أشعر بقلق لأن أسعار البترول مهددة بالانخفاض بعد أن زادت دول النفط من إنتاجها، إضافة إلى احتمال ارتفاع إنتاج النفط الصخري (مقال كامل العوضي بالآن)، وبعدها ستقول لنا أميركا والصين وغيرهما من الدول المستهلكة: "اشربوا نفطكم تصحوا، وإلا استعملوه بدل الخل في (بساتيق) الطرشي".
أشعر بالقلق لأن حكوماتنا لا بالعير ولا بالنفير، تسير على البركة، وهي بركة ترتدي جلباباً منقوشاً عليه شعار "خل القرعة ترعى" يعني اليوم لي بالصرف والهدر و"البقششة" السياسية "وليغور الغد غداً بستين داهية"… يعني أننا الذين ليس لدينا الملايين في مصارف سويسرا كضمان لبرجوازية أنجالنا سنكون بستين داهية…!
أشعر بالقلق لأن الكثير من الطائفيين من المفكرين والمنظرين ليس لهم من حديث غير الصفوية ومؤامرات الصفويين على دولتنا ودولنا، وكأن ثلث أهل الكويت من المواطنين الشيعة تنتهي أسماء عائلاتهم بالصفوي، فهذا جعفر الصفوي، وذاك عبدالرضا الصفوي الرافضي، وفلان من الناس جاء إلى الكويت بالبحر عن طريق التهريب… والحساب عليكم!
أشعر بالقلق، لأن معظم أخبارنا اليومية صارت مكبّلة بالأصفاد ومحروسة بالزنازين، فبين يوم وآخر أقرأ حكماً بحبس مغرد، أو خبراً آخر عن زيادة العقوبة عليه، أو محاكمة جزائية لنائب سابق تحدث بقوة وفضح القليل من جبل الفساد العائم في خليجنا الملوث.
أشعر بالقلق، لأن الكثيرين من شعبنا ومن فريج "يارب لا تغير علينا… ومو ناقصنا شي… والكويت فيها كل شي" لا يقلقون، ولا يجزعون من الغد، ليس عندهم غم ولا هم غير المعارضة ووجودها وخلافاتها وحلمهم المريض بنهايتها، ينامون على وسائد ناعمة من اليقين والراحة النفسية… هو يقين وراحة، فـ "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله … وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم"، رحم الله المتنبي… فهم أهل الجهالة وأبناء الكسالى.
أشعر بالقلق لأن أم الدنيا، وأقدم دولة في العالم مصر تحيا على كف عفريت، فالمصريون المتسامحون بالعادة، لم يعد كثير منهم متسامحاً. نقلنا لهم عدوى التعصب الديني مع معونات النفط، فالأقباط صاروا عقدة الأمة المصرية الإسلامية، والاعتداء على الكنائس أصبح جهاداً دينياً مفروضاً.
أشعر بالقلق من الدماء التي تسيل كالأنهار بسورية، أشعر بالقلق بعد أن تحوّلت معركة الحرية ضد نظام طاغٍ إلى معركة الطوائف وذبح على الهوية، وأضحى الوطن السوري لبناناً كبيراً، وقد تُنقل حرب المذاهب لدولنا. فلدينا أطنان ثقيلة من العقول المغلقة، ليس بها حتى نقطة صغيرة من فضيلة التسامح. أشعر بالقلق من العراق، الذي لم يعد عراقاً واحداً بل عراقات، وأرضاً للتفجيرات الانتحارية، وحكومة بإدارة غارقة في الفساد والممارسة الطائفية.
أشعر بالقلق من حال الحريات بدول خليجنا وتطلعات شعوبها إلى المشاركة السياسية، فهي تمعن اليوم في مصادرة الرأي الآخر، وتحبس وتقمع الناشطين السياسيين، وتظلم أغلبيات مقهورة من الفقر والبؤس.
أشعر بالقلق والحيرة، لأني لا أستطيع الكتابة في أمور كثيرة، فهناك القوانين التافهة التي تحاسب على كل صغيرة وكبيرة تجول في الرأس، وهناك الأسوأ من تلك القوانين الرسمية، المتمثلة بالقوانين الاجتماعية "وطابو" المحرمات والمنكرات… كلها زرعت الرقيب الذاتي في رأسي.
أشعر بالقلق، من هذا الربيع المغبر، وأقلق أكثر منتظراً ربيع الأزهار… متى يأتي لصحارينا الجرداء…؟ في يوم في شهر في سنة… "أين حليمو وسأكمل" في عقد… في عقدين… في قرن… في قرنين… لا نهاية للزمن!
التصنيف: حسن العيسى
مسؤوليتهم غير المسؤولة!
حين قرأت التساؤل التهكمي في مقالٍ للأستاذ فخري شهاب بـ"القبس"، عن كارثة التعليم بالكويت والعالم العربي كما جاء بتلك الصيغة المتحدية… "ماذا ستصدر جيوش الكسالى من خريجي الجامعات العربية إلى بلد مثل الصين أو الولايات المتحدة لسداد أثمان مستورداتها؟" قفزت الإجابة مسرعة إلى رأسي "يمكن أن نصدر لهم السماد العضوي من مخلفاتنا البشرية طازجاً، أو معلباً بصهاريج من محطة مشرف للمجاري…! هذا بالنسبة للإنتاج المادي، أما الإنتاج الفكرى فيمكن أن نصدر لهم لوحات طبيعية رائعة عن سيدات وسادة كويتيين يسيرون بالمجمعات التجارية نحو مطاعم الفاست فود يصحبون أطفالهم بأجسادهم المستديرة التي يستوي فيها الطول بالعرض، وتنافس المؤخرات مقدمات الكروش في الامتدادات الأفقية، وخلفهم تهرول خادمة آسيوية رشيقة من الكد والعمل في خدمة أهل المنزل ورعاية الأطفال المستديرين".
