يجاهد متزمتو الدولة الدينية في مجلس النواب الكويتي لتفصيل الدستور على شكل “بيجاما” نوم قصيرة (تتناسب مع ثقافتهم) يرتدونها في المساء، وفي النهار ينزعونها حسب متطلبات العمل السياسي ولكسب اللاوعي الجماهيري. فمرة يطالبون بتعديل المادة الثانية من الدستور لتصبح الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، بما يعني احتمال تفجير كل القوانين السائدة في الدولة حين يرى فقهاء اللاعقلانية أن القوانين السائدة كافرة. ومرة أخرى يتقدم أمراء حضارة الربيع العربي في دول البترودولار باقتراح يسوقونه على أنه “وسطي” يتمثل في تعديل المادة ٧٩ من الدستور، بحيث لا يجوز تقديم أي قانون يخالف الشريعة، وكأن الشريعة مجرد نصوص جامدة وتفسير فقهي واحد هم وحدهم دون غيرهم أحباره يفسرونه ويؤولونه كما يملي عليهم العقل المنغلق عن الثقافات والفلسفة الإنسانية. وفي كلتا الحالتين لا فرق في النهاية بين المطلبين حين ينتهيان إلى وأد “بقايا” الدستور، وما تبقى لدينا من ذكرى عابرة عن الدولة المدنية عشنا قليلاً تحت ظلالها أيام الستينيات. يحدث هذا في الكويت التي تحيا في بحبوحة خيرات أسعار النفط ودعوات الصالحين، ونطالع في تونس المحرومة من بركة الزيت الأسود خبراً عن قرار حزب النهضة الإسلامي يرفض فيه فرض الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، ويكتفي بمادة في دستور ٥٩ تقرر أن دين الدولة هو الإسلام وأن العربية لغتها الرسمية. من يفسر هذا بأن حزب النهضة الإسلامي يحكم بائتلاف سياسي مع أحزاب أخرى علمانية هو الذي فرض مثل هذا الطرح الذكي من النهضة يعد تفسيره ناقصاً، فحزب النهضة لم ينزل وعيه التقدمي من السماء، ففي تونس فرض نظام بورقيبة منذ استقلال الدولة في أربعينيات القرن الماضي نظاماً شبه علماني في التدريس وفي القوانين وفي الثقافة التونسية بوجه عام، ورغم استبداد النظام البورقيبي فإنه وضع أرضاً صلبة للدولة المدنية للمستقبل، ورغم معاناة قادة حزب النهضة مع النظام “البورقيبي” وخلفه زين العابدين، فإن الثقافة التونسية المنفتحة فرضت نفسها على رؤية حزب النهضة لواقع الدولة، وفي هذا لا يوجد اختلاف كبير بين تاريخ تونس أيام بورقيبة وكمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة. مثل هذا التاريخ شبه المشترك في تركيا الكمالية وتونس البورقيبية لم يحدث في أي من الدول العربية القومية بشكليها الناصري أو البعثي، فرغم عداء تلك الدول القومية العروبية للتيارات الدينية واضطهادها لها، فإنها تناست الواقع الاجتماعي، ولم تحاول أن تنهض بالتفكير العلمي في دولها، وآثرت تلك الدول القومية العروبية الوسطية الانتهازية أن تبقي الباب مفتوحاً لخلط الدين بالسياسة، وجاء السادات في مصر والنميري في السودان ليحركا وفق مصالحهما الاستبدادية الحركات الدينية السياسية، وضرب القوى القومية الناصرية، وبقية الحكاية نعرفها حين انقلب السحر على الساحر في مصر، وهو السحر ذاته الذي قلب بن لادن المناضل ضد “الكفار” السوفيات في أفغانستان ليرفع السيف في ما بعد على حليف الأمس الساحر الأميركي. الأنظمة العربية الفاقدة للشرعية الديمقراطية اليوم التي تريد مسايرة “ربيعها” المغبر حتى تتجنب “شروره”، ضيعت بوصلتها، بسبب جهلها المركب في معنى التقدم والتغيير، فالعلة ليست علة حكم مستبد فقط، وإنما هي “علل” شعوب مغيبة الوعي التاريخي والعلمي لعقود ممتدة، والثورات الحقيقية التي تغير مستقبل شعوبها ليست “تغييراً” في شكل النظام الحاكم، وإنما في وعي الناس أي الجمهور، وتخليصه من هيمنة الأسطورة والخرافة في ثقافته، وفصل الدين كمنظومة أخلاقية إنسانية تخص الإنسان وفرديته والسياسة كتطلع للحكم. وهذا لن يحدث في “الربيع” العربي في الغد القريب، ويبقى على القوى التقدمية أن تتطلع للتجربة التونسية الفريدة كمدرسة يمكن أن يتعلموا منها الكثير لتأسيس الدولة المدنية، أما حال جماعة البيجاما الدستورية في الكويت، فلا جدوى منهم، فقضيتنا معهم خاسرة، والرهان على حماية سلطة الشيوخ لما تبقى من حرياتنا الفردية، هو رهان خاسر مقدماً، وليس على التقدميين كقلة يتقلصون يوماً بعد يوم في أمواج الدينيين غير الاعتماد على الذات، وقبل كل شيء عليهم فتح نوافذ الحوار مع الجماعات الدينية المعتدلة والمنفتحة على الآخر من طراز مدرسة الغنوشي والسائرين على دربه، فبهم يوجد بعض الأمل للتغيير.
