يكفي لمعرفة خطر الاتفاقية الأمنية على حريات البشر قراءة تبرير "مصدر حكومي مطلع لها" بأن "هناك ضرورات ومقتضيات تستدعي تمرير الاتفاقية التي أجازتها كل دول مجلس التعاون الخليجي ولم يتبقَّ منها سوى الكويت، وعدم المصادقة عليها سيوقع البلاد في حرج مع أشقائها الخليجيين" "الوطن عدد الجمعة"، فهي اتفاقية توحيد النهج القمعي للحريات بين دول الخليج، والكويت حسب "المصدر المطلع" التي لم تصدق على الاتفاقية تغرد خارج السرب الخليجي، ويتعين حسب رغبات سلطة "البخاصة" أن تصطف الكويت مع شقيقاتها الخليجيات، بمعنى أن يتم تفصيل جلباب الدولة بمقاس واحد متناسب مع بقية دول الخليج، بصرف النظر عن تفاوت حجم التطورات الدستورية والتشريعية والقضائية بين الكويت والدول الخليجية، رغم كل ما مضى من انتكاسات دستورية أصابت الكويت منذ ولادة دستورها وحتى اليوم.
المادة 16 من الاتفاقية التي تنص على تسليم المتهمين "وليس المدانين فقط بأحكام نهائية لسلطات قضائية مستقلة" واضحة في تعارضها مع مواد الدستور، وتبرير السلطة وأعيانها التابعين بأن المادة الأولى من الاتفاقية تنص على "تعاون الدول الأطراف… وفقاً لتشريعاتها الوطنية" مضحك، وشر البلية ما يضحك، فما معنى تعطيل بعض نصوص الاتفاقية متى "تعارضت مع التشريعات الوطنية"؟! فهنا إقرار مسبق مفترض بأن نصوص الاتفاقية تتعارض مع التشريع الداخلي، الذي يجب أن يُقدَّم على الاتفاقية! إذاً لماذا إقرار مثل هذه الاتفاقية إذا كان التشريع الداخلي أسمى منها ومقدماً عليها؟ وما جدواها، ما لم تكن هناك قناعة مسبقة بأن فقهاء السلطة سيكون لهم سلطة تفسير التشريع الداخلي بما لا يتعارض مع الاتفاقية، أي تأويل النصوص التشريعية، بحكم عادة الترزية المتأصلة عندنا! وهنا لا يبقى من الاتفاقية غير كلمات فضفاضة، تمت صياغتها تحت هواجس أمنية لأنظمة دول المنطقة، ويبقى الإقرار آخر الأمر بأن هذه الاتفاقية ليست سوى ردة فعل أمنية لأنظمة المنطقة على تغيرات الربيع العربي وتأثيراتها على المنطقة، وهي مكرسة لجرائم الرأي والحريات السياسية الغائبة لا غير، ومد مظلة "عدم المساس بالسلطة الحاكمة" كي يهيمن قمعها في كل نقطة من خليج البترودولار، وهي بالتالي وجه آخر من وجوه الثورة المضادة لا أكثر، وكأن هذا ما ينقصنا في الكويت!
التصنيف: حسن العيسى
اللي فينا كافينا
لماذا الاتفاقية الأمنية، وما حاجتنا إليها، وبكلام أدق ما حاجتكم إليها، أقولها لشيوخ الدولة، ألا تعرفون أن «اللي فينا كافينا»، فلماذا تعرضونها على مجلس «كم»، بمعنى أنه أمر خاص بكم، لماذا تشغلوننا بها وتشغلون مجلس «كم» معها، إنه يمثلكم ولا يمثلنا، وسيبصم على الاتفاقية على الأرجح، فلماذا هذا الاستعراض والرياء الديمقراطي! لكن من حقنا أن نسأل مرة ثانية وثالثة قبل أن يصدق مجلس «كم» على الاتفاقية، لم هذه الاتفاقية من البداية؟ فكم مرة تتحدث الاتفاقية عن «التعاون» وتعيد مكررة ومؤكدة الكلمة و»أن تتعاون»، أعرف، ونقسم بالله العظيم أننا من دول مجلس «التعاون» من اليوم الأول لوحدتنا الكبرى لحظة ولادة برنامج «افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال»ـ وبالتأكيد كنا ومازلنا أطفالاً عندكم، ولا يمكن أن نستغني عن ولايتكم ورعايتكم الأبويةـ حتى كاونترات مطارات «أنا الخليجي والخليج كله طريجي»، ولا نعرف غير هذين الأمرين الجليلين لتفاهم وتعاون دولنا ومشروعها الحضاري الكبير نحو الديمقراطية والحريات بدولنا ومساندة «ثورات» الربيع العربي الديمقراطية لدولنا العربية الشقيقة، مثلما فعلتم مع مصر على سبيل المثال.
