انتصرت حكومة الحصافة ممثلة بالإعلام والداخلية لرغبات النائب في مجلس السلطة الواحدة السيد محمد الجبري بأن منعت أمسية جلال الدين الرومي، ولم يكن غريباً أن تُمنَع مثل تلك الندوة من قِبل السلطة، بل إن الغريب حين تصرح بعكس رغبات النواب المتدثرين بالأردية الدينية المحافظة المؤيدين في السراء والضراء للسلطة الحاكمة بالصوت الواحد المحتكرة للثروة القومية، فلم يحدث في تاريخ الدولة – إلا- على سبيل الاستثناء، أن تصدّت السلطة لنواب لم تكن مهمتهم إلا قبر كل محاولات "بدع" الانفتاح الفكري على الغير أو الاطلاع على ومضة نور روحية أو عقلية من التاريخ الإنساني، ولا يبدو أن شيوخ الدولة أو مشايخها المحافظين يعرفون من هو "جلال الدين الرومي" وليس لهم أي اطلاع على الفكر والشعر الصوفيين ومساهماتهما في الفكر الإسلامي خاصة والعالمي بصفة عامة، فهذا يعد نوعاً من "الترف العقلي" ليس "للأصولوية" السلطوية المحافظة أن تكترث له.
السلطة المتغلبة تاريخياً، لم تكن تحكم بعصا القوة فقط، بل كانت دائماً تستند في مشروعيتها إلى "مثقفيها" الذين كانوا، عادةً، من فقهاء الدين، يبررون "شرعية" السلطة ويسوغون أفعالها دينياً مهما بلغت من طغيان، فعند مثقفي السلطان لا بد أن يكون هناك "نص" شرعي يسوغ حكم الخليفة، فإن لم يوجد فلا مانع من خلقه أو تأويل القائم من نصوص، واليوم في عصر التنوير النفطي "المظلم" تطورت الأمور، فلم يعد هذا الفقيه من أهل الدين فقط، بل أخذ ينافسهم فقيه أهل الدنيا، من جماعات "مثقفي السلطان" الذين يملأون جُل وسائل الإعلام ودور النشر بثقافتهم الكسيحة في دولنا، وشاهدنا عينات مخزية لتلك الفئة في مواقف كثير من اليساريين والليبراليين من انقلاب يونيو في مصر، أو عينات ثانية، هنا، من كُتاب الصوت الواحد الذين يرددون عبارة "الشيوخ ابخص" بعد أن يضعوها في كأس تنويري مغشوش ليشرب منه أهل الجهل حتى الثمالة.
ختاماً، لنقر بأنه، من ناحية، لم يشذ محمد الجبري في معارضته لندوة جلال الدين، فهو، قدم الدور المطلوب منه "شعبوياً" فلا، هو، ولا شيوخه يكترثون، آخر الأمر، لجدواها أو موضوعها، يكفيهم أنهم يسبحون مع التيار، والندوة لن تزيد أو تنقص من حصيلة قناعاتهم الخاصة وثرواتهم الفكرية، ومن ناحية أخرى، لم يكن مُجدياً أن يتحدى أعضاء التحالف الوطني الأمرَ الحكومي بالمنع ليقيموا الندوة، فليست هي "قضية" كبرى للحريات أن يدرك الناس من يكون الرومي، بل القضية هي مدى انتصار جماعة التحالف لقضايا الحريات بكل صورها، سواء حرية الاطلاع على فكر الرومي على سبيل المثال، أو الحرية السياسية للاعتراض والتظاهر السلميين ضد الانفراد بالسلطة، ورفض كل صور القمع للمعارضين أياً كانت هوياتهم الفكرية.
التصنيف: حسن العيسى
متى ينتهي هذا الكابوس؟!
حين نشاهد اليوم مآسي حرب العصابات الدينية والطائفية في سورية والعراق، التي تحولت أيضاً إلى حرب داخل الطائفة السنية أساسها "اختلاف اجتهادات" على الشرعية الطائفية أو شرعية تمثيل القاعدة (ضاعت الحسبة في حروب البسوس الجديدة)، أو نرى معارك أساسها كيفية التعامل مع "ال كابون" بشار الأسد أو التعامل مع ممارسات حكومة المالكي في تهميش سنة العراق، بعد تخليه عن وعوده لشيوخ القبائل السنية، الذين وقفوا معه ومع الاحتلال لطرد القاعدة عام 2006، يصبح من المهم أن نفهم كيف ستنتهي الأمور هناك، فالعراق وسورية ليسا من دول المريخ، وما يحدث لابد أن ينعكس علينا في الكويت وفي دول الخليج.
