يتحدث صديق متسائلاً من المستفيد الحقيقي من الدعم الحكومي للطاقة مثل الكهرباء والماء؟ إذا كنت تتصور أنه أنت أو أنا من الذين يسكنون في بيوت متوسطة أو في شقق عادية، فأنت واهم، فأنت تستفيد بدرجة بسيطة، المستفيدون الحقيقيون المنتفخة بطونهم من خيرات الدعم هم أولئك أصحاب المجمعات والمولات والصناعات، فمثلما تدفع فلسين للكيلوات كهرباء، يدفع مثل هذا المبلغ هؤلاء الكبار جداً، وإذا كانت الدولة تتكفل بفارق ألف دينار، مثلاً، بين السعر الذي تدفعه وسعر التكلفة الحقيقية للكهرباء، فهي تخسر آلاف الدنانير بدعمها لذات السلعة لأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة. هؤلاء في النهاية ليسوا أفضل منك أو مني في دنيا الاستهلاك الريعي، بل هم أكثر تكلفة في أسواق الأخذ والهدر دون مقابل، صناعاتهم وملكياتهم الكبيرة ليست نتاجاً لعمل حقيقي، ولا يقدمون إضافة حقيقية لرأسمال الدولة، فما نراه من منتجات لتلك الصناعات هي قائمة على الدعم الحكومي من منتجات بترولية أو غيرها، ويستحيل أن تنافس في أسواق خارجية لولا هذا الدعم الكبير، هم أكثر من المواطن العادي اتكالية على هبات الدولة ومنحها، وإن كانوا يظهرون أنفسهم بمظهر الحريصين على الإنفاق العام، ودائماً يحيلون مسؤولية الهدر العام لموارد الدولة على المواطن، وهو المستهلك البسيط، بينما يعلقون أوسمة البطولة والحصافة المالية على صدورهم.
يمضي صديقي، ويتطرف بحديثه ليقرر: ماذا لو حسبت السلطة مجموع الدعم كله الذي تقدمه لكل مواطن، ودفعت له مقابل إلغاء الدعم نقداً، فتقبض مثلاً، مقابل دعم الكهرباء والماء والبنزين والتموين خمسة آلاف دينار كل سنة نقداً، وأنت وشأنك في ما بعد، كيف تنفق مقابل الدعم، سواء قررت صرفه على استهلاك سلع الدعم كهرباء وماء وبنزين… إلخ، أو تشتري، بها، تذاكر طائرة وتسافر للخارج حتى تتنفس نسائم الحرية وتبتهج مع رؤية ألوان الطيف الجميلة بدلاً من اللون الرمادي المغم، السائد في دولة "الحمد لله مو ناقصنا شي"!!
أياً كان رأي صديقي في سخريته أو جديته، يبقى القدر المتيقن في اعتقادي، أن السلطة لن تقدم إصلاحاً اقتصادياً حقيقياً وهي تواجه، اليوم، أزمة انخفاض سلعة الدولة الوحيدة، مثل هذا الإصلاح، وكما أكرر، يتطلب تضحيات، ليس من المواطن العادي، فقط، والذي سيضحي في النهاية، حين يشاهد ويشهد على تضحيات الكبار بالقليل مما كسبوه، حين يطبق القانون بمسطرة واحدة، وحين تعمل إدارات ومؤسسات الدولة بحيادية مطلقة وبكفاءة، ولا تهيمن عليها سلطة التنفيذ وحدها دون شريك، وحتى يأتي هذا اليوم البعيد، ما علينا غير انتظار معجزة، أو ربما صدمة، توقظ النائمين في السطوح العليا، فماذا يتوقعون أكثر من صدمة اليوم المتجسدة في الأموال والحريات معاً…!
التصنيف: حسن العيسى
من المسؤول عن هذا الظلم؟!
