حسن العيسى

لماذا نقول الشيوخ «أبخص»؟

حين سألني صاحب دكان "البنجر" القريب من مكتبي ما إذا كانت هناك طريقة للحفاظ على حقوقه في الدكان، فهو سوري والرخصة التجارية، التي لا يعترف القانون بغيرها، باسم كويتي، تذكرت، من جديد، أمراض الريع، فمثلاً صاحب الرخصة الكويتي يتقاضى مبلغاً شهرياً ثابتاً مقابل استعمال اسمه في رخصة "البنجر" أو بالأصح استغلال جنسيته الكويتية، فتذكرت ما كتبته شالروت ليفانز عن تلك الأمراض في بحث "بالإنكليزية" بعنوان "الدولة الريعية وبقاء الأنظمة الملكية المطلقة".
 وهنا أترجم من هذا البحث بعض الفقرات، إذ تقول ليفانز إن من مخاطر العقلية الريعية التي عمادها أن الثروة تخصص لصاحبها من غير عمل، أن صاحب الريع يتوهم أن دخله أبدي والزيادة عليه لن تقف عند حد، وبذلك تصيبه حالة من الجمود والرضا بالحال، والرغبة في الإبقاء على الوضع القائم دون تغيير، لغياب الحوافز، وتسيطر على روحه عقلية الخمول والتواكل، وتضيف الكاتبة عن نمط الإنتاج أن تقسيم العمل الأساسي قوامه التفرقة بين فريقين هما الأجانب والمواطنون، فالأجانب يملأون فراغ الأعمال التي لا يقوم بها المواطنون، وهي معظم المهن والأعمال الحرفية (كحال جارنا البنجرجي، فهي أعمال شاقة فيها تعب ومعاناة)، بينما تكون عوائد الريع للمواطنين كأرباب عمل، وفي تلك الدولة الريعية هناك فئة قليلة تقوم بالإنتاج، بينما تقوم بقية الفئات بتوزيع الريع واستهلاكه.
في تلك الدولة الريعية، التي لا توجد فيها ضرائب، يتم إلحاق المؤسسات الدينية والقبلية بجهاز الدولة التي يهيمن فيها الحكام على كل أمورها، وبتراث تلك الدولة التاريخي القبلي يتم تأسيس الولاءات السياسية للنظام عبر العطايا المادية والمنح النقدية، فمثلاً، في اليمن، الذي يغيب عنه ثروة النفط، يصبح من الصعب السيطرة على القبائل والطوائف لغياب "العطايا" التي يمكن أن يمنحها النظام لأمراء تلك القبائل.
في الدولة الريعية التي يسود فيها القطاع العام يصبح من الصعب التحول للديمقراطية (تعد الكويت استثناءً تاريخياً، طبعاً هذا الاستثناء تقلص كثيراً في السنوات الأخيرة)، فتلك الدولة لم تستوعب الثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
 وتتساءل الكاتبة ما إذا كان يمكن تفكيك النظام الريعي، وتجيب أن هذا صعب جداً مع هيمنة السلطة الحاكمة على مصدر الثروة الوحيد وهو النفط، لهذا (لم تقله الباحثة) يردد الكثيرون هنا دائماً أن الشيوخ أبخص، السبب طبعاً هو "الريع" لا "البخاصة" (يعني العلم والمعرفة).

حسن العيسى

بنج وليس «بينج»