لماذا هذه الاتفاقية؟ ولماذا تخبروننا عن تعاونكم لملاحقة الخارجين على القانون والنظام؟ أي قانون وأي نظام تتحدثون عنه؟ ومن يكون هؤلاء الخارجون على القانون والنظام؟! كيف تحددونهم وكيف تعرفونهم؟ وتحت مظلة أي قانون وأي دستور؟! وكيف يمكننا أن نستوعب كلمة «نظام»؟ هل لها معنى مختلف غير القانون، أم هي تعني القانون؟ لكن أي قانون، ومن شرع هذا القانون؟ وما هي شرعيته، وشرعية من شرعه؟ هل نعود لكلمة «نظام»؛ أي نظام تبشروننا به، نظام السير، أم أنظمة البناء، أم نظام الحكم؟ وما طبيعة هذا النظام، هل هو نظام الكل والشعوب أم نظام الواحد المتفرد والعائلة الكبرى؟
نسيت كلمة «دستور» التي تزعمون أن الاتفاقية لا تتعارض معه، صحيح وبجدية كاملة مثل كمال إدارتكم لأمور الدولة، والعين عليكم باردة، أي دستور تتحدثون عنه اليوم والمتفق مع الاتفاقية رغم أن بعض الخبراء القانونيين هنا يقولون إنه يتعارض معها؟ أي خبراء هؤلاء؟ وأي دستور؟ هل مازلتم تتذكرون الدستور؟ أين هو؟ أظن أنه قد رحل ولم يعد منذ زمن بعيد، منذ عام 76 إن لم يكن قبلها ومنذ سنة 67، أين هذا الدستور؟ لماذا تتذكرونه الآن؟ وكيف خطر على بال الخبراء عندنا؟! أنا نسيت هذا الدستور حتى ذكرني به أستاذي الخبير يحيى الجمل بمناسبة أنه اشتغل في يوم ما قابلة فقهية عند ولادة مرسوم الصوت الواحد، توكلوا على الله، «مشوا» الاتفاقية، أنتم «تتعاونون» بها ومن دونها، فما شأني كي أكتب وأنتقد، أفضل أن أصمت، فأنتم أبخص… وما تريدونه يصير… أليس كذلك؟!
فقه الفستق
لم يخرج الدكتور يحيى الجمل نظام الصوت الواحد في الكويت من جيبه في لقاء جريدة الجريدة، ممكن أن نتصور، في الأغلب والأرجح، أن الكبار في السلطة طلبوا منه، وربما من غيره من أساتذة القانون الدستوري، أن يجدوا لهم مخرجاً من صداع المعارضة، ففصل لهم أستاذنا نظام الصوت الواحد. الدكتور يحيى الجمل قام بدور مثقف ومنظر السلطة، فالسلطة، عادة، بحكم ثقافتها المحدودة تلجأ إلى أصحاب "الفكر" (أتحفظ عن كلمة فكر قليلاً) ليفتحوا لها منافذ تستطيع عبرها إقناع الشعب برجاحة رأيها، أو "اجتهاد الفقيه" الذي يصب في مصلحتها حسب الطلب، ولو حدث أن تغير صاحب السلطة، أو تغيرت قناعاته، تعود هذه السلطة مرة أخرى لهذا أو ذاك الفقيه ليجد لها مخرجاً آخر يتفق مع رؤيتها الجديدة المتغيرة، وطبعاً، تخرج الفتوى الجديدة لتتلاءم مع طلبها الجديد والواقع المتغير.
دائماً هناك "منيو" طلبات يعرضها "المثقف، الفقيه، رجل الدين والدنيا" على الزبائن من أصحاب السلطان والقوة، ولهذا الزبون المقتدر أن يختار من القائمة ما يناسب معدة الحكم، وفي الأغلب يقترح "المتر" المثقف الفقيه ما هو الأصلح والأفضل والأشهى من مطبخه الخاص، وتتم "الطبخة" حسب الوصفة، والتي تكون أفضل لمحتكر السلطة، وإن استفرغها الناس وعجزت أمعاؤهم عن هضمها، فهذا ليس من شأن الحكم ولا من شأن عكازاته الفكرية.
لا حاجة، اليوم، إلى أن نستذكر كتابات علي الوردي عن فقهاء السلطان، ولا إبداعات غرامشي أو تلميذه إدوارد سعيد عن المثقف العضوي الذي يقف دائماً على مسافة من السلطة أياً كانت طبيعتها مستبدة أو ديمقراطية، همه بداية ونهاية هو النقد، وهو نقد الواقع والبحث عن المثال "اليوتوبيا". يكفينا الآن أن نتذكر ما نسب للإمام أبي حنيفة النعمان حين قال لتلميذه أبي يوسف متنبئاً لمستقبله: "ستأكل بفقهك الفستق واللوزينج"، وقد أكل، ورحم الله الاثنين.