ما جدوى الحديث عن دولة المؤسسات ودولة حكم القانون، وكل الكلمات المنمقة عن الضمانات التي كفلتها التشريعات الجزائية للمتهمين، إن كان النص القانوني في وادٍ والنهج الذي تسير عليه السلطات في وادٍ آخر، أو حين تُستغَل ثغرات في النص لإعمال عقوبات تصادر حقوق المتهمين وتُخرِج النصوص القانونية عن غاياتها التشريعية؟
الممارسة التي تحدث الآن من عدم إحضار المتهم المقبوض عليه من السجن للمحاكمة، ثم تأجيل نظر القضية مرات عدة حتى "يصحو الضمير الغائب" أياً كان صاحبه، ويتم إحضار المتهم للمحاكمة وسماع أقواله، يجب أن يوضع لها حد، لأنها ممارسة تنتهك الدستور الذي يعتبر المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته بحكم نهائي، وهذا (تمديد السجن الاحتياطي) عقوبة دون نصٍ من القانون، لأن السجن الاحتياطي يُفترَض أن يكون إجراءً احترازياً لا يجوز إعماله إلا بشروط استثنائية محددة، ليصبح عقوبة تامة دون مقتض.
من المسؤول عن الإهمال في إحضار السجناء إلى جلسة المحاكمة أو تجديد الحبس من المحقق أو المحكمة؟. إدارة السجون، في أكثر من مناسبة، ردّت بأن "العلم" أو الكتاب المرسل من المحكمة عن موعد الجلسة أو التحقيق لم يصل إليها، بينما قلم الكتاب أو الإدارة المختصة "أياً كان وصفها" يقرر أنه تم إبلاغ إدارة السجن عن موعد الجلسة مسبقاً، وبين الفريقين "الإداريين" تضيع حقوق المتهمين وتُصادَر حرياتهم، وندرك عندها حجم التسيب واللامبالاة في الجهاز الإداري البيروقراطي بالدولة وعدم كفاءته.
وإذا حُكِم علينا أن نتقبل بمضض مثل هذه الممارسة اللامسؤولة في تهم معظم الجرائم، فكيف يمكن أن نتجرعها اليوم حين يصير الحديث عن قضايا الرأي، وحرية التعبير، وحين تتمثل هذه بتغريدة عابرة أو بمقال ناقد لوضع سياسي أعوج؟!
قضايا الرأي والحريات تمر اليوم، بأسوأ أحوالها، وإذا كان عدد من النصوص التشريعية ضربت بدستور الدولة وحقوق الأفراد عرض الحائط، ولم يعد لدينا من يحمي هذا النص الدستوري أو ذاك، فهل ترى السلطة أن التشريعات غير كافية لتدجين الشباب، فأعملت بهم، عن عمد، لا عن إهمال، عقوبات دون سند من العدل، من المسؤول عن هذا الظلم؟!
مواجهة التحدي اليوم!
ختم محمد البغلي مانشيت الجريدة عن تراجع النفط بفقرة تشخص حال الدولة تماماً، فعند الكاتب "… أنه كلما انخفضت أسعار النفط كانت خيارات الإصلاح أصعب لدولة تأخرت أكثر من ٢٠ عاماً في اتخاذها رغم الفرص المتكررة والسهلة"، الإصلاح الاقتصادي يعني أن تخبئ القرش الأبيض لليوم الأسود، وأن تستثمر الدولة بالإنسان وتعليمه الجيد، وأن تضع حداً للشخصية الريعية الاتكالية، وهي الذات التي اعتادت أن تأخد دون مقابل عمل منتج، وأن تبادر السلطة لتنويع مصادر الدخل، وقبل أي من هذه الأمور يعني الإصلاح إعمال دولة حكم القانون، وأقصد بذلك تحقيق المساواة بين الناس حسب إنتاجهم وكفاءاتهم، لا حسب قربهم من مراكز القرار، وحكم القانون يعني مكافحة الواسطة والمحسوبية والرشوة، وكل أمراض الريع التي نقابلها كل يوم، من أبسط معاملة تريد أن تقضيها في دائرة حكومية إلى أكبر وأهم الأمور.