محاضرة نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية السابق د. محمد الصباح في منتدى التنمية مهمة، لأنها خطاب صادر من شخص شغل منصب المسؤولية لسنوات طويلة في عدة تشكيلات حكومية، ولم تكن المحاضرة تنظيراً فكرياً فقط لأزمة العجز القادمة بتقدير المحاضر ومعظم المسؤولين الاقتصاديين.
أخطر ما جاء في المحاضرة هو استناد المحاضر إلى دراسة المجلس الأعلى للتخطيط عن التراجع المطلق والنسبي في مؤشرات الفساد بالدولة، ليقرر في ما بعد أن "معظم المتورطين في الفساد في القطاع العام هم شاغلو الوظائف العليا والقيادية"، ثم (وهنا مكمن العلة برأيي) ينتقل د. محمد ليقطع بـ"افتقار المجتمع الكويتي لنموذج القدوة في تطبيق القانون والعدالة…"، ويستمر الشيخ محمد الصباح في عرض حقائق اقتصادية، مثل أن نصيب الفرد هو الأكثر في الاستهلاك الحكومي من بين دول مجلس التعاون بعد قطر، وأن الحلول لإنقاذ الدولة من العجز المتراكم القادم لن يكون إلا بالخصخصة التي "… لا تعني شيئاً إذا انحصرت في نقل ملكية النشاط الاقتصادي من القطاع العام إلى الخاص، وإنما تكمن بديناميكية الخصخصة في تغيير أنماط الإنتاج القديمة لمصلحة أنماط أكثر إبداعاً…"، يمكن القول هنا كتعقيب على فكرة الخصخصة بالعبارات المنسوبة للزعيم الصيني الراحل "دينج هشياو بينج"، والذي نقل الاقتصاد الصيني من اقتصاد متخلف إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حين طرحت عليه فكرة خصخصة الاقتصاد قال "إنه لا يهم أن يكون الكلب أسود أو أبيض المهم أن ينبح…"، أيضاً يمكن القول، بعكس ذلك، بأن الخصخصة لو حدثت على الطريقة الكويتية بإدارتها السياسية القبلية والعائلية ودوائر النفوذ المهيمنة حول مركز القرار، فلن تكون الخصخصة كلباً ينبح محذراً إذا شاهد لصاً، وإنما فأر يقتسم ثروة البلاد مع بقية جرذان الدولة. فالمسألة تنحصر في مبادئ الشفافية والعدالة وسيادة حكم القانون، بمعنى المساواة حين نتحدث عن الخصخصة، فأنور السادات مثلاً خصخص الاقتصاد المصري عام 74 تحت باب قوانين الانفتاح، والسويد أيضاً خصخصت، ولنا أن نرى الفرق بين المثالين…!
أعود إلى النقطة المثيرة في محاضرة الدكتور محمد الصباح، والتي يقرر فيها "بغياب القدوة في تطبيق القانون". هنا العلة وبؤرة المرض، كما ذكرت في مقالات عدة، فيستحيل أن نطالب الناس بالعطاء والتضحية، بينما تعجز الإدارة السياسية عن تقديم القدوة والمثال، كي يحتذي بها الناس، ففاقد الشيء لا يعطيه… وهذه مصيبتنا في هذه الإدارة وما سبقها من إدارات سياسية التي هي عاجزة في كل شيء عدا "دهان سير المتردية والنطيحة". لنقر بأننا نلفظ اسم الزعيم الصيني "بنج" وليس بينج، وهذا يعني التخدير إلى ما شاء الله في مسيرة الدولة.

حسن العيسى

من المسؤول؟

ليس للحكومة أن تتوقع غير اللامبالاة واللااكتراث من الجمهور عندما تتحدث عن العجز القادم الحتمي حين تتجاوز النفقات على الإيرادات، وحين تختزل قضية الفشل في إدارة الدولة اقتصادياً وسياسياً بتضخم الباب الأول (بند الرواتب والأجور) على حساب بقية أبواب الميزانية، ويتم تعليق الجرس على رقبة المواطن والاستهلاك الريعي، الذي يمارسه مع غياب قيم العمل عنده، وتصبح قضية فشل إدارة الدولة هي قضية الإنسان المحكوم بهذه الإدارة السياسية، مثلما يذهب زميلنا عبداللطيف الدعيج في كتاباته العديدة بإدانة المجتمع والبشر، أي الناس الذين لا حول لهم ولا قوة في إدارة الدولة، وفي الوقت ذاته يعلق صكوك البراءة على صدر السلطة الحاكمة، وكأن هذا قدرها وحظها إذ ابتليت بهذا الشعب وهذا السلوك الاستهلاكي وعجزه القدري عن الإنتاج…!
بهذا تصير المعادلة سهلة عند الزميل، أصلح أمرك يا شعب تصلح أمور البلد… أما "مساكين" السلطة ومن بيدهم أمور الحل والعقد فلا مسؤولية على عواتقهم ولا جناح عليهم، فهو فشل إداري وفشل بشر لا يعملون، أما القيادات السياسية التي نصبت تلك القيادات الإدارية الرديئة في موقع المسؤولية، وفتحت لها أبواب الفساد على مصاريعها، وتركت "القرعة ترعى" لعقود طويلة، فهذه لا مسؤولية عليها ولا يحزنون، في فقه الزميل.
بطبيعة الحال، لا أحد ينكر عدداً من أمراضنا الاجتماعية في مفهوم العمل والإنتاج، ولا أحد يجحد حالة التسيب لدى الكثيرين منا، وكلها أمراض متأصلة في الوطن بسبب الحال "الريعي"، ولن يكون الحل والعلاج لتلك الأمراض بالوصفات السريعة التي يكتبها القطاع الخاص، فهذا القطاع في النهاية يدور في فلك السلطة والحالة "الريعية" التي كرستها، وهو بمجمله قطاع استهلاكي غير منتج، ولا يرتجى منه أن يكون عوناً لحل مشكلة الباب الأول، طالما ظل هذا القطاع على حاله. الحلول لأزمتنا القادمة ستكون قاسية، وستتطلب تضحيات من الجميع، لكن من أين يبدأ تعديل هذا الوضع المائل؟ هل يبدأ من الناس فقط؟ أم يفترض أن يبدأ الإصلاح السياسي والاقتصادي من فوق ومن الأعلى؟ أين هي الإجابة عند منظري لوم وتعنيف الناس المحكومين وتبجيل الكبار الحاكمين الأبرياء…؟!

