حسن العيسى

سيف عدل أم سيوف انتقام؟

ينقل نيثان براوان في كتابه (حكم القانون في الدول العربية) عن كاتب إنكليزي مقولة عام 1914 تتحدث عن مصر بأننا- البريطانيين- أدخلنا مبادئ القانون الإنكليزي هناك، التي تقرر أن المتهم ولو كان مذنباً فلا تجوز معاقبته حتى تثبت إدانته على سبيل القطع، فلا إدانة حسب قاعدة المزاج الشرقي، ذلك الكاتب الإنكليزي كان يعلق على ذلك الإرث القانوني الذي أدخلته الإمبريالية البريطانية على مستعمراتها مثل مصر.
وكانت بداية الطريق لعالم الحداثة القانونية في خلق المحاكم المختلطة بقضاة من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا ومصر طوروا المبادئ القانونية في مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر كي تصل إلى التشريعات المعاصرة في مصر، أولاً، وبقية الدول العربية في ما بعد. ويمتد العمر بمصر لتشهد، على سبيل المثال، قرار وكيل النيابة محمد نور الذي حفظ التحقيق عام 1927 في التهم الموجهة إلى طه حسين بالإساءة إلى القرآن في كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي"، وكانت مذكرة الحفظ تلك آية رائعة في عمق البحث القانوني والفكري لمحمد نور.
ويمضي الزمن إلى الأمام، بينما يظل الفكر القانوني يتقهقر إلى الخلف، في أحايين كثيرة، حسب النظام السياسي والواقع الاجتماعي للدولة، كي يصبح القانون ليس أداة لتغيير المجتمعات، كما يفترض، إنما مرآة عاكسة لأمراضها وأمراض السلطة، فنطالع، مثلاً، في العهد المباركي حكم التفريق بين المرحوم نصر حامد أبوزيد وزوجته في منتصف التسعينيات، لنصل اليوم إلى محطة الرعب في الحكم الأخير، لدائرة جنائية بمصر،الذي قضى بإعدام أكثر من خمسمئة وعشرين مواطناً مؤيدين في مظاهرة لحركة الإخوان (حسب ما تقول وسائل الإعلام) بتهمة قتل ضابط شرطة وتهم أخرى.
ليس المهم، في هذه المناسبة، متابعة المزايدين مع النظام على صفحات الإعلام حين يبشروننا بأن الحكم ليس نهائياً ويعد غيابياً لعدد كبير من المتهمين ويمكن الطعن عليه والغاؤه أو تعديله، في ما بعد، وهم بذلك يضعون رتوش المكياج على وجه العدالة، التي لم تعد صورتها امرأة مغمضة العينين تحمل ميزان العدل بيد، وسيفاً في اليد الأخرى، توازن  بين دعاءين وتحسم بتجرد العقل، إنما أضحت بشكل غولة بشعة تثير الخوف وليس الرهبة في قلوب المواطنين، ليسحق العدل، وتهدر كرامات البشر، المهم، الآن، أن ندرك حجم الندبة الكبيرة الغائرة في وجه العدالة بمصر بعد هذا الحكم، التي لن يكون مجدياً معها ترقيعات الكتابات السوداء لعدد من المحسويبن على التوجه الليبرالي بمصر، الذين أعمى عداؤهم للإخوان بصيرتهم، فاختلطت عليهم الأمور، أو، ربما، وجدوا في ضرب الدفوف للنظام وسيلة ارتزاق مريحة.
القضاء ليس سيف انتقام، ولا يصح أن يكون أداة لتصفية حسابات سياسية قديمة، فليس سراً أن يعرف الكثيرون عن كراهية متأصلة بين حكم الرئيس السابق مرسي والسلطة القضائية حين حاول تحييدها أكثر من مرة بتصور أن الجهاز القضائي يمثل امتداداً للدولة العميقة من أيام مبارك، مما يصبح معها ذلك الحكم المخيف بمثابة رد صفعة لنظام الإخوان، فحقوق الناس وحرياتهم وأمنهم يفترض النأي بها عن مشاعر الغضب والانتقام.

