حسن العيسى

تحدثوا عن نهاية دولة الفساد وليس الرفاه

خطأ في الفهم الحكومي وخطأ في لغة التعبير عن المفهوم حين تخاطب الحكومة المواطنين، محذرة من بداية النهاية لدولة الرفاه. بالتأكيد دولة الرفاه في الفهم الحكومي لا تعني أن يقبض البعض رواتب من دون التزام بالعمل ومن غير دوام، كما صرح السيد أحمد المرشد وكيل وزارة شؤون مجلس الأمة قبل أيام للصحافة، وتلك كانت عينة بسيطة، من مستنقع غزير للفساد الإداري!
ومن المؤكد أن دولة الرفاه في العقل الحكومي لا تعني أن يتكدس آلاف الموظفين في الدوائر الحكومية من غير عمل، أو أن يتم خلق آلاف الوظائف، إدارية ومسميات وظيفية عالية ومتوسطة، من أجل ترضيات سياسية عبر أقنية الواسطة والمحسوبية كي ننتهي اليوم بهذا الشكل القبيح للدولة المترهلة الغارقة في الأوراق الرسمية، حتى أضحت الكويت في أسفل السلم في الدورة المستندية، كما نشرت الصحافة أمس عن تقرير البنك الدولي! ولا أتصور أن الحكومة تقصد بدولة الرفاه تدخل السلطة الحاكمة في أكثر من مناسبة لتوزع هبات مالية وعطايا وإعفاءات من رسوم خدمة دون مناسبة، أو يتم اختلاق مصادفة مناسبة وطنية حتى ينسى المواطن حقاً سياسياً مستلباً، ويلهى عن مستقبل مجهول بعد أن أفرغت الساحة السياسية من المخلصين، لتحل مكانهم شخصيات انتهازية من صنف "أم أحمد العجافة"؟ (1)
لماذا لا تخاطبنا الحكومة عن وعد بإنهاء دولة الفساد بدلاً من الوعيد عن نهاية دولة الرفاه، فالتعليم المجاني السيئ والخدمات الصحية المتردية، والإسكان الذي ينتظر به الشباب عقوداً ممتدة حتى يأتيهم الدور لا يمكن عد ما سبق من صور دولة الرفاه، ولا يمكن تصور دولة الرفاه في أشكال المسخ للبطالة المقنعة بكل إدارات الدولة، ولا نتخيل دولة الرفاه متمثلة بغياب الإرادة والعزم عند الوزراء وكبار الموظفين بمكافأة المخلص وعقاب المهمل من المرؤوسين، وليست دولة الرفاه هي المناقصات المفصلة على مقاسات المؤلفة قلوبهم، وليست هي العقود العامة "المخصصة" للمقربين من دوائر الحكم، ولا هي رشا رسمية سياسية في داخل الدولة لتسكيت الناس، وليست هي هبات ودعماً حين تأخذ أشكال المساعدة والقروض لدول "شقيقة" تعينها على قمع شعوبها وطمس ديمقراطيات وليدة، كي نقول بأسى إن الكويت نالت شرف بطل الثورات المضادة… حدثونا عن دولة الفساد، ولا تسوقوا أوهاماً مريضة عن دولة الرفاه.

