التصنيف: حسن العيسى
صندوق صباحي جديد أم ماذا؟!
تردد وانتشر خبر قبل فترة عن شيخ من شباب الشيوخ، ومن قرابة الحواشي للأسرة، أي إنه ليس من سلالة مبارك ذات الامتياز الخاص بالحكم، ولكنه من أطراف الأسرة المالكة ويملك ثروة وإعلاماً، طبعاً لم تنزل عليه الثروة من السماء، عمل واجتهد كي يخلق صندوقاً من مساهمات "أهل الخير" في الأسرة، غاية الصندوق الصباحي الخيري أن يساهم ويدعم عدداً من المرشحين كي يخلق "بلوك صباحي" في المجلس القادم تكون له كلمة الفصل الحاسمة بين تكتلات "شبه" إسلامية و"شبه" شعبية و"شبه" ليبرالية، والتي تضيع وتتوه في مرقة المجلس "الباصجة"، بعد أن أصبح "الشيف الصباحي" هو السيد الأوحد في مطبخ المجلس بعد مرسوم الصوت الواحد المحصن.
البلوك الصباحي الجديد حسب الأخبار السابقة، سيكون الحكم المرجح في التجاذبات السياسية داخل الأغلبية التابعة وربما المعترضة بأدب، وداخل إطار المسموح في العرف الكويتي، وسيقرر تعيين الوزراء القادمين وتنحيتهم بالوسائل البرلمانية طبعاً، ويضع الفيتو على الاقتراحات المقدمة أو يدفع بها كي تقر وكما تريد الأصوات النافذة داخل أسرة الحكم. بكلام آخر "الصندوق" الصباحي الذي يدخل الفرعيات في مرات، ومرات أخرى يمد يد الخير والإحسان للتابعين من المرشحين، سيكون حكومة أخرى موازية للحكومة الرسمية، ومع أن الأخيرة هي أيضاً صباحية في النهاية إلا أن الحكومة المجلسية ابنة صندوق الخير ستفرض على الحكومة الصباحية "الرسمية" ما تريد، وستكون الأقوى داخل المجلس الذي أيضاً تتنازعه صناديق خير عدة من صباحيين وغير صباحيين، إلا أن الصندوق الجديد ستكون له كلمة الفصل النهائية…!
لا جديد في هذه الأخبار، فصناديق الخير البرلمانية التي رعاها أبناء الأسرة الحاكمة في مرات كثيرة، ومرات أخرى غذتها "قوى الشعب الفاسدة" (بالمفارقة لأدبيات قوى الشعب العاملة في مصر ٢٣ يوليو) ليست شذوذاً عن النهج العام، وليست مسألة جديدة في هذه الدولة النفطية الريعية، وهي ممارسة قديمة قدم المجلس، وإن تجلت بصورة مرضية بعد فوران أسعار برميل النفط في العشر سنوات الأخيرة، وتنامي قوة الدينار السياسية، إلا أن ما يستعصي على فهمي البسيط هو ما إذا كان عيال شيوخنا "الله يبارك فيهم" بحاجة لبلوك صباحي اليوم، وهل كانوا بحاجة لمثله في الأمس؟! ولماذا؟!
نحن نعرف أنهم الآن اللاعب الوحيد تقريباً في الساحة السياسية، وكانوا بالأمس أيضاً لهم السطوة، وإن تكبلت سطوتهم بعض الشيء مع المجلس المبطل الأول، الآن تحديداً لا أحد ينافسكم ولا يملك أحد ما تملكون إلا من البعض الذين يدورون في حلقات ذكركم، فما حاجتكم لهذا الصندوق ولهذا البلوك القادم، ما لم يكن الغرض منه هو "تصفياتكم الداخلية" التي ستنقل بصور شبه رسمية إلى المجلس، مع البث التلفزيوني غير المباشر، فهل هذا ما تحتاجه الديرة وهل هذا مشروعكم التنموي الكبير…؟!
يا رب كن بعون أجيالنا على القادم من الأيام.
لا صوت يعلو صوت شيوخنا
أتفق مع الزميل خليل حيدر في مقاله بـ"الوطن" عن حكمة تسمية كثير من شوارع الكويت ومناطقها بأسماء أشخاص لم يقدموا شيئاً للدولة ولا لتاريخها، كل ما نعرفه عنهم أنهم ساهموا في تراكم ثرواتهم وبناء مستقبل سلالتهم المالية، وبعضهم كانت له سيرة لا تشرف في الجهاز الإداري أو السياسي للدولة، ومع ذلك نصعق كل يوم حين نمر على هذا أو ذاك الشارع ونطالع اسم جناب المرحوم "الكبير" منقوشاً على اللوحة الإرشادية الزرقاء بأول الشارع ونهايته. بينما هناك عدد من الأفراد الوافدين عرباً وغير عرب قدموا الكثير إلى الدولة وإلى ماضيها تم طي ذكراهم ومساهماتهم للدولة، ورحلوا عنا وعن الحياة بصمت، ولم يتم تكريم أي "ذكرى" لهم، ولا لما قدموه، واعتبرتهم السلطة واهبة التكريمات والتشريفات بثقافة "الأنا" النفطية كانوا "يترزقون" سبل العيش بالدولة، وأنهم قد أخذوا المعلوم وانتهوا وانتهينا معهم…!