التصنيف: حسن العيسى
حرياتنا تحت ظلال سيوف شيوخنا ومشايخنا
رغم أنف الحكام بأمر الله الجدد في مجلس الأمة وشرطتهم في وزارة الداخلية عقدت جمعية الخريجين ندوة ملتقى النهضة، المحرم انعقاده حسب قوانين الاستبداد والمصلحة العليا للدولة، وبعد أن كان شباب النهضة الخليجيون يلتقون للتفكير في المجتمع المدني في غرف مغلقة بدعوات خاصة للمهتمين بهموم الاستبداد الفكري تحت ذريعة الدين أو أمن الدولة المقدس، تجمع الشباب أمس الأول في لقاء عام مفتوح بصالة الشهيد مبارك النوت، وخطب الشاعر سعد ثقل العجمي بكلمات موزونة نددت بأعداء حرية التعبير، وهم بكثر البعوض في دول “اخرس” العربية، حاضر بعده شفيق الغبرا عن مفهوم الحرية وانه لا معنى للحريات الإنسانية ما لم تقم على أسس مبدأ التسامح مع الآخرين المختلفين معنا. تعقيبات أكثر الحاضرين كانت صوراً من حالات “تنفيس” عن الذات من استمرار اختناق الفكر تحت ذريعة الأمن أو العادات والتقاليد أو الدين، كما يراه فقهاء البؤس في المنطقة. ولأن الحديث عن المجتمع المدني، وهو مجتمع حكم القانون والحريات الفردية وضماناتها الدستورية، عقب السيد التميمي كمتحدث عن أوضاع البدون عن مذاق هذه الحرية حين لاحقته أجهزة الأمن بعدة دعاوى جزائية لمجرد أنه طالب بأن تخضع أحكام منح الجنسية لرقابة القضاء، وكأنه كفر في دعوته، مع أن الكفر الحقيقي بحكم الدستور هو ذلك النص القبيح المحشور في قانون تنظيم القضاء حين حرم السلطة القضائية النظر في قضايا الإبعاد الإداري وبيوت العبادة ومسائل الجنسية، وبهذا تم وصم جبين القانون بوصمة الانتصار السياسي لمبدأ السيادة، وهي ليست سيادة الدولة وسيادة القانون بل سيادة القوي على الضعيف وسيادة الحاكم على المحكومين. كان الحاضرون يتحدثون عن الحرية، وشرد فكري قليلاً عن معنى هذه الحرية، في الوقت الذي أواجه فيه اليوم (وليست هذه المرة الأولى) دعوى جزائية تقدم بها أحد المحامين الكويتيين السائرين بهدي خطى يوسف البدري المحامي في مصر وأمير بلاغات خنق فكر وحريات التعبير بحجج المساس بالدين، فتحية لحماة العقيدة من شرور حرية الاعتقاد والضمير حين يتصدى لها مشايخ التعاسة في محاكم التفتيش الحديثة.
مرة ثانية وثالثة… وين رايحين؟!
أين سيصب غضب الناس المستهلكين غداً، بعد ثورة الإضرابات التي عمت تقريباً معظم جيوش موظفي الدولة، وأخطرها إضراب نقابة الجمارك والموانئ! هل سيلوم الناس الحكومة التي لم تتفهم مطالب المضربين حين ظلمتهم في توفير زيادات الكوادر، ولم تراع “العدالة والإنصاف” في توزيعها، كما يقول مضربو الجمارك اليوم، أم أن السخط الشعبي القادم سيكون ضد النقابات المضربة، ومعهم النواب المتهمون بالتحريض على الإضرابات! أم أن الإدانة ستكون ضد الفريقين الحكومي والنقابي- النيابي مجتمعين بعد أن تهنا في دوامات الفشل في إدارة أمور الدولة، وأصبحت الأطراف جميعها حكومية أم نيابية تتكسب من الفشل المزمن وتلقي باللوم على الآخر، لتحقيق طموحات سياسية يدفع ثمنها الناس البسطاء.