حسن العيسى

الذات القلقة الغاضبة

بينما تقود سيارتك رابطاً حزام الأمان وتسير بالسرعة التي حددها القانون، يلتف عليك فجأة شاب مهووس بالسرعة قاطعاً الطريق عليك، تغضب، "تحرق دمك"، لكن ماذا يمكنك أن تفعل غير صب اللعنات على هكذا حال. تذهب إلى دائرة حكومية لإنجاز معاملة ما فلا تستطيع إنهاءها، فالأوراق المطلوبة ناقصة أو المسؤول متغيب أو مشغول، ولا نهاية للأعذار. تعود للمنزل تجالس الوحدة والملل، فشريك حياتك كتلة من لحم وعظام شكلها الجهل لا يعرف غير أن يسكب الزيت على نار وحدتك، وتسحبك ذكريات إلى عالم ضيق داكن يضج بالأسى تطرق نواقيس الذكرى لحظات جميلة طويت عن أصدقاء أو أقرباء رحلوا إلى عالم الموت، لن يعودوا ولن يعود ذلك الزمن الجميل، هو الزمن الآن الذي يحرق بكل لحظة صفحات حزينة من عمرك… قلق، ملل، أسى غضب حزن ما العمل…؟! لا شيء.
في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وقبل أن تغرق الأسواق في أدبيات كتب "العون الذاتي" أو "سلف هلب". وضعت الطبيبة الأسترالية د. كلير ويكس كتابها بعنوان "نهاية المعاناة النفسية" (ترجمتي للعنوان)، قرأت، قبل هذا الكتاب وبعده، كتباً كثيرة في هذا الموضوع، إلا أن كتاب د. كلير يظل الأعمق والأفضل برأيي، رغم أن مؤلفته ليست مختصة بعلم النفس والأعصاب. عند د. كلير، عندما يضيق صدرك، لأي سبب مما سبق، لا تصارعها وتخنق روحك بلوم القدر ومن رمى بك لهذا الحظ التعس، اركب الموجة، اطف فوقها، ودع الزمن العكر للزمن ذاته، فستمضي تلك اللحظات التعسة مثلما مضت غيرها. عند د. كلير هناك خوف من القادم، نسميه "القلق"، وهو أمر طبيعي، غير الطبيعي أن تخاف من الخوف، أي تقلق من القلق، فتصاب بالوسواس، تتملكك فكرة سوداء مرعبة، لا تستطيع الفكاك منها، يحدث هذا لسبب خارج عن إرادتك، أو لعلك شديد الحساسية لأي حدث، هناك هشاشة روحية في الذات، هل تهرب للمسكنات أو المخدرات؟ هذا هروب لحظي مؤقت، وستعود لما كنت عليه بحالة أسوأ، خذ حذرك كي لا تقع في مصيدة الدوران في تلك الحلقة المفرغة من التردد والحيرة، دع الأمور على حالها، لا تصارعها، تعلم أن تتقبل هذه الحياة بمرها وحلوها، تعلم فلسفة القبول، قبول القلق والحزن، وتذكر أن العناد هنا سيحيلك إلى "سيزيف" آخر الذي يدفع الصخرة إلى أعلى الجبل لتتدحرج من جديد للأسفل، درب ذاتك على السمو فوق الحدث، فالذي يقلقك ويؤذي روحك الشقية هو "العادة"، فدرب ذاتك على عادة جديدة بالمران والتكرار.
يطل علينا الزميل ساجد العبدلي من نافذة مشابهة للدكتورة كلير، في كتابه الجديد "بصحبة كوب من الشاي"، ساجد طبيب صحة مهنية، مثلما هي كلير طبيبة، وليسا عالمين نفسيين، لكنه يجتهد في البحث ويمد يد العون للنفوس القلقة بمجموعة مقالات، أولها تلخص نظرته إلى الكتابة الصحافية حين يضع الفاصل الدقيق بين الكاتب الذي يبحث عن التألق والزهو، وهذا أمر طبيعي في النفس البشرية، وبين الكاتب الذي همه من الكتابة مجرد ملء فراغ بكلمات من غير معنى في الصحيفة، لإشباع ذات نرجسية وأنا متغطرسة، وهذا غير المقبول. ثم ينتقل ساجد في مقالات لاحقة ليلامس النفس القلقة، فأنت عندما تطفو فوق سبب الغضب أو الهم يعني أن "… يمارس الفرد فنون التطويف والتطنيش، وأن يتغاضى كثيراً ويتغابى أكثر مما يمر حوله، وليس هذا ضعفاً أو قلة حيلة؟.. بل هو قوة وتسيد للموقف…" مقالات عديدة في كتاب د. ساجد يلتقي فيها مع د. كلير في النصيحة الواعية للذات القلقة، ويجد لها أساساً علاجياً في حديث نبوي أو آية قرآنية، ولا يفوت الكاتب نقد التدين الملوث الذي يقتصر على ممارسة الطقوس الدينية المظهرية والمزايدة عليها مع غياب البعد الروحي للدين، فالدين عند ساجد "حالة روحانية داخلية في المقام الأول، وبعد ذلك حالة أخلاقية سلوكية. وأخيراً ملامح مظهرية…" عدد وافر من لمحات خاطفة في كتاب "كوب من الشاي" علها تكون عوناً للروح القلقة. يبقى هناك الكثير للكلام في معنى القلق، والفرق بين القلق الإنساني الفلسفي، والقلق العادي الذي يصاحبنا في أمورنا اليومية، وليس هذا موضوع المقال الآن.

