مثلما هناك معضلة "الثالوث المحرم" كما يتمثل بالسياسة والدين والجنس في كتاب المفكر السوري الراحل بوعلي ياسين، وهي المحرمات الكبرى في شرقنا العربي المتخلف، والتي يحظر الحديث أو التعبير عنها بالوطن العربي، لدينا في الكويت ثالوثنا المستحيل الذي حدده استبيان مجلس الأمة الأخير، متمثلاً في السكن والتعليم والصحة وهي هموم المواطن الكبرى.
لا جديد في استبيان المجلس هذا، كما لم يكن جديداً أن تعيد الحكومة تكرار خطابها الخاوي عبر وسائل الإعلام عدة مرات دون جدوى، ويصاحبه "فلاشات" دراسات وخطابات بوعود حكومية لحل أزمة المستحيلات الثلاثة الكويتية مع رتوش تتحدث عن عزم السلطة على محاربة الفساد، وإصلاح الجهاز الإداري، وتخفيف أزمة المرور وغيرها من هموم مثل محنة البدون والوضع الشاذ لنظام الكفيل الكويتي للمقيم أطلقتها الحكومات المختلفة، وهي حكومة واحدة في جوهرها، وكلها لم تحرك ساكناً في حلحلة أي من المحرمات الكويتية.
تكرار ليس له بداية ولا يبدو أن له نهاية، حين يشتكي الشباب من أزمة السكن وعجز أهلهم من الطبقة الوسطى عن توفير قطعة أرض بسيطة لشراء منزل العمر لأبنائهم بسعر معقول، وتكرار لا ينتهي في خطابات سوء الخدمات الصحية في الدولة يقابلها وعد بعد آخر عن قرب الانتهاء من إنهاء بناء مستشفيات جديدة، وننتهي إلى فشل في تحقيق الوعد، وعد مستشفى جابر مثلاً في خدمة الصحة، يقابله وعد آخر عن جامعة الشدادية للتعليم الجامعي الذي سيخرج جيوشاً جديدة ستحشد في إدارات "تعال باجر" البيروقراطية.
من سيصدق وعود الإصلاح الحكومية، وإلى متى تظل هذه السلطة الدائمة تحقن المواطنين بإبر التخدير (الوعود) بقرب حل قضاياهم اليوم! كم سنة وكم عقد انتهت بلاشيء، ومن جديد يعود المصدر الحكومي ليخبرنا بعد ديباجة الملل المضحكة في اجتماعات أصحاب المعالي الشيوخ والوزراء عن "دراسة المستجدات على الساحتين المحلية والإقليمية"، ليقدم إلى المواطن وعداً جديداً، وتعود حليمة لعادتها القديمة، فخدمة الصحة تظل "زفتاً"، والتعليم يسير من سيئ إلى أسوأ، والدراسات الكثيرة عن تدهور الوضع التعليمي مكانها المناسب سيكون في أرشيف منسي من أرشيفات الدولة، وأسعار الأراضي ترتفع مع بقاء احتكار الدولة والقلة المقربة إلى القرار السياسي للأرض اليباب، والأضابير المنسية في الأدراج الإدارية تتضخم ولا أحد يرى ولا أحد يسمع ولا أحد يكترث في دولة تدفع الرواتب وتدعم السلع والخدمات وتوفر "ماجلة" العائلة بدون مقابل لأكثر من سنة كاملة.
لم يعد مجدياً أن تتحدث السلطة عن "ثالوثها" الكبير، فالمواطن أصبح لديه مناعة عدم التصديق للوعود السلطوية، التي اكتسبها منذ زمن بعيد ومن تواريخ قديمة بوعود الإصلاح السياسي والشفافية ومحاربة الفساد، ووضع "الشخص المناسب في المكان المناسب"، مع ملاحظة أنني لم أجد حتى الآن هذا الشخص المناسب والذي استمر بعض الوقت في "المكان المناسب".
