افترضوا أن الحكومة قررت مثلاً سحب الجنسية من عشرات ومئات المعارضين لسياسة الدولة، أو إسقاطها عن عدد كبير من الذين اكتسبوها بالتجنيس، هل يصح اعتبار مثل هذا العمل الحكومي الافتراضي من أعمال السيادة، وبالتالي لا يجوز للسلطة القضائية النظر في تلك السياسة، ولا يصح لها أن تبحث مشروعية مثل تلك المراسيم؟! استغربت من مذكرة المجلس الأعلى للقضاء، التي رفعت لمجلس الأمة بمناسبة مناقشة لجنة الشؤون التشريعية تعديل مرسوم المحكمة الإدارية، والتي تدعو فيها إلى عدم الموافقة على إخراج المسائل المتعلقة بالجنسية وإقامة وإبعاد غير الكويتيين من أعمال السيادة، "ثم عرفت مذكرة مجلس القضاء أعمال السيادة بأنها كل ما تتخده الحكومة من إجراءات بما لها من سلطة عليا، للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل والخارج، وما يصدر عنها من أعمال باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة…".
كنت تحت تصور أن السلطة القضائية يفترض أن تسعى إلى تحديد تخوم أعمال السيادة، وتقليصها بقدر ما يمكن، باعتبار أن مثل ذلك التحديد يعد كسباً لقضية حقوق الإنسان، فعبر توازن السلطات وبقدر ما تحد سلطة من سلطة أخرى في السلطات الثلاث تتقدم الشعوب في مضمار الحريات والديمقراطية، وتتباعد عن دكتاتورية واستبداد السلطة التنفيذية الواحدة وابتلاعها للسلطتين الثانية والثالثة، أي التشريعية والقضائية، كان هذا كلام لهوبس ومونتيسكو، قبل ما يقارب من ثلاثمئة عام، ومازال بعيداً عن أنوفنا العربية.
تعريف أعمال السيادة، كما ورد في مذكرة مجلس القضاء، ندركه منذ كنا طلبة في كلية الحقوق قبل أربعين عاماً، لا جديد فيه، لكن هذا المفهوم لأعمال السيادة يتغير ويتبدل مع تطور الزمن، ليس طبعاً في دول مستنقعات الركود السياسي مثل الكويت وبقية طقم الأسنان العربي، وإنما في دول يتفاعل فيها الفقه القانوني مع التغيرات السياسية والاجتماعية في الدولة، وليس لنظرية أعمال السيادة اليوم تلك "القداسة" التي كنا نسبغها عليها، ونظرة سريعة لأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أو المحكمة الأميركية العليا، وكيف قصرت وحددت مفاهيم السيادة والمصلحة العامة بما لا ينتقص من كرامة ولا حريات الأفراد، وليس هذا مكان مناقشة مفهوم نظرية أعمال السيادة، وإنما يمكن أن نسأل ما إذا كانت قضية البدون، ومن له حق في كسب الجنسية ومن ليس له مثل هذا الحق، أن تبقى كجرح دام في خاصرة هذا الوطن لو كانت مسألة "الحق" في الجنسية تخضع لرقابة القضاء؟!
التصنيف: حسن العيسى
ماذا تغير علينا؟
هل هي أزمة نص قانون أم أزمة فكر خلق هذا النص، وممارسة سلطوية تسير في ظل ذلك الفكر؟ وهل تقدمت حريات الضمير وفي مقدمتها حرية التعبير مع تغيير النصوص القانونية وتطورها، أم انها بقيت على حالها، بل أجزم بأٓنها في حالة تراجع رغم "الشكل" التقدمي المضحك الذي تظهر فيها تلك النصوص القانونية؟!