تعالوا إلى كلمة سواء
بصرف النظر عن مآل دعوى حل جمعية الإصلاح الاجتماعي، التي أقامها أحد المحامين بحجة ممارسة الجمعية للعمل السياسي -وهي لا تتفرد بتلك الممارسة- فالقدر المتيقن الذي يفترض الاتفاق عليه، هو رفض كل عمل ينطوي على استبعاد الآخر المختلف معنا، والقول بغير ذلك لا يعني غير الاستبداد، وفرض الرأي الواحد، ونفي للحرية والديمقراطية، ولا معنى أن يتحجج البعض بمقولة لا حرية لأعداء الحرية، وهي بالمناسبة مقولة روسبير، أحد رواد الثورة الفرنسية في بداياتها، وزعيم من زعماء سنوات الإرهاب، تحت مظلة مثل هذا الشعار يمكن ممارسة شتى أشكال القمع بحجة بناء الحريات والديمقراطية، وهذا ما يحدث اليوم في مصر بعد الانقلاب الأخير، وقيام العسكر هناك بقمع الإخوان ومن يناصرهم، ووصم الجميع بتهم الإرهاب، والنتيجة المؤكدة خلق الإرهاب على أرض الواقع، وهذا ما يحدث الآن في مصر.
ليس سراً أن جمعية الإصلاح الاجتماعي هي الإطار الرسمي "غير المعلن" لحزب الإخوان المسلمين في الكويت، ولم يكن موقف الجمعية مبدئياً لقضية الحريات والديمقراطية حين حلت السلطة "نادي الاستقلال" القومي – اليساري بعد حل برلمان 76، وفضلت الجمعية حينها مهادنة السلطة والسير في ركابها، لكن ذلك لا يعني أن نبقى أسرى التاريخ، ونبحث عن أسباب للثأر من مواقف قديمة، أو التشفي مما حدث في زمن مضى. تلك مسألة مبدئية، ولا يصح الحياد فيها، فالزمن يتبدل، ويمضي معه التاريخ للأمام والمواقف تتغير تبعاً له.
في المقابل، من غير المقبول أن تصدر تصريحات متشنجة منسوبة للجمعية ومن يناصرها كرد فعل على الدعوى القضائية لحل الجمعية، تصم الآخرين دون تمييز بالعلمانية والليبرالية، وكأنها جرائم لا تغتفر، فمن غير المفهوم أن تؤيد حركة الإخوان إقرار الدستور التونسي، الذي يؤكد مدنية الدولة، بما يعني رفض الدولة الدينية المتسلطة من جهة أو الهيمنة العسكرية من الجهة الأخرى، بينما نجد في ردود الفعل على الدعوى القضائية مما لا يتوافق مع الرأي التقدمي لبعض أنصار حدس المناصر للدستور التونسي، فليكن مثل هذا الدستور نموذجاً يقتدى به سواء للإخوان أو لغيرهم، مثل ذلك الدستور الرائع يبقى القدر الثابت والأصيل نحو عالم التقدم والديمقراطية في دنيا التعاسة العربية، لنتفق عليه، ولنتوافق على مضامينه، فحزب النهضة بتونس ضرب مثالاً رائعاً في مفهوم التسامح والتنازل عن هيمنة الأكثرية، لتسير السفينة التونسية نحو الأمام، ولتظل تونس نبراساً للربيع العربي بعد انتكاسات محزنة في معظم أقطار هذه الأمة، لنتفق على ذلك ولننته.
ماذا ستختار؟
نصيحة الزميل عبداللطيف الدعيج للحكم في مكانها الصحيح (القبس عدد الأربعاء 29 يناير)، فهو يذكر في مقاله "ضروري جداً أن تتمتع الحكومة بتأييد شعبي وسياسي لبرامجها… عندما تضطر الحكومة إلى تبني مقترحات غير شعبية أو سياسات تؤدي إلى التضييق السياسي أو الاقتصادي على الناس…"، ويضيف الزميل عبداللطيف على غير عادته وخارج مألوفه النخبوي "… حتى يصبح واضحاً السلطة بحاجة إلى حكومة شعبية لاتخاذ قرارات غير شعبية…" (أهلاً بصديقي عبداللطيف مع صفوف دعاة الحكومة الشعبية) فهو اليوم على قناعة "بحتمية لا يمكن الهروب منها، وهي أن مشاركة الناس في الاقتصاد تتطلب إشراكهم بالسلطة…".