الدولة الآن تختنق يوماً بعد يوم، فلا تصدير لسلعة النفط اليتيمة، وهو مصدر رزق الدولة الوحيد، ولا استيراد للسلع الغذائية وغير الغذائية التي ستؤلم بشدة التجارة في الدولة، إضافة، وقبل ذلك، الناس المغلوبون على أمرهم في دولة السير على البركة. لكل طرف حججه وأسبابه في أخطر أزمة “حياتية” تواجه الدولة اليوم منذ الاحتلال الصدامي، ولست أبالغ في هذا الوصف، فذكريات الوقوف في طوابير ممتدة أمام الجمعيات التعاونية وتخصيص “ريشن” محدد لكل عائلة من المواد الغذائية مرت علينا بسوادها وقلقها أيام الاحتلال. الحكومة تقول إن مثل تلك الزيادات التي “افتلتت” حبات سبحتها من يوم إقرار زيادة عمال النفط، وقال وزير النفط يومها البصيري في الحكومة السابقة إن مثل تلك الزيادة لن تكلف الدولة ديناراً واحداً! ثم زيادة المعلمين… ثم العاملين في الفتوى “ربما قبل المدرسين”، وبعدها انفتح سيل الكوادر من غير حساب، والتي سترهق ميزانية الدولة في المستقبل، ولم يبالغ الاقتصاديون حين قالوا إن الدولة ستكون عاجزة عن توفير الرواتب بعد نحو ثماني سنوات مالم تبلغ أسعار النفط 300 دولار للبرميل! بينما يؤكد المطالبون بزيادات الكوادر، إنه إضافة إلى غياب العدالة في توزيع الكوادر، فإن تكاليف المعيشة ارتفعت أكثر بكثير من حدود الرواتب، ولم يعد بالإمكان السكوت عن هذا الظلم مع مماطلة الحكومة في توفير أبسط إمكانات العيش الكريم.
ما العمل الآن، فكل فريق “راكب راسه”، والمضربون يقولون إن الحكومة لا تفهم غير لغة الإضراب، والمهم “أنا” وجماعتي مادام الوقر قد أصاب الآذان الحكومية، فلم تعد تسمع شيئاً، ولا تنصت لغير الفعل بالتحرك وشل الدولة بالإضراب. أما الكلام “القوي” من الحكومة بأنها ستستعين بجهازها العسكري للقيام بعمل المضربين، فهذا مجرد كلام “مأخوذة زبدته”، فيبدو جلياً أن جهازها العسكري ليس له الدراية والإمكانيات للقيام بدور موظفي الجمارك وغيرهم. فهذا الجهاز تدرب فقط لقمع المظاهرات، وملاحقة البدون، وإرهاب المغردين، وقمع حرية التعبير في وسائل الإعلام حين تخرج عن طوع قانوني النشر والجزاء بكل موادهما “الدراكونية”، أو حين تصل وشايات المحتسبة الانتهازيين من المزايدين على طرح الجماعات الأصولية إلى النيابة العامة ضد أصحاب الفكر والقلم…!
من جديد أكرر عنوان “وين رايحين”، وماذا سنصنع مع حكوماتنا ونقاباتنا فقد ضاعت الحسبة؟، ولن نقول “الشيوخ أبخص”، ولا نوابنا أبخص، ولا أحد أبخص، فأيام مغبرة أمامكم، وغبارها قد أعمى العقول عن رؤية نور الحقيقة والعدالة.
وين رايحين؟
كانت أمس الأول جلسة خيبة للبرلمان، وبالتأكيد ستلحقها من دون حساب جلسات خيبات أكثر وأكثر، مادام تمترس هذا المجلس بالنهج الطائفي والتخندق في بؤر تصفية حسابات قديمة ورد ديون مستحقة من المجلس الماضي، أي المجلس التابع لحكومة الشيخ ناصر المحمد. يفترض أن هناك فكراً قانونياً كحد أدنى يقدم المشورة لأعضاء المجلس، هذا بالإضافة إلى الأعضاء الحاليين من رجال القانون، وكان أولى أن يعلم مكتب المجلس أن تغيير صيغة البلاغ المقدم إلى النيابة عن اقتحام أو إتلاف مرفق عام إلى “دخول” ذلك المرفق بمعية وقبول أعضاء في المجلس لن يغير شيئاً من “تكييف الواقعة” التي قدم فيها البلاغ أساساً، فلن يقرأ القاضي الفروقات اللفظية التي أملتها اعتبارات السياسة بين البلاغ الأول لمكتب المجلس القديم المتهم بالتبعية لحكومة الأمس، وبلاغ “الصفح” الثاني، وعفا الله عما سلف، لمجلس الأغلبية الدينية، فهناك الوقائع من شهود وصور فوتوغرافية وهي التي ستملي على القاضي قناعاته في النهاية، أو يفترض ذلك، وعلى ذلك فلا جدوى من تعديل مفردات البلاغ من قبل مكتب المجلس قانوناً، إلا أن للسياسة اعتبارات تبناها المكتب مسايرة لحكم الأغلبية البرلمانية، ولها عذرها في الاعتبار السياسي، فالذين دخلوا أو اقتحموا المجلس ومن شايعهم هم أغلبية أعضاء مجلس اليوم.
وقد يفهم من ذلك أن فيها بعض التجاوز للسلطات، وتدخلاً في أعمال القضاء، فبمجرد تقديم البلاغ، وليس الشكوى، لم تعد الواقعة ملكاً للمبلغ، وإنما تبقى تحت هيمنة السلطة القضائية، لكن للسياسة اعتبارات لا يفهمها حكم القانون. من جهة أخرى، لم يكن هناك داع لمعركة الديكة في الجلسة بين الأغلبية الحاكمة للمجلس والأقلية (التي كانت أغلبية بالأمس) حين وضعت الأخيرة الأعلام السوداء أمامها احتجاجاً على بلاغ الصفح الثاني، فهذا حقهم في التعبير عن رأيهم، في الوقت الذي تضيق فيه يوماً بعد يوم حرية التعبير في الدولة ببركة الفكر الأصولي المهيمن في مجلس النواب ومسايرة الحكومة له، ولا علاقة بين العلم الأسود والموالاة للمذهب الجعفري هنا، فوضع العلم الأسود مجرد عملية رمزية للاحتجاج، ولا أكثر من ذلك، ولن يختلف الأمر لو وضع المعترضون وشاحاً أسود، إلا أن الفهم المذهبي القاصر عند بعض النواب شطح بهم إلى ما لا يمكن أن يقبله العقل أو المنطق، فكان الهمز والغمز في الآخر الذي لم يكن له أي مبرر.