طبعاً هناك الكثير من أهل الكويت يستحقون أن يكرموا بحياتهم، وتخلد ذكراهم بعد وفاتهم حين تسمى بعض الشوارع أو المؤسسات بأسمائهم، لكن ما يحدث أن هناك أيضاً نكرات لم نعرف عنهم أي شيء غير أنهم كويتيون ولا أكثر، لصقت أسماؤهم على اللوحات الزرقاء… لماذا…؟ هناك اعتباطية غير مفهومة عقلياً في إطلاق أسماء هؤلاء على شوارع الديرة، وهناك بخس كبير، أيضاً، لهوية الدولة وتاريخها حين تسمى مناطق سكنية (أو مشاريع سكنية) ليس لها أول ولا آخر بأسماء أفراد من الأسرة الحاكمة، وأصبحت هذه الظاهرة أكثر تجسداً في السنوات الأخيرة، وبعد التحرير، ويخشى أن يأتي اليوم الذي يغير فيه اسم البلد من الدولة الكويتية إلى الدولة الصباحية، ومع كل التقدير لهذا أو ذاك الشيخ الذي رحل إلا أنه لا يمكن فهم "تخليد" ذكراه بتلك الطريقة التي تنهش ذاكرة الأمة وتسخفها إلى حد بعيد.
يقيناً إن إطلاق تسميات بعض الأفراد على شوارع الكويت ممن لم يكن لهم دور في بناء الدولة قصد به نوع من "الترضية" الاجتماعية لأفراد أسرة أو قبيلة المرحوم، ويقيناً، أيضاً، إن هذا يعد نوعاً من شراء الولاءات السياسية يصاحبه استثمار سياسي لعشيرة الراحل، لكنه يدل قبل ذلك على خواء فكري ولا مبالاة لروح الدولة في قرارات التسمية بتلك الممارسة الفجة، ويمكن عده على أنه اختزال للدولة بقطعة أرض أو شاليه أو مزرعة خاصة "مملوكة" بالكامل للأسرة المالكة، تهب من تشاء وتمنع عما تشاء، وإن كان المرحوم عبدالله السالم قد حسم وأنهى "دولة البراميل" (تملك الأراضي الخلاء بوضع اليد عن طريق تحويطها بالبراميل) بقانون تنظيم الأراضي الأميرية في خمسينيات القرن الماضي، إلا أن النهج البرميلي في الاستحواذ المادي أو المعنوي على مقدرات البلد، كما في تسميات المناطق وبالتبعية الشوارع، مازال قائماً، ولم يفعل وزير المالية السيد مصطفى الشمالي شيئاً إلا أنه عبر عن هذا الواقع بعفوية بعبارة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، آسف… كتبتها خطأ… والتصحيح هو "لا صوت يعلو فوق صوت الحكومة"، وتفسيرها أنه "لا صوت يعلو فوق صوت الشيوخ"، فهم الحكومة بداية ونهاية.
احلبوا لبنكم المر
بينوشيهات بني يعرب
أذكر أنه قبل خمس سنوات أو أكثر، عندما زار رئيس وزراء سنغافورة الأسبق "لي كوان هو" الكويت بدعوة من بنك الكويت الوطني وألقى محاضرة عن التجربة السنغافورية، سأله أحد الحاضرين عن الديمقراطية وعلاقتها بالتنمية في مثل الحالة الكويتية، كان رد "هو" بما معناه (إن لم أنس) بأنه ليس المهم وجود المجلس البرلماني من عدمه، بل المهم أن تكون لديك إدارة "فعالة" يمكنها أن تضع الدولة على سلم التنمية الاقتصادية.