يمكن أن نصدر لهم… مشاهد أخرى عن ملوك قيادة السيارات من الشباب الذين ملّكتهم الدولة الشارع العام، ومنحتهم امتيازات الغطرسة الكويتية، فسكنت عقولهم ثقافة الـ"جي تي" بدلاً من ثقافة الجدل والرفض والنقد… أمور كثيرة يمكن أن نصدرها كضباط وجنود جيوش الكسالى لأميركا والصين وألمانيا، غير النفط ومشتقاته، لكن حين نفكر قليلاً، ندرك أن حتى تلك القمامة المادية والفكرية التي يمكن أن نصدرها هي الأخرى من نتاج العصر النفطي وإبداعاته الريعية…
مقال أستاذنا الكبير فخري شهاب، الذي "على ما أذكر" كان الصندوق الكويتي أو الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي نتيجة فكره وعمله المخلص اقتنع بهما المغفور له جابر الأحمد، وحققهما، كان المقال الثاني، عن أزمة التعليم، وعن أزمات كثيرة مثل التجنيس، قدم فيها الأستاذ فخري النصيحة الصادقة، لكن لم يجد غير آذان مشمعة من السلطة السياسية الحاكمة بأمر الله في ذلك الزمن وحتى اليوم، فخري لا يقدم اقتراحات للإصلاح التعليمي، وإنما يسأل ماذا فعلتم بذلك الكم من الدراسات والاقتراحات لتطوير التعليم، الذي هو حجر الأساس للتنمية الحقيقية وليس تنمية الدخل الفردي الناتج من مصادفة الطبيعة، لا بجهد إنساني مثلما تروج لهذا الريع دعائياً الوزيرة "الاقتصادية" رولا دشتي بعملها الدؤوب لتبييض وجه السلطة، ماذا فعلتم نحو الاستثمار في الإنسان وعقله؟ الإجابة لا شيء، وحين تدق ساعة الصفر بعد انتهاء النفط، فلن تجد أجيالنا ما يحيون به فليس هناك غير بقايا صهاريج مجاري محطة مشرف، وملفات دراسات عديدة بنت عليها العناكب بيوتها في أدراج كبار المسؤولين غير المسؤولين… لكم الله يا أبناء المجهول.
لا يمكن اختتام آراء الأستاذ فخري شهاب دون الإشارة إلى ما كتبته الزميلة عواطف العلوي في جريدة الكويتية عدد الخميس، حين نقلت بجدارة انطباعات معلم أميركي عن واقع الحال الكويتي فهو يقرر "… أن الكويتيين يعتقدون أنهم مثل الأسود، بينما هم أي شيء عدا الأسود، فالنوم والأكل وممارسة الجنس… هو كل ما يفعلونه" مهما كانت هذه السخرية المرة من هذا الأميركي عن حالنا المائل في مجتمع "الطبقات النفطي" مؤذية لمشاعرنا ولكبريائنا الجوفاء، لكن التفكير فيها قليلاً ربما يشعرنا أن هناك خطأً كبيراً في حياتنا الاجتماعية، لعلها تحذرنا حين يدق جرس الأخطار عن التحديات التي تهز اقتصاديات العالم اليوم، والتي لا يمكن أن نواجهها بمثل تلك العقول والهمم الكسولة المتراخية… من المسؤول عن كل ذلك غير مصادفة النفط… لا يوجد هنا مسؤول، فمسؤولونا غير مسؤولين، كويتي اليوم غير مسؤول لأن السلطة غير مسؤولة، فمسؤوليتها هي مسؤولية إنفاق واستهلاك وسرقات ورشا… هي مسؤولية توزيع إبر الأفيون… أما المسؤولية نحو الغد .. فلا شيء عندها… كانت مفلسة فكراً وستظل مفلسة وعياً.
محنة المعارضة
ضمرت الأغلبية المعارضة، وضاعت في تشتت مواقف رموزها، فما بين مطلب الحكومة البرلمانية وتعديل المادة الثانية من الدستور أو أسلمة القوانين كشرط مسبق قبل الحكومة البرلمانية ضاعت الطاسة، وبين تكتيك "حدس" بمضمون أن الحكومة البرلمانية هي التي ستقر القوانين الإسلامية وتشدد حنبلية محمد هايف في أسلمة التشريعات بداية ونهاية، غرقت أحلام التقدميين في صفوف المعارضة وانكمشوا على أنفسهم، ونأى الكثير منهم عنها منذ بداية تشكيلها، حين تصوروا أنها معارضة بلحية كثة وعصا طويلة ستلهب ظهورهم غداً، ولهم في ذلك بعض الحق وليس كله.
انتهت الأغلبية المعارضة، لأن عدداً من رجالها وضعوا أعينهم على صناديق الانتخابات ولم يَدُر في وجدانهم وضع برنامج سياسي وتصور كامل للحراك المعارض، كما شخص الزميل محمد الجاسم، فصناديق الأصوات أولى من وضع خطة إصلاح سياسي واقتصادي متكاملة تنهي وتضع حداً لدوران عجلة الفساد المالي والإداري التي تسحق مستقبل الدولة، وتبدد مقدراتها من أجل إشباع نهم الاستهلاك وشراء الولاءات السياسية.
