ليس لي غير كلمة "انچعموا" أقولها للكثيرين من حزب النظام الذين أضجرونا وأقرفونا بخطاباتهم السقيمة عن الديمقراطية الكويتية ودولة المؤسسات وحكم القانون وحكمة السلطة. "انچعموا بالكويتي" تعني اصمتوا، وأغلقوا أفواهكم تماماً، فإن تكونوا في حكم الساكت عن الحق الذي هو كالشيطان الأخرس فربما أفضل بمرات من ثرثرة الرياء والنفاق وتزوير الحقائق وتضليل الناس التي تخنقوننا بها عن إمبراطورية العدالة الكويتية.
قبل سنوات، أخبرني الزميل أحمد الديين، وكان يكتب في جريدة الراي، أن تعليمات سلطوية فرضت سطوتها، وتم توقيف زاويته، فقمت بالاتصال بعدد من الزملاء الكتاب، واتفقنا أن نترك مكان زوايانا مساحة بيضاء، احتجاجاً على قهر حرية الضمير، وكتبت افتتاحية صغيرة في "القبس" بعنوان "مساحة بيضاء نتركها لكم" إن لم أنس العنوان، لم تكن في حقيقتها بيضاء، وإنما كانت سوداء، بمثل سواد "حريات الضمير" في هذه الدولة، التي تتماهى بممارساتها السلطوية مع شقيقاتها بدول مجلس التعاون. حدث منع أحمد الديين، تم في ظل قانون المطبوعات والنشر القديم، واليوم، المساحة السوداء تعيد ذاتها، مع القانون الجديد وإن كان بدون حكم القانون، فقبل أيام حظرت السلطة الكبرى على قناة اليوم برنامج "توك شوك" لمحمد الوشيحي، هكذا دون أسباب، غير أن الزميل عبر عن رأيه منتقداً ممارسات "البعض" من أمراء القبائل الذين يفرشون السجاد الأحمر، ويسكبون قوارير ماء الورد ويحرقون البخور حين يزور ديوانهم شيخ من أسرة الصباح. كان ينتقد البعض وليس الكل، لم يعمم، ولم يحد عن الصواب في نقد سلوكيات الرياء والتزلف البعيدة عن أخلاق هذا المجتمع، والمتناقضة مع الكبرياء الإنساني، لكن في عرف أهل السلطة الوشيحي انتقد بالتلفزيون أعرافاً اعتاد عليها وعلى منهجها المخجل الكبار، في تكريس أعراف الذل والتزلف، التي تكون لقاء مقابل مادي، وتحقيقاً لتراثيات شاعر البلاط والخليفة الحاكم، عندما يأمر الأخير الخازن بأن يعطي شاعره المداح: صرة من بيت المال!
أما الزميل محمد الجاسم، اختلفنا معه أو اتفقنا، فهو يمثل عقدة أبدية عند "الأكابر"، فقد حظرت مقالاته، وهي مصدر رزقه في جريدة عالم اليوم، قبل فترة، لم يكن هناك حكم قضائي، ولا غير ذلك، غير مزاج أهل الحل والعقد، الذين "يرون ما لا نراه" حسبما يتراءى لهم أنه من أجل الوطن ومصالح الوطن. ومن جديد، تعود الملاحقة السلطوية للقلم، وأصحاب القلم وما يسطرون، ويتم الحجر على رأيه، ويمنع من الكتابة في "الكويتية" لأنه حسبما يقولون الجريدة بيعت، والملاك الجدد، "ويا عيني عليهم" لا يهضمون رأي الجاسم…!
أليس من حقنا، أن نخشى على أنفسنا، أن نقلق من ردود فعل كلماتنا مهما تواضعت وطأطأت الرؤوس لحكم القوانين والأعراف الجائرة، في وطن الحريات والدستور وحكم القانون… وتحياتي للمؤلفة قلوبهم الدائرين في فلك صرر بيت المال.
التصنيف: حسن العيسى
دون كيخوتات السياسة الكويتية
لا يمكن أن نحمل الحالة السياسية اليوم محمل الجد، فلا الاستجوابات الخاوية من هذا المجلس، ولا الردود الحكومية "الزعلانة" من عقوق الابن المجلسي تستحقان أن نقرأهما بجدية، وأنهما يمثلان ما يجري على أرض الحقيقة. وليد الطبطبائي النائب السابق وصف الحالة السياسية بأنها "فصل من مسرحية"، أما خالد السلطان فقد قال عن الوضع إنه "شيوخ يطقون بعضهم"، ووصفها الزميل بدر الديحاني في مقالته بالأمس بأنها "مسرحية سمجة". كلها أوصاف، برأيي، معبرة عن مهزلة الوضع الكويتي، فأي عاقل سيصدق أن تحميل وزير النفط وزر "الداو" هو عمل وطني مستحق، وأن النواب الذين يقدمونه يريدون فعلاً حماية المال العام، ولا يختلف الأمر عن الاستجواب الأجوف المقدم لوزير الداخلية، الذي ربما يستحق الاستجواب، لكن ليس للأسباب التي تقدم بها نواب "العرضة" البرلمانية.