هذا المفروض، وهذا ما يمليه منطق العقل و"كومن سنس" في سياسة الحكم، فكيف يمكن أن تطلب من الناس أن يضحوا بما آمنوا به لزمن ممتد بأنه حقوق مكتسبة دون مشاركتهم وأخذ رأيهم، وكيف يمكن أن تقنع المواطن بأن سياسة الإصلاح ضرورة للمستقبل له ولأجياله ما لم يكن مشاركاً فيها عبر ممثليه الذين اختارهم بكل حريته في السلطتين التشريعية والتنفيذية… لكن لنتحفظ قليلاً، ونكبح هذا التفكير الطامح wishful thinking "فالنهج العقلاني الذي تفرضه طبيعة الأمور ليس من عادات سلطة ولا من طبائعها، فتاريخها يخبرنا بأنها اعتادت تسير على خلاف منطق الأمور، فأمام أي تحديات داخلية أو خارجية تعترض الدولة لا توجه السلطة نفسها نحو شعبها كي تستمد منه سلطان الشرعية، بل العكس هو ما يحدث، فمثلاً حل المجلسين لا دستورياً عامي 76 أو 86 يخبرنا بأن السلطة كانت تسير على خلاف منطق الأمور في تحديات الداخل، أو التذرع بأسباب الخارج، كالاحتجاج بالحرب الأهلية اللبنانية في الحل الأول، وحرب الخليج الأولى في الحل الثاني، ولماذا نذهب بعيداً، خذوا مثلاً لما أقول قبيل الاحتلال الصدامي للدولة عام 90، فبينما كانت جيوش صدام تحشد للغزو في الشمال، وكانت دواوين الاثنين المطالبة بعودة الشرعية في عنفوانها، فتحت الحكومة صناديق الهراوات في مراكز قواتها الخاصة وأجهزة أمنها لضرب وقمع المتظاهرين بدلاً من أن تفتح صناديق الشرعية، وقارنوا بما فعلته السلطة في ذلك الزمن وما صنعه الفقيد عبدالله السالم بعد الاستقلال مباشرة، حين طالب عبدالكريم قاسم بضم الكويت سارع عبدالله سالم ليشد أزر الدولة بالشعب وكان المجلس التأسيسي ودستور 62، ففي الأزمات تتوجه القيادات الواعية نحو شعوبها، وليس العكس، كأن تقمعهم وتخرس أفواه الشباب فيها…
اليوم أمامنا أزمة عجز مالي قادم، وأزمة اقتصادية خلقتها السلطة من ألفها إلى يائها… هل تتصورون أن فجر الحكومة الشعبية لاح في الأفق، أم ستسير السلطة حسب عاداتها القديمة…؟ هل ستقول للناس تلك أزمة تشملنا جميعاً، أنتم قبلنا، فتولوا أموركم بأنفسكم، أم ستظل ترفع شعار أوريل "الأخ الأكبر" والأب المهيمن، هو "الأبخص" في السراء والضراء…؟ كيف تتصورون الأمور؟ وأي الحلين ستختار؟!
الإصلاح يبدأ من فوق
يحذر محافظ البنك المركزي وزير المالية سابقاً الشيخ سالم الصباح (الوطن عدد 26 يناير) من أن الكويت قد يصيبها المرض الهولندي. بمعنى أن تصاب الدولة الكويتية بمثل ما حدث لهولندا في بداية ستينيات القرن الماضي، بعد اكتشاف غاز ونفط الشمال فتواكلت على تصدير هذه السلعة الخام وأهملت التصنيع، وكان انتكاسة للاقتصاد. تصوير وضعنا بالمرض الهولندي فيه ظلم لهولندا وللمرض ذاته، فالفارق بين الكويت ودول الخليج معها لا يمكن مقارنته بهولندا التي كانت ومازالت في طليعة الدول المتقدمة، وأولى أن نسميه المرض الخليجي، إلا أن تحذير الشيخ سالم والأرقام المخيفة والسيناريوهات التي سطرها يجب أن تؤخذ بجدية، فعدد السكان في الكويت 3.9 ملايين نسمة، يشكل الكويتيون ما يقارب الثلث فقط… "وهذا يوصلنا إلى استنتاج بأن نسبة عدد السكان غير الكويتيين ستظل تدور حول 60-70% طالما بقيت أنماط ونزعات وسلوكيات المجتمع تدور على ما هي عليه" (من مقال الشيخ سالم)، من جديد يؤكد صاحب المقال خطورة العجز بسبب بند الرواتب والأجور والمزايا والاعتماد شبه الكامل على منتج وحيد… إلخ، وعجز القطاع الخاص عن مجاراة القطاع العام في المزايا الوظيفية، ما رتب توجه العمالة للعمل به، وبالتالي أصبح يوظف أكثر من 90% من نسبة العاملين الكويتيين، مقابل رقم هامشي للكويتيين الذين يعملون في القطاع الخاص، ويتوقع الشيخ سالم تنامي نسبة البطالة من الكويتيين لتصل إلى 25%، وقد تصبح مؤسسات التأمينات عاجزة عن سداد المعاشات، وأن الرواتب والأجور قد تتأخر عن الموظفين إذا استمرت الأحوال على حالها.