تذكرت هذا اللقاء بعد قراءة مقال توني بلير في "الأوبزرفر"، الذي علق فيه على الوضع المحزن في مصر، ويستعرض "مستشارنا المالي السابق" بمقاله مجمل الأوضاع الملتهبة في الشرق الأوسط، ولا يخفي مساندته لحركة تمرد أو الانقلاب العسكري في مصر، ويستشهد مدللاً على فشل إدارة الرئيس مرسي بأنه حدث وأن التقى قبل أيام وزير السياحة المصري الذي كانت له أحلامه الكبيرة لعودة النشاط السياحي لمصر، بعد أن هبط المدخول السياحي لمعدلات قياسية بعد ثورة يناير، وأنه (الوزير المصري) بعدها قدم استقالته احتجاحاً حين عين الرئيس المصري أحد كبار الجماعة الإسلامية كمسؤول السياحة بالأقصر، وهي الجماعة التي ارتكبت مجزرة السياح هناك في النصف الثاني من التسعينيات.
ويستطرد مستشارنا "المالي" بلير ليؤكد حاجة مصر الثورة إلى الإدارة "الفعالة"، فالديمقراطية هي الطريق لاختيار أصحاب القرار السياسي، ولكنها ليست عوضاً عن "القرار السياسي" ذاته…!
كلام جميل لمستشار الدولة الكويتية المالي، ويصعب مجادلته… لكن أيضاً في الجريدة الشقيقة لـ"الأوبزرفر" وهي "الغارديان" يسخر الكاتب مارتن بنغلي بمرأة من مقال لجريدة "وول ستريت" تقول فيه إن مصر بحاجة اليوم إلى بينوشيه، وهو الدكتاتور الذي قتل آلاف التشيليين بانقلاب 73 ضد سلفادور أليندي الرئيس المنتخب، وسجن وشرد مئات الألوف، حتى يضع تشيلي على قطار التنمية الصحيح، كما تريده الولايات المتحدة وجهاز مخابراتها الذي احتضن الدكتاتور ذلك الوقت…!
هنا نسأل هل صحيح أن مصر أو أي من الدول العربية بحاجة إلى الجنرال بينوشيه حتى يضع "الجمل" العربي -وليس القطار الاتيني- على دربه الصحيح! في تشيلي كان هناك بينوشيه واحد دفع بتشيلي إلى مسار التنمية مع بعض الفساد، ليعمل "كزيت" يدير محركات التنمية وبعون كبير من الولايات المتحدة، لكن في عالمنا عندنا بينوشيهات عدة وليس واحداً، استطاعوا تحقيق بعض التنمية المختلة حين أثروا جماعة العسكر والمقربين منهم من الطبقة الوسطى، بينما بقيت الأغلبية مسحوقة ومهمشة تدور في حلقات مغلقة في عوالم الإهمال والاستغلال، ولنا في حسني مبارك وقبله أنور السادات بمصر، وفي سورية الأسدان الأب والابن، وعراق صدام، خير أمثلة على بينوشيهات الشرق العربي، كلهم حققوا تنمية محدودة لمجتمعاتهم إلا أنها تنمية لم تصل إلى مرحلة "الإقلاع" Take off، وتصبح تنمية مستدامة، مثل الصين ودول جنوب شرق آسيا، وسرعان ما تنعكس تلك التنمية القهرية في ما بعد لأي سبب بعد تغير شخص بينوشيه العربي، ليحل مكانه بينوشيه آخر بطموح مختلف وبفساد بلون آخر.
مستشار الدولة الكويتية (السابق وهي، بالمناسبة، دولة تزخر بالمستشارين الذين يقدمون استشارات بمقابل مادي جزيل تدخل في الأذن اليمنى للسلطة لتخرج من اليسرى) لم يختلف في رأيه عن مقال "وول ستريت" وحاجة مصر لبينوشيه جديد، مع أن بينوشيه مصر حاضر الآن ويتكلم بلسان عربي، ولم يقل العم بلير كلمة واحدة في مقاله عن "مؤسسات الفساد" الضاربة بأعماق الدولة المصرية تحت ظلال حكم "بينوشيهات" بلاد النيل، ولم يسأل مستشارنا السابق ما إذا كان بينوشيهات مصر لهم القدرة والإرادة لخلق "حكومة فعالة" تنقذ مصر من واقعها الاقتصادي، وهل يستطيع شخص محترم مثل محمد البرادعي أو غيره أن يرتدي بدلة "لي كوان هو" سنغافورة أو مهاتير محمد ماليزيا، ويشرع أبواب الإصلاح المالي، ويقطع دابر الفساد صاحب السيادة، لتضع مصر قدميها على الدرب الصحيح، وتظل المؤسسة العسكرية تتأمله متفرجة…! يا ليت لكني أشك كثيراً.