بنظرة- ربما- أشمل يمكن أن نفهم ضمور المعارضة اليوم للأسباب السابقة، ولأسباب أشمل تكمن في واقع الدولة الريعي، حين تهيمن السلطة السياسية الواحدة على المقدرات الاقتصادية للدولة كلها، تهب وتسلب، تعطي وتأخذ، كما تريد وكيفما تشاء… تنفخ جيوب البعض وتسلب حريات الكثيرين، تفتح صنابير المال على الناس، وتحقن أوردتهم بأفيون عطايا دون مناسبة وتغيّب وعيهم عن مستقبل محفوف بمخاطر تمس وجود الدولة، حتى أضحت الكويت مجرد مشاريع من شاكلة أطول عمارة، وأكبر مستشفى، وأضخم مدرج رياضي، وبها كلها تنبض بالحياة كتل ضخمة من الفساد والتسيب، بينما هناك واقع مزرٍ للخدمات الصحية والتعليمية وأزمة مرور خانقة، وإدارات حكومية مكتظة بالموظفين الجالسين بلا عمل ولا إنتاج، وشباب يجوبون الشوارع بسيارات فخمة بلا هدف غير قتل حالة الملل والفراغ الروحي.
في تلك الدولة الريعية المتسلطة، هراوات الأمن تصبح قاسية على المعارضين، وقفازات القانون تتحرك بسرعة للكم مَن يتجرأ على النقد ويمارس حق التعبير، هي قفازات أدمت الكثير من الشباب القابعين اليوم في السجون… لأنهم تكلموا وعبروا عن حلمهم، ربما أساؤوا وسيلة التعبير، لكنهم لم يهددوا الدولة، ولم ينقلبوا على النظام، لكن الرد يأتي سريعاً، بأن هذا هو القانون، الذي لم يحترم، ولا يهم إن كانت القوانين قاسية أو متعجرفة، فالمهم أن تحترم هذا القانون فقط وما على شاكلته، أما بقية القوانين التي تحاسب على النهب المبرمج وجرائم الرشوة الكبرى والمحسوبيات فقد رُكنت جانباً في خزائن النسيان.
المعارضة، ضعفت وتشتتت، ويا فرحة جماعات المطبلين والمهرجين المداحين المتنعمين بخير المكرمات والعطايا، ويبقى السؤال قائماً، هل ستنهض المعارضة من جديد وتأخذ في حسابها أن منهج الإقصاء والتخوين لشرائح من المجتمع لم يعد مجدياً، وأن تدرك يقيناً أنه مادامت أسعار النفط عالية فستكون مهمتها أصعب وأقسى؟
حكاية صفية وسيادة الدولة
قبل خمس عشرة سنة تقريباً، كتبت عن محنة صفية، وقصتها باختصار أنها مواطنة كويتية بالتجنيس، وخدمت في وزارة الصحة كرئيسة ممرضات لأكثر من ربع قرن، وبعد التحرير ذهبت لتسلم حقوقها المالية من التأمينات الاجتماعية، فلم يجد الموظفون ملفها، وكانت مهددة قبل ذلك بالطرد من منزلها الحكومي، فمطلقها الكويتي اغتصب البيت عنوة وسجله بالكامل باسمه، وطرقت صفية عدة أبواب جهات إدارية دون جدوى، لتكتشف فجأة أنها غير مواطنة…! كيف حدث ذلك…؟ الجواب أن مطلقها "لا بارك الله فيه"، وعبر واسطاته ونفوذه الإجرامي في دهاليز الدولة، استطاع سحب ملف المسكينة صفية من إدارة الجنسية، وبالتالي تم اعتبارها غير موجودة، كي يستولي بالكامل على بيتها، ليسرح ويمرح فيه مع زوجته الجديدة…! كانت حكاية صفية تنز قرفاً من وضع المحسوبيات والفساد والظلم في الدولة، كتبت عنها، ولم تمض أيام قليلة، وسمعت رنة تلفون المكتب لأجد على الخط صوت الشيخ محمد اليوسف الصباح، مدير إدارة الجنسية ذلك الوقت، يخبرني أنه حقق في موضوع صفية، وتمت إعادة جنسيتها لها…! لولا "مصادفة" وجود محمد اليوسف كمدير للجوازات، وتحقيقه في القضية وهمته الإنسانية، لضاعت صفية من وجودها كمواطنة بفعل فاعل…
لا توجد مؤسسة في الدولة تنصف الناس في قضايا الجنسية، فالقضاء ممنوع من النظر في مسائل الجنسية بحكم قانون يثير الغثيان، ولولا "المصادفة"، في ذلك اليوم، حين كتبت عن محنة صفية بالصحافة، ثم تحرك موظف دولة له ضمير حي لضاعت صفية، وكل ما تمثله قضيتها… ماتت صفية والله يرحمها… ولا علم لي إن تحركت أي إدارة في الدولة لمعاقبة الفاعل عن مأساة صفية، وهو طليقها حسب رواية المرحومة صفية، أم لا… لكني متأكد أنه يسرح ويمرح… مثله مثل الكثيرين في دولة المحسوبيات "السايبة"… الجديد اليوم، هو، الحكم الإداري الذي أعاد الجنسية لمواطن سحبت جنسيته بقرار من مجلس الوزراء، رغم صدور حكم من محكمة التمييز لمصلحته بثبوت نسبه لأبيه الكويتي… المحكمة الإدارية قالت في حكمها العادل: "إن القرار الإداري يجب أن يقوم على سبب صحيح يبرره صدقاً وحقاً، أي في الواقع والقانون، وهو الحالة الواقعية والقانونية التي تحمل جهة الإدارة على التدخل منفردة بسلطتها الإدارية الآمرة لقصد إحداث أثر قانوني هو محل القرار، ابتغاء تحقيق المصلحة العامة الذي هو غاية القرار…"، بكلام آخر تقول المحكمة إن جهة الإدارة "مو على كيفها" تسحب الجنسية، وتطوح بها بعيداً… لابد أن تكون المصلحة العامة، وحكم الواقع كمقياس للقرار الإداري.