(1) شخصية انتهازية، كما صورها بيت شعر للراحل فهد بورسلي

حسن العيسى

ابدأوا بأنفسكم وسنكون معكم

إذا وضعنا معايير مثل الديمقراطية وحكم القانون، وما يستخلص منها كتكريس الحريات السياسية والاجتماعية من شروط تحقق دولة الرفاه لا يمكن أن نضع الكويت من بين دول الرفاه، فلا يكفي أن نقول إن الدولة تدعم السلع والخدمات الأساسية وتوفر التعليم المجاني والصحة والإسكان (تقريباً) حتى يمكن عد هذه الدولة من دول الرفاه، مثلها مثل الدول الإسكندنافية ومعظم دول أوروبا الغربية بعد الحرب الثانية، رغم تناقص وضع الرفاهية لتلك الدول بعد الأزمة المالية لسنة 2008، مثال ذلك اليونان، والبرتغال وإسبانيا.
حالة الرفاه التي وفرتها الدولة، ومثلها بقية دول الخليج، هي حالة الرفاه القبلية الريعية، بمعنى أنه كما كان يجلس شيخ القبيلة في تراثنا القديم في منتصف الخيمة، ويلج عليه أبناء القبيلة، فيوزع عليهم بأريحية خير المكان ولحظة الزمن العابرة، بعد أن يحجز لنفسه بطبيعة الحال حصة الأسد، كذلك تدار الأمور في دولنا النفطية بهذه الطريقة.
ولأن خيرات الوفر المالي لم تأت من عمل منتج أي بمجهود إنساني، وإنما هي "مناسبة" وصدفة اكتشاف النفط، أضحت العوائد (هي الريع) التي توزع يميناً ويساراً دون حساب للمستقبل، ومن غير تفكير للقادم، فأضحت الدولة برمتها تدار بهذا النهج الريعي.
الرفاه، بهذا المفهوم المنحرف، يعني توفير "النقد" وتسهيل الأمور على المواطنين، حسب المزاج الحاكم والظرف الزماني، وليس بمنهج مؤسساتي يمثل يقين الاستقرار القانوني. وتدار الدولة، عندها، بمنهج النقد الكاش أو العطايا، أو كما يسمونها سياسة الدينار، دون أن يقابلها التزامات مفترضة للدولة الحديثة من فرض ضريبة تقابل خدمة الدولة للمواطن أو مساهمته في تكلفة الخدمة العامة، وتفرض على النظام، بالتبعية، أن يلتزم بالنهج الديمقراطي، بمفهوم الثورة الأميركية، وبمعادلة لا ضرائب من دون تمثيل، لتصبح لا تمثيل ديمقراطياً من غير مساهمة المواطن بإيرادات الدولة، تصبح تلك المعادلة غير ممكنة مع وفرة عوائد النفط. فالسلطة ليست بحاجة إلى عمل أبناء الوطن، وبالتالي فهي غير ملزمة بمشاركتهم السياسية، فهم (المواطنون) عملوا أم لم يعملوا فسيصيب السلطة، وبالتبعية المواطنين، خير غيمة النفط أينما رحلت تلك الغيمة اللحظية في سماوات أسواق العالم، حسبما تقرر السلطة الحاكمة حظوظ ذلك المواطن من ذلك الخير، وكل حسب قربه أو حظوته من مراكز اتخاد القرار له نصيب، وتصبح الحريات والحقوق مثل تلك الواردة في دستور الدولة مجرد إملاءات محدودة الأثر من التراث التجاري للدولة، حين كانت الحالة المنتجة قبل النفط المتمثلة في مساهمة التجار عبر ضريبة عوائد التجارة هي المصدر المالي الواحد للحكم.
بذلك النهج الريعي تم تعميم الفساد في الدولة، فأوسع أبواب الفساد تدخل عبر قنوات الإنفاق العام، فلا مشروع خدمة أو بناء مرفق عام يمكن أن يتم دون "الحصة المعلومة" لصاحب المشروع أو من يقوم بتنفيذه، والصوت الذي يصور صاحبه نفسه كمعارض للنهج السلطوي الفاسد في البرلمانات الشكلية، يمكن أن "يضبط"، عادة، أما إذا كان هذا (النائب) الحريص على فضح الهدر والفساد في الإنفاق العام من المعاندين، فعصا العسف القانوني ستلاحقه أينما رحل، ولنا أكثر من مثال في الشهور الأخيرة.
تحذير رئيس الحكومة من أن الكويت سيصيبها عجز حقيقي بعد ثماني سنوات تقريباً وستتلاشى دولة الرفاه، يجب أن يؤخد مأخذ الجد، متى أخذته السلطة بالجدية ذاتها، وهذا لن يكون إلا حين تبدأ بنفسها، وترمم أبوابها التي ينخرها الفساد، فالمواطن ينظر إلى رجال الدولة كمثال، فمتى اعتدل الأخيرون في سيرتهم الإدارية وأصبحوا القدوة في حكم القانون والتضحيات والعطاء لمستقبل الأجيال، فالمواطن بدوره لن يمانع، ولن يتردد في المساهمة والعمل والتضحية بترف بعض الخدمات، لذلك اشرعوا بأنفسكم، وقدموا لنا مثالاً على ذلك، فحتى الآن لا نجد مثل هذا المثال المحفز، وهنا ترتفع صعوبة الإصلاح المطلوب، وتكاد تدخل باب المستحيل، لكن هذا لا يمنع من المحاولة، فبغيرها، ستكون كارثة، ومهما كان "الشق عود" لا بد أن تشرع السلطة برتقه، لتبدأ بثوبها، وما أكثر شقوقه.

حسن العيسى

رسالة المفوضين إلى باسم يوسف

هيئة مفوضي المحكمة الإدارية العليا في مصر أوصت، الخميس الماضي، بإيقاف برنامج باسم يوسف، وقالت في تقريرها: "إنه لا تجوز الإساءة إلى منصب رئيس الدولة، لأنه رمز الدولة الذي تجب حمايته ومراعاة الاحترام والتوقير لهيبة هذا المنصب في وجدان الشعب المصري، أياً كان شخص رئيس الجمهورية…" (أخبار اليوم). وأوصت الهيئة أيضاً بإلغاء حكم المحكمة الإدارية، التي قررت في قضاء سابق عدم قبول الدعوى المقامة من "أبو العينين"، المحسوب على "الإخوان"، ضد باسم، لوقف برنامج الأخير المسيء لرئيس الجمهورية لانعدام صفته، فهو (أبو العينين) ليس من الذين سخر منهم أو انتقدهم باسم يوسف.
وتمضي توصية الهيئة في دفاعها عن "منصب الرئيس" وليس شخصه، وهو محمد مرسي، الذي أسقط في انقلاب 30 يونيو، لتكرس مفهوم الدولة الأبوية بحجج قانونية عقلية، كما تسوق في تبريراتها، رغم أن هذه الدولة وما تمثله من قيم تعد كارثة الفكر العربي وثقافته التي تعني هيمنة الأب الرئيس على الدولة ومقاديرها، يتصرف بها وبالمواطن "الابن" كما يشاء هذا الأب، الولي، الوصي، القيم على الأبناء الرعايا، وقال في الدولة البطركية الأبوية الراحل هشام شرابي ما لم يقله مالك في الخمر، إلا أن لجنة المفوضين بالمحكمة الإدارية العليا أعادت في توصيتها الاعتبار ضمناً للرئيس الأب، إذ إن الطاعن (أبو العينين) في رأي اللجنة "… من جموع المصريين الذين يحق لهم، بل يتعين عليهم أن يهبوا للدفاع عن النيل من قيم المجتمع، سواء الأسرة المصرية أو الحفاظ على هيبة وصورة رمز المتقلد لمنصب رئيس الجمهورية…"! هكذا يصبح منصب الرئيس "رمزاً"، و"هيبة"، ذلك الرمز الأبوي يصبح من قيم الأسرة المصرية، التي يتعين حمايتها وتوقيرها برأي مستشاري اللجنة.
لتقل هيئة المفوضين في المحكمة ما تريد لتكريس منصب الرئيس وتحصينه من النقد وإسباغ القداسة عليه، فهي وشأنها في تبريرها تلك التوصية حين أسست مشروعية الدولة الأبوية، وكأن هذا ما ينقص مصر أو شقيقاتها العربيات، لكن التساؤل الذي يثار هنا: ما إذا كانت تلك التوصية جاءت في وقتها، لتمتد إلى الماضي من أجل الرئيس المطاح به، أو من أجل المواطن أبو العينين الذي طعن بالحكم، أو من أجل القادم من الأيام أو القادم من الرؤساء الذين "لا يجوز انتقادهم" أو السخرية منهم، فهم رموز الدولة ورموز القيم الأسرية…؟
الرئيس مرسي لم يتقدم بشكوى ضد باسم يوسف الذي جعل محور "الشو" شخص الرئيس ومنصبه، ولم يمارس مرسي سلطاته العليا على ما جرت به العادة المتأصلة والمستقرة في الدول الأبوية البطركية لإسباغ القداسة على منصب الرئيس أو الملك أو الحاكم بصفة عامة. لعل صناديق الاقتراع الشعبية أزاحت جانباً تلك القداسة الأبوية المفترضة عن منصب الرئيس، والتي يستحيل فهمها أو تقبلها في أبسط أبجديات الديمقراطية. فالرئيس المخلوع الذي كان محبوساً بقرار عسكري أصبح أساس حبسه الآن قرارات "قانونية" من النيابة بحبسه احتياطياً لمدد لا يبدو أنها ستنتهي… إذاً ما جدوى توصية المفوضين بالمحكمة، إذا لم تكن "إعادة الاعتبار" للحالة "المباركية" وبأكثر منها بالنسبة إلى الرئيس القادم، فما كان يصح في نقد مرسي، لا يعد صالحاً للحاضرين من الرؤساء أو القادمين منهم، فهل وصلت الرسالة إلى باسم يوسف؟!
حسن العيسى