اتركوا مسألة "الشريط" جانباً، ولنتوقف عند محنة حرية الصحافة، بكل الثرثرة "الباصجة" عنها وعن المباهاة بتقدم حريات الضمير في الكويت عن بقية شقيقاتها الخليجيات، وكأنها الأعور بين عميان، بعد توقيف جريدتي الوطن وعالم اليوم بموجب أحكام قضائية، وأعود للسؤال ذاته: ما الذي تغير اليوم بنص المادة 15 من قانون المطبوعات الجديد لسنة 2006 والتي تجيز "لرئيس دائرة الجنايات أو قاضي الأمور المستعجلة (عند الضرورة) بناء على طلب النيابة العامة إصدار قرار بإيقاف صحيفة مؤقتاً لا تجاوز أسبوعين قابلة للتجديد… وبين نصوص قانون المطبوعات والنشر القديم لسنة 61 ومواد 35 و35 مكرر التي تجيز لمدير دائرة الإعلام… أو مجلس الوزراء تعطيل الصحيفة مدة ثلاثة أشهر وإلغاء ترخيصها (أيضاً عند الضرورة)… إدارياً… إلخ… أين الفرق في الواقع الممارس، وليس في مسميات الألفاظ، بين قانون الأمس وقانون اليوم مادمنا انتهينا لنتيجة واحدة، وهي تعطيل الصحافة من خلال عملية "أتوماتيكية" ثابتة لا تتغير، تتغير الأسماء وسبل التعطيل لننتهي بذات النتيجة الحسابية، فوزارة الإعلام تقدم طلباً للنيابة التي بدورها تقدم الطلب للمحكمة ليصدر الحكم بالتعطيل المؤقت…! هل تغير علينا شيء؟ غير أنه كانت لدينا خمس صحف في عهد قانون المادة 35، ومكررها والآن لدينا عشرات الصحف اليومية تحت ظلال القانون الجديد تصدر بمنشيتات مختلفة، بمحتوى واحد تقريباً، صحافة فرض عليها بنهج السلطة الواحدة الحاكمة أن تسير تحت الساس، تخشى خيالاتها، وتراعي فقه "مصالحها المرسلة" مع دوائر النفوذ المهيمنة في الدولة. هل تغير عليكم شيء في الجوهر، أم تم إشغالنا بهذه الزخرفة والأضواء الملونة الباهرة، كي ننسى حقيقة أن المحتوى والمعنى لم يتغيرا؟ ليست هي أزمة نصوص ولا جدوى من البحث في دستورية أو عدم دستورية مثل هذا النص، وغيره من نصوص "البهرجة" التقدمية في القوانين الكويتية، هي أزمة فكر تابع لدوائر الحكم بكل تناقضاتها وصراعاتها، هي أزمة غياب الإيمان الحقيقي بحرية الضمير.
سرية التحقيق والفصل بين السلطات
التفسير المعقول، الذي أفهمه، للمادة 75 من قانون الإجراءات الجزائية في دولة القوانين غير المعقولة، بمعنى أنها قوانين تكرس هيمنة السلطة الحاكمة مع توابعها على المجتمع، وتقمع الرأي المعارض، هو أن سلطة المحقق بجعل التحقيق سرياً، وذلك بمنع نشر أي أخبار أو معلومات أو بيانات… إلخ، هي سلطة قاصرة على موضوع التحقيق، ولا تمتد إلى ظروف الوقائع وأسبابها التي يحقق فيها، وأن الغرض من النص على هذه المادة التي عدلها المجلس المبطل الأول كان منع المحقق (محقق شرطة، أو وكيل نيابة) من حرمان المحامي من حق حضور التحقيق بحجة السرية، كما كان وارداً في عموم النص قبل التعديل، فالسرية هنا يقصد بها سرية التحقيق لا سرية الحدث موضوع التحقيق.
فالمادة 75 المعدلة لم تصنع سلطات "تشريعية" للنائب العام حين أمر بمنع النشر الإعلامي أياً كانت صوره في قضية الشريط موضوع شكوى رئيس مجلس الأمة السابق جاسم الخرافي المقدمة إلى النيابة العامة.