ومن دون الخوض في التاريخ العربي، الذي توقف منذ سقوط الدولة العثمانية، ولم تتخلله غير لحظات ليبرالية هادئة في الأربعة عقود الأولى للقرن العشرين، لكي يقفز بعدها طغاة عسكريون على الحكم لا يتحداهم جدياً غير قوى الإسلاميين مثل الإخوان، وننتهي اليوم بهذه الخبيصة المدمرة، في معظم أقطار عالمنا التعيس، لمحاولة فهم القليل يعرض الكاتب توماس فريدمان، في مقاله بـ"نيويورك تايمز" (لم أعد أهضم الكثير مما يطرحه) كتاب د. مروان المعشر وزير خارجية الأردن سابقاً "الصحوة العربية الثانية ومعركة التعددية" (ترجمتي للعنوان) فالأرض العربية تضج بسنة وشيعة وأكراد ومسيحيين ودروز… وكان يثبت تماسك الدول التي يحيا بها "القرقيعان" الطائفي والعرقي أنظمة عسكرية طاغية، لكن بعد الإطاحة بتلك النظم، وكانت البداية إسقاط نظام صدام 2003 بالاحتلال الأميركي، ثم خروج الأميركان من المنطقة، الذي بدوره ولد فراغ قوة، أوصل دولنا إلى تلك الحالة في حروب طوائف واقعة أو قادمة، وما يثيره الدكتور مروان هو أن البلاد العربية لا تعاني الآن فراغ قوة فحسب بل "فراغ قيم"، فبعد ثلاث سنوات من "النهوض العربي"، الذي أظهر إفلاس الأنظمة العسكرية الأوتوقراطية العلمانية في إيجاد لقمة العيش الكريمة للمواطنين، والتي مازالت تصارع القوى الإسلامية، وبعد آن آلت إليه الأمور على ما نراه يصبح من الضروري العمل من أجل "التعددية الثقافية"، وهي تعددية في التعليم وتعددية نحو الأقليات وتعددية الأحزاب، بكلام مختصر، تصبح تعددية القبول بالآخر، ومن دون فرض هيمنة واستبداد جماعة عرقية أو دينية على الأخرى.
أتمنى أن يجد القارئ العربي ترجمة لكتاب الدكتور مروان المعشر قريباً، ويبقى حلم "القبول بالتعددية الثقافية"، أي القبول بالآخر المختلف عنا عرقياً أو دينياً أو طائفياً، مسألة قد تأخذ مساراً طويلاً يتجرع فيه العرب مرارة حروب داحس والغبراء الممتدة، وتظل هناك، في النهاية، بعض الأسئلة من شاكلة هل كانت الأنظمة العربية العسكرية الحاكمة "علمانية" حقيقة أم إنها تلفيق سياسي فاسد لا أكثر؟ وكم من الزمن؟ وما حجم التضحيات التي يتعين على القوى التقدمية الشبابية اليوم أن تبذلها حتى تتحقق آمالها بدول عادلة لا استبداد فيها لعسكر أو أمراء قبائل أو أمراء دين أو طائفة، وربما نتذكر في هذه المناسبة عبارة الباحث أوليفييه روا من كتاب "الجهل المقدس"، التي يقول فيها "… ولكن الثقافة الدنيوية في العالم العربي هي في الوقت عينه فارغة، وتزداد فراغاً، وتختفي تحت الضغط المزدوج للسلفية من جهة، وللتغريب من جهة أخرى…" متى ينتهي هذا الكابوس؟!
الجديد أنه لا جديد مع رواد الفضاء
هذه المرة وكالة "رويترز" تقرع أجراس الإنذار عن الوضع الاقتصادي للدولة، فقد ذكرت أن فائض الميزانية انخفض 15٪ في الستة أشهر الأولى من السنة الماضية مقابل ارتفاع النفقات أكثر من 50٪ في المدة ذاتها، وأن معظم أوجه الإنفاق صرفت على بند الرواتب والأجور لا على الاستثمار، وتضيف الوكالة الإخبارية أن زيادة الإنفاق لم يظهر تأثيرها على زيادة الطلب الداخلي كما يتوقع، كما ذكرت أن فائض الميزانية انخفض إلى 10.72 مليارات دينار من أبريل حتى سبتمبر من العام الماضي، بينما كان في الأصل 12.65 ملياراً للفترة ذاتها من السنة قبل الماضية.