حسن العيسى

لا جدوى

شعوري كمواطن كويتي تعقد القمة العربية في وطنه اليوم هو العدم، شعور باللاجدوى واللامبالاة، ويقين بأن هذه القمة مثل معظم القمم العربية السابقة، بداية من قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم عام 67، بعد الهزيمة العربية، حتى اليوم، لن تقدم شيئاً على أرض الواقع غير البيانات الإنشائية عن ضرورة التضامن العربي ودعم الشعب السوري، وإلخ إلخ من جمل مكررة خاوية المعنى.
شعوري أن هذه القمة هي مضيعة للوقت، والمقصود ليس وقت القيادات المجتمعة اليوم، وإنما الوقت هنا بالكويت، رغم أن الوقت بهذه الدولة هو أيضاً بلا معنى ولا جدوى، فكثيرون هنا يأكلون ويشربون وينامون بأمان، ويقبضون الراتب آخر الشهر عملوا أو لم يعملوا، أنتجوا أو لم ينتجوا، يكفي أن الأرض تنتج نفطاً وتواكلاً معاً. على ذلك، فالقمة المنعقدة اليوم في عاصمة نفطية، تحاول أن تضمد جراح علاقة "أشقاء" ستضيع وقتاً هو أساساً ضائع سلفاً، والنتيجة إضافة صفر لخط ممتد من أصفار العمر الكويتي.
لم يتغير أمر من قمة اللاءات الثلاث حتى اليوم، فالقيادات الحاكمة هي ذاتها، تغيرت أسماء بعضهم بتدخل القدر، إلا أن منهج الحكم والفكر ظلا على حالهما، صحيح قامت ثورات أو "تمردات" -اختاروا العنوان المناسب- في الثلاث سنوات الأخيرة في عدد من الدول، لكن النتيجة عند الإنسان العربي المحبط واحدة، فبالأمس كان ينشد الكرامة والحرية، لكن كان هناك بعض وقليل من الأمن الحياتي، اليوم فقد الاثنين معاً، فقد أمنه وفقد رغيفه، فماذا يفرق عند أهل حلب، مثلاً، إن كان يروعهم بشار بالأمس واليوم يحل مكانه جماعات إرهابية تقيم الحدود عليهم وتحرمهم من أبسط ضرورات الحياة؟ فالحرية لم تعد هي قضية النضال اليوم، هي قضية من سيحكم هذه الأرض، آخر الأمر، مشايخ "النواصب" أو ملالي "الروافض"، كما يقرأ كل طرف الآخر، فلا وحدة إنسانية متجردة من الطائفة والهوس الديني والقبلي، وإنما ثارات ممتدة من داحس والغبراء إلى بسوس القرن الواحد والعشرين. ما جدوى هذه القمة وروح كل من الزير سالم وجساس تغطيان سماء قصر بيان، حجبتا شمس الحقيقة وتحديات الحاضر، وأبقت هذه القبائل، التي ترفع أعلاماً على حالها، تراوح في الماضي وثاراته.