خياراتنا محدودة
التقدميون من يساريين وليبراليين اليوم في محنة فرز مواقف، وهم بصدد قراءة المشهد المصري بعد عزل الرئيس المصري محمد مرسي، بعضهم يقف دون تردد مع حلم إنهاء مشروع حكم الإخوان في مصر الذي سيقود بالزمن القريب (بتحليلهم) إلى قيام الدولة الدينية الثيوقراطية التي ستقهر حريات الأفراد وحقوق الأقليات، وتفرض المنهج الديني الأحادي في التشريع مع صياغة الحياة العامة والخاصة وفق نموذج الخلافة الحاكمة، ولهذا الفريق حجته في تجربة الثورة الإيرانية، لذلك لا يتردد هذا الفريق في نعت حركة ٣٠ يونيو بأنها "ثورة شعبية" لها مشروعيتها، وهي عندهم ثورة فرضت هيبتها بعدد المشاركين في ميدان التحرير، ولا بأس عندهم أن يتم تجاوز "الشرعية" القانونية، قليلاً أو كثيراً، ويتحالف مع العسكر من باب "أهون الشرين"، فهم يعلمون أنه لا جدوى من الحراك الشعبي للتغيير لمواجهة النظام الإخواني الحاكم، ما لم يبارك من دولة المؤسسة العسكرية المصرية، وهذه المؤسسة "دولة" ذات سيادة واقعية على الأرض بميزانية مستقلة ودخل خاص من دروب مشروعة وغير مشروعة لا يمكن تحديها أو الحد منها، ولم يستطع الرئيس مرسي الاقتراب منها.
الفريق الآخر من الرافضين للدولة الإخوانية، وإن كانوا لا يتجرعون حكم المرشد العام، إلا أن إيمانهم بالشرعية يفرض عليهم أن يقولوا "لا" كبيرة للعسكر، والشرعية لا تعني هنا، الرضوخ لحكم الدستور، وما أخرجته صناديق الانتخابات، بل هي طريق الوقاية الوحيد من مزاجية التفرد بالسلطة من أي جماعة كانت، وإذا كان مرسي قد استغل هذه الشرعية، وكرس ما يسمى "استبداد الأغلبية" التي فازت بالأكثرية في انتخابات الهيئات التمثيلية، فلا تكون مواجهتها بالانقلاب عليها والاستعانة بالدبابة والطيران، وإنما بالعمل من خلال المؤسسات القائمة، وعبر خلق الوعي العام لرفض وصايات الأغلبية وتحريرها من عبودية التبعية لنظام الحكم، هذا التحرير لابد أن يكون عبر القنوات القانونية وعبر الرفض السلمي لأي انحراف للسلطة الحاكمة حين تميل لاستبعاد الآخرين المخالفين وتهميشهم.
أيضاً هناك حجة أخرى يضيفها هذا الفريق، وهي حجة عملية، فهم يرون أن الإخوان اليوم يشكلون المصدات الواقية من أمواج التطرف الديني التي تموج بها بحار المنطقة العربية، وقد أثبت التاريخ المعاصر أن قمع تلك الجماعات المتطرفة، عبر الأنظمة البوليسية، لم ينتج غير المزيد من التطرف والمزيد من التعاطف معها، ولنأخذ مثالاً تاريخياً، عن السيد قطب الذي كان متطرفاً بقلمه وفكره، وكان يمثل ردة فعل طبيعية لأضواء الحداثة، كما شهدها في فترة إقامته البسيطة بالولايات المتحدة، وطفق يبحث عن الحضن الدافئ للهوية والذات، إلا أنه حين علق على حبل المشنقة بعهد عبدالناصر تفجرت في ما بعد الحركات التكفيرية المرعبة التي تدفع المجتمعات العربية ثمنها غالياً اليوم، وما يحدث الآن هو إعادة إنتاج مشاهد شنق سيد قطب وحفر بركة واسعة يتوالد بها أمراء الإرهاب من جديد، وعلمنا التاريخ الحديث أن السجون والملاحقات لم تنفع في استئصال تلك الجماعات، بل زادتها قوة ونفخت على نار كراهيتها للدولة والمجتمع، فهل هذا ما نريد في النهاية؟! فشواهد ما يجري الآن في مصر يطلق صافرات الإنذار عن الحرب الأهلية الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي، ولنؤكد أن مصر غير الجزائر، فهي مركز الثقل للعالم العربي ومحوره الأساسي، وأي تغير فيها سيطالنا إن لم يكن اليوم فغداً… فلنواجه الفكر الديني المتعصب بفكر ديني معتدل "نسبياً" يمثله الإخوان في هذه المرحلة التاريخية عل وعسى أن تتغير نظرتهم للعالم المعاصر حين يجلسون بقلق على كراسي الحكم ويخضعون، في آخر الأمر، للواقع الدولي، فلم لا نعطي الإخوان فرصة لاحتواء المتشددين فليس لدينا رهان آخر، أما الحديث عن القوى الليبرالية والتقدمية لمواجهة الغليان الأصولي في المجتمعات العربية فهذا وهم كبير.