بداية الإصلاح وتجاوز الدائرة المغلقة لأزمة الدولة أن تقر السلطة بأنها فشلت، لتقر مرة واحدة بعجزها، وبفشلها السياسي والإداري، فالخطوة الأولى لمشوار التقدم هي الإقرار بحكمة أن فاقد الشيء لا يعطيه، وسلطتنا هي فاقدة الشيء، غير ذلك لا يوجد في قاموسنا غير كلمة "اليأس" من الحال.
التصنيف: حسن العيسى
سمسرة جهاد النكاح
ارتدى عدد من دعاة الجنون بدلة الجنرال جوزيف "هوكر" الأميركي، ودعوا بنات المسلمين إلى الذهاب إلى سورية والمساهمة بمعارك النضال ضد النظام السوري بسلاح الجنس تحت مسمى جهاد النكاح.
مفردة "هوكر" تعني مومس بالإنكليزية، وارتبطت تلك التسمية بالمومسات اللواتي كن يتبعن جنود الجنرال "هوكر" في معسكر الزهور في الحرب الأهلية الأميركية، ورغم أن مفردة "هوكر" سبقت الجنرال فإنها أضحت منذ بداية تاريخ تلك الحرب الأهلية، كما جاء في موسوعة ويكيبيديا مرادفة لبائعات الهوى.
كان للمومسات ظروفهن الاقتصادية التي قد تكون فرضت عليهن ممارسة مهنة البغاء في تلك الأيام كحاجاتهن لمعيل بعد أن ترك أزواجهن العمل وانخرطوا في الحرب، وانتشرت في الحرب أمراض الزهري والسيلان بين الجنود، ووصلت إلى أكثر من ثلاثة وسبعين ألف حالة زهري، وحوالي مئة ألف حالة "سيلان" في مدن مثل ناشفيل وتنسي ونيواورلينز.
بعد مضي أكثر من مئة عام، ينبت لنا كالحنظل في صحارى الجفاف العربية شيخ دين أو داعية يفتي بالمساهمة في المجهود الحربي من خلال جسد الأنثى، وكأن المقاتلين الجهاديين لا يقاتلون بالأسلحة النارية التي يحتاجون إليها فقط، وإنما هم، أيضاً، بحاجة إلى ذخيرة جنسية تملأ سلاحهم الرجولي كي يكملوا مشوار النضال.
تونس دفعت هذا الثمن، وكشفت وزارة الداخلية التونسية عن عدد من الفتيات التونسيات اللواتي رجعن من أرض الجحيم في سورية وهن حوامل، وذكرت فتاة لم يتجاوز عمرها 19 ربيعاً أنه قد تناوب عليها في أحد المعسكرات مقاتلون من الصومال واليمن وباكستان والسعودية وليبيا وغيرها من دول أمة لا إله إلا الله، المنكوبة في فكرها وثقافتها. عادت الضحية إلى وطنها تحمل طفلاً في بطنها وجرثومة الإيدز في دمها ودم جنينها، كان هذا ما جاء في صحيفة "شروق" ونقلته صحيفة الراي الكويتية.
الدولة التونسية التي أطلقت شرارة الربيع العربي، والتي لم يتهاو نظامها الجديد من محاولات الثورة المضادة كما حدث في مصر، وتحارب السلفية المتزمتة التي تريد جر الدولة إلى كهوفها المغلقة تحدث وزير داخليتها بوضوح عن هذه المأساة، ونبه لهذه الكارثة الإنسانية حين أحيت فتاوى التخلف الإجرامية حكايات السبي والتسري رغم أن التونسيات المغرر بهن لسن سبايا ولا جواري، لكنهن بالتأكيد "سبايا" العقل الإجرامي المغلق لمن أصدر فتوى الجهاد الجنسي.