الدولة تنتظر الكثير من نواب اليوم، فالتحديات في المنطقة بين احتمالات حرب إيرانية- أميركية أو ضربة إسرائيلية للمفاعلات الإيرانية، وقبلها الحرب الأهلية المأساوية في سورية وانعكاساتها على الساحة الكويتية كل ذلك أهم وأكبر من أن تضيع سلطة التشريع أولوياتها في تصفية حسابات قديمة، وجر البلد إلى تحزب مذهبي وديني منغلق على ذاته يرفض الآخر. وفي الداخل هناك معارك الكوادر والميزات المادية لمعظم النقابات والتي تقود من إضراب إلى آخر يضرب اقتصاد الدولة في الصميم، ويتعين أن يقرأ المجلس والحكومة معاً هذا الأمر ليتم التوازن بين اعتبارات العدالة والإنصاف، من ناحية، في تقرير المزيد من الكوادر، واعتبارات إرهاق ميزانية الدولة بتلك الكوادر من ناحية اخرى. ليس هذا وقت الجدل والعراك في جنس الملائكة، ولا أحد يريد أن تضيع الدولة وحلم الأجيال في الرخاء والتنمية الحقة حين نغرق في مستنقعات القلق لما يجري اليوم، فارتقوا بخطابكم السياسي، واسألوا أنفسكم: “وين رايحين”؟!
يا الله تزيد النعمة على ديمقراطيتكم
على مهلكم يا جماعة الكتلة، فالديمقراطية ليست كما تفهمون بعقولكم المتطرفة، فهي ليست مجرد صندوق انتخابات، والغلبة فيه تكون لمن حاز الأغلبية، وبالتالي يصبح من حق هذه الأغلبية المزعومة أن تشرع كما تشاء باعتبارها ممثلة للأمة، فليست الأمة هي أنتم وحدكم مع عاداتكم وتقاليدكم المحنطة، كما أن فهم الدين ومرامي الشرع ليست مسائل خاصة بكم وبشيوخكم حين يرمون إلى انتقاء أكثر الأفكار تشدداً وتعصباً من الفقه ويختارونها كنموذج يسيرون على هديه، متماهين مع صورة الفنان عبد الحسين عبد الرضا في محكمة الفريج حين زجر الحاضرين بمقولة “هذا الشرع واللي مو عاجبه ياكل تبن”، فالفقه في النهاية هو الفهم البشري لأحكام الشرع، وليس أمراً منزلاً من السماء، والناس لا يجوز أن تحكم علاقاتهم الاجتماعية قواعد مطلقة لا تتبدل ولا تتغير مع تبدل الزمان وتغير المكان.
لو كانت الديمقراطية التي يجب أن ينظر إليها على أنها وسيلة للرقي والمحافظة على حريات البشر وحقوقهم في المساواة والكرامة دون النظر إلى دينهم ومذاهبهم وأصولهم، وعليه فهي ليست غاية تريدون عبرها أن تعتلوا رقاب الناس وتسوسوهم كبهائم، لكان الفوهرر هتلر وحزبه النازي وكذلك موسليني وحزبه الفاشي ملوك الديمقراطية، حين قام الاثنان في استبدادهما على نظرية الحق المطلق للأكثرية بالحكم، وإطاحة القوى المعارضة وفق رؤية عنصرية تقوم على مبدأ تفوق العرق القومي، وبهذا لم تختلف أسس هذين النظامين عن فكرة الحق الإلهي المطلق للملوك في أوروبا العصر الوسيط وقبيل عصر التنوير والنهضة، وكان حكم هذين الحزبين أخطر انحرافاً للنهج الديمقراطي منذ الثورتين الأميركية والفرنسية.
الديمقراطية هي نحن، ولو كنا أقلية، وهي أولاً حكم القانون القائم على صون حريات وحقوق البشر كما استقرت أعرافها في الدول المتقدمة قبل أن تكون صندوقاً للاقتراع، وليس لكم ولا لأحد كائناً من كان أن يصادر الحريات الأساسية التي جاءت بالدستور في الباب الثالث، وقد استوحاها المشرع الدستوري من مبادئ الثورة الفرنسية “فالناس سواسية في الكرامة الإنسانية” (المادة ٢٩)، ومثل مشروع قانون الحشمة و”بربس” منع التعري وفرض الحجاب هي من وحي خيالكم، وتضرب بعرض الحائط “الكرامة الإنسانية”، وتتعارض مع ذلك النص الدستوري حين تفرضون على الخلق زيكم الموحد وكأننا في معسكر حربي أو كأننا أطفال في روضة الكويت المغمة بفضلكم وبفضل من فرضكم علينا كآباء أوصياء!