نصيحة في مكانها وغير مكانها
نصح الرئيس أوباما الرئيس محمد مرسي حتى تتجاوز مصر محنتها، وأخبره بأن الديمقراطية ليست صندوق انتخابات فقط، بل هي أكثر من ذلك، فهي تعني أن تستمع الحكومة لصوت الجميع (واشنطن بوست عدد ٢ يوليو)، نصيحة في مكانها الصحيح، وبمثل هذا تصف الأستاذة سمر شحاتة الغليان المصري اليوم بأنه مواجهة بين ديمقراطيين غير ليبراليين (الإخوان والقوى الإسلامية المتحالفة معهم) ضد ليبراليين غير ديمقراطيين، (نيويورك تايمز ٢ يوليو) وهذا صحيح نوعاً ما، وليس بالإطلاق، وهو يعيدنا لكتاب فريد زكريا الذي نشر قبل بضع سنوات بعنوان الديمقراطية (غير الليبرالية)، فلا نتصور أن توجد ديمقراطية حقيقية لا تقوم على أساس الليبرالية، أي مبدأ التسامح وفتح المجال للقوى السياسية غير الفائزة في الانتخابات للمشاركة في صنع القرار السياسي مع الحزب الفائز، وهذا ما لم يفعله الرئيس مرسي، فهو وإن كان يمثل "الشرعية" القانونية كرئيس منتخب من الأغلبية مهما كانت نسبة نجاحه ضئيلة، إلا أنه بإعلانه الدستوري وباختياراته للقيادات السياسية همش الآخرين من ليبراليين ويساريين، وترك "جماعته وعشيرته" تهيمن على مفاصل الدولة، وفي الوقت ذاته تحدى سلطة القضاء و"حصن" (وأعوذ بالله من شرور تحصين ما لا يصح تحصينه) قراراته من الرقابة القضائية.
أخطاء كبيرة ارتكبها الرئيس الشرعي محمد مرسي، والذي قوضت شرعيته القانونية بعد أن انتفضت عليها "الشرعية الجماهيرية"، فهل توجد حقيقة شرعية جماهيرية، أو "شرعية ثورية"! تلك التعابير تذكرنا بأيام الانقلابات العسكرية التي عصفت بالمنطقة العربية بعد الاستقلال، حين تذرعت تلك الجماعات العسكرية بالشرعية الثورية، وقوضت الملكيات الحاكمة التي كانت رغم حجم فسادها الكبير وإهمالها لشرائح عريضة من البؤساء أفضل تمثيلاً للشرعيات الدستورية من الأنظمة العسكرية التي انتزعت السلطة من الملكيات التابعة للمستعمر الإنكليزي أو الفرنسي.
من هنا يظهر أكثر من كاتب غربي يشبه واقعنا العربي اليوم بأوروبا عام ١٨٤٨، وهي أوروبا الثورات التي شملت معظم القارة الأوروبية –باستثناء إنكلترا وبلجيكا- وامتدت حتى البرازيل، وكانت سنة ميلاد البيان الشيوعي لماركس وانغلز. فقامت ثورات ليبرالية برجوازية وأزاحت أنظمة الحكم الملكية، إلا أن قوى الثورة المضادة، في ما بعد، لم تمكنها وعادت الملكيات بعد فترات اختلف زمنها في كل بلد، الآن عودة الملكيات كانت بصورة غير السابقة، فقد عادت لتتطور في ما بعد بشكل الملكية الدستورية. نلاحظ أن ثورات ١٨٤٨ ولدت ومعها وقبلها دعاة فكر متميز ثقيل، مثل ماركس وانغلز وبرودن وتوكفيل وغيرهم، بينما في ثوراتنا لم تنجب الأرض ولم تخلق الظروف التاريخية مثل تلك الأسماء المبهرة التي غيرت مسار التاريخ في أوروبا وما بعد أوروبا، بل حبلت الأرض العربية برجال مثل بن لادن والظواهري ومن على شاكلتهما.