حسن العيسى

علتنا في هذا الريع

في برنامج الإصلاح السياسي للمعارضة هناك فقرتان أو ثلاث تتحدث عن الاقتصاد، تبدأ بعبارة "إن اقتصادنا وحيد الجانب يعتمد أساساً على النفط وتصديره، إذ تشكل إيراداته ما يفوق 90 في المئة من ميزانية الدولة. ونظراً لكون الإنفاق الحكومي هو المصدر الرئيسي وشبه الوحيد لجميع النشاطات الاقتصادية أصبحت التنمية مرهونة بما يطرأ على الصناعة النفطية من تطورات" وختمت الفقرات السابقة بجمل عامة عن العدالة الاجتماعية وتفاوت الدخول وتركيز الثروات في أيدي قلة.
مربط الفرس ومنبع الشرور في حاضر الدولة لا ينحصران في كون النفط المصدر الوحيد للثروة، وإنما بمن يهيمن ويسيطر على الثروة النفطية. ثم يوزعها على المجتمع. وتقرر المادة 28 من الدستور أن "الثروات الطبيعية ملك الدولة تقوم على حفظها واستغلالها"،  لكن هذه الدولة التي تمتلك الثروة الطبيعية تدار بصفة مطلقة من حزب الأسرة الحاكمة بمشاركة هامشية من البرلمان، حتى ولو كان هذا البرلمان يحيا في أيام مجده الخوالي. حزب الأسرة هو الحزب الوحيد المصرح له بالعمل السياسي وهو المحتكر للثورة الطبيعية ويقوم "بتوزيعها" وفق دوائر الإنفاق المعروفة سواء تحددت بالقطاع العام وتوابعه، أو الدوائر غير المعروفة المتمثلة بجماعات المقربين لدائرة الحزب ومن يمكن شراء ولاءاته السياسية.
العلة ليست هي النفط كمصدر وحيد، وإنما "الريع" الناتج من هذا النفط. هنا دخل الدولة لا يأتي من عمل وجهد إنسانيين كما هي حال الدولة المنتجة التي تكون القيمة المضافة هي وليدة الضريبة المفروضة، وإنما من "أجرة" مالك صاحب العمارة (الأسرة الحاكمة ووجهها الرسمي الحكومة) ليوزع دخلها على الأفراد، عندها، كما يقرر الباحث غيامو لوشياني في بحث "النفط والاقتصاد السياسي في العلاقات الدولية لدول الشرق الأوسط" أن الدولة هنا منفصلة عن المجتمع، فليست بحاجة له لتستوفي الضريبة من الأفراد كمصدر دخل، في حالة الدولة الريعية التي يقوم نظامها السياسي على المناسبة التاريخية متمثلاً في النظام الأبوي (البطركي) القبلي وتحالفاته لا تعمل قواعد "لا ضريبة بدون تمثيل سياسي، كشعار قديم للثورة الأميركية، وبالتالي الدولة الريعية الأبوية القبلية ليس من شأنها أن يمثل الشعب سياسياً ويشارك في الحكم لأنه لا يدفع ضريبة المساهمة في الدخل العام".
في هذه الدولة الريعية لا مكان لمبدأ سيادة حكم القانون والعدالة، وتعم  فيها ممارسة الرشا والمحسوبيات والواسطة، وتكون سلطة توزيع منافع الثروة كما يقررها الحزب العائلي الحاكم حسب مصالحه، في مثل هذا النظام يؤسس الفساد رسمياً، فلا يوجد طبقة رأسمالية، مثلما لاحظ الباحث الأستاذ بجامعة الخليج فهد الزميعي "أبو فهاد" في ورقة بحثية لجامعة إنكليزية، وإنما يوجد "نوفو ريتش" (حديثو الثراء) يمتلكون ثروات خيالية، فمن منكم يعرف هذا أو ذاك من ملاك المولات والعقارات والأطيان العملاقة قبل بضع سنوات، لا نعرفهم في ذلك الوقت، ولكن بقدرة قادر، أصبحوا من أصحاب المليارات، ونفتح أفواهنا استغراباً وليس حسداً على ثرواتهم الفلكية، كيف جمعوا هذه المليارات، لم يؤسسوا "مايكروسوف" مثل بيل غيتس، ولم يقف أحدهم  أمام شاشة التلفزيون يشرح  عمل الـ"آيباد" مثل الراحل ستيف جوبز. ثرواتهم ناتجة من الفساد الريعي، ومن طبيعة وجودهم ودورانهم في فلك مراكز  القرار، التي هي منطقة الجذب المالي، والطاردة للغير، أي غير المحسوبين عليه. في تلك الدولة الريعية تقبر مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات نفع عام وغيرها ويتم إلحاقها بمؤسسة الحكم عبر العطايا والمنح المالية، فلا مؤسسات تتوسط بين السلطة والحكم، وتكاد "الديوانية" هي المظهر الوحيد لما تبقى من المجتمع المدني كما قرر الأستاذ الزميعي، الذي يؤكد أن الضحايا الحتميين للإنفاق الريعي ليسوا هم دافعي الضرائب، بل الأجيال القادمة الذين ترك مصيرهم للمجهول بسبب هذا التخبط والفوضى  والفساد الريعي. ماذا تركنا لهم… لا شيء غير أنه تم رهن أمرهم للقدر، أليس من حقنا أن نقلق على هؤلاء الأطفال المساكين ضحايا الغد؟ لنتفق أن علتنا اسمها الريع، فهو الفساد الأكبر.                                                          