معظم قوانين العالم تجرم أعمال السمسرة تحت مسمى "التحريض على الفجور والدعارة"، ودولنا ليست استثناء، لكن حين تلبس مثل تلك الجريمة الجبة الدينية كذباً وزوراً فهل يعني هذا أن تشل يد القانون، وتسكت الأنظمة الداعمة للمقاتلين عنها، كما هي ساكتة اليوم عن تجاوزات كبيرة لعدد من العصابات الدينية التي ترتكب خروقات خطيرة ضد المدنيين وحقوق الإنسان في الأراضي التي يستولون عليها، هي تلك العصابات "الزرقاوية" (نسبة للزرقاوي بطل جرائم الذبح في العراق) التي أقحمت نفسها في حرب سورية، لا من أجل تحرير تلك الدولة من نظامها القمعي، وإنما من أجل دولة الخلافة كما تزعم تلك العصابات، والتي أضرت المقاومة السورية أكثر بكثير مما صنعه نظام بشار، وكانت سبباً لتردد الدول الغربية في دعم المقاومة أو ضرب نظام بشار.
لا يظهر أن جهاد النكاح أصبح ظاهرة كارثية. الظاهرة المحزنة الآن، تتمثل في تشرد نساء سورية وأطفالها، وتقديم صغيرات سورية للبيع في سوق نخاسة شرعي، تتم به عقود زواج مهينة من كهول بني نفط، حين تستغل حاجات المهاجرين للحياة الكريمة فيتم عرض بنات المخيمات في الأردن بأسواق الجواري للباحثين عن عمل الخير عبر الأجساد الغضة الطرية. والظاهرة الكارثية الأكبر منها، هو المناخ الفكري السائد الذي أنتج لنا فتاوى السمسرة المرتدية للباس الديني، ورافقها صمت الكثيرين.
جينيه بشاتيلا وبالغوطة
لا توجد خارطة طريق
تشتد هذه الأيام معارك فكر وقلم شديدة لدى الكتاب الغربيين عن موقف الرئيس أوباما حول المأساة السورية، والانقلاب العسكري المصري (أو ثورة ٣٠ يونيو كما يصنفها ليبراليو الوهم). هذه المعارك الصحافية الفكرية لا تحدد مواقعها باليمين واليسار، أو بين المحافظين الجدد أو "نيوليبرال واليساريين الليبراليين كما قد يتصور، بل هي مرتبطة تحديداً بموقف الرئيس الأميركي وسياساته الشرق أوسطية، ولهذه المعارك صورتها الأخرى متمثلة في مواقف أعضاء الكونغرس الأميركي المتباينة بين الناقد "لسلبية" الإدارة الأميركية بعدم معاقبة النظام السوري، أو الثناء على حكمة هذه الإدارة حين تجنبت تكرار المأزقين العراقي والأفغاني، فمثلاً لم يتردد كاتب مثل "نيكولاس كريستوف" الذي يعد بصفة عامة، وكما أتابعه، قريباً لليسار والمواقف الإنسانية وقضايا التحرير العربية في "نيويورك تايمز" في الانحياز إلى ضرورة ضرب النظام السوري بحجة "التدخل الإنساني"، فعند هذا الكاتب مثلما هناك عقدة العراق وأفغانستان هناك ما يقابلهما كان فيها تدخل "نيتو" عامل حسم لإنهاء معاناة بشر في سيراليون وساحل العاج وكوسوفو والبوسنة. وبمثل فكر هذا الكاتب تتكرر نماذج عديدة متباينة عند أصحاب الرأي.
لم يتردد نائب تحرير صفحة الرأي في "واشنغتون بوست" جاكسون ديل في نقد الرئيس الأميركي، وأنه ابتدع عقيدة اللاتدخل واللاكتراث الأميركية حين عارض إنفاق بعض رأسماله السياسي في أزمات الشرق الأوسط (تعبير ديل)، فهذا الرئيس وقف حائراً متردداً في انقلاب مصر، ولم يحسم مسألة المساعدات الأميركية للنظام المصري الجديد، الذي ضرب المتظاهرين السلميين في رابعة العدوية، وألقى المعارضة الإخوانية بالسجون بعدما اختلق لها التهم المعلبة مثل الإخلال بالأمن الاجتماعي وغيرها من جرائم تضج بها تشريعات القهر العروبية، والآن أعلن الأحكام العرفية ليعود بمصر إلى أسوأ من أيام مبارك وليلتهم "الثور الأسود" الليبرالي الذي شجع بكل غباء الانقلاب العسكري (العبارات الأخيرة من عندي وليست من جاكسون).