كما أن البعض الآخر من الكتاب يشبه حال مصر الآن ومعها تركيا (والبرازيل اليوم) بأوروبا ١٩٦٨ (ثورة الطلبة أو الثورة الجنسية)، وهذا تشبيه غير دقيق، ففرنسا ومعظم دول أوروبا في تلك السنة كانت تحيا رخاء اقتصادياً ما بعد الحرب الثانية، والصراع انفجر ليس لأسباب اقتصادية وعدالة اجتماعية فقط، كان صراع أجيال عند المؤرخ اليساري الراحل المؤرخ توني جودت، ولا تشابه في النهايات بين الرئيس مرسي اليوم وديغول الأمس، فهما وإن اشتركا في "فردانية" الإدارة السياسية نوعاً ما، إلا أن محرر فرنسا بعدما جاء الاستفتاء العام لغير صالحه تقدم باستقالته ورحل، ولا يظهر أن مرسي سيفعل مثله… وبكل حال ففرنسا ٦٨ أقرب لتركيا "أردوغان" اليوم منها إلى مصر، فالأخيرة تعاني أسوأ أوقاتها الاقتصادية بعد الثورة، فمعدلات البطالة تزايدت، وانخفضت السياحة إلى أدنى مستوياتها… وليس في جيب مرسي إلا وصفات قديمة من تراث مبارك لحل معضلة مصر الاقتصادية بعد الثورة، كان هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ألم يكن من المتصور أن يرد الرئيس المصري على نصيحة أوباما، ويسأله: ماذا فعلت أميركا للربيع العربي، هل مدت يد العون لدوله وانتشلتها من دوامة الفقر…! هل خطر ببال العم أوباما مثل مشروع مارشال الذي أنقذ الاقتصاد الأوروبي بعد الحرب كي ينقذ اليوم روح الربيع الذاوية…! فقط وقف الرئيس الأميركي يتفرج ويقدم النصيحة عن الليبرالية الديمقراطية لرئيس دولة تختنق اقتصادياً… وتمهد أرضها والأرض العربية حولها لعودة أشباح بن لادن وطائراته والزرقاوي وسكاكينه…!
غشوا تصلوا
ضرب وزير التربية نايف الحجرف بقسوة على من تسبب في ممارسات الغش من المسؤولين الكبار في وزارة التربية، عندما تواطأوا بالجريمة أو شاركوا فيها عبر إهمالهم في الامتحانات العامة. قسوة الوزير مستحقة، ويا ليت عصا العقوبة تطول وتردع الغير، ليس في هذه الوزارة فحسب بل في جل مؤسسات الدولة التي تراوح في قضايا الغش، إلا أنها عصا قصيرة في مكانها، أي وزارة التربية، ولا تمتد إلى بقية وزارات ومؤسسات الدولة الخاصة والعامة، ولا تصل إلى سلوك الأفراد، وهي أيضاً عصا محدودة الأثر في زمانها، أي فترة الامتحانات، أما في عمر الدولة الممتد فلا توجد هذه العصا للضرب على أيدي الغشاشين، وإنما هناك الجزرة أو الكعكة التي يكافأون بها، وتقتصر مهام عصا التأديب والزجر على المخلصين، الصادقين من حزب المنسيين.
عرفت ويكيبيديا الغش Cheating بأنه ممارسة نهج لا أخلاقي للحصول على أهداف معينة، وعادة ما يستغل للحصول على ميزة معينة في وضع تنافسي محدد، إذن –حسب ويكيبيديا الإنكليزية- يصبح الغش أداة للحصول على مكاسب ومنافع بوسائل لا أخلاقية، ويكسر القواعد المعروفة.
حدث غش في امتحانات الطلبة، وضرب الوزير، وقد يتعلم وقد لا يتعلم الغير الذين تضج من كثرتهم ساحة الوطن من صفعة الوزير. فمثلاً، كيف يمكن أن يتعلم "الأخلاق" هؤلاء الذين حصلوا على شهادات عالية من جامعات وكليات وضيعة، الشهادة لها سعر مادي معلوم، والطريق إليها سهل وممهد، ووزارة التربية قد تضع بعض العراقيل لخريجي جامعات وكليات "أي كلام"، لكنها في النهاية ترضخ للضغوطات الشعبية وغير الشعبية لأمراء ومافيات الغش.
أيضاً بقية الوزارات تجد نفسها ملزمة بقبول المتخرجين من جامعات الغش للأسباب السابقة، وما دامت الأرض الكويتية تنز نفطاً وريعاً، فلا يعني شيئاً أن تكون حاصلاً على الدكتوراه في القانون من هارفرد، أو حاصلاً على شهادة قانونية من كلية أو جامعة الثلاث ورقات، فكلها عند مسؤولي السلطة "صابون"، فالغش حلال، طالما أنه لا يلامس أمن النظام الحاكم.
الغش هو عمل انتهازي، هو اغتنام الفرصة دون وجه حق كي يكسب الغشاش على حساب الضحية، وهو الأمين الذي لم يغش، وعلى حساب مستقبل وطنه وأمته حين يزوّر الغشاش واقعه، ويظهره بصورة غير حقيقية ويصعد سلالم الغش، عتبة بعد أخرى، يتلو في صعوده الهابط كلمات النفاق والدجل، ويصبها في آذان أولياء النعم "لزوم الفرفشة" والرضى عندهم، حتى يصل إلى الأعلى، أي قمم المال والسلطة.