حسن العيسى

وصفة السلطان التقي

أفضل وصفة لحكام الاستبداد لإلهاء الشعوب عن قضايا البؤس التي تعانيها هي طرح ورقة الدين، أي العقيدة، في سوق المتاجرات السياسية، وعبر ذلك الإلهاء السياسي تصرف الشعوب عن واقعها وهمومها طالما أضحت قضيتها الكبرى الوضع في الآخرة وليس الهم الدنيوي المعيش من فقر وبؤس للشعوب وفساد يرتع فيه الحكام.
سلطان بروناي، أحد أغنى أغنياء العالم، اكتشف، فجأة، سر ترياق تطبيق الشريعة الإسلامية في مملكته الصغيرة، فهذه السلطنة التي لا يتجاوز عدد سكانها 400 ألف نسمة تحيا في بحبوحة مالية بسبب قلة عدد السكان ووفرة الإنتاج النفطي والغاز الطبيعي، والدولة تتكفل بكل صغيرة وكبيرة للمواطن، فهي دولة "رفاهية" كاملة توفر للسكان العلاج الطبي والتعليم المجاني، وتعد معدلات الدخل الفردي فيها من أعلى المعدلات، إلا أنه في السنوات الأخيرة انخفض احتياطي تلك الدولة من الغاز والنفط إلى النصف، وتراجعت التنمية سلباً، عندها وجد السلطان مفتاح "الهداية" حين قاربت سنوات "بندروسا" على النهاية، وقرر تطبيق الحدود من قطع يد وجلد ورجم فجأة، فهذا الشرع كما يقول السلطان حسنال أمر الله وليس أمرنا، ونحن لا نملك مخالفته…! ولا يهم عند السلطان اعتراضات منظمات حقوق الإنسان طالما هو يطبق الشرع، لاغياً النظام القانوني السائد القائم على التراث الإنكليزي.
سلطان بروناي جهز "الدوا قبل الفلعة" بالمثل الكويتي، بمعنى أنه استعد مقدماً وتحوط قبل أن يقع الفأس بالرأس ويتحرك الشعب الصغير معترضاً على تدهور الوضع المعيشي، فربما يخرج من المعارضين، في تصور السلطان وفقهائه، قوى جهادية، هي بدورها تريد احتكار شعار تطبيق الشريعة وإقامة دولة إسلامية، فينبت على أرض السلطنة داعش "بروناويي" و"بوكو حرام" شرق آسيوي، فلماذا ينتظر السلطان الثوار المحتملين بجهلهم المطبق ووحشيتهم في زلزلة أركان حكمه؟ فليقطع عليهم الطريق، مرتدياً ثياب الواعظين المتقين.
قبل هذا السلطان، كان لنا أكثر من سلطان تقي في صحراء العروبة، فجعفر النميري جرب، وقطع أيدي فقراء اتهموا بالسرقة، ربما سرقوا لأنهم جاعوا، لكن في النهاية ازيح النميري عن الحكم برجاحة عقل سوار الذهب، ثم كان لدينا "الرئيس المؤمن" أنور السادات، حين عدل من الدستور بجعل الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، وضرب القوميين واليساريين بعصا الإسلاميين، لكن مزايدة الرئيس المؤمن على العقيدة، لم تنجح وقضى نحبه برصاص خالد الإسلامبولي، فهل يتعظ سلطان بروناي ويتأمل قليلاً في حروبنا الدينية، فهي معارك من أجل السلطة والثروة لا غير، لا مكان فيها للاتقياء الورعين؟