قبل مقال ومقالات الشيخ سالم، حذرت تقارير "الشال"، وكتابات جاسم السعدون العديدة من خطر القادم، لكن لا يبدو أن أحداً من أهل القرار يقرأ، وإن قرأوا فلن يستوعبوا، وإن استوعبوا فهم أضعف من أن يضعوا أقدامهم على طريق الإصلاح الاقتصادي والسياسي، ردود الفعل لـ"صحوة" السلطة على واقع الدولة المالي، اختلفت بين أهل اليمين واليسار في التركيز على قضايا معينة وإهمال غيرها، فأهل اليمين لا يرون حلاً بغير تغيير واقع بند الرواتب والأجور وسياسة المنح والعطايا، وتحجيم هيمنة القطاع العام على اقتصاد الدولة، بينما أهل اليسار يرون أن بداية الإصلاح لا تكون بغير بتر امتيازات الكبار وفرض الضريبة التصاعدية على أصحاب الدخول العالية من شركات ومؤسسات مالية تحلب الدولة، ولا تعطي شيئاً في المقابل، ولا توظف أهل الديرة في الأغلب، ومقال الزميل د. بدر الديحاني في "الجريدة" أمس يعد مثالاً لذلك.
لا توجد حلول سحرية، ولا يمكن رفض كل حلول اليمين وكل حلول اليسار، القدر المتيقن المعترف به هو واقعنا الريعي المريض، مريض بمعنى أن نجلس على الكراسي وننتظر "ريع النفط"، بمثل ما ينتظر صاحب العمارة أجرة السكن من المستأجرين دون عمل ولا إنتاج، هذا مرض بدأ من الأعلى ونزل للأسفل، السلطة عممت الفساد والتواكل والاعتماد على عمل الغير، ووزعت "الريع" كل حسب قربه منها، بالدرجة الأولى وحسب الجنسية، لا بحسب العمل بالدرجة الثانية، وتم تشجيع المجتمع على هذا النمط الاستهلاكي الريعي، حتى ينسى الناس بؤسهم السياسي والفساد المقنن عند كبارهم، ولم تبد السلطة اهتماماً بنوعية التعليم باعتبار أنه أهم مفاتيح المستقبل للدولة، ولم تكترث بالاستثمار في الإنسان المنتج، وفضلت استثمار الولاءات الشخصية لها وشراء المواقف السياسية. ولا فائدة الآن من كل هذا الحديث المعاد، وكل الكلام عن الإصلاح الاقتصادي لن يكون مجدياً من غير إصلاح سياسي، وجماعة السلطة ليسوا مستعدين لسماع مثل هذا الكلام، فهذا "سيفوه وهذه خلاجينه".
قلق مشروع
من المفترض أن نعاني قلقاً كويتياً خاصاً، لا يشاركنا فيه أحد، هو قلق كويتي، وليس قلقاً إنسانياً بكل أنواعه، فالإنسان الواعي يقلق من مستقبل مصيره وحكم القدر، ويقلق من عبء المسؤولية الإنسانية عند سارتر، ويقلق من قدر الموت، فالإنسان على خلاف بقية الكائنات يدرك معنى الزمن، وأن لعمره نهاية لا يعرف متى تحل. يمكن أن نتصور أن قلقنا الكويتي لا شأن له بالقلق الوجودي العام، وإنما هو قلق كان كامناً مخدراً قبل فترة، إلا أنه يتحرك بشكل مزعج الآن، بعد أن أخذت الحكومة تدق أجراس الخطر، وتبشر بقرب ساعة الرحيل لدولة الرفاه وإنهاء الدعم، فالحكومة (بمعنى السلطة) تقدم الأرقام المزعجة عن نمو المصروفات العامة أكثر من الإيرادات في السنوات الماضية، وإذا هبطت أسعار النفط إلى أقل من 98 دولاراً فستكون الميزانية في حيص بيص، مثلما كانت بين عامي 98 و99 تقريباً، حين هوى سعر البرميل إلى ثمانية دولارات، وذكرنا بها النائب فيصل الشايع.