حسن العيسى

حرامية الثورات

هل يمكن سرقة الثورات مثلما تسرق الأموال، وغيرها من أمور يمكن السيطرة عليها مادياً؟ زادت جرعات الكلام عن سرقة الثورة بعد نكوص معظم ثورات الربيع العربي، وتحولها إلى خريف مرعب لا يبدو أن له نهاية قريبة، وتونس هي الاستثناء الوحيد لهذا الربيع الخاطف. الأستاذ رمزي عز الدين رمزي وكيل أول الخارجية المصرية، الذي شغل ذلك المنصب فترة بسيطة أيام حكم الرئيس مرسي، يقرر في مقال له في "فايننشال تايمز" (مارس 19) أن الثورة المصرية سرقت أيام رئيسه السابق عندما عمل مرسي على تظهير الدولة لجماعة الإخوان، بعد فوزه بالانتخابات، وصحيح أن الرئيس مرسي فاز بطريقة ديمقراطية لكنه أدار الدولة بطريقة غير ديمقراطية في رأي الكاتب، واليوم يرى أن هناك أملاً قادماً لعودة الديمقراطية، بعد أن أعاد العسكر الأمور إلى نصابها.
لنعد إلى السؤال الأول هل يمكن سرقة الثورات؟ إن صحت تسميتها بثورات، فالإخوان سرقوا ثورة يناير في مصر، لكن ماذا عن انقلاب 30 يونيو؟ وماذا يمكن وصفه، سرقة أم إعادة لمسار الثورة الصحيح؟ وكيف يمكننا أن نختار وصف الواقع، بالعنوان القانوني الصحيح؟! ومن سرق ثورة ليبيا التي أطاحت بالقذافي، لابد أن هناك سرقة في ذلك البلد لكن السارق ليس واحداً، ربما الحرامية هم العشائر والقبائل التي ثارت ضد القذافي أو التي اصطفت معه، أو أن الثورة سرقت والسارق مجهول، فلا سيادة لنظام يفرض حكم القانون في مثل هذه الدولة. ماذا عن الثورة السورية، التي بدأت كحركة سلمية ضد نظام فاشي رهيب، وانظروا كيف تبدو اليوم؟! هل تمت سرقتها هي الأخرى من مجموعات دينية متطرفة مثل داعش والنصرة وجند الشام؟ وإذا رفضنا وصف نظام بشار لهم بأنهم حركات إرهابية، فكيف نصفهم بعد حفلات قطع الرؤوس والجلد وقطع أطراف سارق جاع وسرق، وتدمير الكنائس وخطف الراهبات، وتشريد الأكراد من مناطقهم؟! إذاً الثورة سرقت في هذا البلد المنكوب، فمن سيقيم حد السرقة على سراقها اليوم؟! بعد أن أقاموا الحدود على المساكين الذين استجاروا من رمضاء بشار ليقعوا في نار الجهاديين.
ماذا حدث في اليمن؟ هل تمت سرقة الثورة، أم انه لم يحدث شيء؟ فلا تغيير حقيقياً حدث، وذهب علي صالح وبقي خلفاء صالح، في بلد يشي مستقبله بتقطع السيادات حسب الطائفة الدينية والقبلية، حاله من حال سورية، والعراق، ولبنان، وليبيا، والبقية في الطريق.
لنعد إلى الأستاذ رمزي، الذي شبه أيضاً ما حدث في مصر أيام مرسي بالحالة الإيرانية، فالثورة الإيرانية سرقها الملالي، يمكن أن يكون هذا صحيحاً، لكن إذا سايرنا حجج الأستاذ رمزي، فهل يبقى في التاريخ الإنساني ثورة لم تسرق؟ فأعظم ثورة في العالم، وهي الثورة الفرنسية، سرقها نابليون بعد عشر سنوات من قيامها، وثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية بروسيا سرقها بعد سبعين عاماً من قيامها غورباتشوف، أم لعل السارق كان أحد أبطالها مثل ستالين أو من جاء بعده؟! متى يمكننا القول إن ثورة ما سرقت، وثورة غيرها ظلت في حيازة أصحابها؟ لا إجابة لمثل هذا السؤال الإشكالي، إلا أن وصف أوضاع بعض الدول العربية في السنوات الثلاث الأخيرة بالثورة التي تقود للتقدم والتنمية يظل مسألة مشكوكاً فيها.

حسن العيسى

إسكان الحبربش

تهت في عمق والتواء أنفاق جمل وكلمات المتكلمين في مؤتمر الإسكان، وانطباعي البسيط من مشاهدة صور الجماعة يبدو لي أنه مؤتمر لعرض بشوت زاهية وفاخرة، وليس لوضع تصورات لحل القضية الإسكانية، وقد أظلم عدداً من الحاضرين أو أبنائهم حين أقول إنهم ليسوا من "الحبربش" الذين يتعين عليهم الانتظار لعشرين وثلاثين سنة للحصول على بيت العمر، فيبدو (من جديد قد أكون ظالماً لهم) أنهم (المؤتمرون أو بعضهم) بجرة قلم على شيك عريض يمكنهم أن يشتروا أرضاً في الضاحية أو الشويخ أو النزهة لابن من أبناء ذريتهم الصالحة بمليون دينار لسكنه مع عروسه بعد قضاء شهر عسل في لندن وباريس، من غير أن يحرقوا دماءهم في محرقة نفسية عن تكلفة بناء دور ثان فوق بيت قديم متهالك ليسكن ابن أحد الحبربشيين الذي تزوج قبل فترة بسيطة، وقضى ثلاثة أيام كشهر عسل بشاليه مستأجر في بنيدر أو جليعة، ويدفع، الآن، نصف راتبه كإيجار شقة في جنوب السرة أو الرميثية وغيرهما من مناطق الناس المعلقين بين السماء والأرض.
لاحظت أن الحاضرين تكلموا عن عرض المشكلة، ولخصوها في ندرة الأراضي "المحررة". فمعظم الأراضي هنا تحت عبودية الدولة، لأن في جوفها بترولاً، وهو خبز وزبدة الدولة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الدولة ستكون عاجزة عن توفير الخدمات الأساسية فيما لو حررت أرض الولايات الجنوبية لإبراهام لنكن التي هي عبارة عن تلك المساحات الشاسعة من صحاري جافة مثل مشاعر الكثيرين، وتدب فيها الجرابيع والجعلان والعقارب ونمل أسود كبير نسميه بالكويتي "عبو"، يسير في خطوط طويلة متزاحمة كسياراتنا في شوارع دولة "صل على النبي".
هل هناك حلول؟ وماذا قبضنا من المؤتمر؟ بمعنى هل لنا أن نحلم ببصيص أمل في أن تحل المشكلة، أو، وبأضعف الإيمان، حل جزء منها بالحد من طوابير النمل للمنتظرين، أم ان هذا المؤتمر حاله من حال بقية مؤتمرات الاستعراض السياسي، وامتصاص سخط المنتظرين لأجل غير معلوم؟ لا يهم أن تكون الحلول بطرق أبواب القطاع الخاص، أو بحلول القطاع هجين، المهم أن يملك الشباب منزلاً متواضعاً أو شقة معقولة في زمن انتظار معقول، فإن لم يحصل أي من الأمرين، فعلى الأقل سلموهم مفتاح الأمل والحلم.