خواء سياسي + خواء اجتماعي

 صديقي الكاتب شبه اليومي يشكو إليّ خواء القضايا المحلية والفراغَ الفكري الكبير الذي يعانيه شخصياً، ومتأكد أن الكثيرين من المهتمين بالشأن العام، كتاباً كانوا أو من في حكمهم، يشكون العلةَ ذاتها، وهي علة الخواء الذي زجت فيه السلطة الكتاب المهمومين بقضايا الحرية والهمّ العام في هذا العالم الكويتي الفارغ، وذلك بعدما ضبّطت أمورها بمراسيم الضرورة، والتي أعقبتها ولادة مسخ مجلس الصوت الواحد، الذي لم يعنِ غير التفرد المطلق للأسرة الحاكمة بإدارة الدولة دون معقب، لا كما يروّج دعاته السائرون في دروب النعم الحكومية الواسعة بأنه يعد تحقيقاً لمبدأ الديمقراطية الصحيحة بأن يكون لكل إنسان صوت واحد فقط في الانتخابات.
حالة التفاهة الفكرية أو الروحية التي تتجرعها القلة الواعية من صنف وصف المتنبي: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله… وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم" تجلت واضحة في أيام هذا المجلس، والمبطل الذي سبقه، وبعد خمود الحراك السياسي، فلم يعد هناك عند المحبطين ما يستحق أن تكتب عنه، أو حتى تفكر فيه، فالسلطة وضعت كل شيء في نصابه الصحيح كما تعتقد وتروج، موهمة ذاتها وتريد إيهامنا بتلك السذاجة. فمن ناحية تم بنجاح كريه عمليات خنق أصوات "النشاز" المعترضة دائماً، فلم يعد هناك أحمد السعدون أو مسلم البراك من التكتل الشعبي ولا الجماعات الإسلامية المعارضة ولا اليسار ولا جماعات الليبراليين.. كلهم انتهوا، وأُبعِدوا قسراً بفعل عمدى وسبق تصور وإصرار من السلطة الحاكمة، ومن ناحية أخرى تم إخلاء خشبة المسرح السياسي لينفرد بالمشهد الممل حفنة المهرجين والمطبلين ممن تريدهم السلطة خلفها دائماً والذين لا يرد لهم طلب.
 بتلك الصورة، لم يعد هناك عند مثل صديقي "قضايا" يمكن أن تثار، قضايا يمكن أن تنتقد أصحابها أو تقف في صفهم، أخمدت الروح القلقة، والتي تنبض بالحياة وبالرفض في الجسد السياسي الكويتي. وزاد الطين بلة، كما يقولون، أن الكويت في الأساس سمجة اجتماعياً، بمعنى أنه لا توجد حياة اجتماعية صحيحة، فلا فنون جميلة، ولا مسرح أو سينما، فالدولة بمجملها ليس لها غير اللون الرمادي الباهت، وهو صبغة الغبار المهيمن على الطقس العام، فألوان الطيف وقوس قزح غابا منذ منتصف السبعينيات تقريباً، وتم ترحيل الدولة بعد الثورة الإيرانية لعالم المزايدات على الشرعية الدينية المحافظة بين السلطة الحاكمة والإسلاميين المعارضين، والذين بدأت تسطع شمسهم في تلك الفترة كنتيجة طبيعية لسقوط الحلم القومي العربي، حتى انتهينا اليوم بهذه الحالة الغريبة، التي تنفرد بها الكويت دون بقية أخواتها من دول مجلس التعاون تقريباً، لا حياة اجتماعية مبهجة، ولا حياة سياسية متوثبة تخفف من وطأة السماجة الاجتماعية.
 لعل هذا يفسر حالة الخواء الذي نتجرعه اليوم، وربما، وبتلك النتيجة السابقة، شدت انتباهي تغريدات عدة شباب من الجنسين في هذه الأيام، والتي كانت أيام الحراك السياسي نشيطة ومتحفزة ومحرضة على الرفض والعصيان السلمي، أخذت، هذه الأيام، تراوح بين النصائح "الكونفوشوسية" العامة عند البعض، أو ترديد الأدعية الدينية عند البعض الآخر، دون مناسبة غير تجرع أصحابها من الملل السياسي والاجتماعي الخانقين.
 لكن هل صحيح أن الكويت كانت تحيا في بحبوحة الديمقراطية والشرعية الدستورية، وغابت كلتاهما في السنة الأخيرة، أم أن الكويت لم تعش يوماً حياة ديمقراطية صحيحة، ولم يكن دستور ٦٢ غير أداة تكريس السلطة الواحدة، وأنه كان يعد، في أحسن الأحوال، "أخف الضررين.. وأهون الشرّين" ؟!… هذا موضوع آخر، يستحق أن نفكر فيه قليلاً… ونفكر بم نختلف اليوم عن بقية شقيقات الكويت الخليجيات!
حسن العيسى

مستقبل دولة أم أجندة شيوخ؟!