فوتت السلطة فرصة الإصلاح حين انخفضت أسعار النفط في نهاية التسعينيات، مثلما ذكر الزميل محمد البغلي، بل هي فوتت فرصاً كثيرة قبلها، أهمها المرحلة المباشرة بعد التحرير، فقد كانت الدولة المحررة بكراً وكان أغلب الناس مستعدين للعطاء والبذل، لكن حين عادت السلطة للحكم عادت بفكرها القديم وعللها المزمنة وبيروقراطيتها المريضة وغير المنتجة، والتي تضج بالفساد، وحدث أن "تيتي تيتي لا رحتي ولا جيتي".
لنقر بأن أسس ممارسة السلطة بالكويت ومن على شاكلتها يقوم على مبدأ سياسة الدينار، فكما يوجد هناك دبلوماسية الدينار في علاقة الدولة بالخارج، كي تكسب عبر هذا "الدينار" شرعية القبول والرضاء عنها من الدول الأخرى، أيضاً هنا كان الدينار يحكم العلاقة بين السلطة والأفراد، فأي أزمة سياسية كانت تعبر سماء البلاد كان حلها سهلاً، ادفع من المال العام، ادفع من دون حساب حتى يصمت الجميع، بهذه السياسة تم هدر مقدرات الدولة، وتم تقنين الفساد المالي، وما هو أخطر تم عبر هذه الممارسة طمس وعي المواطن وأهمية أن يكون منتجاً معتمداً على ذاته، إن لم يتم تسطيح هذا الوعي بتقييده بالاستهلاك المرضي.
الآن تبدو لنا السلطة، وأمامها أزمة اقتصادية خانقة، مثل "المشتهية والمستحية"، تود أن ترفع سعر جميع المحروقات، وأن تحاسب الماء والكهرباء بسعر التكلفة -على الأقل يفترض أن يعمل بهذا لأصحاب المجمعات والمولات، والشرائح ذات الاستهلاك العالي- إلا أن السلطة تراجعت، فهي تخشى بهذا أن تقوض شرعيتها، وهي شرعية الدينار، وشرعية تجنب أي تذمر أو استياء شعبي، فمادام هناك غياب حقيقي للإرادة الشعبية يصبح البيت الحكومي من زجاج يخشى أن ينكسر من أي حصاة عابرة، من هنا يصبح الحديث عن أي إصلاح اقتصادي جدي، دون الشروع في إصلاح سياسي، ضرباً من الخيال.
كونوا قدوة أولاً
تجد السلطة نفسها اليوم، بعد تدهور أسعار النفط، وهو البضاعة اليتيمة للدولة، أن خيارها الوحيد هو تخفيض دعم الدولة للطاقة من كهرباء وماء، وقد يصل تخفيض الدعم إلى البنزين والغاز، وتقول إن هذا الخفض لن يصيب شرائح "البسطاء"، الذين لم يتم تحديدهم، فمرة هم من أصحاب الدخل المحدود، ومرة أخرى، هم من أصحاب الدخل المتوسط!
الوزير الإبراهيم يصرح بحجة يصعب نقضها، متسائلاً: كيف لأحد أن يبني عمارة بأكثر من مليون دينار، ويمتنع عن سداد فواتير كهرباء وماء لا تتجاوز بضعة آلاف؟! ويضيف أن معدل استهلاك الماء يفوق أربع مرات نظيره في أوربا تقريباً!
في الحقيقة هناك هدر في صرف المياه والكهرباء وغيرهما من جوانب تدعمها الدولة، رغم أن مثل هذا الهدر لا يمكن مقارنته بهدر مقابل، وبأضعاف مضاعفة من السلطة، في مشاريعها العامة بعد أن تمددت على تلال كبيرة من الفساد المالي واستغلال السلطة، وصاحبه، أيضاً، هدر من طبيعة أخرى، تمثل في أمراض المحسوبية والواسطة والرشاوى، يدخل معظمها تحت بند "إن حبتك عيني ما ضامك الدهر".
مثل ذلك الهدر الرسمي المعنون بالفساد السياسي، أسس وشرع فلسفة "المال السائب"، وتعلم الصغار من الكبار لعبة عدم احترام المال العام والهدر اللامسؤول للموارد العامة وغياب المسؤولية عند كثيرين، بعد أن أصبح مسألة طبيعية حين وجدوا في كبار الدولة القدوة المثلى.