لنسأل أنفسنا كم حالة توجد لدينا في ملفات "عديمي الجنسية" الكويتيين يمكن للقضاء أن ينصفهم لو فتحت أبوابه لهم، ووضعت الضوابط لسلطة الإدارة في منح الجنسية وسحبها…؟! كم مظلوماً سينصف لو تنازل المشرع عن غطرسة "أعمال السيادة" في مسائل الجنسية لمصلحة الحق والإنصاف…؟ أليست تلك قضايا إنسانية نحرت على مذبح الدولة ذات السيادة…؟! سيادة الدولة بهذا المفهوم لا تعني غير استعباد الناس.
هم شيوخكم لا غيرهم
هم شيوخكم "ماكو غيرهم"، وهم السلطة الحاكمة الذين أقروا قانون منع الاختلاط عام ٩٦، ولم يردوا المشروع على المجلس في ذلك الوقت رغم الدموع الساخنة التي ذرفتها السلطة على إقرار القانون، وهم شيوخكم الذين صمتوا، ورضوا، وباركوا منع الحفلات وفرض الضوابط الثلاثة عشر المجلسية (إذا لم أنس الرقم) لإقامة مجالس العزاء التي كانت تسمى حفلات، وخصصوا لكل فندق ضباط مباحث لمراقبة حسن السير والسلوك في أمسيات الغم، وهم شيوخكم الذين حين حلوا مجلس ٧٦، ومهدوا السبل السالكة للقوى الدينية السياسية، وأغلقوا نادي الاستقلال، وفتحوا أبواب الجهاد للقتال في أفغانستان (طبعاً بتحالف مع دول خليجية ودعم أميركي)، وهم شيوخكم الذين شرّعوا الخمس والعشرين دائرة لمجلس ٨١، وكرسوا تقسيم الدولة قبلياً، وعززوا واقع التفرقة في المجتمع بين حضر وقبائل، وبين سنة وشيعة، لتصبح الهويات العائلية والقبلية والطائفية مقدمة على هويات الانتماء للدولة، وكانت حكمتهم في ذلك "فرّق تسُد" وسادوا دون منازع، كي يكونوا الحارس الأوحد على صنبور النفط.
وهم شيوخكم "ماكو غيرهم"، يا سادة التابعين الذين حلوا مجالس الأمة الواحد تلو الآخر، كلما امتعضوا من طرح ذلك النائب أو غيره، تسابقوا ونقضوا المجلس، وأعادوا الانتخابات من جديد مع توظيف "كاش" المال العام برسم ضمان الوصول لكرسي التمثيل من جماعات أهل الهوى السلطوي.
وهم شيوخكم "ماكو غيرهم" الذين يكممون هذه الأيام أفواه المعارضين الشباب، ويضربون عرضَ الحائط بمبادئ حرية الضمير وحق المواطن في نقد الحكم، متذرعين بقوانين "دراكونية" لا دستورية تخالف الحد الأدنى لما أقرته واستقرت عليه الوثائق الدولية لحقوق الإنسان.
هم شيوخكم "ماكو غيرهم" الذين يعترضون على "خلق" (لا تطوير) ديمقراطية حقيقية، بأحزاب وحكومات لها أغلبية في المجلس النيابي، ولها تصوراتها التنموية لمستقبل الدولة وأجيالها… وهم شيوخكم "ماكو غيرهم" الذين تروّجون اليوم لهم ولمشروعهم "التقدمي" المزعوم، من استغلوا وجود أصوات دينية قوية شطت وشطحت بعض الأحيان في المجلس المبطل، فكان ذلك مناسبة عظيمة لهم ولكم، لخلط الحابل بالنابل، ليتم إخراج مثل هذا المجلس المضحك… وهو مضحك بمعنى "شر البلية ما يضحك".
لماذا يريد منظّرو الحرس الحكومي المدافعون لآخِر حرف بائس عن الطرح المشيخي في التفرد بالسلطة أن يوهمونا بأن المعارضة هم "أشخاص" مثل السعدون والبراك والحربش ومسلم وهايف وغيرهم من نواب سابقين أو ناشطين سياسيين، وبالتالي كل نقد لهؤلاء يعني تهاوي "فكرة" المعارضة بحد ذاتها، وكأن روح المعارضة هي هم، ولا غيرهم، ومتى حدث أي خلاف بين شخوص المعارضين فتلك نهاية تلك المعارضة "الفاشلة" – حسب توصيفاتهم ودمغهم للآخرين المختلفين معهم- وتسليم كامل بحق شيوخهم في الحكم المطلق وسياسة الأبخص التي من الواجب الوطني أن نبصم عليها ونظهرها لأبنائنا رغماً عنا ورغم أنوفنا!
لماذا يسكب الحرس المشيخي اليوم المداد والدمع الغالي على واقع الحريات الشخصية، ويروّج بأن العلة في قبرها كانت بسبب مشاريع هايف المطيري أو الوعلان ومَن والاهم ومَن سبقهم، وبالتالي تغدو التضحية بهم وبالمجلس ضرورة، كي تنتعش حرياتنا الشخصية، ولا ضرر إن رحلت للجحيم مقدرات الدولة الاقتصادية بالهدر والفساد الماليين؟
دعوني أهمس لكم بأن شيوخكم لا يهمهم إن لبست الدولة "بدلة رقص" سامية جمال أو وضعت ألف نقاب وألف حجاب ماداموا هم وحدهم السلطة والسلطة هي هم… فارتاحوا يا سادة.