حسن العيسى

إلى متى نقول «الشق عود»؟

الزميل بدر الديحاني كتب في مقاله بـ"الجريدة" أمس أن على الحكومة أن تكف عن إطلاق الدعوات المتكررة إلى إلغاء أو تخفيض الدعم عن الضرورات الأساسية للمواطن، فما يرهق الميزانية العامة ليس هذا الدعم بحد ذاته، بل دعم المؤسسات والشركات الثرية، فمن يستفيد من دعم الديزل الذي يهرّب ويسرق بصورة متكررة؟ وهل تحتاج تلك المؤسسات الكبيرة إلى دعم الكهرباء بتكلفة فلس واحد مقابل فلسين للمواطن؟ وهل ينقص تلك المؤسسات أن تحول مشاريع الـ"بي أو تي" من وضع الترخيص المؤقت كإيجار لأرض الدولة إلى ملكية تامة لعيال بطنها كما يدعو نحو هذا الاتجاه مجلس التابعين.
 في مقابل هذا الرأي الوجيه للزميل بدر، أوردت "القبس" تحقيقاً عن أزمة طوابير الإسكان، ركزت فيه على أن الحل يكمن في البناء العمودي، بمعنى أن يتقبل المنتظرون للسكن نظام الشقق بدل الفلل، رغم فشل تجربتين لهذا النوع من الحلول، وأردت حالات يفضل فيها بعض المواطنين الفلل كي يبنوا أدواراً ثانية وملاحق غير مرخصة بغرض التأجير وزيادة الدخل، هنا تم تعليق الأزمة على رقبة المواطن لا على احتكار الأرض من القلة وارتفاع أسعار الأرض إلى أرقام خيالية يعجز عن دفع ثمنها المواطن العادي وليس المواطن "السوبر ديلوكس"، واستطراداً، وهذا ليس خارج الموضوع، يتم تذكير الناس دائماً بأن ميزانية الدولة ستواجه عجزاً حقيقياً مؤكَّداً بحلول عام 2017، من جملة أسبابه سياسة التوظيف في القطاع العام وزيادة الرواتب والمعاشات، وكلها من بركات مخرجات التعليم، وهو نظام تعليمي مخجل يقول عنه وزير التربية إنه لا غبار عليه وإن خبير التعليم السنغافوري الذي أكد سطحية التعليم في الدولة لا يفهم ظروفنا الخاصة!! وغير ذلك من أدبيات حزب التخصيص.
 وهنا يظهر الرد جاهزاً من المعارضين وفحواه أن الفساد المالي والسرقات والتسيب الإداري هي السبب لا القطاع العام، أو الموظف المغلوب على أمره، ويرد دعاة الإصلاح من حزب مناصري القطاع الخاص بأن هذا القطاع العام غير منتج ومتكاسل، والوظيفة فيه مقابل الجنسية لا العمل، وتكفي زيارة بسيطة لدائرة حكومية ومشاهدة مناظر إفطار الفول والفلافل في غرف مغلقة حتى نعرف كيف يقدس هذا الموظف عمله، القطاع العام له شعار ثابت لا يتزحزح يقول بأن "المدير غائب في اجتماع مع الوكيل أو الوزير، تعال غداً أو الأسبوع المقبل، من أجل أن يباركلك بالتوقيع على المعاملة وتنهيها!".
 أين الحلول في كل ذلك؟ أين الأزمة؟ هل هي أزمة قطاع عام مترهل لا ينجز وبخدمات سيئة تسير نحو الأسوأ، أم هي أزمة كبار متنفذين متحلقين حول دائرة الحكم، هم لا غيرهم، الذين يرددون عبارة "يا رب لا تغير علينا". أين هي الأزمة؟! هل هي أزمة صغار يتعيشون على الإنفاق الحكومي "المعروف" من غير عمل حقيقي منتج، أم أنها أزمة كبار، يراكمون الثروات، أيضاً، وبدورهم، من الإنفاق الحكومي "المجهول"؟! أين الجواب الصحيح عن أسباب هذه الأزمة وكل "بلاوي" الديرة من تعليم وإسكان ومرور وصحة؟ هل نجد الإجابة من دعاة الخصخصة ومن دعاة اليمين "التاتشريين الريغانيين" (نسبة لتاتشر وريغان)، أم نجد الجواب عند المعارضين الذين يرمون الجمل بما حمل على الفساد! أم نقول إنها أزمة إدارة دولة، تبدأ وتنتهي من فوق، عند من يملك منفرداً تلك السلطة، فلننظر إلى فوق علَّ وعسى أن نجد إجابة جديدة غير تلك العبارة المحبطة بأن "الشق عود"…