من جديد، أسأل إن كان علينا أن نحمل ما يجري اليوم محمل الجد، ونكتب عنه، ونقلق من أجله، أم إن الأمر كله لا يعدو عن إضاعة وقت في بلد، لا تعرف إدارته معنى الوقت. هي مسرحية كاملة، وليست فصلاً من مسرحية، هي مسرحية تجري فصولها في روضة أطفال، لا ينقصها غير كلمات تشجيع من الفاضلة "ماما أنيسة" الله يذكرها بالخير، وهي تقول لأبطالها "شاطرين يا أطفال يا حلوين"! لكن أطفال اليوم الذين يعتلون المسرح السياسي لا يشبع نهمهم أن يقال لهم "يا أطفال يا حلوين"، يريدون أكثر بكثير من كلمة "الحلوين" تخرج من فم الماما، يريدون أن يكونوا أبطالاً من دون ساحة قتال وقضية يناضلون من أجلها، يريدون حصصهم في اللمعان السياسي في مكان محاصر بالصدأ، يريدون "المعلوم" من الكعكة الوطنية حالهم حال غيرهم الذين سبقوهم، والذين سيأتون بعدهم، بإذن الله.
كيف تدار هذه الدولة، وهل هناك منهج، ورؤية للمسقبل وتحدياته؟! وهل توجد لدينا "مؤسسات حقيقية" تضع حدوداً وإجراءات ملزمة لإدارة الخلافات والصراعات السياسية بين الأقطاب الكبار من جهة، وتثبت اليقين القانوني في وجدان الناس؟! هل يرى هؤلاء الأقطاب أن هذه دولة، تواجهها تحديات وجودية، ليست من الخارج، كما يروجون، وإنما من الداخل، ومن فوضويتهم وأطماعهم في السلطة، أم إنهم يرون أنها مزرعة و"ياخور" كبير خاص بهم، اختلفوا على ملكيته…؟!
أم آن الوقت كي نصرخ: بأننا سئمنا هذا العبث في إدارة الدولة، ومللنا إعادة قراءة فصول رواية "دون كيخوتات" الكويت… بعد ذلك أسألكم: هل تأخذون ما يحدث اليوم مأخذ الجد؟
حول الثقافة الداوية
الثقافة الداوية (نسبة للداو) تعني ممارسة السلطة بصورة منفردة مع غياب كامل للمسؤولية، فالمعروف أنه لا سلطة دون مسؤولية، وبقدر حجم السلطة يتحدد مدى المسؤولية، لكن في الثقافة الداوية كما أنتجتها الدولة الكويتية، لا ترابط بين السلطة والمسؤولية، ولا تتحدد الثقافة الداوية بقضية تحمل المال العام أكثر من ملياري دولار، تنفيذاً لشرط جزائي بين المتعاقدين لم تكترث الحكومة السابقة بالنظر إلى موضوع العقد، ولا لأحكامه، وحددت مهامها فقط بتجنب أي مساس بالكبرياء المشيخي يتم من خلال مجلس الأمة، وإنما تمتد الثقافة الداوية الى عمق منهج السلطة في إدارة الدولة في السياسة والاقتصاد، فلم تكن صفقة "سانتا في" الخاسرة في الثمانينيات بداية أعراض مرض الثقافة الداوية، ولا صفقة مصافي هولندا بعدها كانت البداية، ولا قضية الناقلات بدورها حددت أعراض الحالة الداوية، وفي حكمها استثمارات إسبانيا، وكل الحالات التي استعرضها تقرير الشال الأخير لم تكن، إلا على سبيل المثال وليس الحصر والتحديد، فالحالة الداوية كمرض استوطن الجسد الكويتي يمتد إلى لحظة تصدير النفط في نهاية الأربعينيات، وتم عندها تكريس الحالة الريعية في الدولة، الريع الذي يأتي من بايب بيع النفط دون جهد إنساني، تتملكه السلطة الحاكمة، وتوزع مدخوله، بالتالي، بينها وبين الأفراد، ويكون لها حصة الأسد، وللأفراد ما تبقى من الريع، يوزع على شكل مشاريع أعمال للقطاع الخاص التابع لصاحب الريع الكبير، ثم تأتي نفقات الرواتب والخدمات والبنية التحتية ودعم السلع الغذائية.
في تشخيص الحالة الداوية تكون حصة السلطة الحاكمة هي الهبرة الكبرى، والباقي من الريع يوزع كفتات يقسم بطريقة تراتبية هرمية، تكون الأولوية فيها للدوائر الصغيرة المحيطة بالنظام، ثم بعدها تتسع دوائر عطايا الريع ويقل حجمها بقدر بعدها عن مصدر القرار السياسي، ويتم بهذا، وبطريقة فعالة، نقل المرض الذي أضحى وباء اجتماعياً مدمراً من أعلى لأسفل، ومن قمة الهرم الإداري نزولاً إلى الوظائف الدنيا والصغيرة في الدولة.
من أعراض هذا المرض، تطفو صور بشعة لثقافة عدم الاكثراث للمال العام، أو الملكية العامة، فتدميرها أو إهمالها يصبح أمراً عادياً عند الناس، كتدمير البيئة البرية والبحرية ورمي المخلفات في الأماكن العامة والشوارع تصبح، بمجملها، مسائل سلوك مألوف عند الناس، وليس لها عقاب فاعل، ولو كانت، هناك فرضاً، نصوص عقابية إلا أنها لن تكون مفعلة، بسبب استشراء الحالة الداوية، ومصاحبتها لأمراض الواسطة والمحسوبية وشراء الولاءات في مجتمع غلت فيه يد القانون، أو تحرك بطريقة انتقائية. فحين يمد أحد المواطنين من سور عقاره قليلاً خارج المنزل مثلاً، أو يحاصر الشاطئ بـ"مسنات" وحوائط عزل، فلا جزاء، لأن مضمون دفاع ذلك المواطن يتلخص في حكمة "حالي من حال غيري" الأكبر والأهم، ومادمتم قد سكتم عن أكبرها وأسمنها، فلماذا يتم استثنائي…؟!