فإذا كان القانون لا يحاسب الكبار، فأيضاً ومن باب المساواة في عدم المحاسبة، يحق للصغار إهدار حكم القانون، "نظام السابقة" في التجاوزات المالية والقانونية، شرع السابقة للغير، ولم يكن كل ما سبق غير مظهر من مظاهر تجليات الدولة الريعية.
أياً تكن تصورات السلطة لمواجهة "السنوات العجاف"، والأيام السوداء القادمة حتماً، لابد لها أن توازي عرضها للتضييق الاقتصادي على الناس، ومطالبتهم بالمساهمة في العبء العام، وأن تبادر بدورها لفتح قنوات المشاركة في المسؤولية السياسية التي أغلقتها مع المراسيم الأخيرة، من مرسوم الصوت الواحد، حتى قوانين الحد من حريات الضمير الأخيرة أو التي تطبخ هذه الأيام في المطابخ الرسمية، فمن غير المعقول أن تدعو السلطة المواطن لشد الحزام المالي في الوقت الذي تحكم فيه الحبال الخانقة على رقاب المواطنين، فتكرس سياسة سحب الجناسي الانتقامية من المعارضين أو من أصحاب الأقلام، ثم تزج بمغردين بالسجون لأبسط الأسباب، وكل ذلك يتم تحت ذريعة "تطبيق حكم القانون"، وكأنها اكتشفت صدفة هذا القانون، سواء أكان قانون الجنسية أم غيره من القوانين المنسية لعقود طويلة، والتي لا تتحرك بذاتها عادة، وإنما حسب الطلب وحسب المزاج السلطوي…. كونوا قدوة بالعدل والإنصاف، قبل كل شيء.
ارتفعوا لمستوى التحديات
في أكثر من مقال ينبه الأستاذ سعد محيو في مدونته إلى خطورة انفجار الصراع السني- الشيعي، الذي تتقاطع معه التناقضات العرقية، فنيران هذا الصراع نراها ملتهبة في العراق، وفي سورية، واليمن، وهناك خشية أن تنفجر في لبنان، ويمتد لهيبها إلى دولنا الخليجية، وإذا كانت أصول الصراعات تمتد إلى أكثر من ألف عام، إلا أنها اليوم بعد إسقاط نظام صدام، وبعد ثورات دول الربيع العربي ثم إخمادها من القوى المحافظة، تحولت إلى حروب مفتوحة بين الطائفتين، وأيضاً إلى حروب بالوكالة بين دول الإقليم، إيران من جهة ودول الخليج مع مصر من جهة أخرى، ويبدو أن حالة "الوكالة" ستتوسع حين تصطف أميركا وحلفاؤها مع السنة، وروسيا مع إيران والشيعة.
وسواء اتفق البعض أو اختلفوا مع الأستاذ سعد في تحليلاته، يبقى القدر المتيقن متمثلاً في تشظي واقع عدد من دولنا العربية إلى دويلات الأمر الواقع، ومثالها الحالي شبه الدولة الكردية في الشمال العراقي، وبالطريق ستولد دويلات سنية وشيعية في العراق، أو في سورية واليمن، وهي دول لم تكن مجتمعاتها متجانسة في يوم ما، ولم تكن صالحة لأن يطلق عليها مفهوم "الدولة الأمة"، ولد، معظمها، باتفاق سايكس بيكو في نهايات الحرب الأولى، واستغلت النخب الحاكمة، فيما بعد، حالة التنافر الطائفي والقبلي (أو العرقي) لديمومتها حين تغلّب فئة على أخرى، وتظهر نفسها (الأنظمة) كالحامي الوحيد للطائفة المستضعفة.
الصورة للقادم ضبابية، ومخيفة، مع واقعنا المتخلف، وأنظمته الحاكمة العاجزة عن استيعاب تغيرات الداخل والخارج.