إذن قلب أوباما الوضع، من عقائد التدخل والمحافظة على السطوة الأميركية في العالم من عقيدة مونرو، ثم تي دي روزفلت ثم ترومان… وتطور تلك العقائد السياسية فيما بعد إلى عقيدة ريغان لاحتواء الاتحاد السوفياتي، إلى اليوم في سياسة أوباما التي تريد أن تسير تحت الظلال الآمنة. مثل هذه السياسة لن تنتهي بالأمن المطلوب مهما كانت مبررات الإدارة الأميركية، فإذا كان هدف تلك السياسة الناعمة غلق صندوق بندورا الجهادي في سورية، فهناك من يرى العكس تماماً، فسلبية الموقف الأميركي وعدم دعم المعارضة المعتدلة فتح أبواب رفاق القاعدة لجبهة النصرة وجيش العراق والشام في سورية، ويمكن أن نقيس على ما سبق أن موقف الإدارة الأميركية المهادن للنظام العسكري المصري سيعود لفتح أبواب العمل الجهادي الإرهابي من جديد في مصر، وسيدفع المضطهدين إلى التطرف في معارضتهم للنظام الحاكم.
أين تذهب دولنا العربية اليوم! حروب قبلية مرعبة بقناعيها الديني والطائفي تشتعل في المنطقة من سورية إلى لبنان والعراق وستمتد قريباً إلينا… مما يغذي، بالجهة المقابلة، بقاء الأنظمة المستبدة في المنطقة على حالها واستمرار قوتها حين تحيا ويمتد بها العمر مرتوية من أسن مستنقع القلق الوجودي والخوف من المستقبل عند شعوبها… فهل نقول لا عزاء لثكلى الربيع العربي، أم نقول إننا مازلنا في بداية مشوار طويل للنكبات والنهوض… لننتظر.
من دون جدوى
الفتنة الكبرى لم تنته
وصفت الأديبة السورية غادة السمان حب حبيبها بـ"الطرق القروية في العالم الثالث نصفها مسدود، والنصف الآخر يقودنا للهاوية"، فهل مصير سورية الجريحة اليوم أصبح كوصف ابنتها غادة لحب حبيبها، فلا حلول معقولة يمكن تصورها، فهي إما أن تكون مسدودة أو تقود سورية وربما معها الشرق العربي إلى الهاوية؟
للصراع في سورية أكثر من وجه، فهو صراع من أجل الديمقراطية والحرية حين ابتدأ بتظاهرات سلمية واجهها بشار بالعنف وإرهاب الدولة، ليتحول إلى صراع طائفي بين السنة والعلوية، وحُشِرت الأقليات المسيحية فيه كقرابين مفضلة لتحرير أرض الخلافة القادمة، وليس هذا بجديد، فلنا سوابق قريبة قبيحة في الحرب الأهلية العراقية، وفي الوقت ذاته، وبهذا الوجه القبيح، أضحت معارك الطائفية دوامة عاصفة رهيبة تمتص قوى التطرف والإرهاب من بلاد السنة وبلاد الشيعة لجوفها المظلم، وهي حرب دولية بالوكالة تقف دول الخليج مع أهل السنة من ناحية، وإيران مع النظام العلوي الحاكم من ناحية أخرى، وهناك الدول الكبرى التي وقفت متفرجة في البداية، ثم أخيراً تحركت بقيادة الولايات المتحدة إلى جانب "الثوار" بتحفظ، فالثوار المستبسلون في القتال والأكثر كفاءة هم رفاق "القاعدة"، بينما وقفت روسيا كمساند للنظام، ولكل من الدولتين الكبيرتين أسبابها الخاصة التي تنطلق من أرضية المصالح.