الموظف لا يلتزم بمواعيد الدوام، لأن قدوته ومثاله "الأخ الاكبر"، الذي يقبض الآلاف والملايين، ويغتني في لحظات منسية من العمر الكويتي، لا يساءل بدوره عن جهده وعمله، وبطبيعة الحال، ولن يتم طرح سؤال: من أين لك هذا؟! الغش والنهب في تنفيذ المشروعات العامة وعدم إنجازها في الوقت المحدد بالعقد من قبل مقاولي الدائرة الضيقة، ليس مهماً لغياب المحاسبة، وإن تمت أحياناً فهي تحدث بمنهج فارغ خاو معروفة نتائجه سلفاً، وتختم بعدم الإدانة أو حفظ التحقيق لعدم كفاية الأدلة أو غياب النص القانوني المجرم، كما حدث في قضية الودائع المليونية لبعض النواب السابقين، وتكون بالتالي وسيلة لذر الرماد في الأعين، حبكت بشكل أراجوزي ممل يضج سماجة، ويعرف الجميع نتائجه مقدماً، وسرعان ما يطوى الموضوع في دائرة النسيان، والمواطن عادة، لن يكترث، فهو لا يدفع ضريبة تشعره بأنه يملك جزءاً من هذا المشروع، وأن الأموال التي أهدرت هي أمواله في النهاية.
حالات أعراض طاعون الداوية لا يمكن حصرها، بدأت من ابتلاع أراضي الدولة بالبراميل، واحتكار العقار بالتالي من ملاك البراميل الكبار الحيتانيين، وبيعها في ما بعد مجزأة لسمك أصغر منها، والتي تقوم بإعادة دورة الاحتكار وتعيد تقسيمها، ثم يعرض المحدود من الأرض على المواطن، وهو، هنا، السمكة الصغيرة التي تبتلع مدخراتها لبيت العمر بأسعار خيالية.
لا نهاية للحالة الداوية، ولا علاج لها بغير قيام مؤسسات شفافية محايدة، تراقب أعمال السلطة في الدولة، والسلطة المعنية هنا بمفهومها الواسع التي تشمل كل السلطات، والتي عليها بدورها أن تراقب وتحد من تفرد أعمال السلطات الأخرى، وهذا غير موجود، وبهذا المجلس النيابي المفصل على مقاس أنا وحدي، تم إعدام "القليل" المتبقي من الرقابة المالية، بعد أن تم استلحاق السلطة التشريعية بالسلطة الحاكمة، وأشهرت الثقافة الداوية رسمياً ونشرت في الجريدة الرسمية بحبر سري لا يفكه غير الضالعين في بحور الفساد.
الداوات مستمرة
لم تعد القضية مسألة "خمال" سلطة حاكمة، وفساد دولة، هي اليوم قضية وجود الدولة، هي قضية بقاء الدولة وتوفير الحد الأدنى من الضمان الاقتصادي لمستقبلنا، ومستقبل أجيالنا. دفعت الدولة بالأمس أكثر من ملياري دولار، تنفيذاً لحكم التحكيم في دعوى "الداو"، فهل انتهينا، وهل انتهت دورات فوضى الفساد والترضيات، وشراء الولاءات، وغياب مؤسسات حقيقية للرقابة والشفافية؟! مازال الذين في قلوبهم مرض يختصرون مأساة الداو، في هذا النائب أو ذاك من المجالس السابقة، ويغطون، متعمدين وبنوايا سيئة، فضيحة "الداو" وغيرها بموقف أحمد السعدون أو مسلم البراك، أو الأربعة، (أو أكثر قليلاً) من نواب عارضوا صفقة الداو، وهددوا رئيس الحكومة، في ذلك الوقت، بالمساءلة السياسية، فلم تجد الحكومة المسكينة بدّاً غير فسخ عقد "الداو" من جانب واحد، ثم تركت "القرعة ترعى"!.
طبعاً، لم يتحدث هؤلاء المرضى المتورمة كروشهم من كرم السلطة، عن الحقائق في عقد الداو، والشرط الجزائي للفسخ ومدى علم النواب به، ولم يتحدث هؤلاء المرضى عن صلابة أو رخاوة الموقف الحكومي في الدفاع عن الصفقة، وتوضيح "شروطها" وأحكامها الجزائية، بعد أن وقّعت الحكومة عليها، كان الهون أبرك ما يكون، وفضلت السلطة "وحدها" فسخ العقد، بحجة ترضية النواب، بينما الفسخ كان بغرض تجنب الإحراج السياسي لشيوخنا، حين تُقدَّم صحيفة استجواب يمكن الرد عليها بيسر، لكن (ولأن) القضية كان فيها "شيخ" قد يصيبه الصداع حين يقف فوق المنصة ويُستجوَب، فهذه كبيرة جداً، ويمكن، عندئذ، مقايضتها وشراء الاستجواب بأكثر من ملياري دولار!