مهمة المحقق هي التحقيق في وقائع معينة قد تشكل جريمة أو لا، وفي النهاية لا يملك المحقق (هنا النائب العام أو من في حكمه) غير إحالة الأمر إلى المحكمة للفصل في النزاع أو حفظ القضية، أما رقابة الرأي العام على الأحداث السياسية العامة التي يفترض أن تمارس عبر وسائل الإعلام المختلفة، فلا يتصور أن النص السابق يمتد إليها، وإلا قلنا إن سلطة النائب العام، في جعل التحقيق سرياً هي سلطة تشريعية، تخلق القاعدة القانونية بنص عام ملزم للكافة، وهذا غير متصور، وتلك مهمة المشرعين لا القضاة، فمن حق الناس، عبر وسائل الإعلام، أن يتحدثوا في أي قضية عامة، ولهم أن يعبروا عن آرائهم فيها، ولا يصح الحجر عن هذا الرأي أو ذاك بحجة حساسية الموضوع سياسياً أو اجتماعياً، فالتحقيق في موضوع أي قضية لا يصلح أن يكون سبباً للحجر على الرأي العام، ولا يجوز أن يكون ذريعة لقبر الرأي الآخر، مهما اتفقنا أو اختلفنا معه، وهذا القدر المتيقن لمبدأ الفصل بين السلطات. هو القدر الثابت لمبدأ الشفافية، إن كنا نؤمن بهما حقيقة.
حول مشروع برنامج المعارضة
يكفي جماعات ائتلاف المعارضة اليوم في مشروعها أنها ألقت حجراً في مياه السياسة الكويتية الراكدة، وحركت هذا المستنقع الآسن بما يحويه من طفيليات أمراض الفساد والاستبداد مع فقدان الأمل في الإصلاح، والقضاء عليها بالوصفات الرسمية للسلطة وتوابعها من مؤسسات وأفراد.
خلاصة مشروع المعارضة هي الدعوة لتبني "نظام برلماني كامل" في البناء الدستوري للدولة، وإنهاء ما يسمى النظام المختلط الجامع بين النظامين الرئاسي والبرلماني في الدستور الكويتي، وليس لدي أي معلومات بنظام شبيه له معاصر أو تاريخي، لكن المؤكد أن النظام المختلط كان حالة وسط "للمشاركة" السياسية بين الشيوخ والشعب، وتحقق هذا عند ولادة الدستور واستمر حتى 76 وانتهى بعد ذلك، وأصبح نسياً منسياً، وأضحى نظاماً مشيخياً كامل الدسم، الشيوخ فيه "يحلون ويربطون"، وبقية السلطات مجرد ختم شكلي "ربر ستامب"، وإذا حاول أحد أو مجموعة ما من المشاغبين الرافضين لهذا الواقع، مثل مسلم البراك أو غيره من المعارضين، الخروج عن الطوع السلطوي، أو نقده بجرأة، كانت النهايات معروفة… ولا حاجة للتذكير بها.
يواجه مشروع برنامج المعارضة نقداً هادئاً من معارضين لنهج النظام، والذين يمكن تصنيفهم في خانة اليسار. الناقدون مثل الزملاء بدر الديحاني (عدد الجريدة بالأمس) ووليد الرجيب وفواز الفرحان (موقع التيار التقدمي)، وأنا أتفق معهم في تشخيصهم، يرون أن فقرة وعظية دينية حشرت في ديباجة البرنامج، وكأن جماعة ائتلاف المعارضة يسطرون خطبة جمعة، ولا يقدمون برنامجاً سياسياً، يغير وجه الدولة، وقد يشي هذا، مع الأخذ بالاعتبار نسبة المحافظين في الائتلاف، وتحفظ جمعان الحربش عن عدم تعديل المادة 74 من الدستور في برنامج المعارضة، بحيث لا يقر أي قانون ما لم يكن موافقاً لأحكام الشريعة، عن مشروع مبطن لدولة دينية قادمة تحت غطاء النظام البرلماني الكامل، والدولة الدينية مثل الدولة العسكرية هما نقيضان للدولة المدنية. أيضاً، يرفض الناقدون منهج "الاستفتاءات" الشعبية كمدخل لتعديل الدستور، وهي بالعادة، في مثل ظروف وواقع دولنا، أفضل طريقة لاستبدال استبداد باستبداد آخر، تحت مسميات مختلفة، هنا، يمكن التذكير باستفتاء مصر الأخير على مشروع الدستور، وهذه نقطة يجب اعتبارها عند أي من الفريقين، أصحاب مشروع المعارضة والناقدين للمشروع.