حسن العيسى

هل كنا أفضل حالاً؟!

أليست مصر أيام مبارك أفضل من مصر اليوم، فرغم الفساد وكل مظاهر الاستبداد واحتكار السلطة في العهد المباركي، فإن الاقتصاد والأمن كانا أفضل حالاً من بعد ثورة يناير، والانقلاب على الثورة في حركة 30 يونيو. أليست سورية الأمس وقبل الثورة ضد نظام الأسد كانت أفضل؟ فلم تكن هناك براميل متفجرة، وأجساد أطفال دفنت في ركام التفجيرات، ورؤوس مقطوعة في أوعية طبخ، وبشر مصلوبون في الساحات العامة، أو كنائس مطلية بالسواد، ولم يكن المسيحيون يدفعون الجزية لعصابات داعش، ولم يكن ثلث الشعب السوري مشرداً في الداخل والخارج!
ماذا عن اليمن؟ ألم يكن متحداً ودولة شبه مستقرة في عهد الرئيس "المعجزة" علي عبدالله صالح، والآن يحيا في مستنقع الحركات الانفصالية، سواء من الحوثيين أو من أهل الجنوب، أما ليبيا فقد غابت دولة القذافي وقبيلته لتحل محلها اللادولة وتقسم واقعاً بين القبائل وثوار الأمس! أما العراق المحرر من حكم الفاشي صدام، فماذا بقي منه اليوم؟ نظام طائفي أقصى أهل السنة جملة وتفصيلاً، وتفتت العراق بين أكراد وعرب سنة وشيعة، ومشروع "داعش" يمضي قدماً في أرض السواد.
ماذا بقي من دول الربيع العربي، إذا استثنينا تونس؟ وهي حالة فردية ترك "تراث" بورقيبة بصماته على المجتمع المدني، وجاء حزب النهضة بقيادة الغنوشي الذي استوعب ضرورة المشاركة السياسية مع العلمانيين المختلفين معه، ووضع تونس على الطريق الصحيح، هل يصح القياس على تونس، واستلهام تجربتها؟! يمكن لو كانت "الظروف التاريخية" في دول الربيع متقاربة من تونس، لكنها لم تكن كذلك… فتونس تبقى أقرب لدول شرق أوروبا في تغيرات الثورات البرتقالية منها من عوالم الكر والفر العربية.
التساؤلات السابقة طرحتها تقريباً جريدة إيكونومست قبل فترة بعنوان "درس من الجزائر"، بعد انتخاب الرئيس بوتفليقة، لتنته الجريدة باستنتاج بأن بقاء الحال من المحال، وأن عبارة "كنا أفضل حالاً" قبل ثورات الربيع "الخريفي" لا تعني غير استمرار أنظمة الطغيان والفساد، ولو تأخرت "ثورات" ذلك الربيع فهي ستأتي، حتماً، بالغد، فالشعوب العربية تستحق حقها في الحرية والديمقراطية. هذا الاستنتاج صحيح، لكن هل يمكن للضحايا في دول الربيع أن يستوعبوا هذا الدرس؟ وإلى متى يستمر هذا الربيع المظلم، ويتحول إلى ربيع حقيقي..؟! هذا بعلم الغيب.

حسن العيسى

ماذا كان يتوقع رياض؟!