ليتها كانت "داو" واحدة وانتهينا منها. هي "داوات" ليس لها أول ولا آخر، هي "داوات" تتوالد وتتكاثر، ويُحرَق من أجلها بخور مليارات الدنانير كل يوم، كي يصمت الجميع، و"ينسطل" وعيهم بالمستقبل، ويسكتون. لن أعيد ما ذكره الكبير أحمد السعدون في لقاء "توك شو" مع الوشيحي، حين أخبرنا عن "داوات" قديمة ومازالت في احتكار الأراضي، وفي تفصيل المناقصات الكبرى بسوق الخياطين، وفي هموم محزنة وثقيلة تتعلق بالإنفاق والفساد، وسوء الإدارة. تعالوا نسمع قليلاً ما قاله ابن أخ السعدون، وهو الاقتصادي جاسم السعدون في ندوة صالح الملا. فحسب كلام هذا الاقتصادي، الذي بالتأكيد ينفخ في قربة مقطوعة، وأجزم أنه يؤذّن في مالطة، منذ أكثر من ثلاثة عقود ولا أحد من رموز السلطة الحاكمة بأمر الله أنصت إليه، أو استمع لغيره من المخلصين، يقول جاسم إنه في حالة استمرار الوضع الحالي، وهو وضع الإدارة السياسية، فعلى الدولة أن توفر مئة وستين ألف فرصة عمل خلال سبع سنوات، وبحدود عام ٢٠٣٠ عليها أن توفر ٤٣٠ ألف فرصة وظيفة! وكلام الهم المؤلم عن "فوضى" إدارة الدولة ليس له نهاية، بينما نحن اليوم نتجرع حالات لا تحصى من البطالة المقنّعة، وبطالة حقيقية تزداد يوماً بعد يوم… فكيف يمكن لدولة سياسة "الداوات" توفير مثل هذا الكم من فرص العمل؟! ومن أي ميزانية بؤس ستوفر الرواتب لها، والله وحده العالم، بمصير أسعار النفط واحتمالات استغناء أميركا عن نفطنا، والله وحده العالم بمعدلات استمرارية النمو للصين والهند وجنوب آسيا، وكم ستدفع تلك الدول غداً ثمناً لنفط دولنا، بينما دولتنا، صلِّ على النبي، متدروشة فكراً وثقافة وتجلس على باب الله ممسكة بصنبور النفط الذي ليس لها غيره؟ ويقف، في الوقت ذاته، نواب مجلس الحكومة، ويطلب أحدهم، توفير ٢٥ ألف متر كأرض زراعية لكل كويتي، وينطلق الآخرون مع قطار "الشعبويات" بزيادة قروض إسكان، وإسقاط قروض تمهيداً (ربما) لإنهاء "حدوتة" المديونيات الصعبة، ثم هناك "شعبويات" لا تنتهي، لا هدف ولا غرض لها غير خلق شرعية مالية فاسدة ومدمرة، لتحل مكان الشرعية الدستورية الغائبة عن هذا المجلس.
انتهت قضية "داو" واحدة، وبقيت قضايا "داوات" مستمرة، تخنق أحلام أطفالنا، بغدٍ مجهول، معتم، ليس فيه بصيص نور مع هذه الإدارة السياسية.
ضعوه قرطاً في آذانكم
الدولة تنهب بنهج مبرمج في أغلب الأحوال، وبعشوائية غياب المسؤولية وحكم القانون، كان هذا انطباعي السريع من متابعة لقاء "توك شو" للكبير أحمد السعدون، الذي أجراه معه الزميل محمد الوشيحي.
لم يتحدث أحمد السعدون بعموميات إنشائية مستهلكة عن الفساد ورموز الفساد وكل الكلام الذي لم يعد مجدياً عند من تكلست ضمائرهم وتحجر وعيهم بهموم المال العام، وسيادة إمبراطورية الفساد في الدولة.
تحدث أحمد السعدون، بالأرقام الموثقة، تحدث من أوراق رسمية، قدم لنا أرقاماً مخيفة عن عمليات التقنين التي جرت "ومازالت" للسرقات الكبرى في الدولة، سرقات لا يمكن أن يطالها قانون الجزاء الكويتي المحصور نطاق تطبيقه، إما بمتهم آسيوي ضبط يصنع الخمور المحلية في أحد كهوف منطقة الحساوي، أو على مغرد شاب نقل همه ببضع كلمات في "تويتر" أو على نواب سابقين مثل مسلم البراك وفيصل المسلم وغيرهما جاهدوا كي يكشفوا عن مواطن الزلل المريع والهبش الرسمي من خاصرة الأجيال، هي سرقات "مقننة" لأنها تجري وفق القانون وحسب أحكامه، هي سرقات "شرعية" لأن القانون إن لم يكن غائباً عنها، فهو يشرعها مفصلة على مقاس المافيا المحيطة بأصحاب المعالي.
الأرقام المفجعة التي ذكرها أحمد السعدون عن تكاليف "مشروعات التنمية المستدامة" كما تروج لها الدعاية الرسمية، لا يكترث لها التائهون بدنيا إسقاط القروض، وزيادة الكوادر، ولا يعتد بها من شغلتهم همومهم اليومية من علاج صحي رديء، أو مناهج تعليم بائسة، أو اختناقات وفوضى مرورية دائمة، مع أنها تمثل بعض الصور المشوهة لعوالم الفساد الرسمي، هي أرقام مفجعة عند من يهتم ويغتم لمستقبل أبنائه وأجيال وطنه، هي مفجعة عند من يعلم أن بئر النفط المباركة ستنضب يوماً ما، أو ستهوي أثمانه، في اقتصاد قائم على فلسفة إدارة صاحب الدكان.