وأعادت الوكالة تصريح رئيس الحكومة، قبل فترة، عن ضرورة خفض الإنفاق وترشيد الاستهلاك، وكان رئيس الحكومة بدوره يعيد تحذيرات صندوق النقد الدولي، التي تقول من بدايتها إلى نهايتها، إن أيامكم الحلوة يا أهل الكويت ستنتهي خلال الثلاث سنوات المقبلة… ولست متأكداً أن الكويت تحيا أيامها الحلوة إلا بالنسبة إلى القلة الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، فأيامهم الحلوة دائمة بصرف النظر عن انخفاض أسعار البترول وانخفاض فوائض الميزانية، فهم جبال من الفساد لا تهزهم رياح التغيير.
ليس هناك من جديد في تقرير "رويترز" الذي نبه إليه في تغريدة عابرة الباحث كريستوفر ديفدسون صاحب كتاب "ما بعد الشيوخ… اقتراب نهاية الحكم المشيخي لدول الخليج"، والجديد الحقيقي أنه لا جديد في منهج السلطة، فغير رفض الحكومة زيادة العلاوات والرواتب لم تقدم أمراً جديداً، وأجزم يقيناً أن تشكيلة رواد الفضاء الجديدة لن تقدم شيئاً بدورها مادامت وكالة "ناسا" الكويتية يديرها أبناء الشيوخ.
ماذا يمكن أن تفعل السلطة، في فترة "استهلاك الفائض" القادمة، وبداية الاقتطاع من اللحم الحي، فأسعار البترول تميل إلى الانخفاض بعد اكتشافات النفط الصخري في الولايات المتحدة، ويستحيل أن تتوقف الحكومة عن تعيين المواطنين في الوظيفة العامة، فليس لدينا قطاع خاص حقيقي يمكن أن يستوعب العمالة القادمة، فقطاعنا الخاص مجرد وكالات حصرية لمنتجين صناعيين في دول "السنع" المتقدمة، ولا يمكن بالثقافة الاجتماعية السائدة أن تفتح الدولة أبواب الاستثمار الأجنبي والسياحة مثلما فعلت إمارة دبي… كل الطرق مغلقة أمامنا، والمستقبل مظلم.
أبسط بداية لبعث الأمل يفترض أن تبدأ بحركة إصلاح سياسية حقيقية للسلطة، فلا يمكن أن تغير منهج الفكر السياسي مادام هذا الفكر المسؤول عن أزمات الماضي يخرج من الدماغ ذاته والأشخاص أنفسهم، ففاقد الشيء لا يعطيه، والكويتيون، في النهاية، حالهم من حال غيرهم، سيرضون بالتضحيات، سواء تمثلت في جمود الرواتب أو انتظار السكن إلى يوم غير معلوم، وسيرضون بأكثر من ذلك مثل زيادة أسعار الكهرباء والماء إلى مزيد من رداءة الخدمات العامة بشرط أن تقدم السلطة دليلاً واحداً على جديتها للإصلاح السياسي والاقتصادي، لتبدأ بتحقيق ديمقراطية جادة بنظام برلماني كامل وأحزاب، ولتشرع في العمل بشفافية وعدل في إدارة المرفق العام، لتقدم "حرامي واحد" من أهل الفساد إلى العدالة بدلاً من حشر المعارضين في أقفاص الاتهام، وحين تفعل ذلك سيصدقها الناس ويعملون معها بدلاً من العمل ضدها.
أي بركة أي بطيخ؟!