أين الجديد في تصريح النائب عبدالله الطريجي لجريدة "الجريدة" وفحواه أن هناك أجندة نيابية للإطاحة بالرئيسين في مجلس الأمة ومجلس الوزراء، يقف خلف هذه الأجندة الانقلابية "عيال شيوخ"، وتتمثل في الاستجوابات الكثيرة التي تقدَّم هذه الأيام في مجلس التابعين ليوم الدين… أين الجديد في مثل هذا الكلام؟!
 سنوات طويلة مضت والصحافة المقيدة بقوانين النشر واعتبارات الولاءات والمحسوبيات للأسرة الحاكمة والمصالح التجارية المرتبطة معها تتحدث تلميحاً، وبحياء شديد وبصيغة خطابية عامة (لا أستثني نفسي) لا تؤشر مباشرة إلى الجرح، عن خلافات الأسرة، أي أسرة الحكم، وكيف انعكس ذلك الصراع السلطوي على وضع الدولة في التنمية الاقتصادية وتدهورها، والإدارة السيئة للمرافق العامة على كل الصُّعُد من التعليم والصحة، وهما الأخطر، إلى بقية الخدمات المؤجلة لأجل في علم الغيب.
بطبيعة الحال وبحكم العادة المتأصلة عند شيوخنا، كان هناك المشجب الجاهز الذي تعلق عليه حكايات الفشل الدائم لأهل الحصافة في أسرة الحكم، وكان يتم تقديم المعارضة لنهج الحكم على أنها السبب وراء هذا الفشل المتكرر بعرقلتها مشاريع التنمية التي كانت الحكومات السابقة تطرحها على المجلس، وأنها (المعارضة) كانت "تتحنبل" في مسائل شبهات الفساد والتحقيق فيها حتى ننتهي بقتل طموح وأمل السلطة في إنجاز مشاريع الأحلام والأوهام وتسويقها على الناس، وكانت دائماً هناك مخالب القط من كتاب ووعاظ السلاطين والمستشارين الذين يقفون عادة صفاً واحداً ضد المعارضة، كما يصورون أنفسهم بوسائل إعلام البؤس في معظم الأحايين، وفي الوقت ذاته، وفي أحيان أخرى، نجد بعضهم يعمل سراً أو جهراً لحساب هذا الشيخ أو ذاك غير الراضي عن شيوخ الحكومة، ويقوم هذا الشيخ "المعارض" اليوم، والذي كان يوماً ما في موقع "أكبرها وأسمنها" قبل زمن قليل أو كثير، بضرب أبناء عمه من تحت الحزام، مستعملاً القفازات الناعمة لنواب وكتاب وإعلام ضحل ومنظّرين من حزب فقهاء مخلب القط.
 بتلك الصورة المحزنة، يتم تهميش الدولة وشعبها كله إلى حالة الدولة المشيخية الكاملة الدسم. فلا دولة ولا مؤسسات تديرها بيروقراطية قانونية تحسم الصراعات القائمة والمحتملة، ويصبح كل ما لدينا شيوخاً بشيوخ، بعضهم "يحبل" للآخر، أي يتصيد له، ليزيحه عن كرسي السلطة ويحل مكانه في أول قائمة المرشحين للحكم، وما علينا -نحن الشعب المنسي- غير أن نجلس متفرجين، ومهمِّشين كل قضايانا الحياتية من سكن وصحة وتعليم جانباً حتى تظهر نتيجة صراع "البخصاء" في دنيا حكمة "الشيوخ أبخص".
لا يمكن أن نعزل ما حدث ويحدث لدينا في الكويت خلال العقود الأخيرة، عما نشره الكاتب كريستوفر ديفدسون في دورية "فورن أفيرز" وترجم بعضه موقع "منشور" عن غروب شمس دول الخليج، حيث يحدد الكاتب أن الخطر الأكبر الذي يهدد تلك الدول، ليس كما يحلو للبعض أن يردده بشأن الخطر الإيراني، بل يتمثل في تدخلات حكام القصور وصراعاتهم في ما بينهم، هنا من حقنا أن نتساءل إن كنا حقاً نحيا في دول لها وجود وتاريخ وهوية وشعوب حية أم في مشايخ وإمارات، تختصر الدولة فيها وتهمَّش إلى واقع دواوين مشيخية تمارس فيها طقوس الولاء بتقبيل الأكتاف والرؤوس ولا شيء عدا ذلك، وهل سيكون لتلك الدول مكان في مستقبل أرض بلا نفط؟!
حسن العيسى

ثورة ربيع «القهاوي»