يعرف المحامي النائب أسامة مناور أن نصوصاً في قانون الجزاء تجرم “التعري” الذي يتشدق به في مشروعه مع كتلته البائسة تحت بند جريمة الفعل الفاضح المخل بالحياء العام، فما حاجتنا لمشروعكم الخائب ومن قال إن ممارسة الناس في طريقة لبسهم وشكلهم هي حرية تتعارض مع حريات الآخرين، كما وعظنا النائب الشيخ أسامة؟! وهل يتم التعدي عليكم أنتم “الآخرون” حين يرتدي البشر ما يخالف قناعاتكم؟! وماذا بقي في هذه الديرة غير أكوام السأم والملل والبشاعة حين سدتم على هذا المجالس التعسة؟
ثم ألا تعتقد جماعة حزب الكتلة أنهم أوقعوا زملاءهم مثل التكتل الشعبي في “حيص بيص” حين زجوا بمثل تلك المشاريع الطفولية على أجندة العمل البرلماني، وبالتالي ستتوه أولويات الأمة من أمور التنمية وإنقاذ الاقتصاد من سرطان الريع والتبديد، ومكافحة الفساد، وغيرها في عواصف الحجاب والنقاب وتعديل مواد الدستور نحو مزيد من “انتقاص” الحريات؟ هل فكرتم في ذلك أم أن أجسادكم هنا وقلوبكم مع ربيع قندهار طالبان، ويا الله تزيد النعمة على هذه الديمقراطية!
شروق في محاكم التفتيش
ليس بالضرورة أن أحد التابعين من وشاة إمبراطورية “الكتلة” الحاكمة بأمر العقل المنغلق قد وشى لوزارة الداخلية عن معرض شروق أمين الفني، من المتصور أن أحد التابعين لوزارة الداخلية أو الحكومة برمتها “خشت”، وتوقعت ما قد تجره عليها لوحات شروق من صداع واستجوابات من نواب اللحى المتسيدين على المجلس، فبادرت الوزارة من تلقاء ذاتها إلى إغلاق المعرض، وماذا يعني إغلاق معرض لوحات فنية بالنهاية؟! هي مجرد لوحات لا معنى لها بثقافة الصحاري الجرداء، وماذا عن الفن؟ وأي فن هذا الذي تظهر فيه رسوم سيقان نساء من دون أجساد جلست مصطفة تنتظر أمراً ما أو لا تنظر في شيء؟ ومن يكون هذا الفتى المتكئ على الأريكة في لوحة من لوحات شروق، وهو يدخن الشيشة وزجاجة الخمر عند قدمه، وهو ساهم في لحظة انشراح ووهم، وقد جنحت به أحلام اليقظة، وأحلام اليقظة غير الخيال، ليحلم بعالم من النساء يحطن به من كل مكان؟ ماذا تعني تلك اللوحة أو غيرها من لوحات قبرت في معرض شروق ودفنت من غير كلمة عزاء واحدة؟ لا يهم كل هذا… فمن يحتاج الفن في بلد الجفاف؟! وماذا يعني الرسم أو النحت أو الموسيقى وكل الفنون الإنسانية بما تشمله من إبداع حين “يتصنم” المجتمع، ويحيا بعقلية القطيع يسيسه رعاة المجلس، ومن حسن الحظ أنهم رعاة بالانتخابات، وهم من اختارتهم الأمة ليكونوا رقباء ومحتسبة على “حرية الفرد” أولاً ثم بصورة عرضية “ولزوم الشغل” يمارسون الرقابة على الحكومة؟ أما كون الديمقراطية الحقيقية في النهاية كممارسة تهدف إلى صون الحريات الفردية والإبداع الإنساني فهذا ما لا تعرفه ولن تدركه مجتمعات الفضيلة حين تهرول لتخبئ كل الأقذار تحت السجاد. في مثل هذه الدولة وما على شاكلتها ليس من حق شروق ولا غير شروق أن يفكروا بريشة الفنان أو يكتبوا بقلم الرفض، فالإبداع هنا جريمة في مدونة الحرام والعادات والتقاليد، وللذكور الرجال القوامين على الإنسان المقهور، وهم سلطة فاشية لا تحدها أي سلطة، أن يملوا ما يشاؤون على القطيع. فالتماثيل الفنية أصنام قد يعبدها البشر، والرسوم غواية قد تثير غرائز البشر، والفن بدعة تخرج عن المألوف، أوليست الفنون الجميلة وكل إبداع هي في آخر الأمر تعد خروجاً عن المألوف، وإلا ما استحقت نعت الفن؟ ضعوا أبيات الشعراء وروايات القصاصين وكلمة الرفض الحرة في زنزانات العيب والحرام والموت، ومرحى لمحاكم التفتيش.