في غضون يوم أو يومين – الزمن ليس مهماً في هذا البلد – قررت إدارة المرور "فجأة" تخفيض سرعة القيادة في معظم شوارع الدولة، وبررت الإدارة قرارها بوجود دراسات دولية بأن مثل ذلك القرار يخفف زحمة المرور، الناس "الرعية" الذين لم يكونوا على علم لا بالقرار القسري ولا بالدراسات التي تحدثت عنها إدارة المرور سكتوا، فهذا أمر سيادي من السلطة، يفترض أنه جاء "للمصلحة العامة" بحكم العادة الرسمية المتأصلة بالتبريرات، وأيضاً "فجأة" تم إلغاء قرار مدير المرور من قبل وزير الداخلية في زمن قياسي من ولادته، والذي جاء، بدوره، بعد دراسات مستفيضة، وبحكم العادة الكويتية المتأصلة ذاتها، ليقرر أنه لا علاقة بقرار مدير المرور اللواء العلي بتخفيض السرعة بأزمة الاختناقات المرورية، وطبعاً "دراسات" مكتب الوزير الشيخ لابد أن تكون "ديلوكس"، وأمضى من دراسات اللواء العلي المواطن الضابط.
لا يهمني صحة أي من الدراستين المتناقضتين لوزارة الأمر والطاعة، فهذا شأن خاص بالشيوخ فهم "أبخص" بمعنى أعلم بالمصلحة العامة، وهو أيضاً من اختصاص، بالدرجة الثانية، الضباط الكبار، الذين هم بمراكز "عالية" وفوق القانون، وأعلى من سقف المساءلة مثلما قرأنا بأخبارنا الخجولة عن الضابط الكبير المتاجر بالإقامات، والذي قد يكون ابن شيوخ أيضاً، وكان عقابه المروع بعد كشف جرائمه إحالته إلى التقاعد! ما يهم حقيقة هو الطريقة المخزية التي تصدر بها القرارات، وتدار عبرها أمور الدولة ثم تهمل، فمثلاً لنفكر قليلاً في كيفية صدور قرار إنشاء استاد جابر أو مستشفاه أو تحديد المسؤولية عن فشل هذا أو ذاك المقاول أو جريمتهما في كلا المشروعين، أو قرار و(قرارات) بناء أربعة مستشفيات، ثم توقيف العمل بها، أو قرارات بناء محطات للطاقة الكهربائية ثم تناسيها، أو قرار صفقة الداو ثم فسخها، ولنا أن نقيس مئات القرارات التي تولد في لحظة ثم تموت في لحظة أخرى، أو تهمل وترمى في سلة النفايات، وفي معظمها تنتشر روائح فساد مالي واستغلال نفوذ في خلقها أو إعدامها، وتظل الدولة على حالها المائل، وفي مكانها تراوح، أو تكون في حالة تراجع… الأسئلة المستحقة هنا كيف تتخذ مثل تلك القرارات؟ وهل تم التخطيط المسبق لها؟ وأي نوع من الدراسات الجدية أو الهزلية قد سبقها؟… لا أتصور أن أياً من تلك الأسئلة تم طرحه على أهل الحل والعقد في الدولة، وإلا فكيف نفسر ذلك الفشل والهدر المرافق المتواصل في تسيير أمور الدولة. يمكن أن نعيد الحكمة الثابتة في تراثنا الخاص بأن الأمور تسير على البركة، لكن حتى هذه لا تبدو صحيحة، فهي ليست بركة وإنما فضائح مزمنة في منهج إدارة الدولة، فلنضع أيدينا على قلوبنا حين نفكر بقلق مدمر في مستقبل أبنائنا تحت ظلال تلك الإدارة، ولنصمت بخجل حين يدور الحديث عن دولة المؤسسات.
مأزق وهمي
هذا المأزق، حقيقياً كان أو وهمياً، مرفوض، فهو الذي يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن نتقبل ونتجرع قضايا الفساد المالي والسياسي في الدولة و"نصهين" عنها ولا نبالغ في الحديث عن أدبياتها بعوض وثمن أن تُحترَم حرياتنا الخاصة والعامة في معتقداتنا وممارساتنا ولا نخضع للشرطة الدينية والأخلاقية وما في حكمها، ولا لقوانين ومشاريع قوانين تطرحها "مجاميع التخلف الديني- القبلي"- وهو المصطلح الذي كثيراً ما يتردد في مقالات الزميل عبداللطيف الدعيج – أو نرضى ونتقبل طرح المعارضة بشعارها الكبير المعنون بمحاربة الفساد في الدولة.