معروف أن هناك أكثر من مئة ألف قتيل لهذه الحرب، وأكثر من مليوني لاجئ في الخارج، وأربعة ملايين مهجر في الداخل، وأضحت أجمل البلدان العربية تاريخياً أبشع مكان اليوم لمشاهد قطع الرؤوس ونهش الأكباد والقتل والتعذيب بالجملة وعلى الهوية، فماذا ستصنع "الضربة الجراحية الأميركية shot across tbe bows للخبيصة الدموية السورية؟! مؤكد أنها ليست إلا درساً لبشار لجريمة استعماله الكيماوي ضد العزل والأبرياء من أبناء شعبه، وهي، أيضاً، تأكيد لهيبة الولايات المتحدة كدولة عظمى وحيدة، تلك الهيبة أو الرهبة التي تآكلت كثيراً في عهد أوباما، وهي ضمان لمخاوف إسرائيل من وقوع الكيماوي بأيدي رفاق "القاعدة"، وفي آخر الأمر هي مساندة لدول الخليج السنية المحافظة التي تدور حول المحور الأميركي وتابعيه، وفي أحسن الأحوال، مراهنة الولايات المتحدة على أن الضربة ستجبر النظام السوري للجلوس على طاولة المفاوضات السلمية، مع أن النظام الدموي السوري أعلن استعداده، منذ زمن، للذهاب إلى جنيف إلا أن المعارضة السورية المتفتتة لم تتفق على شروط التفاوض… أين الحل في النهاية؟… وبعد الضربة القادمة!
كثرت وصفات الحلول من الغرب والشرق، ويظهر أن أقربها للمعقول قد يكون أصعبها على القبول، ويزيد من صعوبة الحل أنه لا يوجد "رأس" أو جبهة واحدة للمعارضة السورية، وهنا تظهر رزانة منطق مستشار الأمن القومي الأميركي السابق في عهد كارتر "زبينو برجينسكي" بالدعوة إلى مؤتمر عام يضم كل أطراف الصراع في الداخل والخارج السوري، من بينها إيران ودول الخليج… ولن يكون من المستبعد في ذلك المؤتمر تقسيم سورية "قانوناً" كما هي "واقعاً" مقسمة، حالها كحال شقيقها العراق، أرض السواد والسيارات المفخخة القاتلة.
ختاماً لِنقُل إن الفتنة الكبرى لم تنتهِ بمعركة الجمل ولا بصفين ولا بمجزرة كربلاء، بل مازالت مستمرة منذ ذلك التاريخ وتنبض بالحياة في سورية والعراق ولبنان، وهي مرشحة للتجسد في جل أقطارنا العربية والإسلامية مادامت الرؤوس البشرية ظلت تحمل فكراً دينياً متطرفاً متخلفاً وأنظمة حكم طاغية تستمد قوتها وديمومتها من واقع التخلف الثقافي والتطرف الديني.
أنتم الثور الأسود
يعاني عدد من الليبراليين، وليس كلهم، أزمة موقف سياسي مقلقة بعد "انقلاب" ٣٠ يونيو العسكري في مصر، حيث يصر الكثير منهم على تغيير لفظ انقلاب إلى لفظ "ثورة" شعبية، حتى يرتاح ضميرهم "الليبرالي" من عبء مساندة الجنرالات الجدد وحاشيتهم في كورس النظام بمصر. كان الأحرى بالأصدقاء الليبراليين في الكويت أن يتمهلوا، ولا يندفعوا في أحلامهم وأوهامهم عن النظام "الجديد" وأنه أنهى مشروع الدولة الدينية لحكم "الإخوان"، وأنهم أمام مشروع تقدمي ليبرالي عظيم يساند الحقوق والحريات الأساسية ويقيم العدالة الاجتماعية، ويصبح أساساً للدولة التقدمية في مصر، التي ستقود العالم العربي المتخلف خلفها في دنيا الحريات والديمقراطية، وتنهي حالة البؤس الاستبدادية والتخلف الفكري التي تعانيها المجتمعات العربية منذ لحظة ولادة أكثر دولها المتنافرة عرقياً ودينياً ما بين نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الثانية! وكأن ليبراليينا يرون قصر "ماجيك كنغدوم" المملكة السحرية في "ديزني لاند" قادماً لهم من مصر، وبطريقة الأفلام الهوليوودية عن حتمية انتصار البطل الجميل في نهاية الفيلم.