لا يهم أن يعتصم عدد من المواطنين في الجهراء القديمة ليعلنوا الحرب الدينية على المقاهي هناك بذريعة أنها تشيع الفاحشة والدعارة وتنتهك شرع الله الذي يتم تكييفه بما يناسب اجتهادهم وفقههم المنغلق، وحقهم أن يقولوا ما يشاؤون عن تلك المطاعم أو المقاهي "المختلطة" التي تثير حفيظتهم، حيث يختلط فيها الزوج مع زوجته أو قريبته على طاولة الطعام، أو ان تستفز مشاعر المعتصمين لمجرد أن بعض رواد تلك المقاهي يدخنون الشيشة، وهنا يذكروننا بمزاعم الإخوان قبيل موقعة الجهراء -صدفة المكان التاريخية- في بداية عشرينيات القرن الماضي، واتهامهم أهل الكويت بالكفر لأنهم يدخنون السجائر، فيبدو أن الزمن يقف في الجهراء، والتاريخ يعيد نفسه بملهاة من بعد ملهاة، وليس بمأساة تعيد نفسها كملهاة كما قال ماركس.
وأيضاً ليس من المهم أن يلتم شمل عدد من المتكلمين من أعضاء مجلس التابعين ليوم الدين في الاعتصام مرتدين بدل المحاربين المدافعين عن الدين والعادات المظلومة، ويهددوا الحكومة بالمساءلة السياسية، ويضرب المناضل النائب عسكر العنزي أجلاً لوزير الداخلية أو لرئيس الحكومة لإغلاق كل المطاعم المختلطة في كل أرجاء الدولة الكويتية، لاحظوا أن تحذير هذا النائب بتاريخه الموالي الأبدي للسلطة يشمل الولايات المتحدة الكويتية بكل مقاطعاتها وليس مقاطعة الجهراء فقط. فمن حق هذا النائب ومن حق رفاقه، كذلك، من نواب الموالاة أن يبحثوا لهم عن مكان يثيروا فيه معاركهم الشعبوية ضد الحكومة، عل وعسى أن تخف عنهم وطأة الاتهام بالمولاة للسلطة، ويكسبوا بعض العطف من الغاضبين على غياب الشرعية الدستورية عن هذا المجلس.
وكذلك قد نتقبل بمضض أن يصطف مع الأبناء البررة للسلطة بعض رموز المعارضة المحافظة من سلف أو إخوان حين وحدهم هدف كسب التعاطف المحافظ في دولة ومنطقة تجرى فيها سباقات محمومة على أرض المزايدات الدينية والمحافظة بعد تغييب الشرعيات الديمقراطية والتنمية الحقيقية القائمة على الإنسان ووعيه الحضاري.
لا يهم كل ما سبق في التعبير الحر عن ثورة الأخلاق الكبرى بعد أن رسمت تخومها في المطاعم و"القهاوي"، بعد أن كسب المحافظون أرضها في التعليم العالي، وامتدت انتصاراتهم لكل معالم هذه الدولة السائرة بحفظ الله ورعايته نحو الرمز الطالباني سابقاً أو دويلة الشباب الإسلامي في أجزاء مفتتة في الصومال أو ليبيا أو سورية السائرة بهذا الطريق المرعب. ما يهم آخر الأمر هو موقف السلطة اليوم من "تحديات" ربعها وبعض القلة من جماعات المعارضة. فما يثير الريبة أن السلطة شمرت عن سواعدها وبعصي وقنابل القوات الخاصة لتأديب البدون في اعتصاماتهم السلمية، بينما وقفت على "الحياد" متفرجة على اعتصامات "القهاوي"، كأنها تقول لهم "اشغلوا أنفسكم" بتلك الحروب الجانبية، ودعونا نرتب البيت الكويتي كيفما نريد دون معارضة واعية لا تنبش في الهم الكويتي الكبير، فلكم همكم في مطاعم الاختلاط، ولنا فرحتنا الكبرى بضياع الأولويات الوطنية.
حسن العيسى