فهذه المعارضة في مجلسها الأخير حين كانت تمتلك شبه الأغلبية وقبل حكم المحكمة الدستورية ببطلان المجلس قدّمت أشرس مشروعات القوانين "الدراكونية" في معاقبة المسيء للذات الإلهية على سبيل المثال، وطرحها لحظر الشيشة…! ودعواتها اللامنتهية إلى بقاء المرأة في البيت ومحاربة حقوقها السياسية في الماضي قبل إقرار تلك الحقوق، (أيضاً تلك كلمات تتردد في مقالات بوراكان)، ولنذهب إلى أبعد من ذلك، فجذور تلك المعارضة، حين قوت شوكتُها في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، هي دينية أصولية بمعنى الكلمة، فهي التي طرحت مشروع حرمان غير المسلم من استحقاق الجنسية عام 1982، ثم شرعت قانون منع الاختلاط في مقاعد الدراسة الجامعية عام 1996، وهي التي صبغت الدولة باللون الأسود الكئيب بمنع كل مظاهر الفرح والبهجة التي كانت من ملامح الدولة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ويمضي ذلك الطرح إلى لوم قوى سياسية مثل المنبر الديمقراطي على مساندتها للمعارضة في دعوات محاربة الفساد والتضحية بقضية الحرية الفردية – رغم أن المنبريين لم يقصدوا أبداً قضية الحريات الاجتماعية – متناسية (قوى الحداثة تلك) واقع وتاريخ الأغلبية المعارضة.
وضعنا بين هذين الخيارين، فالذي يرجِّح ضمنياً خيار "الصهينة" على مسائل الفساد غير مقبول منه ذلك، لأنه يتناسى أن قوى المحافظة الدينية هنا في الكويت أو في معظم أقطارنا العربية لم تظهر من العدم، فالأنظمة الحاكمة وجدت ضالتها في "سلاح الدين" لتدجين شعوبها، والمثال الفذ على ذلك يتمثل بالتجربة المصرية أيام الرئيس المؤمن أنور السادات في الماضي، حتى انقلبت عليه وطرحته صريعاً، ووجدنا، بالمناسبة واستطراداً، أيضاً شخصية شاعر يساري فذ وهو الراحل أحمد فؤاد نجم تمجد قتلة السادات، وكأنه من الواجب علينا أن نتقبل أي نظام حتى ولو كان دينياً متطرفاً مقابل الخلاص من طاغية، ثم يعود الشاعر الشعبي الراحل ليؤيد حركة الانقلاب على الشرعية الدستورية في 30 يونيو الماضي طالما كانت تلك الشرعية متمثلة بجماعة الإخوان المسلمين! ويعصف النظام العسكري الجديد بالحريات السياسية جملةً وتفصيلاً، ونتذكر هنا عبارة باسم يوسف حين قال: "قدمت 30 حلقة نقد لمرسي ولم يمنعني، وحلقة واحدة لم يتقبلها النظام الجديد، ومنع البرنامج".
كان ذلك استطراداً لا بد منه لتوضيح هذا الخيار المستحيل، ونعود إلى الكويت، التي لا تمثل حالة استثنائية من القاعدة العربية، وإن اختلفت عنها في معايير الثراء وهامش الحرية السياسية النسبي، يبقى أن نعترف بأن أنظمة دولنا العربية التي مارست الفساد هي التي "خلقت" أو تسببت في خلق التطرف الديني، واحتفلت بإلهاء الشعوب عن مصيرها البائس، ولم يكن بالأمر الجديد استعمال الدين لاستمالة الشعوب وقمعها، فأوروبا العصر الوسيط ومنذ قيام الدولة الرومانية المقدسة سارت على ذلك الدرب، وحدثت الصراعات بين الأنظمة الملكية و"بابوات" روما على "الشرعية الدينية" واستقلالية الملك عن البابا، وتزامن هذا مع بزوغ حركات الإصلاح الديني والحروب الدينية "الطائفية" حتى انتهت بقيام الثورة الفرنسية بدمويتها المرعبة وشعار "لا حرية لأعداء الحرية" لتستقر الأمور نهائياً، ليس بسيطرة نابليون على الحكم ولكن بإقرار دستور 1905 وفرض العلمانية مرة واحدة وللأبد. لعلنا اليوم، أيام الربيع العربي بكل صوره المخيفة، نمر بتلك المرحلة الأوروبية مع اختلافات كبيرة، لكن في كل حال يبقى الإقرار بضرورة رفضنا أن نُحشَر بين خيارين إما أنظمة حاكمة ترفض الإصلاح وتمنح هامشاً ساذجاً من الحريات الاجتماعية أو نظام ديني يدعو بعمومية إلى محاربة الفساد، وفي الوقت ذاته يقوّض الحريات الاجتماعية… مفاضلة "إما" و"أو" يتعين رفضها من أساسها، فهي خاطئة، ولابد العمل من أجل طريق ثالث مهما كان بعيداً الآن.