الأسئلة الحائرة من الشباب المقدمين على الحياة الأسرية، ويبحثون عن مأوى بسيط، هي قطعة أرض صغيرة يبني بها بيت الأحلام، فلا يجد غير أرض قاحلة تعجز كل مدخراته ومعونات والديه (إن وجدت) عن الشراء، ليس لأي سبب غير احتكار الأرض الفضاء من مافيا لها السلطة والنفوذ كي تفرض قرارها على العالم الكويتي. ثم هناك، والقائمة تمتد بلا نهاية، مناقصات مشاريع بالمليارات خصصت لجماعات حزب يرفع يافطة "إن حبتك عيني ما ضامك الدهر". العجائز من أهلنا المستغربين والمستنكرين لحراك الرفض المعارض، لأن عندهم وفي قناعتهم البسيطة أن شيوخنا ما قصروا، فهم يدعمون جبن "الكلاسات، والبيض، وخياش السكر والرز البسمتي…" هؤلاء المساكين لا يعرفون، أو لا يكترثون كيف يتم الدعم الرسمي بالقانون وبالتشريع لغيلان الفساد، كي يزداد الأثرياء ثراء ويزداد "المقرودون" قرادة…!
لك أن تتحدث، وتنتقد مؤسسات الدولة (مع أنها ليست مؤسسات بل مقاطعات خاصة لأصحاب السيادة) لكن نقدك، وكلماتك المستاءة واعتراضك لن تكون مجدية، وإن تطاولت بكلمات عالية وخرجت وتظاهرت، فالقانون لك بالمرصاد، وغداً، الاتفاقية الأمنية ستلاحقك أينما كنت في خليج الحريات…!
اخرقوا شحمة الأذن، وعلقوا أرقام السعدون قرطاً مؤلماً بها يذكركم بأن الشمس لن تبزغ فجر الغد ما لم تزيحوا غبش عتمة اللامبالاة عن أعينكم.
لي ملاحظة: أعتذر للنائب السابق غنام الجمهور عن كل كلمة نقد كتبتها بحقه، وبسعيه المحموم لحل أزمة الأراضي السكنية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فقد كانت يدي في الماء، واليوم هي في النار…
حرب المئة عام العربية
حين نقرأ شهادة كاتب أجنبي في جريدة رصينة هي نيويوركر عن جرائم بشار الأسد في حلب، يمكن أن نفهم بدون أن نبرر ردود الفعل الانتقامية التي أقدمت أو قد تقدم عليها مستقبلاً، الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل جبهة النصرة وجند الشام – الكاتب في تلك الجريدة نقل صورة مرعبة عما يجري في تلك المدينة المنكوبة – أحد المتطوعين لدفن الجثث التي تسقط برصاص قناصة النظام، يقول إنه في أكثر من مرة، حاول أن يمسك بجثة أحد الشهداء ويسحبها من النهر، فتنقطع وتتفتت أطراف الجثة من طول بقائها وتعفنها في الماء، قناصة يختبئون في أماكن عالية، لا يمكن رؤيتهم منها، ويتم قتل كل روح متحركة تسير على الأرض، ويروي عدد من أهالي المدينة التي أضحت فيها مشاهد الموت اليومي مسألة مألوفة، عن سيدة كانت تهرول هرباً من الرصاص مع طفلتها، فتعثرت الصغيرة وسقطت، وحين حاولت الأم مساعدة ابنتها من كبوتها أصابتها رصاصة وقتلتها، ثم رصاصة أخرى من القناص لتجهز على الطفلة.
ويقول طبيب في مستشفى هناك، بعد أن سأله كاتب المقال عن أغرب حالات القتل اليومي، فيخبره الطبيب أنه شاهد جسد أصغر "كائن" يقتل برصاص قناص، وهو جنين، حين اخترقت الرصاصة بطن الأم لتصيب الجنين!
كما قلت، لم تكن تلك شهادة كاتب إسلامي سني، يتصيد على النظام العلوي، المرتدي لباس العلمانية ليغطي هويته الطائفية، ويكسب تعاطف القوميين والليبراليين واليساريين، إنما هي شهادة كاتب غربي في جريدة محسوبة على اليسار، وبالتالي لا يمكن إلا أن نطمئن إلى مصداقية الكاتب الذي خاطر بحياته ليكتب مثل تلك الشهادة المرعبة.
ما الثمن الذي يتعين على المدنيين السوريين دفعه في النهاية بحرب لا يبدو أن لها نهاية قريبة، فهي حرب أهلية طائفية، وهي حرب تحرير ضد نظام قمعي موغل بالوحشية، وهي حرب بالوكالة بين إيران وروسيا من جهة، ودول الخليج بدعم محدود من الدول الأوروبية وأميركا من جهة أخرى، وهي فتيل نار مشتعل أخذ يتمدد ليصل إلى العراق، ويقترب بسرعة إلى كل زاوية عربية تضج بالروح الطائفية والقبلية. إدارة الرئيس أوباما الحائرة في ضرب النظام السوري بعد تزايد التقارير عن استخدام النظام للأسلحة الكيماوية مترددة، فهي تخشى صعود الإسلاميين المتطرفين رفاق "القاعدة" إذا ما سقط النظام، وحتى لو وصل إلى الحكم جماعة معتدلة "نسبياً" مثل الإخوان، فأميركا ستتلقى لعنات الليبراليين واليساريين، ولها في مصر مثال قريب، وهناك، أيضا، الخوف الكبير، من تفتت الجسد السوري، وقيام دول الطوائف والقبائل، فليبيا والعراق مثالان حيان على ما ينتظر حدوثه في منطقة لم تشهد حتى الآن خلق الدولة الأمة ككيان موحد مستقل بهويته وتاريخه، ليس هناك أمل لغد قريب مفرح، ويظهر يوماً بعد يوم، أن منطقتنا العربية تمر بحرب المئة عام التي مرت على أوروبا في نهايات القرون الوسطى، ومهدت بالتالي، بعد معاهدة صلح وستفاليا، إلى قيام الدولة الأمة هناك… فلننتظر مئة عام من فوضى الحضارة والدمار والتخلف.