جيفة الدستور
مشروع قانون الحشمة الذي ستقدمه “الكتلة” وهي بالفعل كتلة الهم والغم وغياب الأولويات التشريعية أشبهه “بالدبا” أو “الدبى” وهذه تعني، كما وصفها حمد السعيدان في الموسوعة الكويتية “صغار الجراد، الذي كثيراً ما كان يغزو الكويت في الماضي، إما عبر الصحراء أو بصحبة الأعشاب والعرفج التي يجلبها الحطابون، وأشهر غزو للدبا حدث في الكويت كان خلال الفترة ما بين 1 حتى 24 مايو 1890 حيث أصاب المزارع وملأ الآبار وأنتنها، وكانت تعرف بسنة الدبا…”، مشروع قانون الحشمة وما صاحبه من مشاريع حظر عمليات التجميل وقبله قلع الكنائس من الكويت وحظر بنائها الذي تنطع ملاكه بأنه يهدف إلى تحصين العادات والتقاليد الحميدة هو “دبا” سيغزو حريات البشر ويلتهم أبسط حقوقهم الشخصية في طريقة لبسهم وعيشهم وذوقهم وشكل أجسادهم، وهو يفترض أن الكويت صورة خليجية لشاطئ سان تروبيز في فرنسا، مع أننا نتذكر الحكمة الشهيرة لوزير الداخلية السابق، الله يذكره بالخير، الشيخ جابر الخالد حين رد على ممثلي “تورا بورا” في المجلس السابق بعد أن أثاروا الكلام الفارغ عما يحدث في الجزر الكويتية فقال: “لو بحثنا في الكويت من شمالها إلى جنوبها لن نجد حتى امرأة واحدة تلبس “أوزار”، فأي حشمة وأي تعر مزعومين يتحدث بهما هؤلاء الغلاة في مجلس الأمة؟!”. الخطورة اليوم لتلك المشاريع الفاقدة للفكر الإنساني الحضاري ليست في هذا المشروع أو ذاك المصادر لحقوق البشر وحرياتهم، أو بالأصح ما تبقى لنا من حريات، بل في ما تؤشر وتنذر به مثل تلك المشاريع في ظل الغياب التام للوعي الجماهيري بخطورتها، خصوصاً بالنسبة للمرأة، فالقادم، وأنا أجزم بذلك، أعظم، فلن يقتصر إسهال مشروع “الدبا” على “الحشمة”، بل سيمتد شيئاً فشيئاً إلى كل صغيرة وكبيرة في حياتنا اليومية، وستقلب قوانين الدولة رأساً على عقب بحجة أسلمة القوانين والحفاظ على العادات والتقاليد، وكأنه توجد حقيقة قوانين كافرة ومرتدة، فإما تستتاب أو يقام عليها الحد! اليوم قانون الحشمة الذي هناك احتمال كبير أن يبصم عليه نواب الأغلبية مراعاة لمشاعر الجماهير المؤمنة، وغداً سيحرق قانون الجزاء والإجراءات الجزائية وما تضمنه كل منهما من الحدود الدنيا في الحفاظ على الحريات، وبكلام أصح ستعني مثل تلك القوانين رمي دستور الدولة المنتهك في سلة القمامة، وغداً سيكون هناك قانون لفرض الحجاب، وبعده فرض النقاب، وبعده منع المرأة من العمل أو الخروج من المنزل بغير محرم، ومن بعده إقامة الحد علي أي مشتبه فيه أو فيها في جريمة الزنا أو غيرها من جرائم الحدود أو التعازير، ومازال ماثلاً أمامنا مشهد تلك المرأة المسكينة بشريط “يوتيوب” بقندهار الأمس، التي جلست في ملعب كرة القدم ليقف جزار من طالبان خلفها ويرديها مقتولة بطلقة رصاص واحدة في مؤخرة رأسها، من دون أن نعرف أي محاكمة أو أي أصول إجرائية اتبعت في محاكمتها! القادم أعظم وأكبر، (أذكر أن العبارة منسوبة لابن العم خالد السلطان)، فماذا سيبقى لدرة الخليج بعد ذلك؟!، وكيف سيحرق حزب الدبا المنظومة التشريعية التي بناها الآباء المؤسسون في نهاية الخمسينيات بعون من الراحل الكبير عبدالرزاق السنهوري…! ماذا سيبقى لنا من هذه الديمقراطية الكسيحة حين جثم فوق صدرها أعدى أعداء الحقوق والحريات الإنسانية وخصوم الجمال والفن والبهجة، ونسينا أن حكم القانون وصيانة الحد الأدنى من حقوق البشر يتقدمان أي كلام عن الديمقراطية. لنقف عند هذا الحد ونتذكر هذه الأبيات من شعر للمرحوم خالد العدساني في وصف سنة “الدبا” قد جاء كالسيل يعدو ليس يمنعه شيء فما مل من شيء ولا قفا فلم نر طرقا الا وقد ملئت ولا جدارا ولا سقفا ولا غرفا وأصبحت جملة الآبار منتنة كأن في جوفها من ريحها جيفا… والآن، وبعد مرور أكثر من قرن على سنة “الدبا” ما رأيكم لو وضعنا كلمة “أفكار” بدلاً من “آبار”، فلن يتغير معنى رائحة الجيف، وهي بالتحديد جيفة الدستور.