حسن العيسى

هل ستصدر شهادة وفاة منظمة «التعاون»!

لم تكن ولادة مجلس التعاون الخليجي عام 81 طبيعية، بمعنى اقتناع أنظمة الحكم في تلك الدول بضرورة التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية تمهيداً لخلق كيان سياسي موحد في ما بعد، بل كان عملاً أمنياً خالصاً، وردّة فعل على الثورة الإيرانية والحرب الإيرانية- العراقية التي تلتها. ذلك الهاجس الأمني ظل مسيطراً على عقول وأفئدة قيادات دول المجلس، وبقدر ما كانت فكرة الأمن، وهو أمن وجود دول المجلس، ضرورة كما ظهر عند غزو الكويت من قبل العراق عام 90،  إلا أنه أضحى أيضاً عقبة نحو تطوير علاقات دوله فيما بينها، فلم تكن الاتفاقيات غير الأمنية بين دول المجلس ذات جدوى، ولم تقدم خطوة واحدة نحو توحيد أنظمة وشعوب المنطقة، كما أن الأخيرة بطبيعة الحال معزولة ومهمشة عن أنظمة حكمها.
ومثلما كان بالأمس الهاجس الأمني خلف ولادة منظمة فإنه أصبح اليوم المرض السرطاني في جسدها، فالمملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ترى في دعم قطر للإخوان أو اتهامها بدعم الحركات الإسلامية المتطرفة مثل "القاعدة" و"داعش" و"النصرة" والحوثيين في اليمن، خطراً يهدد أمن هذه الدول، وإذا كان يصعب على دول الخليج المحافِظة هضم مجمل تقلبات الربيع العربي، وترى فيها خطراً داهماً عليها، فإن قطر بدورها، وعبر سلاحها الإعلامي المتمثل في قناة الجزيرة، أبصرت في هذا الربيع فرصة إثبات وجودها، وتأكيد سيادتها وتحرير سياستها من أي هيمنة خارجية خليجية، وعملت عبر قناة الجزيرة وبمساندة أموال الغاز الطبيعي نحو الدفع إلى زحزحة وقلب المعادلات القديمة في المنطقة العربية، وهذا عند دول الخليج المحافِظة، مغامرة لا يمكن تحملها، ولا يمكن قبل ذلك تحمل خطب الشيخ يوسف القرضاوي ضد النظام الجديد في مصر الذي وجدت فيه الدول الخليجية ضالتها لعودة الأمور إلى نصابها، أي العودة إلى ما كان قبل ثورة يناير المصرية.
ما هي خيارات المستقبل؟ وماذا يمكن أن يحدث في القمة العربية القادمة في 25 من هذا الشهر؟ كل حديث عن وساطة كويتية ووصف ما حدث بأنه زوبعة في فنجان، يمكن اعتباره جنوحاً في عوالم الأوهام والأحلام، فدول الخليج كانت تعاني تناقضات وخلافات كبرى في علاقاتها بعضها مع بعض، فبينها خلافات على حدودها السياسية، وهناك تدخلات من أنظمة حكم فيها بعضها ضد بعض، وهناك خلافات مستعصية في النهج السياسي لكل واحدة منها، وإذا حلت أزمة اليوم مع قطر، وهذا ليس بالمسألة السهلة عند القيادة القطرية في خياراتها القادمة، فهناك مسائل أخرى كبرى ستظل عالقة بين دول المجلس، وقد تترك تحت سجاد المجاملات الدبلوماسية فترةً من الوقت، لكن ليس كل الوقت، في النهاية، كم نخشى أن تصدر في القمة القادمة شهادة وفاة منظمة مجلس التعاون.