يهمنا في الكويت التي تظهر فيها الآن بوادر "طشار" ما يجري حولها من دول المنطقة، فعدد من تصريحات بعض نواب الحكومة غاب عنها إدراك خطورة واقعنا السياسي والاجتماعي اليوم، فعلى سبيل المثال، ما مناسبة إثارة الحديث عن غلق كلية الشريعة، أو الردود عليه، وكأن هذه الكلية تمثل خطراً إرهابياً داهماً عند دعاة غلقها، أو أنها، بالصورة المناقضة، تحقق أقصى أماني أهل السنة والجماعة، عند المعترضين على الإغلاق. ونجد في مناسبات، أخرى تصريحات من نائب شيعي أو أكثر مستفزة لمشاعر الكثيرين من السنة، وفي مقابلها أيضا، نجد في الخطابات الشعبية السنية تشنجاً بردود الأفعال على تلك الأطروحات، وفي حالات أخرى، نطالع في وسائل التواصل الاجتماعي نوعاً من العسكرة الخطابية وكأننا أضحينا صفوفاً دفاعية للدفاع عن سنة اليمن من هيمنة الحوثيين، مع كثرة استعمال عبارات سيئة كـ"الصفويين" و"الروافض"، تصم شيعة الكويت وكأنهم وكلاء لدولة ولاية الفقيه، أو أنهم يشكلون امتداداً لنظام الأسد، وهناك للأسف أساتذة أكاديميون أفلسوا في قدراتهم التحليلية فلم يجدوا غير الآسن الطائفي ليخوضوا فيه.
وفي كلتا الحالتين يتم، بجهل متعمد، قبر الطرح العقلاني الهادئ عند الكثيرين من السنة والشيعة.
أين دور السلطة، من هذه "الترهات" التي أخذت تتزايد مع تأجج نيران الصراعات الطائفية في المنطقة، وهل تمتلك أي تصورات فكرية لما قد يحدث على أرضنا، لا قدر الله؟! غير ردود الأفعال، التي اعتدناها في الخطاب الرسمي لا نجد شيئاً يستحق الذكر، ما عذرها؟ هل هي مشغولة بفزر ملفات جناسي المعارضين، لتسحب جنسية بعضهم دون أي اعتبار إنساني لهم ولأسرهم، لأنها اكتشفت "صدفة" أنهم غير مستحقين للجنسية، أم أن وقتها مستغرق في متابعة ما يسطره المغردون، كي تهوي عليهم بسيف القانون، أو بكلام أصح "بعسف القانون"؟! أتمنى أن ترتفع السلطة، إلى مستوى خطورة المرحلة وتحدياتها في وقت لا يرحم الزمن الغافلين.
ماشيين على البركة
انتقد تقرير "الشال" قرار مجلس الوزراء بمد عطلة عيد الأضحى إلى تسعة أيام، في دولة أكبر حكومة في العالم، التي يوجد فيها موظف حكومة من كل اثنين من المواطنين البالغين، واصفاً مثل هذا القرار، بأنه يمثل هبةً لموظف عالي التكلفة، ضعيف الإنتاج، وأنه في الوقت الذي تتسابق فيه دول "السنع" – الإضافة من عندي- على مضمار التنمية حين تستهدف هذه الدول "…المستقبل، أو من يستطيع أن يفوز بقصب السبق في رفع إنتاجيته وتطويع العلم لخدمة إنتاجيته"، نجد عندنا في إمبراطورية الموظف العام حالة تطويع البلادة والكسل لخدمة الحاضر على حساب مستقبل مجهول تحفه المخاطر.
عطلة الأيام التسعة التي تعني "حشداً من البشر يتسابقون على حجز مقاعد السفر إلى الخارج"، كما يصورها "الشال"، تعني في الوقت ذاته أننا أمام سلطة رخوة عاجزة عن فهم تحديات الحاضر وأخطاره، وتعاني ضعفَ ذاكرة شديداً، ففي الوقت الذي طالبت فيه الناس قبل فترة قصيرة بشد الحزام، وحذّرت من بداية النهاية للكثير من امتيازات دولة الرفاه، وشددت على أهمية العطاء والإنتاج والاستعداد للتضحيات، نرى اليوم مثل هذا السخاء في دنيا "الربادة" الكويتية.