أغمضوا عيونكم وتخيلوا غيابهم
بمناسبة أخبار الصحافة عن استقالة الوزراء أمس الأول، والتوقعات المحتملة عن نتائج حكم الدستورية في الطعون الانتخابية أمس، والتي لا أعرف مصيرها حتى كتابة هذا المقال، فلا أملك موهبة "كاسندرا" ابنة ملك طروادة التي وهبها الإله أبولو قدرة قراءة المستقبل في الأساطير اليونانية، تصادف نشر الخبرين مع قراءتي بالمصادفة لعرض كتاب "الموت وما بعد الحياة" لسامويل شيفلر، فهو يقرر بمثالية متسامية أننا زائلون، والبشر الذين نحبهم سيرحلون في زمن ما، وليس هذا ما يفترض أن يهمنا بقدر ما يجب أن نكترث لاستمرار الحياة الإنسانية الكريمة لمن يأتون بعدنا في مسيرة الزمن، فقيمة وجودنا الحاضرة تستمد معانيها من أمل استمرار الأجيال القادمة، وبين ثنايا هذا الفكر يقرر المؤلف بدهية جميلة، أنه إذا أردت أن تعرف قيمة أمر ما فتخيل غيابه وانظر ماذا يحدث.
بدوري تخيلت بقاء هذه الوزارة، ثم تخيلت غيابها، ومن جديد أغمضت عيني وتذكرت ذهاب وزارات سابقة ثم تشكيلات وزارية مختلفة جاءت بعدها، وتذكرت، أيضاً، برلمانات استمرت قليلاً ثم تم ترحيلها للمجهول، وكان آخر حفلات الحل قد تمثلت في المجلسين السابقين خلال العامين الماضيين، الأول حل بعد حكم الدستورية، ووجدت السلطة ضالتها في حكم المحكمة لتشكل مجلساً آخر يناسب مقاس الانفراد بالهيمنة السلطوية، وجاء مجلس جديد كان "شبه مناسب" لأسرة الحكم، ليحل في ما بعد لبطلان إجرائي – لا يهم معرفة طبيعته – ولن يهم اليوم نتيجة الحكم المحتمل في أي لحظة في ظل معطيات تاريخنا مع سوابق ماضية لم تنهض بمجملها لتأكيد المبادئ الدستورية ممثلة بأن الأمة مصدر السلطات، ومبدأ الفصل بين سلطات الدولة الثلاث، هل تغير شيء؟!
غابت الحكومة وحضرت حكومة، وغاب مجلس وجاء مجلس جديد، ماذا سيحدث؟ لن يحدث شيء، فحضور أو غياب، أي من الحدثين لن يغير من الأمر شيئاً أمام منهج السلطة الواحدة الحاكمة، ماذا يعني أن يستبدل وزير بوزير آخر، وماذا يعني استقالة كل الوزراء وتركيب طقم وزراء جدد، وماذا يعني يغيب هذا النائب، أو ذاك يحل محله… لا شيء.
في تاريخ الدولة السياسي كانت هناك قلة من الوزراء وضعوا بصماتهم في الإصلاح والتطوير خلال فترات عملهم، وطبعاً، التاريخ لم يعد نفسه لهؤلاء الوزراء الاستثنائيين، وإنما عاد بملهاة في ما بعد، ومن نهاية الستينيات يظهر الخط البياني لتدهور واقع الدولة في مجمل قضاياها، من خنق الحريات إلى توطن الفساد بكل صوره… لم يتغير شيء، غياب وزراء وحضور وزراء، غياب مجلس، وحضور مجلس جديد، غيابهم أو حضورهم لن يكونا مجديين، الأمر سيان، نحن راحلون وكذلك من نحبهم اليوم، أما الأجيال القادمة… ماذا أبقوا لهم…؟ لا شيء… أغمضوا عيونكم وتخيلوا عدماً.