حسن العيسى

المشكلة هي أنتم

طبيعي لا أحد يرضى بالاعتداء على مخافر(نا) ورجال شرطة (نا)، هذا كان الرد المفروض على التساؤل الاستغرابي لوزير داخلية (نا) عندما سأله بعض نواب مجلس أمة (هم) حول التعسف في اعتقالات وحبس البدون المتظاهرين على بحبوحتهم المعيشية، واستقرار مراكزهم القانونية في دولة الوعد والتنفيذ الحازمة. لكن أيضا، يمكن لأي مواطن مهموم بقضايا الدولة المزمنة (وما أكثرها) أن يتساءل ما إذا كان شيخ (نا) وزير الداخلية محمد الخالد يرضى بسلطة هو أحد أركانها تَعِد ثم تخلف، تتعهد و"طق الصدر" ثم تتنكل، وحساب الوعود بحل قضية البدون وإن كان له بداية من أول سبعينيات القرن الماضي، مثلما ذكرت الزميلة ابتهال الخطيب قبل ثلاثة أيام بمقال (تربية) فليس له نهاية، طالما هذه السلطة هي ذاتها لم تتغير منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.
كم مرة وعدت السلطة بحل قضية البدون بحلول قانونية او إنسانية، تم تنكلت، وكم مرة قرأنا أخباراً عن "محاولة" حل أزمة البدون! كي تطوى في ما بعد في أدراج الإهمال والنسيان.
 خذوا مثالاً على تلك الوعود… في يناير 2012، نقلت "بي بي سي" خبراً على لسان  وزير الداخلية السابق أحمد الحمود أن "أوامر عليا" بتجنيس عدد البدون من العسكريين، ومن حملة إحصاء 65 ومن لهم أقارب كويتيون… ماذا حدث بعد مضي أكثر من سنتين من الأوامر العليا، لا شيء، ولن يحدث شيء، لا في معضلة البدون ولا في أي قضية أخرى أدمت وتدمي هذا الوطن.
 العنف كتعيبر اجتماعي لواقع مزرٍ مرفوض، لكن كيف يمكن للسلطة أن تقنع آلاف المحبطين من البدون بأنها جادة في حل ازمة هوياتهم! فقد مضى أكثر من أربعة عقود على الوعود الفارغة، والتي تؤكد عدم جدية السلطة في إنهاء معاناة بدون الكويت، مادامت هناك قناعة بأن معظم البدون يحملون جنسيات أخرى وأن انتماءهم للوطن مشكوك فيه، مهيمنة على أفئدة أهل القرار وعلى من حولهم من أصحاب الذكر الكريم… هذا لا يبرر العنف ولكن قد يفسره، وتوهم السلطة نفسها متى اعتقدت أن عصيها وقسوتها هي الحل، المشكلة ليست في البدون، المشكلة هي أنتم من البداية للنهاية.