أيضاً عندنا شخص خبير في الشأن المالي والاقتصادي، مثل الشيخ سالم الصباح محافظ البنك المركزي ووزير المالية السابق يحذر من تنامي بند الإنفاق الجاري (الرواتب والأجور ومن في حكمهما) وبند الدعم الذي "يتنافى مع الهدف الأساسي منه عندما يتم تقديمه للجميع بالأسس والأسعار ذاتها… أفراد ومؤسسات وشركات، والمفترض ترشيد الدعم لعدد محدد من السلع والخدمات وللمواطنين المحتاجين، فأرقام الدعم تضاعفت بصورة كبيرة، وارتفعت إلى 4.8 مليارات دينار بعدما كانت 865 مليوناً قبل سنوات قليلة"، (افتتاحية الراي عدد أمس).
في مقابل الأرقام الحكومية، تزيد جرعات الحنق ممزوجة بمشاعر القلق عند كثير من المعارضين، فليس الهدر عند شباب المعارضة محدوداً بإنفاق الدولة على مصادر رزق البشر كالرواتب والأجور والدعم، فهم يسألون السلطة عن مليارات المليارات التي أهدرت وتهدر تحت مظلات الفساد بكل صوره للمتنفذين ومن في حكمهم، والتي ليس لها أول ولا آخر… ولا يبدو أن "ترشيد الإنفاق" سيصيب هوامير الفساد، بل سيدفع ثمنه المغلوبون على أمرهم، بحكم العادة المستقرة في أعراف الدولة.
القلق عندي ليس مما سبق فحسب، وإنما أقلق أيضاً لأن هذه الإدارة السياسية التي تتحدث اليوم عن الإنفاق والهدر فيه، هي التي قادت الدولة في العقود الماضية والتي ستقود الدولة في السنوات العجاف القادمة، أقلق لأن إدارة السير على البركة هي ذاتها، وعلى "حطة إيدكم" لم تتغير ولا تريد التغيير.
فوق القانون
تفضلوا خبر جريدة الآن الإلكترونية، "شيخ المعاملات أغرق البلد بـ139 ألف وافد"! خلال سنتين فقط أدخل ذلك القيادي الشيخ مع بعض المشاركين من الضباط في وزارة الداخلية هذا الرقم الرهيب من الوافدين للدولة، بطريقة غير قانونية، يعني عبر استغلال الوظيفة العامة، واستلام "المعلوم" من بؤساء أجانب يبحثون عن لقمة العيش، قام ذلك القيادي بارتكاب الأفعال التي يفترض أن تحقق فيها النيابة العامة الآن. خلال سنتين فقط من عمر الفساد المزمن أنجز البطل بهمة عظيمة 139 ألف معاملة غير قانونية، وهذا الرقم هو القدر المتيقن حتى الآن.
ماذا عن السنوات الطويلة قبل السنتين الماضيتين؟ ماذا عن جرائم التزوير والاحتيال والرشا لأكثر من عشرين سنة مضت ومنذ لحظة التحرير حتى اليوم؟ كم عدد الذين تم إدخالهم بصورة غير مشروعة؟ الله أعلم، وكم عدد تجار الإقامات؟ أيضاً الله أعلم! لمن لا يتذكر، نذكره بأنه في بداية التسعينيات، وبعد التحرير مباشرة ازدحمت الأخبار عن "تجار الإقامات" الذين قاموا بمثل ما قام به ذلك القيادي اليوم، وربما أكثر منه، ولم يحاسب أحد، فلم تقيد قضايا ضد مجهول لأنه لم تكن هناك قضايا أساساً، لكن الفاعلين كانوا معروفين عند الناس، كانوا من الكبار جداً، حسب الإشاعات، التي تعد مصدراً يتيماً للمعلومات في جرائم غير قابلة للمساءلة، لأن أبطالها بشر "فوق القانون".
اليوم، وتحسب لوزير الداخلية، وأيضاً للإعلام الخاص، تمت إحالة ذلك القيادي والمشاركين معه إلى النيابة، يبقى سؤال اليوم: كيف يمكن منع مثل هذه الجرائم مستقبلاً، أو الحد منها، هي ليست جريمة بحق البلد فقط، بل بحق الوافدين أيضاً الذين دخلوا البلاد عبر تلك الطرق غير المشروعة، بالتأكيد هم دفعوا مدخرات حياتهم للحصول على الإقامة، وليكسب "الموظف العام الكبير" ملايين أخرى من قوت الفقراء، هل هناك وسيلة لطمر مستنقعات الفساد في الدولة، سواء في الداخلية، أو الشؤون، أو معظم مؤسسات الدولة دون استثناء غير العمل بمبدأ حكم القانون؟ وكيف يمكن العمل بحكم القانون وهناك بشر فوق القانون؟ بعد كل ذلك تسألون أين منابع الفساد؟!