هل انتهت المعارضة؟

 خمد الحراك السياسي المعارض في الكويت – أو أخذ إجازة مفتوحة – في وقت متزامن مع خمود ثورات الربيع العربي وانتكاساتها بفضل بركات المال النفطي وغياب قيادة واضحة الرؤية وذات منهج ثابت ينطلق من تراث أكيد لقوى المجتمع المدني. فإذا كانت نيران المعارضة الكويتية وتجمعاتها واعتصاماتها السلمية التي أطلقت شرارتها، وتأججت نيرانها، قبل عامين إثر فضيحة "الإيداعات المليونية"، وهو العنوان المهذب لرشا كاملة الدسم من السلطة الثرية لعدد من نواب مجلس ٢٠٠٩، انتهت بحفظ التحقيق فيها للقصور التشريعي كما جاء في مذكرة النيابة، فإن الحراك المعارض الذي كان يهز شوارع العاصمة والضواحي السكنية في تلك الأيام الجميلة يقف اليوم منتظراً دوره للتحقيق عند غرف النيابة العامة، أو يبحث رموز ذلك التيار عن أسمائهم في رول القضايا الجزائية المتداولة أمام غرف المحاكم بقصر العدل.
 لماذا انتهى الحال بالمعارضة إلى هذه الصورة البائسة التي تمنتها وعملت من أجلها مجاميع الحلقات الانتهازية التي تدور في فلك السلطة، مع ما رافق تلك الأمنيات الخائبة من عمليات قمع شديدة على يد السلطة وملاحقات قضائية لا تكلّ ولا تهدأ! لا جديد في الجواب السريع المتمثل في غياب الرؤية الموحدة لرموز المعارضة واختلافاتها في تحديد مطالبها وما صاحب ذلك من سياسة العصا والجزرة للسلطة في خنق المعارضة، فنجد، مثلاً، أن بعض شيوخ القبائل – والكويت دولة قبلية من ألفها إلى يائها رغم مرور أكثر من خمسين سنة منذ حصولها على لقب "دولة" بدستور ديكوري- لم يجدوا حرجاً في التراجع عن مواقف متشددة صلبة ضد ممارسات السلطة وانقلب حالهم، سريعاً، مع "جزرة" السلطة، وأضحوا أقرب المقربين إليها بين عشية وضحاها، وعاصر ذلك أيضاً هدايا وعطايا بإعفاءات ومنح مالية لعموم الشعب، بينما كانت "عصي" القوات الخاصة تهرول خلف تجمعات المعارضين وعصا التشريعات الاستبدادية تقتفي آثار أقدامهم، تحاسبهم (حسب القانون) على ما تحدثوا وصرحوا به، وما تحتمله ألفاظهم من تفاسير تدين أصحابها وتودعهم زنازين الدولة إلى أجل غير معلوم.
 هل يمكن عزل ما حدث في الكويت عن الدائرة العربية الأوسع والأكثر حراكاً وقمعاً في الوقت ذاته؟ يسأل الباحثان ميلاني كاميت وإسحاق ديوان في شهرية "لوموند دبلوماتيك" عدد أكتوبر: لماذا بدأ الربيع العربي في ٢٠١٠؟ ويقرران أن "الاستياء الشعبي الذي أدى إلى الانتفاضات يمكن إرجاعه إلى عنصرين رئيسيين، تراجع دولة الرفاه، وتوطيد العلاقات الوثيقة بين الدولة وعناصر معينة من نخبة رجال الأعمال". ويمضي الباحثان في تحليل ظواهر "جمال وعلاء مبارك، وعائلة زين العابدين والطرابلسي" وعوالم المحسوبية والفساد حين يختلط الحكم والتجارة، وتلتحم أنظمة الحكم مع أصحاب البيزنس.
 إذا كانت هذه هي الأسباب المباشرة للربيع العربي، فهي الأسباب ذاتها التي تساهم اليوم في إخماد جذوة هذا الربيع وتحقق بعض الانتصارات هنا وهناك، ورافق تلك الأسباب أمراض مستعصية في الجسد العربي القبلي، مثل انكشاف واقع غياب الهوية الجامعة للشعوب العربية بمعنى شعور الانتماء إلى الدولة الأمة ووحدة الدولة العربية، وصاحَب ذلك بعث جديد لروح القبلية والطائفية الدينية، ففي مصر، رغم أنها دولة لا يخشى عليها التفتت بسبب عمق الهوية المصرية تاريخياً، فإنها وقعت مع بعض أخطاء اجتهادات "الإخوان" فريسة لقوى الدولة العميقة الضاربة في الفساد، وكان هناك أيضاً المال المتدفق من الخارج لقلب مركز التغيير للعالم العربي، وكان انقلاب مصر الأخير.
وخارج مصر كان التغيير الرجعي والتراجع عن الربيع يتجسدان في تقرير الفشل للدولة الليبية وتفتتها مناطقياً تحت إمرة عصابات مسلحة ادّعت شرف الإطاحة بالعقيد، وفي العراق تفتت الدولة أولاً بنظام المحاصصة والمحسوبيات الطائفية، وثانياً بالتفجيرات الانتحارية، وأضحت الدولة مجالس عزاء دائمة، ثم هناك سورية، وتشرذم المقاومة السورية، كنتيجة حتمية لانكشاف تشرذم المجتمع السوري ذاته، وضياع أولويتَي الكرامة والحرية للشعب السوري بإحلال دولة الخلافة في الأرض السورية مكانهما، وإزاحة واقع اللاجئين المأساوي جانباً.
 الطريق إلى التغيير مازال طويلاً، واحتمالات إعادة تشكيل الدول العربية بحدود ودول جديدة يطرح نفسه بشدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يبقى أن يقر حكام اليوم، الذين لم تهزهم رياح "الربيع"، ويقتنعوا تماماً بأن موت أي معارضة سلمية في أي دولة لا يعني غير إعلان وفاة الدولة ذاتها، فلننتظر القادم من الأيام.

حسن العيسى

بدون جنسية بدون ورق

عنونة أوضاع "البدون" القانونية لم تعد مهمة، وسواء اسمتهم الدولة "بالبدون" أو المقيمين بصورة غير قانونية أو غير ذلك من تسميات أرادت بها الدولة تلطيف وتزويق واقعهم اللاإنساني، فإن وضع هؤلاء الكويتيين المحرومين من حق الجنسية في جوهره لا يختلف عن المهاجرين غير المعترف بهم في الدول الأوروبية، في فرنسا يطلق عليهم sans papiers أي الأقليات التي لا تحمل أوراقا ثبوتية، فهم كما يتحدث عنهم الفيلسوف آلان بادو جماعات لا يتم اعتبارهم كـ "أشخاص" في الإدارات القانونية، وبهذا الوصف ليس لهم حقوق الانتخابات ولا الضمانات الاجتماعية، ولا يتم احتسابهم في أي مكان بإدارات الدولة، فهم مجرد أرقام لا ترتب أي آثار قانونية منتجة.
تكرمت الدولة "بحاتميتها" الورقية في الكويت على هؤلاء بتصنيفهم حسب البطاقات الملونة التي تمنحها إدارة صالح الفضالة، حسب موقعهم في الإقامة بالدولة وفي التأهل للجنسية الموعودة في تاريخ هو بعلم الغيب، "فكل حسب لون بطاقته، وكل حسب حلمه بالجنسية"، ويتم أحياناً صرف جوازات سفر خاصة أو وثائق لمغادرة الدولة بصفة وقتية لحالات معينة. لا أعرف على أي أساس يتم صرف مثل هذه الجوازات أو أذونات السفر للعمرة أو الحج مادامت الإدارة بحسب مزاجها الاستبدادي لها أن تنحي جانباً أي أثر ناتج عن منح ذلك الإذن بالسفر أو تلك الوثيقة المتصدق بها على البدون الكويتيين.
هذه الأيام تتجدد قضايا محزنة إنسانيا ومخجلة في الوقت ذاته لاسم الدولة –هذا إذا كانت غطرسة المسؤول الكبير تعرف معنى الخجل بدولة مشايخ البشوت السوداء- ففي أكثر من حالة سافر بعض البدون بتلك الوثائق للسعودية، وحين عودتهم منعوا من الدخول للكويت بحجة أن وثيقة سفرهم منتهية التاريخ! وبالتالي يتم احتجاز هؤلاء في فراغ ما بين الحدود، ويتم تعليقهم إلى أن تصل مسؤول الجوازات تعليمات من وزير الداخلية بمنزلة "صدقة جارية" من سعادته تسمح لهم بالدخول، كي يعودوا من جديد لوضع sans papiers، أو عالم بطاقات الأعراس الحزينة الملونة. السماح بدخول هؤلاء البدون الكويتيين الذين انتهت صلاحية وثائقهم في أيام العمرة للدولة لا يخضع لحكم القانون أو لتريب مؤسساتي، إنما هي سلطة تقديرية للوزير، هي سلطة استثناء من جملة سلطات استثنائية للجهاز التنفيذي، أي سلطة خاصة بالشيوخ، ولا أحد قبلهم ولا أحد بعدهم.
أعرف أنه قبل أربعة أيام، تم منع مواطنين بدون هما الشقيقان فيصل ومنصور العنزي من الدخول للدولة، ولم يشفع لهما نشر صورة والدهما على ظهر دبابة في حرب تحرير الكويت، فالمسألة حسب الفقه العنصري، يحكمها مزاج تقديري وسلطة استثناء لها أن تملأ الأوراق الرسمية كما تشاء، ولها أن ترميها في سلة القمامة كما تشاء، ومن سيحاسب من، وأين القانون العادل في دنيا الأشخاص الرقميين…؟ هذه الكويت صل على النبي.
حسن العيسى