حسن العيسى

حكم العجائز

قبل ثلاثة أسابيع نقل الكاتبان ديفيد كيركبارك ومايا الشيخ في "نيويورك تايمز" رأياً للناشط السياسي شادي غزالي حرب (قد يكون ابن الدكتور أسامة غزالي حرب) يقول فيه إن ما يحدث في مصر هو صراع أجيال، فكبار السن، هم من يقودون الدفة السياسية بالدولة في الماضي والحاضر، فمثلاً المشير السيسي عمره يقارب الستين عاماً، وكان حسني مبارك تجاوز الثمانين حين كان يحكم مصر، وليس الأمر قاصراً على عالم السياسة، بل يدخل في صميم الثقافة الاجتماعية المصرية، فالمصريون مازالوا يضحكون على مشاهد لعادل إمام الذي تجاوز عمره 73 سنة، ويشاهدون أفلام يسرا التي يبلغ عمرها 58 سنة، ويطربون ويهللون لعمرو دياب وعمره 53 سنة، والمضحك أن وزير الشباب خالد عبدالعزيز يبلغ من العمر 55 سنة، ويضيف الشاب شادي حرب أن ثلاثة من كل أربعة مصريين تقل أعمارهم عن الأربعين عاماً، وأن اثنين من كل ثلاثة تقل أعمارهم عن 35 سنة، ولنا أن نقيس على هذه المفارقات العمرية حتى مع حركة "الإخوان المسلمين" التي يبرز فيها أيضاً صراع بين الجيل القديم وجيل الشباب.
حصر شادي حرب نفسه في الشأن المصري، بينما الحقيقة أن الطاعنين في العمر يتسيدون المسرح السياسي العربي، قبل الربيع العربي ومع خريفه الحالي المرعب، ومازالت الدول التي لم تصبها رياح التغيير على حالها تسيرها حكمة المشايخ الطاعنين في العمر، ولا تختلف بقية الدول العربية عن الحال المصري، في نسبة الشباب المهمشين الجاثم على صدورهم وفرص إثبات وجودهم حكامهم المسنون.
هي الثقافة العربية القبلية، ومهدها التاريخي يقبع في شبه الجزيرة العربية، والتي دائماً يتصدر فيها شيخ القبيلة مجلس الحكم القبلي، وشيخ القبيلة مثلما هو شيخ وجاهة اجتماعية، هو أيضا شيخ في العمر يمثل حكمة السنين وتجارب العمر الطويلة، وكان يمكن أن نقبل هذه الحكمة لو كان زمننا اليوم مثل زمن الأمس، يتحرك بثقل وتؤدة سير قوافل الجمال في صحارٍ ممتدة يخيم عليها ليل ممتد ساكن توزع فيه على الجالسين بساطة وسذاجة حكمة الأيام الخوالي.
 الأيام تبدلت والتاريخ ينطلق بسرعة تفوق الخيال، فكيف لهؤلاء المسنين من قادة نظام الحكم العربي أن يستوعبوا حركة التغيير، وكيف لهم أن يفهموا معنى جدلية الزمن، هم الآن يقمعون فرص الشباب، لأنهم يظنون أنفسهم الأدرى والأكثر خبرة وتجاربَ، هم ينحون جانباً حتى الشباب من أهلهم في بيوت الحكم، تحت وهم أن هؤلاء الشباب لم ينضجوا للحكم، ورغم أن كثيراً من هؤلاء الشباب لم يعودوا شباباً. النتيجة أن دولنا تسير ضد حركة التاريخ، تمشي الآن ببركة ريع النفط وبركة القدر… لكن إلى متى؟! النتائج ستكون كارثية مع تحديات الزمن القادم، وهي لن ترحم أحداً.

حسن العيسى

كي لا تصاب رؤوسهم بالصداع

تصريح المصدر المسؤول بوزارة الداخلية لجريدة الوطن (عدد أمس الأول) المهدد للبدون المتظاهرين هو تصريح غير مسؤول، وهو فضيحة شائنة تصم الخطاب السياسي للدولة في قضايا هتك حقوق الإنسان، ويمكن وضع هذا التصريح في خانة التصريحات الفاشية، والتي لا يجوز أن تخرج من مسؤولين في دولة تتشدق سلطتها الحاكمة بالدستور وحكم القانون.
تصريح "المصدر غير المسؤول" يتوعد جماعات "البدون" في حالة قيامهم بالتظاهر بالطرد والتسفير، وأن هذا العقاب لن يكون قاصراً على "الأشقياء" المتظاهرين فقط، بل سيطول عائلاتهم! فالترويع هنا يمتد إلى رب الأسرة الذي "لا يستطيع إحكام قبضته على أسرته". ويمضي خطاب المصدر غير المسؤول إلى التقرير، بكل ثقة وبلغة فجة، أن مثل تلك العقوبات التي تقررها وزارة الداخلية ستكون "ضمن القانون ومن صلاحيات الوزير"! أيُّ قانون هذا الذي يتنطع به المصدر المسؤول العنتري؟! فالعقوبات الجماعية هي من سمات دول الطغيان، وما أكثرها اليوم في النظام العربي قبل الربيع وبعد الثورة المضادة، ولا علاقة لها بدولة القانون والشرعية، فمبدأ شخصية العقوبة، بمعنى أن العقاب لا يمتد إلى غير مرتكب الفعل المؤثَّم، هو من المبادئ الدستورية ومنصوص عليه في الدستور الكويتي وفي معظم قوانين الدول التي تحترم نفسها والبشر الذين يعيشون على أرضها.
يظهر بوضوح أن "وزارة الرعب" في الدولة تملك رصيداً ضخماً من التعالي والغطرسة في لغة خطابها للبدون ولغير البدون من المهمشين مثل الوافدين، فالمتظاهرون، في القاموس الأمني، مجرد نكرات طفيلية "يتعيشون" من صدقات الدولة وأريحيتها، ويمكن القضاء عليهم حين يقرر أصحاب الأمر والنهي أصحاب الكرم والتسامح! هنا تظهر الرؤية الحقيقية عند السلطة نحو واقع البدون، فهي تبرئ نفسها من عبء مسؤوليتها نحوهم، حيث أوهمت نفسها بأنها لم تخلق مأساتهم منذ البداية حين صدر قانون الجنسية نهاية الخمسينيات، أو في ما بعد، حين تركت قضيتهم للمجهول ماداموا كانوا مسخرين لخدمة الدولة في الجيش والشرطة أو في عدد من الوظائف الشاقة، حين كانت تشكو تلك المهن قلة المنتسبين إليها من المواطنين، وتحت تصور أنه يمكن التخلص منهم في أي وقت يراه أصحاب السلطة متى استنفدت الغاية من الاستخدام.
بهذا العمى والاعتباطية في الإدارة السياسية شخّصت السلطة واقع البدون، سياسة الصدفة والارتجالية، فمثلما تحكم إدارة الأمور في جل قضايا الدولة حكمت وأدارت قضية البدون، لنصل إلى هذه النتيجة اليوم، فلا جناسي، ولا حقوق مدنية للبدون، ولا سلطة قضائية يمكن لها أن تنظر في حقوقهم بالجنسية من عدمها، فهل يتعين على البدون الكويتيين أن يخرسوا أمام واقعهم المزري، كي لا تصاب رؤوس وزارة الداخلية بالصداع؟!