قرار مد إجازة العيد، كما حدث في عطلة "الفطر" الماضية، قد لا يعني الكثير في الإضافة أو الانتقاص من رصيد الإنجازات الحكومية "مادياً"، لكنه يخبرنا عن فكر ومنهج إدارة الدولة، وقدرات هذه الإدارة لمواجهة القادم.
مد إجازة العيد أو عدم مدها، لا يعني أمراً كبيراً في دولة هي في إجازة ممتدة حكماً طوال العام، فمادامت "السياسة والاقتصاد في إجازة"، كما كتب في تسعينيات القرن الماضي كاتب في "فورن افيرز" واصفاً حال الدول الخليجية في ذلك الوقت، فلن يعني مد إجازة العيد إلى تسعة أيام أو تسعة أشهر قضية كبرى عند غير المكترثين وغير القلقين على مستقبل الوطن، وكأن أحوال دولنا لم تتغير في الـ20 سنة الماضية، بل ظلت على جمودها وخمولها الريعي، وظلت سياسة الدينار في الداخل- على وزن دبلوماسية الدينار في العلاقات الخارجية- هي المتحكمة في الفكر الحكومي.
فما الاختلاف في أن تهب السلطة المال للمواطنين بمناسبة وبدون مناسبة مقابل تناسي عقود وهبات الفساد، أو تهبهم إجازات دون حساب، فطائرة الترضيات وصفقات شراء الود والصمت واللامبالاة تمضي في سماء حالكة السواد من دون ومضة نور، أو بصيص ضوء يرينا كيف تنتهي رحلة المجهول، فالركاب لاهون باللعب والهدايا التي قدمها لهم طاقم الطائرة.
في مثل ظرفنا هذا، والتحديات "الوجودية" تحوم فوقنا، وأشدد على كلمة وجودية، بمعنى أنها تهدد وجود الدولة كلها، يمكن أن نقرأ المستقبل القريب بكل سوداوية، ويأس لو ظل هذا الفكر متسيّداً في إدارة الدولة، فهو لم يصلح في أيام الرخاء الماضية، ولا يصلح الآن في بداية وقت الضيق، ولن يصلح غداً حين نصير في بؤرة العاصفة.
تنويع مصادر الفكر قبل مصادر الدخل
أصبح في حيص بيص حين أقرأ عبارة مثل تنويع مصادر الدخل للدولة، التي كثيراً ما تُذكَر لا من المهمومين بالإدارة الاقتصادية للدولة فقط، بل من مؤسسات الدولة ذاتها أيضاً، سواء كانت في خطابات الحكومة أو تقارير مجالس التخطيط وغيرها، ويمكن وصف معظم تلك الشكاوى من الحال، بأنها "حكي بحكي" وكلام أخذت زبدته. الزميل محمد البغلي في تقرير بـ"الجريدة" يوم الخميس دق ناقوس الخطر من تدني أسعار النفط، وغياب البديل الذي يعوض نزول بضاعة الدولة الوحيدة، وكأن هناك من يسمع رنين أجراس الخطر، أو يفك الخط رسمياً وشعبياً.
يذكر محمد أن أسعار النفط تراجعت نحو 13.7 في المئة في الأشهر الثلاثة الأخيرة، ويقرر أن الفوائض المالية في أيام "البوندروسا" لم تستغل في الماضي، "لمعالجة الاختلالات الحقيقية للاقتصاد الكويتي، لا من حيث إصلاح سوق العمل عبر توفير مناخات وبيئات استثمارية مختلفة عن العمل الحكومي، ولا من جهة تقليل هيمنة الدولة على الاقتصاد، ولا عبر طرح مشاريع وفرص ترفع نسبة الإيرادات النفطية… إلخ". المفارقة المخجلة أنه مع تلك الفوائض زادت رداءة الخدمات في الصحة والتعليم والإسكان كما يذكر الزميل، ودون التطرق "إلى الخصخصة الحقيقية"ـ وأحلامها العريضة في ظل هذه الإدارة السياسية ـ التي يتصور أنها أحد أطواق النجاة من الفيضان الإعساري القادم، فقطاعنا الخاص هو طفيلي يحيا على بركة الإنفاق الحكومي، وصدقاته حسب قرب أصحابه إلى مراكز القرار.