أياً كان الأمر، يبقى القول إن مشروع المعارضة يقدم رؤية وبرنامج عمل، ويمثل جهداً كبيراً من أصحابه، وسيكون صعب المنال كي يتحقق، مع هذا الواقع الريعي المترهل، إلا أنه محاولة جادة تستحق التوقف عندها.
حقائق العميد
قرر مدير إدارة الجنسية والجوازات العميد مازن الجراح الحقيقة بشأن الضرب في المباحث الجنائية، وكان صريحاً في رأيه، ولم يمارس الرياء الدبلوماسي الكاذب. لم يأت العميد الجراح بجديد بتصريحه في واقع هذه الدولة القهرية، والتي حالها كحال بقية دول القمع للشقيقات العربيات، ومن في حكمها من دول التخلف في قضايا حقوق الإنسان، وإن تفاوتت فيما بينها في درجات تعذيب الجسد والروح الإنسانيين.
فرغم نصوص الدستور وقانون الجزاء والإجراءات الجزائية، لم يتوقف الضرب والتعذيب يوماً ما منذ لحظة ولادة الجهاز الأمني للدولة وحتى اليوم. "لا يوجد متهم يعترف بكلمتين"، كما قال العميد الجراح، هو أيضاً تقرير واقع، وأيضاً، من باب الواقع، أن يموت بعض المتهمين تحت وطأة التعذيب السادية، وقضية الميموني وقتله تحت التعذيب مازالت عالقة بذاكرة البشر الذين يكترثون لحقوق الإنسان.
الكويت ومن في حكمها، تقرر القاعدة الواقعية، وهي أن المتهم مدان حتى تثبت براءته، الإدانة هنا مفترضة قبل المحاكمة وقبل صدور الحكم، والإدانة المسبقة، إما أن تتمثل في مثل ما قرره العميد مازن، أو ممارسة التعسف في حالات الحبس الاحتياطي، حين يصبح هذا الأخير عقوبة للمتهم وليس إجراء احترازياً، كما تقرر نصوص القوانين المنسية، وأفضل أن أسميها القوانين الديكورية، بمعنى، التي تكون فيها الدساتير والقوانين الجزائية، بالأخص، مجرد استكمال "ديكوري" لشكل الدولة المعاصرة.
لا لوم على مازن الجراح فيما ذكره وشكل قناعاته الذاتية. كثيرون سواء أكانوا في وزارة الداخلية أم حتى خارجها يشاطرون الجراح عقيدته، وهذا ما يشكل الفارق بين دولة المؤسسات ودولة الأشخاص، ولم يتزيد واضعو الدستور الأميركي، حين أكد أحدهم عبارة "نريد حكومة قانون وليس حكومة أفراد".
المسألة يحكمها وعي الناس وثقافتهم، وهذا ما يشكل الفارق بين دول ذات حضارة أي حضارة الفكر، ودول تتصور أن الحضارة تتمثل في أعلى عمارة، أو أطول مدة عرض للألعاب النارية، تلك دول استعراضية طارئة لا أكثر، ولن يقيم لها التاريخ وزناً.
أين الحقيقة في شفرة دافينشي الكويتية؟
أين الحقيقة في اتهام التسجيل الصوتي أو الضوئي الذي تقدم بالبلاغ عنه رئيس مجلس الأمة السابق جاسم الخرافي للنيابة العامة؟ وهل ما ورد فيه يشكل وقائع حدثت تشي عن مشروع تآمر ومؤامرات ضد بعض كبار الشيوخ، وإزاحة بعضهم ليحل غيرهم، وبالتالي فمثل تلك الوقائع تمثل وجهاً من الوجوه المتعددة في الصراع على السلطة؟ أم إن الموضوع حبكة درامية ومؤامرة مقابلة لكيل تهم وإشاعات بغرض تصفية حسابات قديمة بين أقطاب في السلطة والمال، ولا تمت للحقيقة بصلة؟ أين الحقيقة في موضوع حدث اليوم في عالم الفراغ السياسي والملل الكويتيين؟!