أساساً هو خطأ النائب رياض العدساني حين قدم استجوابه لرئيس الوزراء، فكان أولى على رياض أن يعلم أنه لم يكن بصدد مساءلة رئيس الحكومة فقط، وإنما مساءلة سلطة حاكمة بكاملها، بكل صراعاتها الداخلية وتجاوزاتها وأخطائها وعجزها الأكيد عن إصلاح نفسها، وبالتالي هي أعجز عن حل مشاكل المواطن المزمنة من إسكان وصحة وتعليم وبطالة قادمة وفساد مستحكم ومصادرة حرية التعبير وغياب الشفافية. كان من المفترض أن يعرف رياض مسبقاً، وتحديداً بعد تجربة استجوابه الأول الذي شطب في سابقة شاذة، مصير استجوابه الأخير، ولو كان رياض مقتنعاً بالمثل الشعبي القائل "هذا سيفوه وهذي خلاجينه"، وأن نماذج "سيفوه" تحيط به في هذا المجلس المفصل على المقاس الحكومي، لما قدم مثل الاستجواب المعروف مصيره بداية.
ماذا كان يتوقع رياض من طرح استجوابه؟ هل كان يتخيل أن أغلبية نواب "سيفوه" سيقفون معه، وستكون فرصة ليس لمناقشة مجرد نقاط الاستجواب وإنما لتحريك المياه الراكدة في سياسة إدارة البلد؟ طبعاً الإجابة بالنفي، وفتوة "اشرب من دمك" يا رياض الاستعراضية هي الرد المتوقع لاستجوابه، وليس الممارسة الرقابية المفروضة على أعمال الحكومة، وماذا كان يأمل رياض وغير رياض من مواقف مجمل الصحافة الكويتية دون تحديد، ونحن في مثل واقع الدولة التسلطية وتراجع موجات الربيع العربي من حولنا، وهيمنة دوائر النفوذ حول مصادر القرار وتبادل المصالح بينها أحياناً وصراعات أصحاب المصالح في أحايين أخرى؟
ماذا كان رياض يتوقع بداية منذ لحظة اتخاذ قراره بالترشح لتلك النوعية من المجالس التابعة؟ وهل يتعين عليه أن يترك مكانه اليوم ليحل غيره؟ قد يكون الغير مثل رياض، وقد يكون "سيفوه" آخر… أين تكمن الإجابة في هذه الخبيصة الكويتية…؟ لا أعلم!
***
بعد كتابة المقال نشر خبر عن تقديم النائبين العدساني والكندري استقالتهما، هي خطوة مستحقة من زمان.

حسن العيسى

وجه إنساني رائع

من ركام ظلام بؤس الحياة المتغطرسة، والنظرة المتعالية عند كثير من مرضى الثراء النفطي والتخلف الإنساني نحو غير الكويتي أو غير المسلم أو غير المنتمي إلى ملتنا أو قبيلتنا. وقائمة التفريعات وتصنيف البشر ونبذ المختلف عندنا لا تقف عند تلك الحدود. أشعل لنا الزميل عبدالهادي الجميل شمعة تسقط بقعة الضوء المنيرة على تلك العتمة، فقد قام بالاتصال بشركة الحراسة التي كان يعمل فيها الضحيتان الآسيويان اللذان قتلا في حادث السطو المسلح، وتلك جريمة تمثل نقلة نوعية في عنفها وبشاعتها في الكويت، وتم فتح حساب بنكي لجمع التبرعات الشعبية لأسر الضحيتين.
قد يتصور البعض أن أهل الضحيتين يستحقون من غير خلاف تعويضات مالية، ودية  شرعية حسب القوانين، فلماذا تلك التبرعات التي يقودها عبدالهادي ومن وقف معه من نجوم الإنسانية عبر شبكة "تويتر"!
التبرع هنا ليس لأجل عمال حراسة أزهقت حياتهم وهم يؤدون واجبهم فحسب، بل هو من أجلنا نحن، ومن أجل الكويت وإظهار الوجه الإنساني لأهل الديرة. يمكن اعتبار التبرع هنا على أنه ممارسة لتطهير روحي متسام للكثيرين، والأموال التي تدفع ليست من أبواب الصدقات الدينية أو أداء واجب وطني، وإنما تدخل من أوسع أبواب الوفاء الإنساني الكبير، التي ترتفع وتسمو فوق أي اعتبار أو نظرة منغلقة ضيقة تصنف البشر حسب هوياتهم الدينية أو الطائفية أو العرقية. نحن من يحتاج إلى معنى ومغزى مثل ذلك التبرع الفريد في نوعيته، فليست الدولة من يقوم به، وليس هنا، هو مثلاً من باب واجب تقديم المساعدات وعمل الخير لضحايا الحرب في سورية، وإنما هي تبرعات مدفوعة بحس إنساني مرهف وعميق، تخبرنا أن من يعمل على هذه الأرض مغترباً وبعيداً عن وطنه وأهله ليس من جنس آخر، وليس ليأخد "المعلوم" ثم يرحل في ما بعد، وإنما هو إنسان يخدم هذا الوطن وأهله، فلنرد له بعض الجميل، ولو بعمل خيري رمزي صغير باسمه كبير بمعانيه.