اقتراح البؤس
تاريخياً وعبر معظم مجالس الأمة تعتبر لجنة الداخلية والدفاع تحت إبط السلطة، وطوع أمرها، وتستحق أن يطلق عليها بجدارة وصف ملك أكثر من الملوك، وحرصت السلطة الحاكمة – والتي دائماً تملك وضع الأكثرية في مختلف مجالس الأمة بسبب نصوص الدستور وواقع احتكار الأسرة الحاكمة الفعلي لاقتصاد وسياسة الدولة، ولم يستثن من القاعدة السابقة قليل غير مجلس فبراير 2012 المنحل – منذ زمن على أن يكون تشكيل لجان الداخلية والدفاع حسب رغبات الأسرة الحاكمة ووفق مواصفاتها الخاصة، فقضايا الداخلية والدفاع هي من صميم أعمال سيادة الأسرة وهيمنتها، ويستحيل أن يترك تشكيل مثل هذه اللجنة لاحتمالات فوز أحد من المستقلين أو المعارضين.
قبل أيام، بإجماع ومباركة الحضور في لجنة الداخلية والدفاع أقرت هذه اللجنة اقتراح النائب محمد الحويلة "بشأن توسعة مكاتب أمن الدولة ومكاتب مكافحة المخدرات بفتح أقسام ومكاتب في جميع منافذ البلاد، وزيادة العاملين والمكافآت التشجيعية لهم…" (جريدة الجريدة عدد الأمس)!
لم يكن ينقص مثل هذا الاقتراح السلطوي المرعب الذي أقرته اللجنة غير الدعوة إلى فتح أقسام "كانتينات" لجهاز أمن الدولة في الجمعيات التعاونية، حتى تكتمل الصورة المخيفة ويعم الخير. توسعة جهاز أمن الدولة وزيادة المكافآت التشجيعية لأشخاصه لا يعني غير زيادة احتمالات القمع لحريات البشر وزيادة جرعات الملاحقة لأصحاب الرأي، علاوة على أن مثل هذا الاقتراح لا يخرج في حقيقته عن ممارسة أخرى لشراء الولاءات السياسية، عبر زيادة أعداد العاملين بهذا الجهاز وزيادة امتيازاتهم المادية.
أجهزة أمن الدولة في الكويت وغيرها من دول ثبات السلطة الواحدة ارتبطت في نشأتها بأمن السلطة الحاكمة وهيمنتها المطلقة على شؤون الدولة، حين يصبح أمن السلطة بمعنى ثبات احتكارها المطلق لأمور البشر هو أمن الدولة، فيتم بهذا توحيد وجود الدولة بوجود واستمرارية السلطة، وأصبح أي فكر معارض لتلك الهيمنة، وأكرر كلمة "فكر" أو ممارسته بالتعبير عن الرأي، هو إخلال بأمن الدولة، ويصير في الغالب رجال أمن الدولة أو "البصاصين"، في تعبير جمال الغيطاني في رواية "الزيني بركات"، هم عيون السلطة لمراقبة الرعية وملاحقة المعارضين، وهم أخطر أداة لقهر الشعوب من جملة عدة أدوات مثل التشريعات السائدة وتبعية السلطات الأخرى للسلطة التنفيذية الثابتة.
جهاز أمن الدولة يشغل الآن مبنى يعد من أكبر المباني في الدولة، وهو مبنى كان مخصصاً لإدارة البريد التي رفضته لضخامة حجمه، في منطقة جنوب السرة، ولنا أن نتخيل كيف أن مبنى بهذا الحجم الضخم بوسط منطقة سكنية لم يعد كافياً حتى يأتي اقتراح الحويلة ولجنة الداخلية والدفاع نحو المزيد من "مقاصف" توزيع الرعب في البلاد كما يريد نواب الحكم!
إلى متى؟
أعلم أن موضوع الحديث عن فساد إدارة الدولة مستهلك، وأي كتابة فيه لا تستطيع أن تقدم جديداً أمام "صهينة" و"تطنيش" السلطة وعدم اكتراث الأقلية الدائرة في حلقات الذكر للقوى المتنفذة بالدولة. حديث الفساد يعيد نفسه ولا يقدم جديداً، لأن أسماء وصفات المفسدين لا يمكن نشرها بفرض وجود وسيلة إعلام حرة تنشر الحقيقة أو بعضاً منها، ولا أعتبر الكاتب قاذفاً أو متهماً بجريمة من جرائم الرأي التي تزخر بها قوانين الدولة، وهي قوانين قمعية قاتلة لحرية الرأي تمجّد السلطة الحاكمة وتخنق أي مشروع لنشر فضائح الفساد، وتخلو من نصوص واضحة تفرض الشفافية في سير المرفق العام.