من يفكك شفرة دافينشي الكويتية بعد شهادة الشيخ أحمد الفهد أمام النيابة؟ وهو من ينقل عنه من مصادر أخبار وكالة أنباء "يقولون" الكويتية أنه هو العالم "بالبير وغطاه"، وأرادها "طرباً وصارت نشباً"، حتى الآن، والمستقبل مفتوح للاحتمالات. أقصد أياً من الاحتمالين الطرب أو النشب.
أين الحقيقة في مثل هذا الواقع السياسي لدولة يزعم منظرو سلطتها أنها تحيا ديمقراطية رائعة و"شفافية" أروع في القضايا العامة بدليل أن النيابة العامة كجهة محايدة تحقق في اتهامات شفرة دافينشي، فلا أحد فوق القانون؟! بمثل هذا التصور الذي روج له بقضايا سابقة كبيرة تتعلق بالفساد السياسي – المالي تم غلق ملفاتها لغياب الدليل المادي، ولأنها حكايات "سياسية" وتحويلها إلى قضايا قضائية يعد طريقة سهلة لطي ملفها للأبد، وهذا ما حدث وجرى التعامل به، أو، بشكل آخر شكلت له لجان تحقيق من الضالعين في العلم، لكي تنسى وتنام للأبد في الأدراج البيروقراطية.
مرة ثانية، لنعد لتساؤلات شريط دافينشي والبحث عن الحقيقة، وهل هذا يخص عائلة الحكم فقط وخلافات في "وجهات نظر" عند بعضهم، وحق هذا "البعض" في ممارسة حرية التعبير كمواطنين، أم إنها قضية شأن عام وهم وطني، فهؤلاء البعض من الشيوخ قد يصيرون حكام الغد (الموافقة الشعبية ليست شرط ضرورة بحكم الواقع وليس القانون) وما يحدث بينهم اليوم، سيكون مصائب الغد على رؤوس الناس…؟! وعلى ذلك، هل يصلح شريط دافينشي أن يكون بؤرة استقطاب للمعارضة لتعود تنبض بالحياة في الشارع العام، أم إنه لن يشكل شيئاً مهماً في أولويات المواطن اليوم؟! وهذا الأخير أقرب لواقعنا السياسي، كما أراه اليوم.
الهويات القاتلة
بعد أيام قليلة ستصادف ذكرى العشرين عاماً على مذابح الحرب الأهلية برواندا، التي قد تعد أشد المذابح وحشيةً في التاريخ الإنساني، حين كان مقاتلو قبائل الهوتو يذبحون أطفال "توتسي" أمام آبائهم بتقطيع أوصالهم قطعة قطعة ثم رميها على الوالدين، ثم ينهي القتلة مهمتهم بقتل الوالدين بطريقة أبشع "الايكونومست العدد الأخير"، ونقلت وسائل الإعلام صوراً لجماجم بشرية لضحايا تلك المذابح رُصَّت على أرفف مثلما تُرصُّ البضائع الاستهلاكية عندنا في الجمعيات التعاونية، تركوها هكذا لتذكِّر الناس ببشاعة الحروب الأهلية "المرجع السابق". اليوم رواندا تحقق أعلى معدلات التنمية في القارة بنسبة 8 في المئة بقيادة ضحايا الأمس من "التوتسي"، ورغم أنهم المستفيد الأكبر فإن الآخرين "هوتو" لم يُستبعَدوا من خيرات التنمية.
مثلما شاهدنا الجماجم المرصوصة في المتحف الرواندي، رأينا في سورية صوراً مشابهة لوحشية الروانديين من عصابات الهوتو، إذ نُشِرت صورة أحدهم وقد قطع رؤوس أعدائه وعرضها أمامه، وكأنه يبيع بضاعة يسهل نقلها وتداولها كما نرى باعة البطيخ هنا على مفترق الطرق، وشاهدنا صوراً أبشع لأطفال مختنقين من كيماوي السلطة قبل أشهر، ونقلت وسائل كثيرة أخباراً عن قناصة النظام يقنصون النساء الحوامل في مناطق الحرب، ويراهن القناصة بعضهم بعضاً على إصابة الجنين في بطن أمه… وحشية مرعبة لنظام السفاح الأسد، قابلتها وحشية مهووسين طائفيين مغيبي الوعي الإنساني مثل عصابات "داعش" ومن على شاكلتها.