في معنى الفشل
كوستكا براداتان يمجد الفشل (نيويورك تايمز سبتمبر ١٥ – ٢٠١٣) لعدة أسباب، فالفشل يرينا حقيقتنا الوجودية عارية، فهو يحيل الحياة إلى الضد، فنحن كثيراً ما ننسى مصيرنا الحتمي في زخم الأمور اليومية، ونرى حياتنا صلبة دائمة للأبد، فيعيدنا واقع الموت، وهو الفشل الأكبر، إلى حقيقة هذا الوجود الزائل، والفشل بهذا المعنى هو تفجر مفاجئ للعدم في رحلة العمر، فخبرة الفشل ترينا ذلك التصدع في نسيج الوجود، وبهذا يصير الفشل نعمة متخفية، فنحن نتصرف كأطفال وكأن الكون وجد من أجلنا، وفي لحظاتنا المعتمة نضع أنفسنا في مركز الكون، ونطلب أن يرضخ هذا الكون لما نريد، ولعل الفشل يعيدنا إلى الواقع حين يعلمنا "ليس كل ما تتمناه النفس تدركه…"، فتلك الرياح التي تجري بغير ما تشتهي سفننا هي الفشل.
توماس مور في "ياتوبيا" (الكمال المطلق) تخيل جزيرة مثالية يقام فيها العدل المطلق والإيمان، لم تكن هذه الجزيرة سوى حلمه بأن تكون هي إنكلترا في ذلك الزمن، إلا أن ياتوبياه الحالمة للكمال الإنساني يجب أن تقرأ بالمقلوب، فهي إقرار صريح بالفشل في الواقع الإنساني، وتحقق هذا الفشل في نهاية القديس مور تحت فأس الجلاء، بعد محاكمة ظالمة كان الملك هو الحاكم والقاضي، هنا نجد الفشل البيولوجي، وهو المرض أو الحادث الذي يوصل للموت، في فيلم seven seals (الأختام السبعة) عام ٥٧ من القرن الماضي لمخرجه انغمار بريغمان يعود الفارس أنتونيوس بلوك من الحروب الصليبية الى وطنه ليتحدى القدر، ويلعب الشطرنج مع "عزرائيل"، نهاية اللعبة معروفة سلفاً، والانتصار مكتوب على صفحة القدر ذاته لقابض الأرواح، وينتهي الفارس "بلوك" بالفشل إلا أن العبرة هي بمحاولة "بلوك" تحدي الواقع ومصارعته.
مقال "كوستكا البحثي"، شيق، طويل لا يمكن أن أعرضه كاملاً، لخصت بعض نقاطه وزدت عليه رتوشاً، إلا أن كوستكا، أستاذ الفلسفة في جامعة تكساس، كان يقرأ معاني الفشل برؤية شمولية فلسفية، والعبرة التي يجب أن ندركها من بحثه أن نتعلم معنى الفشل، فالفاشلون الحقيقيون هم الذين لا يتعلمون من دروس الفشل، فهل تعلمت أنظمتنا الحاكمة يوماً ما من دروس الفشل المتواصل منذ لحظة ميلادها الوطني حتى الآن، وعلى مدى عقود ممتدة؟ وهل استوعبت تجاربها وتجارب الغير في الدول التي سبقتنا في عوالم الحريات والتنمية، الإجابة نافية، فهم مثل هؤلاء الأطفال الذين يرون أن أزلهم يمتد بلا نهاية، وأن الكون فصل على مقاسهم، وهم في نهاية الأمر يفتقدون فروسية "بلوك" وشجاعته حين تحدى القدر، لأنهم يرون أنفسهم أنهم ذواتهم القدر حقيقة، أي قدر الأمة المنكوبة بهم.
هل هذا ما تريدون؟
قبل أيام نشرت "القبس" خبراً عن قيام جمعية طلبة كلية العلوم الاجتماعية "… التابعة لتيار الإخوان المسلمين في الجامعة… بإيقاف فعالية غنائية، بحجة وجود آلات موسيقية محرمة شرعاً…"، وورد في الخبر ذاته أيضاً اشتراط "… النادي السياسي التابع للاتحاد الوطني لطلبة الكويت فرع الكويت (إخوان مسلمون) وجود محرم للطالبات من أجل قبولهن لزيارة مبنى الاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية بروكسل…". ولم تمض بضعة أيام من ذلك الخبر حتى نشرت الصحافة تحذير النائب السابق محمد هايف، ممثلاً عن جماعة ثوابت الأمة، "من وضع أصنام في أرض المعارض، التي يمكن عدها كفراً…"!