يبقى أن نسأل أين تذهب تلك الفوائض المالية، طالما أنها لم تنعكس على "الخدمات العامة"، والتي يمكن إعادة تسميتها بـ"المعاناة العامة"؟! الإجابة التي لا تحتاج إلى جهد فكري لذلك السؤال توجز بكلمتين "مناهيل الفساد"، فهي التي تبتلع هذه الفوائض في الأمس واليوم، وإذا كان جزء كبير من تلك الفوائض بالماضي يخصص لإسكات المواطنين وتهميش وعيهم، عبر سياسة "دهان السير" المتمثلة في شراء الولاءات السياسية، فماذا ستفعل السلطة غداً حين تنكمش إيرادات الدولة لدرجة تعجز معها السلطة عن الاستمرار بتخدير الوعي العام وإسكات المتطلعين لهبات الحكومة؟! هل سيكفي عندها أن تذكرنا السلطة بنهاية دولة الرعاية، رغم رداءة هذه الرعاية؟ هل تفكر بأن تفتح أبواب الإصلاح السياسي مثلما تتحدث (فقط بالحديث) عن الإصلاح الاقتصادي؟ وهل ستفتح صمامات الأمان، ويخرج منها البخار الساخن كي لا ينفجر القدر الكويتي، أم أنها بالعكس ستزيد من كثافة وحجم الضغط والقمع السياسيين، تأسياً بالسياسات العامة لمعظم الدول العربية الآن!
غير انخفاض أسعار النفط وآثاره على واقع الدولة، هناك فواتير باهظة الثمن ستفرض على الدولة، من قبل "التحالف الدولي" في حربه ضد داعش وأشقائه، وهي حرب ستطول كما وعدت الإدارة الأميركية، وكأنها تقول لدول المنطقة الغرم بالغنم، فكما غنمتم بالأمس من النفط وأسعاره العالية، وساندتم ثقافة التطرف الديني بـ"البترودولار" عليكم ان تغرموا اليوم، وكأنه، لم يكن هناك أي دور للإدارات الأميركية المتعاقبة في خلق وحوش التطرف بالسابق.
ما العمل وماذا ستعمل السلطة أمام تحديات الاقتصاد والسياسة الحالية، هل ستنفتح وتصلح من أمرها وأمر الناس، أم ستنغلق وستزيد من جرعات القمع؟! لنعد إلى بداية الحديث، بالتأكيد عن حاجتنا "لتنويع مصادر الدخل" وكي يصبح ذلك ممكناً لابد من تنويع مصادر الفكر المهيمن، فالفكر الأحادي لن يقودنا لغير الكوارث.
نفضت يدي منكم
قصص فشل يتبعها إحباط نفسي نلتقيها ونتجرعها كل يوم مع إدارة هذه الدولة، فنحن نُحبَط يومياً مع كارثة المرور حين نخرج من بيوتنا للعمل أو لـ"التسكع" هرباً من روتين الفراغ القاتل بالدولة وغياب أبسط أماكن الترويح.
نتكدر، تكراراً ومراراً، حين نزمع إنهاء أي معاملة في دائرة حكومية رثة بشكلها وجوهرها، إذ بداخلها يغيب أو يتأخر الموظف المسؤول، أو يطلب منك كومة أكبر من التوقيعات من مسؤولين أعلى منه، هم بدورهم غائبون في اجتماع وزاري (غياب مصطنع يمثل حقيقة ظاهرة تُخفي كذباً وتهرباً من المسؤولية).
ونحن نتألم حين نبحث عن قطعة أرض صغيرة في صحارى الأتربة، ولو كانت في قلعة وادرين، من أجل سكن الأبناء وعائلاتهم الصغيرة، فالإيجار ينهش لحم رواتبهم، فتجدها بأسعار فلكية، لا يقدر عليها غير "بارونات" الدولة، فالأراضي الممتدة محتكرة منهم ومن أبناء السلطة قبلهم.