استجواب بلا معنى
أولى بالنائب صالح عاشور أن يقدم استجوابه كمذكرة دفاع للمحكمة الجزائية التي ستنظر في اتهامات الإيداعات والتهم الموجهة إليه بالتحديد، والذي أتمنى شخصياً أن يخرج منها بريئاً، أما أن يقدم مثل هذا الاستجواب لرئيس الحكومة الجديد الذي ليس له أي علاقة بما قد ينسب إلى رئيس الحكومة السابق الشيخ ناصر المحمد، فهذا لا معنى له الآن، وليس استجوابه، وهو حق له لا ينازعه فيه أحد، إلا من قبيل ذر الرماد في العين، وكأنه يقول: أنا بريء من التهم الموجهة، وأزيد بأنني سأتقدم باستجواب “لغير المسؤول” لإظهار حقيقة براءتي! فاستجواب النائب صالح عاشور في حقيقته وسيلة دفاع ارتدت ثوب الهجوم، وليس هذا ما ينتظره الناخبون الذين وثقوا به وصوتوا له، كي يكون الوحيد الذي وصل إلى كرسي النيابة من بين النواب السابقين الذين يقدمون الآن للمحاكم المختصة بتهم غسل الأموال “ظاهرياً” أو قبول الرشا السياسية واقعاً. كان يفترض بالنائب عاشور أن ينتظر بداية نتائج التحقيق الذي تجريه النيابة العامة، أو يتمهل حتى يصدر الحكم النهائي من المحكمة المختصة ويكون عنواناً للحقيقة، لكن أن يسارع في لعبة سياسية خاوية من أي معنى بتقديم مثل هذا الاستجواب فهو عمل لا جدوى منه، وإضاعة لوقت المجلس والحكومة، بينما الناس ينتظرون من هذا المجلس، وتلك الحكومة بالتحديد الكثير من الإنجازات الحقيقية على صعيد دولة القانون والتنمية في وقت حرج يتهدد الدولة أخطار تبديد مالي وترضيات سياسية للصغار والكبار على حساب مستقبل مجهول النهاية. مصير مثل هذا الاستجواب، الذي يتصور البعض أنه أوقع الأغلبية البرلمانية في حرج معروف، ومحكوم عليه بالفشل مقدماً، وقد يفهم منه أنه عرقلة لمشروع تشكيل لجنة تحقيق برلمانية خاصة تحقق في قضية الإيداعات التي يفترض أن تحسم الأمر في جانب المسؤولية السياسية للحكومة السابقة في ما لو كان هناك مكان لقيام هذه المسؤولية لحكومة غير موجودة دستورياً، ويبقى آخر الأمر الشق الجزائي في تهم الرشوة- إن صحت مثل تلك التهم- والتي هي من اختصاص سلطة القضاء من غير جدال. ما يثير الشك في مرامي النائب صالح عاشور من هذا الاستجواب هو موقفه السابق في رفضه استجواب الشيخ ناصر المحمد في الموضوع ذاته، وها هو اليوم يقدم ما رفضه بالأمس بقوة، فما الجديد الذي طرأ الآن غير إصرار النائب عاشور على تأكيد براءته مسبقاً بعمل سياسي هو استجواب رئيس مجلس الوزراء، وقد يكون له أغراض أخرى لا ندري بها، ربما ستؤثر في سير التحقيق القضائي الذي يجرى الآن. فهل يريد النائب أن يصطاد عصفورين بحجر واحد! الله العالم، لكننا لا نملك غير افتراض حسن النية عند النائب في استجوابه، وإن كان مثل هذا الافتراض لا يقدم ولا يؤخر في مآل الأمور.
مذهبنا اسمه الكويت
نقل نواب الأمة حرب النظام السوري ضد شعبه إلى قاعة عبدالله السالم، ومثلما تتجه المعارك في سورية إلى الحرب الأهلية الطائفية، وفي الحروب الأهلية هناك دائماً وكلاء للخارج يصبون الزيت على نيران الكراهية في المجتمعات القبلية الطائفية، “شرفنا” ممثلو الشعب هنا في الكويت بإشعال حروبهم الطائفية في ما بينهم، حرب القبيلة السنية ضد القبيلة الشيعية، وإذا كان هؤلاء النواب قد أرادوا التعبير عن مشاعر العصبيات الدينية المذهبية لقواعدهم الانتخابية، فكان أولى بهم أن يرتقوا بخطابهم في البرلمان عن اللغة المعيبة التي سادت جلسة الخميس الماضي. بداية لم يكن هناك حاجة أساساً إلى أن يتصدى بعض النواب الشيعة بالدفاع عن النظام في سورية في ما بدا لهم أن هجوم الأغلبية الدينية السنية على نظام الأسد هو هجوم على الطائفة الشيعية بصورة مبطنة ولهم بعض الحق في ذلك، وليس كل الحق، فمثل تلك الدكتاتورية العائلية الحاكمة في سورية لا تستحق أي دفاع عنها، إلا أن النائب جمعان الحربش بدوره لم يكن موفقاً في ردوده “لكم مذهبكم ولنا مذهب”، فمثل تلك العبارة ليست مسيئة بحق الشيعة فقط وإنما بحق الكويت كوطن يجمع كل أبنائه في وعاء واحد بصرف النظر عن أصولهم أو مذاهبهم. هنا تبرز حقيقة الأصولية الدينية حين تطرح جانباً الانتماء الوطني وتقدم الانتماءات المذهبية عليه، وهي انتماءات قبلية في جوهرها ترفض كل فكرة لمفهوم الدولة الأمة، وهذا هو المرض السرطاني الذي يسري في معظم “دولنا” العربية في ربيعها المجهولة نهاياته. الحكومة تدرس الآن تقديم مشروع قانون “للوحدة الوطنية”، ومثل تلك المشاريع إن أقرت فلن تكون غير خنجر آخر في خاصرة حرية التعبير، فالوحدة الوطنية لا تخلقها القوانين، وإنما تتراكم في ضمائر أبناء المجتمع وفي ذاكرتهم الجماعية وتقوم على مبادئ المساواة والعدالة بين المواطنين، فلنكف عن اختلاق مشاريع قوانين هي ردود فعل تضر ولا تنفع، وليكن مذهبنا واحداً اسمه الولاء للوطن.