حصان طروادة من جديد
هل يتعين على التقدميين الذين عارضوا مجلس الصوت الواحد الاصطفاف مع اقتراح بعض النواب بإلغاء قانون رقم ٢٤ لسنة ٩٦ المحرِّم للاختلاط بين الطلاب والطالبات في التعليم العالي، لأن مثل هذا القانون كان تعدياً صارخاً على حرية الأفراد في اختيار نوع التعليم والحياة الاجتماعية بالجامعات، وأن ذلك القانون، صورة أخرى، وشاهد جديد على مشروع الدولة الدينية الثيوقراطية المضادة للحريات العامة والخاصة، والتي ستقذف بالفكر الإنساني والحداثة ألف عام للخلف، وغير ذلك من أسباب، مثل التكلفة الاقتصادية لذلك القانون وعجز الجامعة (والجامعات) عن تنفيذ القانون لبعض التخصصات والشعب الدراسية…؟
الزميل عبداللطيف الدعيج في "القبس" أمس يقدم الإجابة السريعة والحاسمة، بأن اقتراح النواب مقدمي المشروع، مسألة لا تحتمل التردد ويجب تأييدها، فهي قضية "وطنية بالدرجة الأولى"، أي قضية عليا لا يجوز الاختلاف عليها، وأنها يجب ألا "تخضع للحسابات الفئوية أو أن تكون عرضة للمزايدات…"، ويشعر الزميل بخيبة أمل لأن التقدميين (حسب مفهوم الزميل) آثروا مصالحهم وحسبوا "أرباح الغير قبل أن يراعوا المصلحة العامة…"، فكان صمتهم أو "تخاذلهم"، إن صح التعبير، في تأييد طرح الاقتراح.
بودي أن أصفق بحرارة لرأي عبداللطيف، وأن أوبخ التقدميين الصامتين المتخاذلين عن دعم مشروع إلغاء القانون، وأقول ليس قضيتنا "من" هم الأشخاص الذين تقدموا بالقانون في مجلس الصوت الواحد، وإنما "موضوعه" وأهدافه السامية التي لا يجوز الاختلاف عليها… ليتني أقدر أن أفعل الأمرين، لكن هذا غير ممكن.
فالنواب الذين وقفوا مع "حريات" الأفراد في التعليم المختلط، وهذه تعد من الحريات الفردية وحرية اختيار البشر لمصيرهم، وقف بعضهم بالأمس لتمديد عقوبة الحبس الاحترازي الذي قصر زمنه من قبل نواب المجلس المبطل… وأن بعض هؤلاء النواب من مقدمي المشروع رفعوا رايات الولاء للسلطة والعبودية لها بالتشديد بعقوبات الرأي بجرائم المساس بأمن الدولة أو الذات الأميرية، وما يحمل ذلك الاتجاه بالتوسع في تفسيرات الإدانة لأي عبارة أو جملة "تويتر" قفزت من يد مغرد…
مشروع قانون إلغاء منع الاختلاط يطرح اليوم، وعشرات النواب في المجلس المبطل يقفون أمام محاكم الجنايات في سيل من دعاوى محاولات تدجين الرأي المخالف وترويعه عبر تحريك القضايا الجزائية ضد من قالوا "لا" لمرسوم الصوت الواحد وللسلطة التي فرضته منفردة، وهناك نواب آخرون، مثل فيصل المسلم الذي تقف على رأسه عدة قضايا، ويتهدده السجن بأي لحظة، قالوا "لا" في قضايا الإيداعات المليونية لنواب الحكم التابعين… مشروع إلغاء قانون منع الاختلاط يطرح اليوم وعشرات من المغردين والناشطين السياسيين إما في السجون أو ينتظرون دورهم لاستكمال التحقيقات كمرحلة أولى، واستهلال جديد لدورات تنشيطية في السجن المركزي… أليست هذه وتلك من مسائل الحريات…؟! أليست هذه وتلك من قضايا الرأي وممارسة حق التعبير ونقد السلطات الحاكمة… مثلها مثل حرية الاختلاط، بل هي أسمى وأجل لأنها تمس وجود الفرد وكيانه!
هل نعد مخطئين، إن فسرنا الاقتراح لإلغاء قانون منع الاختلاط بأنه "حصان طروادة" لكسر مواقف المعارضين التقدميين، كما كان تصديق السلطة وعدم ردها لقانون منع التعليم المختلط بالجامعة عام ٩٦ بعهد وزير التربية التقدمي الراحل د. أحمد الربعي مسألة (وجود الراحل الربعي في الوزارة) يمكن اعتبارها هي الأخرى حصان طروادة…!! هي السلطة الحاكمة الواحدة مرة تحشر نفسها بجوف حصان خشبي مثلما كان يتم في التسعينيات، ومرات أخرى تدخل بالسيارات المصفحة للقوات الخاصة، أو عبر مشاريع قوانين كالذي يقدم اليوم… لكنها في كلتا الحالتين لم تملك في صفوفها فرساناً مثل "أخيل".
مأساة ثم… ملهاة
تمر بنا هذه الأيام ذكرى مرور عشر سنوات على الغزو الأميركي للعراق (أو تحرير العراق كما كنت أسميها) وأفردت الصحافة الغربية صفحاتها لتذكّرنا بعبر تلك الحرب التي كان ضحاياها عشرات الألوف من العراقيين ونحو خمسة آلاف جندي أميركي ومئات الألوف من الجرحى… السؤال الآن هل استطاع الغرب خلق دولة عراقية جديدة تقوم على أسس الديمقراطية الحقيقية والمساواة والشفافية، أم أنه فشل في العراق… وفي أفغانستان؟ الإجابة هي أن الفشل سيد الموقف، إذ تمت إزاحة نظام فاشي مرعب ليحل مكانه نظام طائفي بوجه ديمقراطي على الطريقة العربية، التي تعني استبداد مَن ركب جمل الأكثرية الشيعية ودهس الأقلية السنية، وصاحبه فساد مستشرٍ في دولة مقسمة واقعياً بين شيعة الجنوب وشبه دولة كردية في الشمال وسنة وسط يتقلبون على جمر التعصب القبلي بتحالفات وقتية مع جماعات "القاعدة"، تُنقَض مرة وتعود من جديد مرات أخرى… حسب مشاعر القهر الطائفي وتماشياً مع التراث التعصبي القبلي.