لو أصبحنا لاجئين

حدث غرق سفينة لاجئين في المياه الإندونيسية من الباحثين عن حياة إنسانية مقبولة في أستراليا ـ معقولة أو مستورة، ولا أقول كريمةـ وموت عدد من أفراد أسر عكارية لبنانية، هذا الحدث يُعدّ، على حد وصف نبيل أبومنصف في جريدة النهار اللبنانية، "صورة مهينة حتى العظم للبنانيين وصادمة إلى أقسى حدود الصدمة". هي صورة مهينة وصادمة لأننا لم نألف، هنا في الكويت وبقية دول الخليج المترفة مالياً سماع أخبار كهجرة "غير مشروعة" للبنانيين، حين يتساوى هؤلاء في البؤس والمعاناة مع أكثر فقراء العالم الهاربين من دول الجوع إلى عالم جديد في الغرب أو الشرق.
 نعرف أن أعداداً كبيرة من اللبنانيين هم من المهاجرين الشرعيين، وهؤلاء المهاجرون أغلبهم من أصحاب الكفاءات الإدارية والمالية، ومستوى معيشتهم في الخليج، مثلاً، يمكن وصفه بأنه "فوق النخل"، فكم لبناني أصبح من أهل الملايين في أميركا اللاتينية، فأغنى رجل في العالم المكسيكي كارلوس سليم من أصل لبناني، وكم لبناني أضحى قيادياً في دول المهجر. هو التاريخ اللبناني الممتزج بروح المغامرة والبحث الدؤوب عن الرزق الآمن في منطقة تضج بتاريخ حافل من التشرذم والقتال الطائفي، وكون لبنان هو نافذة الشرق العربي للاتصال بالحداثة الغربية، قد يكون هذا أو ذاك، السبب وراء عبقرية الهجرة اللبنانية إلى الخارج. 
لكن المفارقة المحزنة، اليوم، أن اللبنانيين أضحى حالهم من حال تعساء بورما والصومال وغيرهما من بقع الفقر، لنجد أكثر من عائلة لبنانية تنحشر في قارب صغير لتهرب من أجمل بلدان العرب بصورة غير مشروعة، وصف الهجرة "غير" المشروعة هو ما يصدم الكبرياء اللبنانية الآن، فلا أحد يذكر أن لبنانيين هاجروا بتلك الصورة المهينة، حتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية من ٧٥ إلى ٩٠ من القرن الماضي، وهذا لا يعني إلا أن الوضع اللبناني اقتصادياً وأمنياً أصبح أسوأ من أيام الحرب الأهلية.
 مأساة غرق بعض عوائل عكار لا يمكن فصلها عن مآسٍ أكبر وأشد للسوريين كلاجئين في دول الجوار أو حتى في وطنهم، ولا يمكن أيضاً عزلها عن المشهد الأكبر للعراق في حفلات التفجيرات شبه اليومية وما يرافقها من هجرات عراقية غير شرعية إلى الخارج، يهربون مما يفترض أن يكون أغنى بلد في العالم العربي باحثين عن الرزق والأمان.
 كلمة "لاجئين" عرب، لم تعد قاصرة على الفلسطينيين، فقد امتدت معانيها إلى وصف معظم إخوانهم في "بلاد العرب أوطاني"، ويكاد وضعنا في الخليج أن يستثنى من ذلك، فالخيمة النفطية تحوى أهله وتحميهم، لكن ماذا سنفعل لو اقتلعت ريح الزمن تلك الخيمة؟ ماذا سنصنع، فنحن لا نملك التراث اللبناني المكافح، ولا جلد وصبر جيرانه؟! ما العمل، أليس من حقنا أن نقلق من المستقبل وعندنا إدارة سياسية في الكويت، على سبيل المثال، لا تعرف من الزمن غير لحظة الحاضر وكأن الغد لن يحضر؟!
حسن العيسى