البصق في بئر العرب
لا أفهم العلاقة بين الفيتو الروسي ضد فرض العقوبات على سورية والبصق في الماء، فالسفير الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين بعد أن نفى انتقاد روسيا للحكومة القطرية في دعمها للشعب السوري، عاد وحذر العرب من البصق في بئر يشربون منها. ربما السفير غير ملم ببعض البدع الاجتماعية العربية المتخلفة، ففي الكويت وربما في كثير من دولنا العربية في أيام زمان ينصحون المريض بشرب ماء من كوب بصق فيه أو نفخ عليه شيخ دين بعد أن يقرأ بعض الأدعية وهو يمعن النظر في الكوب الشافي! فهل يقصد السفير الروسي أن غالبية الدول العربية الداعية إلى إزاحة بشار يبصقون في بئرهم التي يشربون منها، فبشار هو البئر ومن يبصق فيه الآن الحركات الدينية القبائلية (القبائلية تشمل الطائفية) التي تقود ثورات العرب أو تركب أمواجها. إذا تركنا الحديث عن المصالح الروسية في استمرار النظام الرهيب في سورية جانباً، وأن روسيا لدغت من جحر ليبيا مرة حين تركت قوات الأطلسي تزيح نظام القذافي وقبله صدام، ولا تريد تلك الدولة العظمى أن تلدغ من ذات الجحر مرتين، فقد يكون لروسيا وجهة نظر بعيدة عن مستقبل الربيع العربي (السلفي)، فهي ترى اليوم ان الغرب ومن يواليه في الأنظمة العربية قد وصل إلى قناعة تقول لنتحالف مع الجماعات الدينية طالما يصلنا البترول بانتظام ويد الإرهاب الجهادي بعيدة عنا، فالشعوب العربية زهدت أنظمة قمعية لا تبصق في آبار مياه شعوبها بل تغسل خلفيتها منها بعد قضاء حاجتها الطبيعية، أما عن احتمال الحروب الأهلية وفتيلها القبليات الطائفية وعودة ميمونة لسنوات داحس والغبراء الجاهلية، فليست ذات شأن عند الغرب، فإذا كان هذا ما يريده العرب فهم وشأنهم. أما روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي فلا ترى مثل هذا الرأي، فسورية على علل نظامها المرعب تبقى القلعة الأخيرة لصمود نظام شبه علماني موغل في الاستبداد، وقلع هذا النظام بالتدخل الخارجي يعني إقامة المذابح للأقليات السورية، ففي هذا البلد يوجد 46 أقلية عرقية ودينية من علويين ومسيحيين وأرمن وأكراد وغيرهم يشكلون ثلث الشعب السوري قد يصيرون ضحية انتصار الأغلبية السنية، وأن الإطاحة بنظام بشار بالقوة الأجنبية يعني فتح جرة “وليس صندوق” بندورا للشرور في كل المنطقة دون استثناء، فسورية وليست مصر هي الحالة النموذجية للموزاييك العربي البشع في تركيباته القبلية والطائفية، والأمور لن تصل لبلقنة (من البلقان)، وإنما لصوملتها (الصومال) أو عرقنتها (العراق) او يمننتها (اليمن) والحساب مفتوح لسيادة الحروب القبائلية والمذهبية لأجل غير معلوم. المؤكد الآن أنه لا يوجد حل عسكري للمأساة السورية، فكلاشنكوفات الجيش السوري الحر لن تخترق دبابات الجيش النظامي السوري، وبقاء النظام على استبداده أيضا سيقود سورية إلى حرب أهلية ممتدة، وهذا يعني المزيد من المعاناة للشعب السوري، فهل أغلقت كل سبل الحلول الوسط السياسية! يذكر الباحث سمير خلف في كتاب لبنان في مدار العنف ناقلاً عن جيرار “… المظالم ومشاعر الغضب المتراكمة إذا لم يعمل على تهدئتها أو إزالتها تصبح عرضة للاقتصاص من جهات لا علاقة لها بالمنابع الأصلية التي انطلقت منها…” فهل نفكر قليلاً في ما قاله هذا الباحث؟!