المقاربة المحزنة بين سورية اليوم ورواندا 1994 أمر واقع، لكنهم في رواندا تجاوزوا المحنة وسبقوا غيرهم في مضمار التقدم الحضاري، فهل يستطيع الإنسان العربي أن يتجاوز محنة الهويات القاتلة؟! هل يستطيع أن يتخطى هويته الطائفية والعرقية والقبلية وانتماءاته لها المقدمة على الانتماء للوطن بعد عشرين أو ثلاثين عاماً من الآن؟ قد نجد الإجابة في التجربة اللبنانية، مثلاً، وما إذا كان اللبنانيون قد تخطوا دولة الهويات، وذكرى مذابح حربهم الأهلية ومشاهد صبرا وشاتيلا مازالت تنبض في الذاكرة، الإجابة اللبنانية قاطعة بالنفي. لنترك لبنان الهويات الطائفية، ونطالع ما حدث في "أسوان" مصر وهي من أقدم أمم التاريخ قبل ثلاثة أيام، حرب قبلية – عائلية قتلت العشرات في ساعات قليلة.
لِنَقُل، بكل يأس، إن الجراثيم الداعشية تحيا في اللاوعي العربي بصرف النظر عن الهوية الطائفية أو القبلية، سواء تشكّلت هذه الجرثومة في مقاومة النظام الحاكم مثل نظام بشار، أو عششت في النظام الحاكم ذاته كالنظام الأسدي وغيره من القابعين على سدة الحكم. لماذا تحيا ولا تموت تلك الجراثيم عندنا ونبقى في أماكننا نراوح عاجزين عن خلق الانتماء للدولة – الأمة وهوية الانتماء للأرض وهو الوطن؟ تفحصوا ثقافتكم وتراثكم لا أنظمة الحكم فقط فهذه وليدة ثقافتنا وصناعة محلية كاملة وليست نتائج استعمارية قديمة فقط، فلعلكم تجدون الإجابة.
إلى متى هذا الحال؟
الهيئة العامة للزراعة التي تحمل على كتفيها العريضين همّ الأمن الغذائي للدولة بتوفير مزارع القمح المنافسة للمقاطعات الكندية والأميركية في منطقة الوفرة مصنع الذباب الدولي، مثلما تكفلت بتوفير اللحوم وتصديرها من مزارع كبد، تقول، في ردها على اتهامات ضدها بالواسطة والمحاباة لدوائر المقربين والمتنفذين و"عجافة" النظام بتخصيص 396 قسيمة زراعية لشركات مملوكة لبشر (لا تعرفهم طبعاً!) إنها أجرت التوزيع حسب القانون، (وما أسهل ترديد كلمتَي حسب القانون في ثقافة الفساد الرسمية) وإن التوزيع تم بالقرعة عبر المشاركين أنفسهم!
لا يهم هذا مادامت لدينا قناعة مؤكدة بأن نظام القرعة المحايد في التوزيع يعني تحقيق المثل الشعبي بأن نترك "القرعة ترعى"، ففي النهاية لا جدوى من مثل تلك المنازعة والجدل في نهج المحسوبيات وشراء الولاءات السياسية، الذي هو عقيدة السلطة ونهجها السياسي في إدارة الدولة وتدمير مستقبل الأجيال القادمة.