الغش، هو عمل أناني صرف. حين يستبعد الغشاش الآخرين غير الغشاشين من مضمار المنافسة الشريفة، وينصب عليهم، ويفتك بهم نفسياً، عندما تزين قلادة النجاح الكاذب صدره، بينما يبقى المنسيون تائهين في صحاري اللاجدوى من الجهد والعمل الجاد والإخلاص، يعملون تحت مظلة نظام سياسي محدود الفكر، تتمحور ثقافته بكلمتي "كله صابون".
كم نظلم هذا أو ذاك الطالب أو الطالبة اللذين غشا في الامتحان، وكم نقسو على هذا أو ذاك المدرس أو الموجه حين يسهلان منهج الغش، فليسوا هم وحدهم من يغش، فالدولة برمتها، ومن ألفها إلى يائها تقوم على ثقافة الغش وتوأمها أخلاق الرشوة، فالموظف الذي لا يعمل، ويعتمد على غيره في إنجاز واجبه يغش، وفي التجارة يصبح الغش سلوكاً عادياً، ولو حاربته القوانين التجارية، لأنه بغير الغش والرشوة يستحيل على هذا التاجر أن يحيا بتجارة النزاهة والشرف في عالم التجار الغشاشين. والنائب الذي وصل إلى مجلس الأمة من خلال غياب الشرعية الدستورية، وعبر المال السياسي هو غشاش.
والمسؤول الذي يداهن رؤساءه، ويسكت عن الخطأ في مهام عمله، حتى يطول به البقاء في منصب النعم، هو غشاش، فهو يردد، دائماً، عبارات، أضحت جزءاً من اللاوعي الاجتماعي العام مثل: "حالي من حال غيري" أو يقنع نفسه بحكمة "إن لم تكن ذئباً غشاشاً فستأكلك ذئاب الغشاشين". والوزير الذي "يصهين" على الخطأ ويجاري الوضع العام، ويفتح أبواب المحسوبية والواسطة على حساب حكم القانون والأخلاق يعد غشاشاً…! من أين نبدأ وأين ننتهي بالحديث عن الغش في عصر الغش الكبير، فالدولة اليوم تحيا في مستنقع الغش، ولا يبدو أن أهلها يشعرون بلسعات بعوضه القاتلة.
تركدوا
دعوة النائب السابق وليد الطبطبائي مع تجمُّع حراك السلفي إلى مقاطعة الانتخابات مع تبني إصلاحات سياسية ودستورية تتوافق مع الشريعة الإسلامية، لا يمكن وصفها بغير الخرق السياسي، فإذا كانت أولى مهام المعارضة لحزب النظام هي الإصلاح السياسي الذي يعني إعمال الدستور وتفعيل مضامينه التي انتهكتها وتجاوزتها السلطة بمراسيم الضرورة، فإن طرح جماعة الحراك السلفي في مثل هذا الوقت أصاب المعارضة في مقتل، وهذا آخر ما تحتاجه المعارضة التي تعاني تفككاً وتشرذماً في قيادتها الممثلة بعدد من نواب المجلس المبطل الأول.
في مثل الظرف الحالي يُفتَرض أن تسعى الأغلبية المعارضة إلى استقطاب مختلف الاتجاهات الفكرية على الساحة وتوحيدها تحت راية مشروع سياسي يجمع أبناء الوطن ويوحدهم لا يفرقهم، يلمّ شتاتهم ولا يبعثرهم حسب الانتماء الطائفي واتهامات التخوين والتواطؤ مع مطبّلي السلطة الواحدة والصوت الواحد، و"شعار التوافق مع الشريعة الإسلامية"، وهو لافتة سياسية استبعادية لن تعني غير استبعاد الكثير من الشيعة المعارضين، وستنحي الشباب المؤمنين بقضية الحريات جانباً وتعزلهم عن الحراك المعارض أو حتى التعاطف معه، ولعل أبلغ كلمات عبرت عن خطورة مثل ذلك الطرح هو ما غردت به شمايل الشارخ، حين كتبت بتغريدتها: "يا جماعة الخير قضبوا ميانينكم، كل ما واحد منكم جاب طاري تعديل الدستور لترسيخ الشريعة كمصدر أوحد للتشريع كل ما حلى بعيننا الصوت الواحد".
قضيتنا اليوم هي الدستور لا تعديل الدستور، وقضيتنا اليوم هي تحقيق الحريات العامة والفردية، لا خنق الأخيرة بحجة لا صوت يعلو فوق صوت الشرع، فنهرب من استبداد سلطة كي نعلق باستبداد الجماعة، وقوانين الدولة لا تناقض روح الشريعة، متى فهمنا الشرع بعقل اليوم لا بعقول الأمس، ومتى استوعبنا الدين كحرية شخصية للأفراد، وأنه ليس من حق أحد فرض دينه ولا مذهبه على الآخرين ولا على الدولة، سواء كان هذا "الأحد" هو الأغلبية وهو أهل السنة والجماعة أو لم يكن شيئاً.