يمكن أن نغفل أهمية أي من هذين الخبرين، فجمعية طلبة كلية العلوم الاجتماعية هي جماعة منتخبة تمثل أغلبية الجسد الطلابي في الكلية، مثلما يمثل الاتحاد الوطني فرع الجامعة طلبة وطالبات الجامعة بانتخابات صحيحة، والنائب السابق كرئيس لتجمع ثوابت الأمة لم يفعل إلا أنه عبر عن رأيه في "الأصنام"، وربما دان كل عمل فني يبرز الإبداع الإنساني، خشية أن يتحول الناس عن عبادة الله ليعبدوا تمثالاً رملياً… لكن على الضفة الأخرى من التحريم والمنع للموسيقى البريئة أو حظر التماثيل الرملية، والتي لم يساهم فيهما لا بيتهوفن ولا مايكل أنجلو، يبرز هنا المأزق المحرج لنا حين نطالب بالحريات والديمقراطية على نحو كامل، وندين انفراد السلطة في الكويت بتقليص مساحة كل منهما بعد إجراءاتها الأخيرة بالصوت الواحد وإغراقها البلد في الملاحقات الأمنية والقضائية للمختلفين معها.
الاتحاد الوطني لطلبة الجامعة كممثل للإخوان يشغل حيزاً كبيراً ومهماً في المعارضة الكويتية للسلطة، وبدرجة أقل (ربما) يمثل الفكر السلفي الذي يتبناه محمد هايف حيزاً من هذه المعارضة، فما العمل، حين ندعو للحريات، فنجد أن من بين الداعين منا يعتقد وبغير خلاف أن الحرية محددة بتخوم رؤيته الدينية أو الطائفية أو العرقية، ولا حرية تتجاوزها، فالحرية عند هذا المذهب الفكري هي "محاربة الفساد" المالي والإداري في الدولة، ويزيد عليها حين يحشر الحريات الشخصية والاجتماعية التي مرجعها "الضمير الفردي" تحت بند "الفساد الأخلاقي"، وعند الفريقين الدينيين (ثوابت الأمة، والاتحاد الطلابي) يتم تفصيل فكرة الحرية على مقاسهم الخاص، وهو مقاس قهري متعنت قاتل للفكر لا يقل استبداداً عن انفراد السلطة بالحكم، إن لم يكن أسوأ، فهل أصبح وضعنا كالمستجير من الرمضاء بالنار! وهل يتعين أن نتقبل مرارة التسيب والفساد المالي في إدارة الدولة كثمن واجب دفعه كي لا يأتي من يعصف بوجودنا، ويحيلنا إلى آلات ميكانيكية تتحرك بالريموت كونترول لفقهاء السياسة الدينيين.
لابد، هنا، من وقفة مراجعة يفترض أن ينتبه لها الإخوان أو الحركات السلفية، فمثلاً الرئيس محمد مرسي المصري الإخواني المخلوع بالقوة العسكرية لم يطالب مثلاً بإزالة الأهرامات، أو تدمير التماثيل الفرعونية في مصر على طريقة "طالبان" وهدمها تمثال بوذا التاريخي في منتصف التسعينيات، ويستحيل على مرسي وغيره فيما لو قدر للإخوان الاستمرار في قيادة الشرعية مجرد التفكير في هذا، ولم يقم إخوان مصر بتحريم الموسيقى وقتل الفنون جملة وتفصيلاً، مع أنهم "إخوان" مثل حال "إخواننا" في الكويت والخليج، وطبعاً حين نذهب إلى تونس فهوامش الحرية تحت قيادة حزب النهضة (الإسلامي) أوسع بكثير من الحالة المصرية، إذاً لماذا الجماعة هنا، الذين يشكلون أحد أسس المعارضة يقفون ذلك الموقف المتصلب وهم خارج دائرة الحكم؟! فهل حجتهم أن الثقافة الخليجية هنا أكثر "محافظة"، وأكثر التصاقاً بالدين الإسلامي…؟! لهم أن يبرروا رؤيتهم كما يشاؤون، لكن في المقابل عليهم أن يحذروا من أن إطلاق مثل تلك الممارسات الاستبدادية سينهش من جسد المعارضة، ويبعد الكثيرين عنها، فهل هذا ما يريدون في النهاية؟