عند بعض هؤلاء الليبراليين خوف وقلق وجوديان من دولة الاستبداد الديني، وشدَّد تلك المخاوفَ اجتهاداتٌ وممارسات خاطئة للرئيس مرسي خلال فترة حكمه القصيرة، عجز فيها عن استيعاب القوى الأخرى غير "الإخوان" ضمن مؤسسة الحكم. تحت تأثير تلك المخاوف لم يرَ هؤلاء الليبراليون الجانب المظلم للمسرح المصري عن نفوذ وقوة مؤسسات الفساد المتمثلة في الدولة العميقة بمصر، والتي كانت ومازالت، تنخر كالسوس في عظام ذلك القطر لأكثر من ثلاثين عاماً، والتي تتحين الفرص لإنهاء مشروع التغيير نحو الديمقراطية، بمساندة دول رجعية عربية تخشى كلمة "تغيير" وتريد أن تمحو تلك الكلمة من القاموس العربي.
آخرون يضعون على وجوههم أقنعة الحداثة والليبرالية، ولكنهم في حقيقتهم جزء ثابت من منظومة الأنظمة القائمة العربية الرافضة للتغيير، وتأييدهم للانقلاب يصبح مسألة مفهومة، وإن تذرعوا وتحججوا بخطاب أجوف عن الحقوق والحريات، تلك الجماعات الانتهازية المتسلقة ليست موضوع الحديث. الذي يهمني هو الفريق الأول الذي أعمته كراهية "الإخوان" عن رؤية الواقع، فأحد الكتاب الغربيين، ومثله بالمناسبة كثيرون، كان تحليله ورؤيته لما حدث بمصر أكثر مصداقية من أصدقائنا الواهمين، هو مايكل كوبلو، والذي يذكّرنا بدورية "فورن أفيرز" عن انتخابات زين العابدين في تونس عام ٨٧ حين أمسك الحكم وأوهم أهل البلد أنه يحمل مشروعاً ديمقراطياً ليبرالياً منفتحاً وأفرج عن السجناء السياسيين، وأجرى انتخابات برلمانية في نوفمبر ذلك العام، وحين ظهرت النتائج عن تقدم الإسلاميين، تم التلاعب بها وضرب الإسلاميين بعدها، ولم يمضِِ وقت طويل حتى استدار نحو بقية القوى المعارضة لينفرد ويبطش بهم، لم يفرق بين إسلامي وليبرالي ويساري.
تلك حادثة قريبة، فهل يتذكرها ربع الليبراليين اليوم ويتذكرون أنهم الثور الأسود الذي سيتم التهامه بعد الثور الإسلامي الأبيض إن لم يكن قد تم ابتلاعهم سلفاً؟!
محاكم الغاصبين
استعداداتنا الكبرى
لم أفهم من التصريحات الحكومية عن استعدادات الدولة لتداعيات الضربة الأميركية المحتملة ضد نظام بشار غير أنها نوع من البهرجة السياسية لن تقدم ولن تؤخر شيئاً على الأرض، فما هي استعداداتنا في الكويت وكيف نتصورها غير مزيد من العسكر لحماية المنشآت، أو توقيف السيارات في الشوارع العامة لتفتيش هويات خلق الله على الطريقة "الفتاحية" (نسبة إلى اللواء عبدالفتاح العلي)، أو "تسفير" بعض المقيمين ومنع زيارات آخرين لأي شبهات حول مواقف دولهم، أما غير ذلك فلا أتصور أن في عقل السلطة الحصيفة جديداً يمكن أن تضيفه إلى استعداداتها الكبرى، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، وياليت سلطتنا تعرف قدر نفسها.