حسن العيسى

جهاز ما

لا أعتقد أن وزير الداخلية ولا كبار الضباط في هذه الوزارة المرعبة يدرون أو كان لهم علم مسبق بمطالبة الوزارة لأسرة الشهيد راشد الوعلان بمبلغ 142 ديناراً كثمن المسدس العهدة الذي كان عند الشهيد قبل الاحتلال، لكن "جهازاً ما" داخل هذه الوزارة، وبكل مؤسسات الدولة دون استثناء، لا أحد يستطيع أن يؤشر عليه ويحدده، قرر إجراء تلك المطالبة المضحكة والمحزنة في آن واحد، عندما طلبت عائلة الوعلان شهادة براءة ذمة للشهيد من الوزارة. من الطبيعي أن يكون تبرير الناطق الرسمي لشذوذ وقبح تلك الواقعة بأن هذا ينبع من حرص الوزارة على المحافظة على المال العام…! لا أدري إن كان يجب أن نضحك أم نبكي على هذا التبرير…
قضية أخرى، لم أعلم بها، هي واقعة سحب جواز سفر النائب السابق وليد الطبطبائي، وبالتالي فهو منع من السفر لغير دول مجلس التعاون "الأمني"، حتى صدر حكم المحكمة الإدارية الرائع الذي حظر في أسبابه تقييد حرية التنقل للإنسان بغير الضوابط القانونية وألزم الوزارة، بالتالي، برد الجواز… وكانت حجة مصادرة الجواز عند وزارة الداخلية هي ظهور وليد الطبطبائي في صور مع الثوار السوريين، وإطلاقه شعارات لعودة الشرعية لمصر، ودعوته إلى إسقاط نظام بشار الأسد… تم سحب الجواز لوليد بكل بساطة لأن "جهازاً ما" في هذه الوزارة، قرر ذلك، وحصل على تفويض من مسؤول كبير أو (ربما) بارك مثل تلك الخطوة… هناك بالتأكيد غير وليد الطبطبائي، لا نعلم عددهم سحبت منه وثائق سفرهم… وكأنهم أرقام نكرة في سجلات الدولة، وهم لا حول لهم ولا قوة، وقد يصعب عليهم طرق أبواب المحاكم… ماذا يمكنهم أن يفعلوا أمام طاغوت ذلك "الجهاز ما"؟ لا شيء.
الحكاية الأخيرة هي ما ذكرته جريدة الجريدة، أمس، حين منعت وزارة الداخلية حفلاً للطائفة المارونية اللبنانية بمناسبة دينية خاصة بهم، أو أوقفت الحفل، لماذا حدث ذلك لغير السبب المعروف بالمزايدة على الجماعات المتزمتة وإظهار الوزارة وسلطة الحكم بجلباب التقوى والفضيلة…؟ السبب هو ذلك "الجهاز ما" قرر ذلك ونفذ… ليس (ربما) بأوامر عليا، ولكن بمزاج منفرد من ذلك الجهاز.
هذا "الجهاز ما" اسمه الدولة العميقة، هو عبارة عن منظمة غير ظاهرة رسمياً تعشعش في أجهزة الدولة، وتصبح حكومة وسلطة موازية لسلطة الدولة الرسمية. محمد نصير، في جريدة "ديلي نيوز" المصرية عدد 16 نوفمبر الماضي، وضع تعريفاً رائعاً لها أترجمه "هو ذلك الجهاز الذي يشمل كل مؤسسات الدولة ومنظماتها وحتى المنظمات غير الحكومية، والتي تملك تأثيراً على قرارات السلطة (يقصد القوى المتنفذة)، فهو كل تلك الإدارات التي توظف جهازا بيروقراطيا بالغ التعقيد ويمارس سلطاته اليومية بذات التعقيد، ويتصف هذا الجهاز بتضخم العاملين لدرجة كبيرة به وقلة إنتاجهم…".
هذا الجهاز يصبح رمزاً للفساد الإداري والمالي ورداءة الإنتاج، ويظهر لنا كوحش فرانكشتين يثير الرعب في نفس كل واحد منا حين يريد مراجعة أي إدارة حكومية لقضاء أبسط معاملة، فيخنق المراجع، بطلبات وأوامر لا تنتهي ولا تكون ذات جدوى، ولكنه (الجهاز) يتحجج بالقانون واللوائح والأوامر العليا… وفي النهاية يتم في أروقته هدر كرامة الإنسان، وتنحر ذاته ببطء… لتذهب هذه الدولة العميقة للجحيم… ولتكف السلطة عن رعايتها لهذا الابن الغولي.