هناك على الضفة الأخرى من معضلة الحديث عن مطولات الفساد، اشتراط تقديم الدليل على جرائم المفسدين، فأسهل الأمور، عند السلطة يتمثل في دأبها "طمطمة" كل كلام عن المفسدين أو الإشارة إليهم، وردودها المعلبة جاهزة إما بقولها: "شكلنا لجنة تحقيق" تنسى مهمتها في أدراج التاريخ المغبر، أو تتحدى الخلق بعبارة: "هاتوا الدليل"، وما أكثر ما سمعنا مثل ذلك الرد المستهزئ في خطاب السلطة الرسمي، ووصفتُه بكلمة "مستهزئ" لأنه يسخر من أصحاب الضمير الذين يخاطرون ويفضحون مجرمي المال العام ويتحداهم، لأن رعاة هذا الخطاب المتعالي في نبرته يعلمون أن من يملك إقامة الدليل هي السلطة وحدها، ويستحيل أن تبادر الأخيرة بتقديم دليل إثبات ضد أحد المقربين منها أو ضد أحد أبنائها. النتيجة أن مَن يخاطر ويجازف بفضح جرائم الفساد الرسمي يجد نفسه في قفص الاتهام، آخر الأمر، وقضية النائب السابق فيصل المسلم، يجب أن تُحفَر في الذاكرة الوطنية للدولة، حين وقف شامخاً في قاعة المجلس ولوّح بشيكات الرشا بغرض شراء الولاءات السياسية، التي قدمتها السلطة لأولياء الفساد الطالحين في المجلس، ماذا كانت النتيجة المحزنة بعد ذلك؟! تعرفون أن ملف "الجماعة إياها" أُغلِق نهائياً، لأن التشريع الحاكم يخلو من تجريم مثل تلك "الأفعال"، بينما تم سحب النائب فيصل المسلم وأُغرِق في سيلٍ من دعاوى التعويض، وكأنه هو السارق، أو الراشي، لأن القانون يقول بذلك، فأي قانون ظالم، وأي تبرير يتعين علينا أن نبلعه بحجة ضرورة "سلامة الإجراء" القانوني للكشف عن جرائم الفساد؟!
نرى أمام أعيننا أجساد الجريمة في أمثلة لا حصر لها، نشاهد ونكاد نلمس باليد، على سبيل المثال لا الحصر، استاد جابر، أو مستشفاه، أو جامعة الشدادية أو تفكيك الأرصفة ثم إعادة الترصيف، أو الحالات المزرية لأبنية المستشفيات، وإهمال وتغييب أي حلول حقيقية لأزمة السكن، وارتفاع أسعار الأراضي لأن مصالح الكبار مرتبطة بها، ونتذكر أيضاً محطة مشرف للمجاري، ونتذكر قبل كل ذلك منذ التحرير، استثمارات إسبانيا، وقضايا الناقلات، وصفقات الدفاع، وهاليبرتون، وبالتأكيد يستحيل أن نحصر جرائم الفساد في الدولة، طالما أن حبل الفساد، كان، ومازال، على الغارب.
لنترك كل ذلك جانباً، وأحاول أن أسمع كلمة واحدة اليوم من الحكومة، أو من أي نائب من نواب ما بعد مجلس فبراير 2012 يسأل عن مسألة بسيطة، عن استاد جابر، على سبيل المثال، يسأل الحكومة، مَن المسؤول، هل المقاول، أم المصمم أم المشرف، أم كل هؤلاء جميعاً؟… لا أجد أحداً.
الحذر من استهلاك ميزانية الدولة بسبب تزايد بند الرواتب والأجور، ومخاطر العجز القادم لا نختلف عليها، لكن أين الحل؟! الحلول عندكم ولا أحد يشارككم يا كبار، ولنكرر دون ملل، لا نخشى أن ضيق الحال إذا تقلصت دولة الخدمات على رداءتها، ولا نخشى، كمثال، أن تزيد الرسوم أو تُفرَض الضربية التصاعدية في المستقبل، لكن قدِّموا لنا دليلاً واحداً، على جديتكم في وضع الأمور في نصابها الصحيح، هل تعرفون شيئاً اسمه الإدارة الحصيفة، وهي إدارة العدل، أم أنكم، بحكم العادة المتخلفة، لا تستطيعون الفكاك من قدر السير على البركة… إلى متى؟!