ما يظهر بصورة قاطعة من تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري ومن أقوال رئيسه أوباما أن الضربة المتوقعة لن تطيح نظام بشار، ولن تكون حاسمة في تغيير ميزان القوى لمصلحة المعارضة السورية المفتتة. هي صفعة تأديب لنظام بشار الذي ارتكب جرائم إبادة جماعية ضد شعبه، وهي محاولة لجره نحو طاولة المفاوضات من ناحية أخرى، وهي تأكيد وتذكير بالهيبة الأميركية التي تآكلت كثيراً في عهد أوباما المتردد، مثلما كتب عدد من المحللين الغربيين. الضربة لن تكون مجدية ما لم تُصِبْ مفاصل القوة لنظام الأسد، كما قرر ديفيد غاردنر في "الفايننشال تايمز" مع الإبقاء على قدر ثابت من تماسك الجيش السوري، حتى لا يكون مصير سورية مثل مصير العراق بعد أن حل بريمر الجيش العراقي، وترك العراق نهباً لحروب الطوائف والتفجيرات الانتحارية للباحثين عن الخلافة الإسلامية في الدنيا والمتطلعين إلى بنات الحور العين في الآخرة.
هنا يمكن التوقف مع ما "كان" يجب فعله من السلطة قبل حديث اليوم عن "استعدادات" الهيبة للدولة، فقد كانت المساعدات والدعم المادي والتطوع الجهادي تجرى بصورة علنية في الكويت للجماعات المتطرفة المرتبطة مع تنظيم القاعدة مثل جبهة النصرة وغيرها من الجماعات الغارقة في تصفيات دموية ضد العلويين والطائفة المسيحية السورية وإقامة مسالخ متنقلة للمختلفين معها من السُّنَّة، حتى أصبح بالإمكان أن نخشى أن يكون حال الأبرياء في سورية كالمستجير من رمضاء الأسد بنار جبهة النصرة ومن هم على شاكلتها، فماذا فعلت السلطة الكويتية في ذلك الوقت؟! لم تفعل شيئاً، كانت مشغولة بمراسيم الضرورة وملاحقة المعارضة الداخلية، وفي ما بعد، رقصت فرحاً بعد الإطاحة بنظام مرسي الشرعي، وسارعت إلى الدعم المالي للنظام العسكري في ثوبه الجديد، متناسية أن مثل "الاعتدال" النسبي للإخوان الذين تمت الإطاحة بهم يمكن أن يكون "مصدة" واقعية للتطرف الديني في المنطقة… وأن التطرف الطائفي والهوس الديني خرجا من الخيم الثلاث المتمثلة في الجهل الثقافي والبؤس الاقتصادي وأنظمة حكم عسكرية مستبدة، فهل تصورت حكومتنا، ومعها بعض حكومات دول الخليج، مثل ذلك السيناريو، أم أنها كانت مهمومة بوضع خطط قبر التغيرات السياسية في المنطقة؟!… فعن أي استعدادات تتحدث حكومتنا اليوم؟!… "يحليلكم"!