مشروع الفنيين الترزية
بينما يصرح رئيس المجلس الحكومي علي الراشد بأن المجلس لن يتردد في تعديل قانون الإعلام الموحد، يؤكد الشيخ سلمان الحمود وزير إعلام "وزارة الحقيقة" (أورويل ١٩٨٤) أن الوزارة لن تسحب مشروعها، وأن فنيين متخصصين وضعوا مثل هذا المشروع…! وفي هذا يظهر أن الطرفين، وهما مجلس الحكومة وحكومة المجلس، متفقان على تمرير مشروع القانون في آخر الأمر. فعلي الراشد المعبر عن لسان المجلس يقرر أن "المجلس لن يتردد في التعديل"، وكأن تعديل المشروع هو بيت القصيد، بينما المأساة تكمن في أن المشروع من ألفه إلى يائه ينتهك الدستور المنسي، وأبسط المبادئ المقررة لحقوق الإنسان وحرية التعبير، ويضع الإعلام الخاص كملحق خدم لوزارة الحقيقة ذات السيادة والقوامة، فالنضال يجب ألا يكون من أجل تعديل مادة هنا، أو مادة هناك، تلامس مسائل شكلية، بينما يظل صلب مشروع "تخزيم" الإعلام على حاله، وعلى عوراته، المطلوب هو نسف هذا المشروع بكامله، فقانون الجزاء، وقانون المطبوعات رقم ٣ لسنة ٢٠٠٦ فيهما من الشرور التي تنهش من حريات الضمير بأكثر من المطلوب، ولا حاجة، بعد ذلك، لابتلاع القليل مما تبقى من حقوقنا في أن نتنفس بهذا الجو الخانق.
بدورها، تصر وزارة الحقيقة على غطرستها، وعلى تأكيد ولايتها على عقولنا حين ترفض سحب المشروع، مقررة أن فنيين وضعوا المشروع، الله يهدي هذه الوزارة، ويهدي معها ترزيتها وكل أفراد سوق الخياطين العاملين بكل حكومتها، لكن كم أتمنى أن يكف الوزير الشيخ عن ترديد عبارة أن المشروع يخلو من السجن عدا "المساس بالذات الإلهية أو الملائكة أو الأنبياء…"، أدرك أن حشر عقوبة السجن عشر سنوات في المادة ٨٧ أريد به أن تكون الطعم للجماعات الإسلامية المعارضة حتى لا تكون لهم حجة في الاعتراض على المشروع، بينما الواقع أن المشروع يحيل على قانون الجزاء، بجرائم أمن الدولة الداخلي وبعقوبة العشر سنوات أيضاً لمخالفة الفقرة ٢ من المادة ٨٤، التي تنص على مسائل مجرمة منها "… {الدعوة} إلى اعتناق مذاهب ترمي إلى هدم النظم الأساسية في الكويت بطرق غير مشروعة…" تلك الفقرة الخطيرة أسوأ مما عددته المادة ٢٩ من قانون الجزاء، فتلك الفقرة من مشروع وزارة الحقيقة، تضفي العقوبة ذاتها ليس على الحالات التي قررتها المادة ٢٩ من قانون الجزاء فقط، وإنما تمدها وتوسع من نطاقها لتشمل الإعلام برمته، فهنا تمت توسعة الإدانة لتصل إلى إرهاب مخيف للفكر، فما هي تلك "المذاهب" التي ترمي إلى هدم النظم الأساسية في الدولة…؟ وكيف يمكن ضبطها وتحديد معانيها…؟! بدوري لا أفهم أياً من تلك المذاهب التي يقررها المشروع، لكني أدرك، يقيناً، أن مذهباً واحداً يهدف إلى "… هدم النظم الأساسية في الكويت…" هو مذهب السلطة الذي تتبعه الآن، أليس مثل هذا المشروع أحد تجلياته؟!
حكم دولة البطيخ «الباصج»
صور بعض أفراد أقارب مسلم البراك وهم مقيدون من الخلف، وملقى بهم على أرض حديقة الديوان لا تشي بدولة حكم القانون، ولا تجعلنا نتعاطف أو نفهم مواعظ وبكائيات افتتاحية صحيفة محلية أضحت "شبه رسمية" تعظ وتعلمنا بسطحية السذج عن "دولة القانون أو الفوضى والمجهول"، فليست فوضى ولا مجهولاً عندما يخرج متظاهرون للشارع العام برد فعل غاضب عبروا فيه عن رفضهم لأسلوب الملاحقات السياسية، بعد أن ارتدت تلك الملاحقات القفازات الناعمة لضرب مسلم البراك، وغير مسلم من نواب سابقين وناشطين سياسيين، رفضوا ما يجري في الدولة من محاصرة وتضييق لحق التعبير بحجة الأمن والأمان والوحدة الوطنية، وغيرها من "الكليشهات" المملة التي يمضغها كبار المسؤولين في الدولة.