ليس من المقبول التحجج الرسمي بأن الموضوع أمام القضاء حين قام أحد المتضررين من "عدالة توزيع القسائم" برفع دعاوى ببطلان التوزيع؛ إذ لم تكن، في يوم ما، نصوص القانون، ولا حركة تلك النصوص أمام المحاكم مجدية لغلق صنابير المحسوبيات وتوزيع الكعك على المقربين والمؤلفة قلوبهم، فعبء إثبات الانحراف بالسلطة وإقامة الدليل على فساد جهاز إداريٍّ ما ليس بالأمر السهل أمام واقع هيمنة الإدارة البيروقراطية على الجهاز الإداري للدولة كلها، ومعرفة ترزية القانون فيها أفضل السبل لتضليل العدالة وإخفاء أدلة الفساد عبر غطاء كثيف من النصوص القانونية واللوائح والقرارات ومن خلالها.
على الوجه الآخر للعملة أيضاً، لم يكن تشكيل لجان التحقيق، على نحو ما يحدث الآن في توزيع مزارع الوفرة مجدياً؛ للأمر السابق ذاته، وهو توغل جذور دولة الفساد إلى أعمق أعماق التربة الكويتية، وأحاول، الآن، أن أتذكر أثراً حقيقياً للجنة يتيمة من عشرات ومئات لجان التحقيق في مسلسلات تجاوزات السلطة والفساد في الأجهزة الإدارية التابعة، فلا أتذكر حتى لجنة واحدة، حققت شيئاً على أرض الواقع، من لجنة تقصي الحقائق في الاحتلال، إلى لجان هاليبرتون ومناقصات ومزايدات وزارة الدفاع في النصف الأول للتسعينيات ثم محطة مشرف ثم الإيداعات المليونية، حتى هذه الأيام ولجان (إن كان هناك أي لجان) عن استاد جابر ومستشفيات الوهم… إلخ، أصابني السأم من حكايات ألف ليلة وليلة عن لجان التحقيق وقضايا حفظ التحقيق، ونتائجها المنسية التي ليست بذات جدوى، ففي آخر الأمر لسنا اليوم بصدد تهم محاباة في توزيع قسائم على حفنة بشر من مقدمي خدمات سابقة لكبار جداً في السلطة، فهذا غيض من فيض، قضية هذا الوطن هي البحث عن إجابة سؤال: إلى متى يستمر هذا الحال؟
مخالفة صريحة للدستور
لا يمكن قبول تبريرات مجلس القضاء الأعلى برفض تعيين المتقدمات للعمل بوظيفة باحث قانوني، بقصر القبول في الوظيفة على الذكور دون الإناث، فرغم ما يبدو من وجاهة تلك التبريرات التي ذكرها في المؤتمر الصحافي المستشار فيصل المرشد، رئيس مجلس القضاء، فإن النظام القانوني والدستوري يناقضها، فالشريعة الإسلامية بحكم الدستور هي مصدر التشريع، مثلما ذكر رئيس المجلس، لكنها ليست هي التشريع بحد ذاته، بصرف النظر عن اختلاف الآراء الفقهية في الشريعة حول تعيين المرأة في سلك القضاء المترددة بين الجواز من عدمه، ولا ينهض العرف ولا التقاليد الاجتماعية كي يكونا حججاً لرفض التعيين، فالنص الدستوري في المادة 29 الذي يحرم التمييز في المعاملة بسبب الجنس أو اللغة أو الدين له أولوية على الأعراف والتقاليد، هذا ما يمليه مبدأ السمو الدستوري والتراتبية التشريعية اللذان يفرضان أن تكون "المعايير الدستورية" أعلى مرتبة من التشريعات، ومن باب أولى، تكون أسمى من الأعراف الاجتماعية السائدة، والقول بغير ذلك لا يعني غير إهدار لحجية ذلك المعيار الدستوري العام الذي شرع أساساً لتحقيق مبدأ المساواة بين الأفراد، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لو قبلنا بحجة مراعاة العرف أو التقاليد في الشأن العام لما كان هناك مكان لعمل المرأة في الوظيفة العامة بداية، فالأعراف والتقاليد تتغير وتتطور مع تطور الواقع الاجتماعي لأي مجتمع، وهنا يأتي دور التشريعات المدنية لتعدل وتغير من هيمنة العرف، وتفرض واقعاً جديداً متوائماً مع تغير الزمان، من هنا كررت في أكثر من مناسبة أن النظر إلى القانون لا يصح قصره على أنه أداة لضبط العلاقات الاجتماعية في مجتمع ما، بل أداة ووسيلة لتقدم وتطوير المجتمع الإنساني نحو المزيد من العدالة.