الوحش الطائفي المفترس لم ينهض في العراق فقط، بل امتد إلى سورية اليوم (بشكل مقلوب) ولبنان، وسيمتد سعير النيران الطائفية ومشاريع التقسيم إلى جُل دول المنطقة التي ليس لها تاريخ يذكر في مفهوم الدولة- الأمة… لماذا تبرز تلك الاحتمالات…؟ وإذا كانت البداية الحقيقية لـ"ربيعنا" عام 2003 بإسقاط نظام صدام، ولم تكن حرق البوعزيزي نفسه في تونس إلا شرارة الانتفاضة العربية، فماذا تجابه دولنا اليوم. والكويت ودول الخليج لا تمثل استثناء من خطر الغول الطائفي ببركة الوعي الأصولي المتجذر بتلك الدول وغياب الرؤية عند قيادات المنطقة.
كتب جورج الطرابيشي (هرطقات جزء 2) "… لم أضع أي رهان من طبيعة عجائبية يأتي عن طريق صندوق الاقتراع إذا لم يتحول بتحول عقلي في صندوق الجمجمة.."، ويقرر الكاتب أن التدخل الأميركي لم يقدم أكثر من المناسبة لانفجار الحرب الطائفية، ولكنه لم يكن عاملها على صعيد السببية.."، فالحالة الطائفية وحروبها المروعة استُهلت بموقعة الجمل، ثم صفين، وأخذت بعدها الكارثي في مأساة كربلاء حين قتل بصورة بشعة 72 من أهل البيت… وتمضي السنون المظلمة، وتصعد وتخبو نيران تلك الحروب لتصل إلى تلك الفقرة التي أقتبسها من المؤرخ ابن كثير في البداية والنهاية"… ففي صفر سنة ٤٤٣هـ وقعت الحرب بين الروافض والسنة، فقُتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجاً وكتبوا عليها "محمد وعلي خير البشر فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر"، فأنكرت السنة اقتران علي مع محمد صلى الله عليه وسلم في هذا، فنشبت الحرب واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول، فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد (ابن حنبل) ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر، وأحرقوا ضريح موسى (الكاظم) ومحمد بن الجواد وقبور بني بويه، وأُحرق قبر جعفر بن المنصور ومحمد الأمين، وأم زبيدة وقبور كثيرة…"، ويلاحظ الطرابيشي، أن الحروب الدينية استمرت في أوروبا ثلاثين عاماً من 1618م إلى 1648 وانتهت بصلح وستفاليا، أما حروب الشيعة مع السنة فاستمرت أكثر من٣٠٠ عام حتى سقوط بغداد.
تلك كانت صورة تاريخية رسمها المؤرخ والفقيه السلفي السني ابن كثير، لا يمكن لومه على تعبيره بكلمة "روافض" في وصفه للشيعة، لأن فكره كان وليد زمنه وهو زمن الفتن، كما لا نلوم مؤرخي وفقهاء الشيعة على تعبيرهم بكلمة "نواصب"، لأن فكرهم كان وليد ذلك الجذب الطائفي الغائر في تاريخنا العربي، لكن كيف هو الأمر اليوم، حين تقع سلسلة من التفجيرات للمراقد والتجمعات الشيعية في العراق وتحرق الكنائس، وتشرع حرب تحرير في سورية ضد نظام متوحش، تكاد تتحول إلى حرب طائفية لها صورها الكثيرة في لبنان والعراق، إضافة إلى مسخ المطالبة بالديمقراطية في البحرين وتحويلها إلى استقطاب طائفي، ومناقشات مجالس الأمة بالكويت التي تضج بتهم ومشاريع الطائفية، وتعلو نبرات أصوات شباب التوتير الصبغة الدينية المتشددة؟!
ألم يكن ماركس صادقاً في أن التاريخ لا يكرر نفسه عندما يكررها إلا ليحول المأساة إلى ملهاة؟"
قبل ألف عام كانت مأساة، ونخشى أن يكون غدنا ملهاة… فهل يتعظ الطائفيون؟!
ديرة ماشية سماري
في كل مرة يتحدث الناس عن الفساد في الدولة تأتي إجابة المسؤول جاهزة معلبة بجملة "هاتوا الدليل" وسنحاكم المتهمين عن الفساد! إجابة خاوية، فيها تهرّبٌ من المسؤولية وتحميلها للصدفة والقدر… والنتيجة الحتمية هي تكريس الفساد رسمياً وتوطيد أركان اللامبالاة، وتبلد مشاعر الغضب والرفض عند البشر، حين تصبح قناعتهم مختصرة في كلمات من شاكلة "ماكو فايدة أو خلها على الله والشق عود".