حكم القانون يعني بداية المساواة في تطبيق القاعدة القانونية دون تحيز لفرد أو طبقة أو مجموعة، وحكم القانون يعني هيمنة وسمو القانون العادي على أي ممارسات عشوائية لأي سلطة من سلطات الدولة، وحكم القانون يعني أن نفهم أن الدستور ليس مصدراً لحقوقنا وإنما نتيجة لتلك الحقوق، تلك الشروط الثلاثة وضعها "دايسي" لمفهوم حكم القانون، ولا ينطبق أي منها على ممارسات السلطة التي فصلت التشريعات لعزل واستبعاد أي صوت معارض لها، سواء كانت تلك المعارضة نابعة من المجلس السابق، أو تتمثل في حق الأفراد الثابت في التعبير عن رأيهم ونقد السلطات العامة. فهل كان من صفات دولة القانون أن يتم تفصيل المجلس النيابي على مقاس السلطة الحاكمة؟! وهل من حكم القانون أن تتم ملاحقة الرافضين لسلوك السلطة الاستبدادي بالعصي والهراوات والقنابل الدخانية؟! وهل من حكم القانون غياب التناسب بين التهم السياسية والعقوبة، فتوقع أقسى العقوبات وبالحد الأقصى في تهم جرائم الرأي، بينما لم تشهد "دولة حكم القانون" المزعومة حالة إدانة واحدة لسرقات وتكسب من الأموال العامة وتجاوزات لقوانين الدولة تمت في وضح النهار؟!
وهل من حكم القانون أن يجري التسابق بين الحكومة ونواب "الغم" بهذا المجلس لمصادرة الرأي الآخر، وقمع حرية الضمير بالصورة القبيحة التي يعبر عنها مشروع قانون الإعلام الموحد، أو تظهر لنا بتصريحات هتلرية وفاشية من أفواه عدد من نواب الغم…؟! أي دولة حكم القانون وأي بطيخ تتحدث عنه صحف بارونات النفط، سأقف عند هذا الحد، فأنا أخشى أن يلاحقني القانون في إمبراطورية حكم القانون السمحة.
الأخ العبيط يراقبك
"على واجهة المنزل المقابل كانت تنتصب واحدة من تلك الصور المكتوب عليها بأحرف بارزة "الأخ الكبير يراقبك"… أما وزارة "الحقيقة"، وهي عمارة عالية تلامس السحاب، فقد كان "باستطاعة ونستون أن يقرأ على الحائط الأبيض كتابة ذات أحرف كبيرة بارزة، هي شعار الحزب المؤلف من جمل ثلاث: الحرب هي السلام. الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة…".
وزارة الحقيقة في رواية ١٩٨٤ لجورج أورويل هي وزارة الإعلام، ولم يكن العملاق أورويل يكتب فقط عن عالم خيالي في إنكلترا قبل ستين عاماً، بل كان يفكك طبيعة النظام الشمولي الاستبدادي، مثاله روسيا الستالينية ذلك الزمن، فهل استطال خيال أورويل ليقرر واقعنا الكويتي اليوم بعد مشروع قانون الإعلام الذي يحمل عنوان "الجهل هو القوة"؟ هو جهل المشروع الحكومي حين يتصور أن حكومة "الأخ الكبير" ستنهي كل صور المعارضة الفكرية بمثل هذا المشروع الجاهل!
"استعباط" عقول البشر يتجلى، أولاً، في مشروع القانون، وفي مقولة وزير إعلام وزارة الحقيقة الكويتية، ثانياً، في أن المشروع يهدف إلى تقرير الحريات في الدولة نقرأها ببجاحة المادة الثالثة من المشروع "… بأن حرية الصحافة والطباعة مكفولة وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها هذا القانون…"، ثم تأتي تلك الشروط والأوضاع في ما بعد لتهزأ بكم وتضحك بكل صفاقة بأنه لا حرية ولا بطيخ في إمبراطورية شيوخنا، الله يحفظهم، فالمطبوع يشمل كل جملة مفيدة أو ضارة، وكل كلمة، وكل حرف "… وكل كتابة أو رسم أو صورة أو قول، سواء كان مجرداً أو مصاحباً لموسيقى أو غير ذلك من وسائل التعبير…!" (الفصل الأول) ماذا بقي يا ترى من وسائل التعبير لم يجرمها المشروع، حتى التجشؤ سهواً يشمله قانون حكومة الأخ الكبير.
لن أناقش في مقال محدود المكان مواد المشروع، التي يجب أن تفرز لها دراسة قانونية مستقلة، لكن لاحظوا أن مشروع الأخ الكبير، الذي يعرف ما لا نعرفه، ويرى ما لا نراه، ويدرك مصالحنا بأكثر منا، فهو "البابا والماما وكل حاجة بحياتي"، بعبارة فيروز الصغيرة في فصل درامي مع أنور وجدي، ليس في النهاية إلا معلماً من معالم العتمة المرعبة التي انتهجتها السلطة في تعاملها مع المعارضين، فقراءة هذا المشروع لا يجوز أن تتم بمعزل عما يدور اليوم من ملاحقات للمغردين ونواب سابقين، فضحوا بشجاعة مؤسسات الفساد في الدولة، ووقفوا ضد استفراد السلطة بتهميش إرادة الشعب.