حسن العيسى

غدي

سيكون الغد أجمل وأروع حين تتفتح أنوار الفجر مع مجموعة "نست"، هم مجموعة من الشباب والشابات تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً، اختمرت الفكرة بوجدان إنساني كبير لكل من نور البودي وإبراهيم السهلي ود. عبدالله عبدالجليل ومعهم مجموعة من أصدقائهم – ويا ليت أتذكرهم – بضرورة التعليم لبؤساء اللاجئين السوريين، بعد أن زاروا مخيم "الزعتري" في الأردن، وفكروا في وسيلة تمد يد العون لمئات الأطفال المحرومين من التعليم، كانت البداية تقديم شنط مدرسية وأدواتها، وكتب لأبناء المنكوبين في المخيمات، قاموا بتوزيع تلك السلال المتواضعة لوسائل التعليم تحت مظلة الهلال الأحمر الكويتي، وحين عادت "نور"، وهي اسم على مسمى، مع زملائها للكويت اسسوا مجموعة "نست"، بعد أن أدركوا أن حاجة اللاجئين لن تنتهي عند الشنط والكتب، وإنما الدراسة النظامية كأجلّ عمل خيري يفتح أبواب الأمل لأطفال حرب البؤس في سورية هي الغاية الكبرى، وبعد زيارات لمخيمات اللاجئين في لبنان، بدأت مجموعة "نست" حملة "غدي" التي تقوم على حقيقة أن التبرع بمبلغ مئة دينار يكفل دورة دراسية (كورس) لكل لاجئ، وبعون عدد من الأفراد والمؤسسات التجارية، تم تخصيص مساحة بسيطة لهم في مجمع 360 استطاعت حملة "غدي" أن تنقل للزائر صورة مشابهة لواقع العذاب في مخيمات اللاجئين، المكان بمجمع تجاري فخم ليس هو خيم الشقاء المبعثرة في الأردن ولبنان، إنما مجرد محاولة نقل صورة محزنة لنتائج حروب الظلم للكويت، محاولة تستحق كل تقدير لأبناء "نست".
خلال يومين من حملة "غدي" تم تغطية التكلفة الدراسية لـ400 طالب وطالبة، للتعلم في مدارس لبنانية، كلمة "شكر" يجب أن تقال لكواكب "نست" وحملة مشاعل "غدي" الذين يريدون اليوم أن يواصلوا مسيرة العطاء بتقديم دعم المواصلات والحاجات الأساسية من ملابس وغير ذلك لأبناء اللاجئين، عبر تبرعات الخيرين، فلهم ولكل من ساهم معهم تحية تقدير… ولربما يكون في جهود حملة "غدي" عبرة تعلم غيرهم من شباب الوطن – وما أكثر الغرقى عندنا في مستنقعات الاستهلاك والفراغ القاتل – معنى العمل الإنساني الجاد، ومعنى تحقيق وحمل هم الوجود الإنساني الكبير.