أكثر من صحيفة، خلال هذه الأيام، تناولت أزمة الاختناقات المرورية، ونقلت قليلاً من حجم هذه المأساة… ولا أدري إن كان سيادة المسؤول صاحب مقولة "هاتوا الدليل" فكّر ولو مرة واحدة عن أسباب الكارثة المرورية بالدولة، وتساءل إن كانت هي وليدة واقع الفساد المترسخ بالدولة أم لا؟! يعرف، ونعرف معه، أن هذه الكارثة في الكويت هي التجسيد الحي لفساد الإدارة السياسية في الدولة من ناحية، وإظهار عجز السلطة عن معالجتها أو حتى التخفيف من وقعها من ناحية أخرى، ومن المؤكد أن أصحاب القرار والسيادة المطلقة لا تشكل عندهم القضية المرورية أولوية، فأولوياتهم مستغرقة في تصفية حساباتهم الداخلية، وحدود المعارضة وكيف يمكن القضاء عليها، وتوزيع الكعكة المالية على دوائر المقربين من جماعات المؤلفة قلوبهم.
كارثة المرور هي نتيجة فساد سنوات طويلة، فساد مستوطن في وزارة الأشغال، وفساد مثله في بلدية الكويت، وآخر في إدارة المرور، وأخيراً هي نتيجة فساد أخلاق الكثير من السائقين الذين أَمِنوا العقوبة فأساؤوا الأدب.
وزارة الأشغال لم تخطط لحجم الشوارع وقدرة استيعابها في المستقبل، فهي كبلدية الكويت تعد مرتعاً خصباً لـ"الهبر" والسرقات والفساد، وتفصيل هدم الأرصفة وإعادتها من جديد من أجل عيون فلان وعلان… فأين هي من التدبير والتخطيط للشارع مادامت السلطة التي فوقها غير مكترثة بالشارع السياسي؟ أما البلدية… فحدثوا عنها ولا حرج… من العمارات التي ترخص من دون مواقف سيارات للمستأجرين… ومن غض النظر عن عمارات ومساكن خاصة مخالفة في عدد الأدوار، وتناسي توفير مواقف لسيارات الساكنين، فيوقفون سياراتهم في الشارع العام فتغلق الطرق… أما إدارة المرور فقد أصبحت "حمّال الأسية" التي عليها أن تفك معضلة تتجاوزها بكثير… فأضحى اللواء مصطفى الزعابي مثل "شريم" كيف له أن ينفخ من غير "براطم" (شفاه)… لكن في الوقت ذاته، هناك مسؤولية تاريخية على الإدارة المرورية وعلى وزارة الداخلية، إذ هناك الآلاف من السائقين حصلوا على إجازتهم بالرشوة أو بالواسطة، وهناك آلاف السيارات التي مرت من الفحص الفني رغم عدم صلاحيتها، وهناك حكايات مزعجة عن أصحاب "التكاسي" الجوالة وارتباطهم بضباط من وزارة الداخلية… والقائمة عريضة وطويلة مع تاريخ تلك الإدارة لا يستطيع مصطفى مهما أخلص في عمله أن يحل عقدها الملتوية، فهي عقدة السلطة السياسية بداية ونهاية… وهي عقدة الكويتي الذي يستورد السائق والطباخ والعامل والموظف مثلما يستورد السيارات "من غير رسوم" وبقية البضائع ويترك الأمور على عواهنها… فالأزمة ليست أزمة مرور… بل هي أزمة دولة "مسمرة" تمشي على البركة.
ماذا سيخسر الليبراليون أكثر؟
من مقال "الانتفاضة العربية وأوهام الدولة الدينية" للأستاذ مسعود الظاهر في جريدة النهار اللبنانية قبل أكثر من عام، ختم الكاتب مقالته بهذه الفقرة: "لاتزال العصبيات الدينية والقبلية حاضرة بقوة في المجتمعات العربية، ولاتزال الدولة الديمقراطية مفهوماً ضبابياً في عالم عربي محكوم بالذهنية الدينية والقبلية، ومع إصرار القوى السياسية الحاكمة في دول عربية منتفضة على تطبيق الشريعة الإسلامية تراجعت مفاهيم الحرية، والوطن والمواطنة، والسيادة، وحقوق الإنسان العربي الفرد، وباتت مؤسسات الدولة العصرية مهددة بالزوال، وعاجزة عن ممارسة الديمقراطية دون مشاركة الديمقراطيين في معركة شرسة لحماية أنفسهم ووطنهم، فانتشار الوعي الديمقراطي لم يخفف من الوعي الديني بل زاده صلابة في الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الدول العربية المنتفضة، وهي قوى إسلاموية سلطوية لا تستطيع إقامة التعارض مع السلطة الدينية، وتحديداً مع سلطة المرشد الديني أو سلطة ولاية الفقيه، فالمؤسسة السياسية في الدول العربية المنتفضة اليوم هي امتداد للسلطة الدينية التي تتمتع بصلاحيات واسعة للرقابة على الناس والكتب والفنون والمطبوعات والمسرح والأغاني والنوادي الفكرية، فهناك اليوم تصادم حاد وجذري بين قوى إسلاموية استغلت الانتفاضات الشبابية لتحاول بناء دولة إسلامية تتعارض جذرياً مع أهداف تلك الانتفاضات، وبين قوى ديمقراطية عريضة تواجه بصلابة المد الإسلاموي الذي يستخدم العنف السلطوي باسم الإسلام السياسي، وهي معركة مصيرية تطال حاضر العرب ومستقبلهم".
يشترك الكثير من المثقفين العرب مع الأستاذ مسعود الظاهر في قلقهم المشروع من المستقبل القادم للدول العربية، وكأن لسان حالهم يقول "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، الرمضاء هي صحارى النظم العربية الحاكمة (أو التي كانت حاكمة) والنار التي قد يستجيرون (أو استجاروا فعلاً) بها هي الأنظمة الثورية التي تلبس العباءة الدينية، إذن حسب هذا الرأي، تصبح قضية الحريات والديمقراطية ليست هي أزمات "أنظمة حكم" فقط، بل هي أزمة مجتمعات عربية يهيمن عليها بالأساس الهوية القبلية والنزعات الدينية الطائفية.