ضحايا بيت العز
أنظر إلى المتهمين اليوم في قضايا شراء ذمم الناخبين على أنهم "ضحايا" النظام وليسوا أفراداً فاسدين. هم "ضحايا" بمعنى أنهم شاهدوا طريق سوق الجمعة لشراء وبيع الذمم ممهداً وسالكاً، فلم يفعلوا غير أنهم سلكوه وساروا عليه، وتحدثوا مع أنفسهم مقتنعين أن حالهم كحال غيرهم (بفرض تأكُّد الاتهامات ضدهم بأحكام نهائية)، وأنهم لم يصنعوا غير ما صنعه غيرهم الذين سبقوهم والذين سيأتون من بعدهم، فهم لم يأتوا بجديد، ولم يضعوا عرفاً جديداً في تاريخ الدولة النفطي الريعي، فلماذا أضحت "جريمة" اليوم بحقهم، بينما كانت من الأمور المسكوت عنها و"باردة مبردة" حين ارتكبها الآخرون في مجالس سابقة وأمام عيون السلطة وبمباركتها، لا وبأكثر من المباركة، ولنقل بمشاركتها… ولماذا يتهمون اليوم؟ ولماذا ترفع الصحافة اعلام "فضائح" الرشا وصناديق شراء الذمم كأنها وجدت فانوس علاء الدين أو خاتم سليمان في قضيتهم الآن، بينما هناك قضايا فساد أكبر وأخطر، تمت "الصهينة" عنها وسكت عنها الكثيرون؟!
المتهمون اليوم هم، حالة عرضية، هم مجرد مظهر لطفح جلدي لمرض مستوطن في عظام الدولة تُغذى فيروساته من ممارسة مستقرة للسلطة الحاكمة، فهل وقفت زوبعة شراء الأصوات على زيد البائس وعبيد الساذج من الناس؟ أين الصحافة وأين عين الأمن الساهرة؟ وأين دولة القانون في شراء ليس الناخبين، بل شراء نواب برمتهم ومواقفهم السياسية في مجالس الأمة الشكلية بأغلى الأسعار، وبأثمان باهظة اقتُطعت من صناديق "خير" مجهولة وعبر ثقوب كبيرة في جلباب المال العام؟!
هل نسينا الإيداعات المليونية في حسابات عدد من النواب؟ وكيف انتهت بغير مفارقة وضع النائب السابق فيصل مسلم بقفص الاتهام حين قام بواجبه الوطني بالكشف عن جرائم سلطة المؤلفة قلوبهم؟ وبماذا انتهت قبلها "فضائح هاليبرتون" المليارية ومن اتهم فيها ومن لم يتهم وإلى أين انتهت ملفاتها؟ وماذا عن طوارئ الكهرباء 2007؟ وكيف تم نزع مناقصاتها عن شركات معروفة، ثم تفصيلها على مقاس وكلاء شركات جديدة أصحابها يتحلقون في الدائرة الضيقة للسلطة؟! وهل نتذكر، مثلاً، وأكرر مثلاً، مرة ثانية وثالثة ورابعة وللمرة الألف قضية اللوحات الإعلانية لمرشحي مجلس 2008 (على ما أذكر فقد تاهت ذاكرتي بعدد المجالس التي عاشت أعماراً صغيرة وحلت)، وكيف خصص لها أكثر من خمسة ملايين دينار، بينما تم الكشف عن حقيقة مناقصة اللوحات الإرشادية لمجلس الأمة والمجلس البلدي. فيما بعد، بما لا يزيد على ٩٥ ألف دينار؟… وهل نتذكر كيف وقف أحد النواب (إياهم) وصرخ بأعلى صوت في ذلك الوقت: "اذيتونا على خمسة ملايين… شنو يعني خمسة ملايين"!
ليتها كانت قضية واحدة بخمسة ملايين او بخمسين مليوناً… بل هي أكثر وأكثر دون سقف… ليست هي "لوحات إعلان" لمرشحي مجلس ما، بل هي لوحة كبيرة تختصر منهج الدولة بمثل "من صادها بالأول، عشى عياله"… وما أكثر الصيادين اليوم في زمننا الأغبر، بينما يقبع الخيرون أهل الضمير في أقفاص الاتهام ينتظرون محاكمات لا عد ولا حصر لها… هل عرفتم لماذا أشعر بالتعاطف مع المتهمين بجرائم الانتخابات وأقول إنهم ضحايا بيت العز الكويتي؟!