مشروع قانون الإعلام الموحد ليس موجهاً للقنوات والصحف المشاغبة دون غيرها، ولا يهدف فقط إلى تكميم أفواه الشباب المغردين، مع فتح مكبرات الصوت إلى أعلاها للعجائز المطبلين الانتهازيين، وإنما يراد به ضرب كل يد صفقت لمسلم البراك وفيصل المسلم وأحمد السعدون، وغيرهم من رموز المعارضة، تريد حكومة الأخ الكبير أن تكمل وصايتها وهيمنتها على أفكار البشر، وهي تدرك أن غريمها اللدود هو الكلمة الحرة، هي تعلم أن خصمها العنيد هو حرية الضمير… ماذا يريد الأخ الكبير في النهاية بعد أن أضحت الدولة مثلثاً من الخواء والقمع؟! هل سيصمت الكويتيون على مهزلة مشروع قانون الإعلام، مكتفين بالندوات والمقالات، ولا شيء بعد ذلك… حتى يأتي اليوم الذي تجز فيه رقابهم على مذبح الأخ الكبير، لأن الحرية هي العبودية، ولأن الجهل هو القوة عند الأخ الكبير الذي يراقبنا بعين مشروع الإعلام، وهو الأخ العبيط الذي يقمع الأحلام.
أشعر بالقرف
«شوف وجه العنز واحلب لبن»، قفز بذهني هذا المثل الكويتي بعد أن قرأت ملاحظات بعض أعضاء اللجنة التعليمية بمجلس «تابعه قفه» التشريعي، حول مشروع قانون الإعلام الجديد المقدم من حكومة «لا صوت يعلو فوق صوت السلطة»، وأيقنت أن الإعلام الكويتي سيحلب «لبن السلطة المعفن»، وستوارى تحت الثرى مرة واحدة وللأبد بقايا «نثريات» الحريات الإعلامية، وستصبح صحفنا وقنوات التلفزيون والمواقع الإعلامية مرايا مظلمة عاكسة لإعلام «… وصل… واستقبل… وودع» الرسمي. أما المغردون الشباب فيصبحون غرباناً ينعقون مأساتهم حين يختم نواب «تابعه قفه» مصدقين على قانون سواد الوجه الإعلامي.
لم تكتف هذه السلطة التي تدير الدولة وكأنها «ياخور» غنم في حيازتها بقوانين الجزاء بجميع أشكالها الإرهابية، ولا بالعقوبات التي نص عليها قانون المطبوعات والنشر الساري، فتقدمت بهذا المشروع الذي سيقطع أصابع الكتاب، ويخصي عقول الناس، حتى يكتمل مشهد البشر القطيع في حظائر أولي الأمر الرعاة، الولاة، الآباء.
مشروع «دراكو» الإعلامي، لم يكتف بالعقوبات المالية التي تصل إلى مئات آلاف الدنانير، وتفلس كل من يتجرأ على قول كلمة «لا» لسلطة «الكمال» الأوحد، بل إنه يزيد «الجيلة» فوقها بالعقوبات المصادرة للحرية، ليس فقط في نصوص مشروع وحش فرانكشتين ذاته، بل بالإحالة على قوانين القمع السارية بعبارة مثل «… مع عدم الإخلال بأي عقوبة ينص عليها قانون آخر، يعاقب كل من…» ويمضي نص المادة 84 لتعداد الحالات الموجبة للعقاب، وهو يكاد ألا يستثني أحداً من أهل الإعلام، فأضحى الحظر والقهر هما القاعدة، والحرية هي الاستثناء.
كان أولى بالسيد وزير الإعلام، الشيخ ابن الشيخ، أن يصمت ولا يعلق أبداً، على مشروع أهله وعشيرته ومستشاريهم من ترزية الاستبداد، ومن فصيل شعار “قول… عاوز إيه، وأنا اعمله وافصله على المقاس….”، لكن نسي نفسه وأخذ يردد بلا معنى أن القانون لا يفرض عقوبات بدون حكم القضاء! “يحليلك يا شيخ وينك في”، فكل العقوبات لا تصدر بدون أحكام القضاء، فالمحاكم تُعمل القانون، ولا تخلق القانون في مثل نظامنا القانوني، وهي لا تملك من أمرها شيئاً، بالعادة، عندما يكون القانون جائراً وظالماً…
يبقى هناك كلمة أخيرة لكل مسؤولي وسائل الإعلام الخاصة، فلن يكون مجدياً مانشيتات ومقالات نقد موسمية لمثل هذا الإرهاب الإعلامي وتنسى فيما بعد بوعد عقد مالي أو تهديد سلطوي، فمنذ متى أصبحت السلطة تسمع كلمة العقل، وتنصت لصوت الحرية، فكروا في وسائل أخرى كإضراب الصحف والقنوات وبقية وسائل الإعلام الضحايا القادمة، أو إخراج صفحات بيضاء في حال الإصرار على مشروع القانون… تحركوا، انهضوا، اعتصموا، ضحوا قليلاً، اصرخوا بصوت عال ليسمع العالم عن ملهاة الحرية في دولة بني نفط، قولوا بنبرات اليقين: إن الصحافة الحرة هي ضمير الأحرار وليست أثواب رياء وتدبيج آيات نفاق مزركشة لأهل الحكم… عل وعسى أن تحصلوا على بركاتهم وعطاياهم.
كم أشعر الآن بالغثيان في وطني، أشعر بحزمة ثقيلة من القرف تجثم فوق صدري.
ملاحظة على مقال أمس الأول: اسم الكاتب المحلل لاقتصاديات النفط بموقع “الآن” الصحيح هو الزميل والصديق كامل حرمي، أخطأت سهواً وسميته كامل العوضي… عذراً.