"الصوت الواحد" لن يكون أجمل مع مشروع "التوافق مع الشريعة الإسلامية" من ناحية، و"التوافق مع الشريعة الإسلامية" ليس هو الوصفة السحرية لمحاربة الفساد الرسمي، ولن يخلق الوعي بالمستقبل الاقتصادي للدولة الذي يبدو مظلماً بفعل غياب الأولويات لدى الحكومة ولدى معظم المعارضين من ناحية أخرى… فتركدوا يا جماعة الخير… فخسارتكم ستكون كبيرة.
بربس وألف بربس أنتم
يمكن اختصار وضع الدولة السياسي بكلمة واحدة "بربس"، وهي كلمة بلهجتنا المحلية تعني التفاهة، والسطحية، والفوضى، وأهم من كل تلك المعاني هي لا تعني أي شيء، أي أنها بلا معنى وبلا روح وبلا مضمون. هي حالة صبيانية تتخبط في طيش لم يعد له آخر، فتتوهم إدارتها السياسية أنها خرجت من حفرة صغيرة وتتنفس الصعداء، لتجد، نفسها، فجأة، قد وقعت في بئر بلا قرار.
لم أعد أذكر زمن وتواريخ الأحداث السياسية التي تدور بها الدولة بحلقة مغلقة، فكلها أضحت بلا معنى، كلها أصبحت "بربس" مركباً، يتم انتخاب مجلس نيابي، ثم يصدر حكم من المحكمة الدستورية بعدم شرعيته، ويحل، ثم انتخابات مفصلة على مقاس السلطة الحاكمة بآمر نفسها، ثم من جديد، وبعد رفض كبير في الشارع السياسي، تتخلله أعمال قمع وأحكام تصادر حرية الكلمة بموجب قانون السلطة بطبيعة الحال. يصدر حكم من السلطة الثالثة ببطلان المجلس، لأن هناك خطأ في الإجراءات، ونعود مرة ثانية وثالثة لمدرسة المشاغبين بعادل إمام وسعيد صالح، لكن من غير سهير البابلي الأستاذة التي تدرك كيف تدير وتضبط "شقاوة" الطلبة الكبار، وأزمتنا هي أزمة "الكبار المشاغبين" الذين لا يجدون لهم ضابطاً.
تحت هاجس و"فوبيا" من تكرار إعادة اللعبة المملة بالحل الدستوري، ثم انتخابات، ثم حل، ثم انتخابات إلى ما لا نهاية، يحاول فريق من السلطة، قد يكون هو الحكومة، أو قد يكون هو خصم الحكومة، ويعمل كي يصبح هو الحكومة والمجلس والدولة جميعاً مرة واحدة، العودة إلى المحكمة الدستورية لتفسر حكمها، في حساب المواعيد بالدعوة إلى الانتخابات، هذا الفريق لم تعد له ثقة بالإدارة القانونية للفتوى والتشريع، وكأنها هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن "فوضى الفتاوى"، التي أصبحت حالة مرضية مزمنة بدولة كل يوم حل وكل يوم انتخابات كوميديا بايخة، هذا الفريق الباحث عن جادة الصواب، أو جادة الضياع، يسأل المحكمة الدستورية بطريقة غير مباشرة وعبر النائب عبدالحميد دشتي في المجلس المبطل رقم 2 يسألها ماذا يفعل، ومتى تجب الدعوة إلى الانتخابات حسب الحكم الذي يبدو لهم أنه كتب باللغة الهيروغريفية، يريد فريق المساكين في الحكومة أن تمد له السلطة القضائية يد العون، وتصبح سلطة استشارات كما هي سلطة فصل في منازعات، ويسحب السيد دشتي طلبه في اللحظة الأخيرة، لنعود إلى الدوامة السيئة والحلقة المغلقة، ويتوه فريق المساكين الحكومي في خبيصة عدم وضوح الرأي، وربما يهلل الفريق الآخر في السلطة لطلب السحب، فإغراق الحكومة هي غايته كي يصبح ليس الحكومة فقط وإنما الحكم بداية ونهاية…!
تيه وضياع، من يدفع ثمنه، ومن سيسدد فواتير الخيبة، فواتير البربس السلطوي، ندفعه اليوم بقلقنا المشروع، وسيدفعه بالغد القريب أطفالنا، سيدفعونه من رصيد مستقبلهم المجهول، حين تركت الدولة يديرها أشقياء مدرسة المشاغبين… بربس وألف بربس أنتم.