أين نحن وأين إيران؟

بعد تبادل تحيتي "Have a nice day" و"Khodahafez" بالتلفون بين الرئيسين أوباما وحسن روحاني، لابد أن يشعر قادة دول الخليج بالامتعاض مما يبدو كبداية للتفاهم بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة، فقادة دول مجلس التعاون تنتابهم وساوس القلق بتخلي الحارس الأميركي عن دور حراسة مصالح دول الخليج العربية في أسوأ الأحوال، أو، في أضعف الإيمان، إهمال أولويات تلك الدول في ما يخص الانتصار للمقاومة السورية ضد نظام بشار من ناحية، وتحديداً بعد تخلي أوباما عن ضرب النظام السوري كما حلمت أنظمتنا الخليجية، أو، من ناحية أخرى، يكمن القلق الخليجي السني في وقوف الولايات المتحدة على الحياد التام في حروب الفتنة الكبرى المشتعلة من سورية والعراق إلى لبنان إلى بقية دول القبليات الطائفية في الشرق العربي.
 من المبكر القول بأن جبل الجليد بين الدولتين الأميركية والإيرانية بدأ بالذوبان، فهناك إسرائيل وهمّها الكبير مع إيران، وهو غير محصور في المفاعل النووي الإيراني فقط، بل في مفاعلات المقاومة لـ"حزب الله"، ودعم إيران القوي لـ"حماس"، وهناك عقبات كبرى تقف في طريق المصالحة الإيرانية- الأميركية، ليس أولاها قوى الضغط المحافظة في أميركا، ولا آخرتها القوى الشديدة المحافظة والكراهية للولايات المتحدة في إيران، وهي لا تتحدد برجال الدين المتشددين المحيطين بحلقة مرشد الثورة خامنئي، بل تمتد إلى أجهزة مخابراتية وعسكرية تحيا وتنتعش على الصراع الإيراني- الأميركي، وتحمل في عقلها الباطن عقدة أبدية نحو أميركا وُلِدت مع مؤامرة الانقلاب على حكومة مصدق الوطنية عام ٥٣ بقيادة ضابط المخابرات كريمت روزفلت.
 ومثلما كان للأميركان مخلب "روزفلت" الذي أدمى الأمة الإيرانية وأعاد نظام الشاة، فإيران لديها "روزفلتها" القوي واسمه قاسم سليماني، وهو قائد قوة القدس الذي يعد ذراع إيران القوية في الخارج وأيضاً في الداخل، قوة القدس تماثل سطوة ميليشيا الباسيج إن لم تكن أكثر. 
حكاية سليماني "الشهيد الحي"، كما يسميه مرشد الثورة، أغرب من الخيال، كما فصلتها مجلة "نيويوركر" الرصينة في مقال طويل بعنوان "ظل القائد"، هذا الظل (سليماني) ابن المزارع الإيراني الذي تجرع كؤوس الفقر والحاجة في عهد الشاه، صعد نجمه سريعاً بعد الثورة وفي الحرب العراقية- الإيرانية، وحشد آلاف الشباب الإيرانيين ليندفعوا إلى حقول الألغام العراقية، وهو الرجل الذي يقال إنه خطط لضرب "المارينز" عام ٨٢ في بيروت، ووقف بعد ذلك بقوة لخلق "حزب الله" في لبنان، ولم يقتصر دوره على ضرب الأميركيين ومصالحهم، بل مد إليهم يد العون أحياناً أخرى، عندما تلاقت مصالح الدولتين لضرب "طالبان" بعد ١١ سبتمبر، وزود الأميركان بخرائط تواجد قوات "طالبان" بالتفصيل، وفي لبنان هناك تساؤل عن دوره المخابراتي في تفجير موكب رئيس الوزراء الحريري، فقد كشفت لجنة التحقيق عن عدة مخابرات تلفونية بين أربعة أعضاء من "حزب الله" مع أجهزة مخابرات إيرانية يعتقد أنها كانت مع سليماني قبل وبعد التفجير. 
وسليماني هو الشخص القوي الذي رتب البيت العراقي الشيعي بعد الغزو الأميركي، فوضع حدوداً لمقتدى الصدر، ولعبت مليشيات تأتمر بأمره لعبة وضع المتفجرات في طرق القوافل العسكرية الأميركية، وأقنع النظام السوري بفتح أبواب سورية لجماعات "القاعدة" لضرب الأميركان في العراق، وفرض، في ما بعد، المالكي لرئاسة الوزراء بعد أن خذل الأميركان علاوي كصديق لهم، وهو الذي دفع بقواته مع قوات "حزب الله" إلى ضرب المقاومة السورية والاستيلاء على بلدة القصير الاستراتيجية في سورية، لقطع طريق الإمدادات على المقاومة السورية.
 هناك الكثير لا مكان لعرضه في هذا المقال عن دهاء سليماني المخابراتي لخدمة وطنه ومصالح أمته من منظور الحكم هناك، لكن الذي يهم الآن، أن ندرك أن لإيران أكثر من سليماني في عوالم المخابرات وترتيب مصالحها الاستراتيجية، وأن القيادة الإيرانية رغم الحصار الاقتصادي أبدت حنكة وذكاء رهيبين في لعبة السياسة مؤكدة حكمة رئيس وزراء بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر في السياسة بأنه "لا يوجد أصدقاء ولا أعداء دائمون بل مصالح دائمة"، وتكاد إيران أن تقف اليوم نداً للند مع أقوى دولة في العالم، بينما الجماعة في الخليج نراهم يحيون على البركة، في الأغلب، كما أن دبلوماسية الدينار، في أحايين أخرى، محدودة بضرب حركات التغيير في العالم العربي وإجهاضها في مهدها، وشطارة رجال أمنهم مقيدة بـ "زيد" من الناس الذي تجاوز الحد في "تويتر" أو نسي نفسه في "فيسبوك"…. أين نحن وأين هم؟!