمها حكم القانون، متى خلصت النوايا في التطبيق وكانت هناك إرادة جادة في إعمال حكم القانون دون إملاءات سياسية، بمعنى استلحاق السلطة التنفيذية لبقية السلطات. فلماذا الزج بالشريعة الإسلامية وتكرار شعارات أكل عليها الدهر وشرب، وهي يمكن أن تصب الزيت على المشاعر الطائفية المتأججة؟
إذا نظرنا إلى الشريعة على أنها هوية للناس، فلا خلاف معكم، ولكن أن تفرضوا قوانين بخلافات فقهية وتناحرات دينية وطائفية على مدى تاريخ طويل وتجاوزتها الحضارة الإنسانية اليوم، على أساس أنها شرع الله، فهذا ما يجب على القوى الحية أن ترفضه بشجاعة بداية، ولا يجوز أن يكون ثوب الشيخ ناصر محمد قميص عثمان لفرض الدولة الدينية في ما بعد، فالقوانين الجزائية الجسدية في الفقه الإسلامي من جلد وقطع أطراف المدانين، وغياب الإجراء القانوني الواجب (دو بروسس) لضمان حريات وحقوق الإنسان تناقض الحد الأدنى من المعايير التي ترسخت في اتفاقيات وشرائع البشرية، وإذا كان نموذج تطبيق الشريعة في السعودية مثالكم، فالمملكة لها خصوصيتها التاريخية، ولا نجتمع معها في تلك الخصوصية في نشأة الدولة وظرفها التاريخي، ولو اتحد معها عرقياً الكثير من قبائلنا وأسرنا.
ومازال ذلك الكابوس يقض مضاجعنا بعد أن أوقفت الشرطة الدينية في المملكة رجلاً وزوجته المنقبة ونهرتها لأن عينيها تثيران الفتنة وعليها تغطيتهما، وحين حاول زوجها المسكين الدفاع عن زوجته حكم عليه بالسجن والجلد على دفعات مختلفة…! إذا كان مثل هذا هو حلم وأماني النائب محمد هايف أو الطبطبائي فإن تكبيل وتعمية العيون الجميلة بعدسات سوداء تحجب ضياء الكون ونور العقل هو فيلم مفزع بالنسبة إلي على الأقل، ولأي فرد يؤمن بحرية الإنسان وحرية اختياره.
اتركوا الملالي الحامضين جانباً، فهم على سذاجة أطروحاتهم وخطورتها إلا أنهم صريحون وواضحون مع أنفسهم، لكن ماذا عنكم يا إخوان حدس… توقعنا أن تجددوا في مثال حزب النهضة بتونس والشيخ راشد الغنوشي الذي لم يتردد في طرحه الواضح بالدولة المدنية كنقيض الدولة الدينية، إن ما تروجونه الآن في حرب المزايدات الدينية، قد توه بوصلة شبه الحداثة في مركبكم.
كلمة أخيرة، إن كنتم تريدون الإصلاح وتنمية البشر، وضمان حقوقهم فنحن معكم، أما إذا كنتم تريدون إزاحة شيوخنا حتى تأتوا بمشايخكم… فلنقل لكم… حدكم.