فحين يزول النظام السوري فرضاً، فالبديل هو جبهة النصرة وجند الشام، وهما صور متجددة للعرب الأفغان، فأين الحل بفرض عدم تفكك الدولة السورية إلى دويلات طائفية وعرقية؟! هل يتعين على الحالمين بالحريات والكرامة أن ينتظروا عشرات وربما "مئات" السنين حتى يتبلور الوعي بالانتماء للدولة وبهويتها الوطنية، أم عليهم أن يتجرعوا مرارة أنظمتهم الحاكمة لأن البديل أسوأ؟!
خطورة مثل هذا الرأي أنه يبرر ضمناً "شرعية" بقاء واستمرار الأنظمة العربية السائدة، ويبرر من جهة أخرى كل الإجراءات القمعية التي تتخذها هذه الأنظمة ضد المخالفين، هذا القمع لا يفرق بين صاحب لحية وحليق، وبين ليبرالي ويساري، وبين إسلامي معتدل وآخر متطرف، فهم على مسطرة واحدة عند الحاكم، عندها تصبح كل محاولة لنصح النظام الحاكم والدعوة إلى إصلاحه جريمة كبرى ضد أمن الدولة وهيبة الحكم.
لنقر بأن الحالة العربية ستمر بمخاض طويل، يختلط فيه الداخل بالخارج، مصالح الدول الكبرى وتفكك الداخل الذي لم يقم أساساً على مفهوم الدولة الأمة، وإنما كان مجرد ترتيبات حدودية رسمها المستعمر الإنكليزي– الفرنسي على رمال الصحراء سابقاً، وتصونها اليوم "الولايات المتحدة"، وأن الطريق أمام شعوب المنطقة بقبائلهم وطوائفهم للوصول إلى عالم متطور وحر مازال طويلاً وشاقاً، لكن لابد من بداية ما للتغيير، فهذه الأنظمة ترفض كل محاولات الإصلاح، وتصر على تقنين الجمود السياسي والفساد المالي، وما الذي يخشاه المثقفون الليبراليون في النهاية، فليس هناك أسوأ من جمود الانتظار.
أبو الهول مترنماً
ضبطت سلطة الحكم الواحدة أمورها، وضبطت بالتبعية مجلس "أمتها"، ووافقت على شراء فوائد القروض، ووعدت بصدقات الألف دينار لكل مواطن غير مقترض، حتى يعم الخير الجميع، ويسعد ويهنأ كل من لم يذق عسل الحكم، وينتشي من خمر مجلس الصوت الواحد.
أما كل المطولات الكتابية والدراسات والخطابات الممتدة عن الهدر المالي، وتنشيف مدخرات الأجيال والعدالة، وكل الثرثرة الرسمية التي صدعت رؤوسنا من استهلالات النائب السابق ضيف الله بورمية قبل سنوات معاركه من أجل إسقاط القروض، ومعارك من تبعه مع بدر الحميضي وزير مالية الردح والجدل بالأرقام والإحصائيات السابقة، كل تلك الأدبيات والعنتريات من جماعات النصح والدعاية لعقلانية وحكمة الحكم في الإدارة المالية، فنقول لهم: "نقعوها وشربوا مايها".
لا حسد ولا قهر، والله يوفق حكومتنا ويرفع الضرر عن الضحايا المقترضين، فماذا يعني أن تنفق الدولة ٧٥٠ مليون دينار أو مليار دينار لشراء قروض اليوم، ومليار دينار آخر لشراء قروض الغد، ومليارات لا تنتهي لشراء ود المواطنين مقابل بيع حرياتهم، ورمي مستقبل أبنائهم للمجهول… لا تعني أي شيء… متى كان الثمن هو "الصمت" والسكوت، وبعد أن يضخ الأفيون المخدر في شرايين وعي الناس، ويتم تغييبهم عن واقعهم، وتغلق أبواب القلق المشروع على مستقبل الدولة.
بالنقدي، تحل السلطة أزماتها العارضة. "نقدي" لا يصب لإصلاح أبنية مستوصفات مهترئة، ولا ينهي طوابير ممتدة من بشر ينتظرون دورهم للسكن، ولا يضع حلولاً لأزمات مرور خانقة، ولا يخلق تعليماً أفضل ولا ثقافة أرقى ولا فنوناً أفضل، ولا يعدل وينصف أوضاع مئة ألف من بشر يعيشون معنا، وولدوا على هذه الأرض لكنهم بلا هوية.
نقدي للناس وإسقاط فوائد قروض أو قروض كاملة ليس جديداً على دولة الدينار، فبعد التحرير، تم شراء صمت الصامدين، ثم تم شراء المديونيات "الصعبة" عام ٩٣، والأخيرة "كانت رصاصة وانطلقت"، بعبارة د. إسماعيل الشطي، وقبل كل هذا وذاك انتشلت السلطة في الثمانينيات ضحايا سوق المناخ من الغرق، وألقت لهم بطوق المليوني دينار، وأنقذت صغار المضاربين، وأيضاً معهم – وقبلهم – نفخت جيوب كبارهم… مضت الأيام المضحكة لـ"هيئة التحكيم" وشركة المقاصة، وهل تريد حل الغرفة أم حل الحكومة… إلخ! مضى ذلك الزمن… وولت تلك الأيام، إلا أن فلسفة أبي الهول مازالت صامدة تقاوم عاديات الزمن، فأبوالهول لم يتوقف يوماً عن ترنيم نشيده الأثير "ترى إحنا ما نتغير… الله لا يغير علينا".