باب الطعن أمام المحكمة الدستورية في رفض تعيين المرأة في وظيفة باحث قانوني متى استكملت المتقدمة الشروط المطلوبة لشغل هذه الوظيفة يجب أن يكون مفتوحاً للواتي أهدرت حقوقهن في العمل، وحتى يحدث ذلك تبقى هناك فسحة أمل لتحقيق ديمقراطية المساواة بين الجنسين في العمل القضائي، طالما فهمنا من تصريح المستشار فيصل المرشد أن مثل ذلك القرار بالرفض مؤقت، لكن في الوقت ذاته لا يصح أن يكون هذا "التريث" في التعيين لمزيد من الدراسة سبباً لهدر النصوص الدستورية.
بموجب حكم القانون
بموجب حكم القانون تم تجديد أمر الحبس لعبدالله عطاالله وعبدالحكيم وناصر الفضلي، المضربين عن الطعام في السجن، والناشطين في قضايا البدون، والمتهمين بالتظاهرات غير المرخصة (حسب القانون) أو تحريض الغير على التظاهر، وحتى الآن لا أعلم التهم تحديداً، فلا قضية هؤلاء الثلاثة من الأولويات الإعلامية الإخبارية في الصحافة الكويتية بوجه عام، ولا حتى قضية البشر الكويتيين الذين هم بلا هوية من الاهتمامات الإعلامية أو الشعبية -أيضاً بصفة عامة- فهناك قناعة عند الكثيرين بأن إحالة ملف هؤلاء الثلاثة وغيرهم من المنبوذين البدون إلى القضاء إنما تم حسب الأصول القانونية، أما تهديد وزارة الداخلية بتسفير الثلاثة المحبوسين، أي إبعادهم إدارياً ولو لم تكن هناك قضية ضدهم، كما ذكر الزميل غانم النجار في مقال الأربعاء بجريدة الجريدة، مؤكدا رغبة السلطة في ذلك لو كانت هناك دولة تعترف بانتمائهم لها، فهذا بدوره لا يثير حماسة إنسانية كبرى بالرفض، فالإعلام الذي تهيمن عليه الدولة (رغم الرياء المخجل عن الحريات الإعلامية) حشر قضايا البدون في زاوية تلك الجماعات التي تدعي بالهوية الكويتية لكنها لا تستحقها حسب الرصانة الرسمية للأستاذ صالح الفضالة مدير جهاز تحديد أوضاع البدون "بحكم القانون"، كما اسميه، فأغلب البدون مجرد طامعين في ميزات الجنسية التي تهب الكثير وبلا مقابل لأصحابها، وهكذا عند أعراف كثيرين أو قليلين في ثقافة أهل الامتيازات الكويتية يصبح البدون كذابين ومدعين للهوية، بينما هم لا يستحقونها حسب القانون، وأصحاب الجنسية الكويتية في فقه الأرستقراطية الكويتية عددهم الآن أكثر من كاف، ولا حاجة لزيادة عدد السكان وزيادة أزمات البلد القادمة بمزيد من التجنيس للبدون!
يتم هذا بحكم القانون، فهكذا يتكلم القانون بسيادة الدولة في قضايا الجنسية، وعندها وبحسب القانون وسيادته من غير الممكن مقاضاة الدولة لا في مسائل الجنسية ولا الإبعاد الإداري (أو دور العبادة)، ومن يعترض عليه أن يطعن على هذا النص "القانوني" أمام المحكمة الدستورية، ولينتظر الحكم حسب القانون، فنحن في بلد سيادة القانون، أما كيف نفهم هذا القانون، وهل يتسق مع العدالة، ومع الحدود الدنيا لما تقرره المبادئ القانونية الدولية، فهذا ليس من شأن الدولة هنا، صاحبة السيادة، ففي النهاية لتؤجل قضايا البدون إلى ما لا نهاية، أو نهاية النفط، طالما يتم هذا تحت مسمى سيادة وحكم القانون…!