ونتكدر حين نطالع الغث في الخطاب الرسمي للسلطة، حين يتحدث للناس كأن أحوال الدولة كاملة، وكأنها جنة الله على الأرض، ولا شيء يمكن أن يقدمه ذلك الخطاب المشيخي غير الوعود والمزيد من الوعود، من دون نهاية، تعد بحل أزماتنا المستعصية من المرور إلى الصحة إلى التعليم إلى السكن، كأنه يخاطب مجاميع من "العبط" لا يدركون من واقعهم شيئاً، ويتناسى أصحاب هذا الخطاب أنهم هم، ولا أحد غيرهم، المشكلة، هم العجز، هم الفشل الدائم ليس في خطط التنمية الهزيلة فقط، التي يروجون لها بين كل فترة وأخرى، بل فشلهم في إدراك عجزهم، ومحدودية قدراتهم الثقافية والعلمية على مواجهة تحديات اليوم، في الداخل والخارج.
لننسَ المطالبة بالديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان كما تريدون وتفرضون علينا، فهذا "الترف" السياسي الذين تعتقدون أنكم تصدقتم به على أهل الكويت في لحظة "خطأ" عام 1962 لم يعد مناسباً في موسوعاتكم الفكرية، نسألكم: ماذا أنجزتم حتى الآن، ماذا قدمتم في بناء التنمية، وليس أمامكم أحمد السعدون، ولا مسلم البراك ولا فيصل مسلم ولا أي صوت من المزعجين من مجلس 2012 الأول؟!
من جديد، أسأل هل تقدمتم، ولو خطوة واحدة، نحو حلم دولة سننغافورة، الله لا يغير علينا؟ هل بنيتم مشروعاً حضارياً واحداً كدار أوبرا، أو وضعتم حجر الأساس لمسرح متواضع أو أقمتم معارض فنية؟ هل دعمتم حركة الثقافة والتنوير في مجتمع يضج بحزم هائلة من الجهل والخواء والتواكلية ببركة حضارتكم الريعية؟!
ماذا قدمتم غير الزج بالشباب في السجون، وقوانين تلاحق الأحرار، وتطارد الكلمة؟ ماذا طرحتم غير تلك "الصور الشكلية" عن مشاريع قوانين تسوقونها على أنها تخدم دولة سيادة القانون والشرعية الدستورية، مع أنهما غائبتان، وكأننا لا ندرك أن العبرة ليست بالنصوص وتشريع القوانين، بل بالوعي بمضامين النصوص، وإيمان وثقافة القائمين على تطبيقها.
نفضت يدي منكم ومن مستشاريكم الواقفين في طوابير الانتظار لمدحكم وتدبيج آيات الإطراء لكم وتعليق لافتات الولاء والنفاق بشوارع الدولة… مصيبتنا بهم قبل أن تكون معكم.
البقاء للأسوأ
نهر الزمن لا يرحم أحداً، وفي كل لحظة تمر تقترب من الشيخوخة، وعندها تصل إلى هاوية الموت، ونهاية الوجود، لكن ما هي الشيخوخة! الروائي الياباني "مشيما" وصفها في إحدى رواياته بأنها أشد وطأة من الموت، لم ينتظر مشيما لعنة الشيخوخة، وبقر بطنه منتحراً بطريقة هاراكاري، بعد فشله في محاولة انقلاب ساذجة دعا فيها إلى تمجيد الإمبراطور، وقبل مشيما كان هناك إيرنست همنغوي، وفرجينا وولف والقائمة طويلة.
"ازيكيل إمانيول" الكاتب واختصاصي الأورام السرطانية قدم عرضاً، في شهرية "اتلانتيك منثلي" لكتابه بعنوان: لماذا تأمل أن تحيا لما بعد 75 عاماً، فعنده العلوم الطبية الحديثة مدت بعمر الإنسان سنين طويلة، لكن كان هذا الامتداد العمري، على حساب قدرات الفرد وكفاءته وإنتاجيته، فنصف عدد الذين تجاوزوا الثمانين يعانون عطالة في القدرات، وثلث من تجاوزوا 85 هم مرضى بالزهايمر، حتى لو لم نعانِ أمراض الشيخوخة كالخرف وغيره، قاعدة القدر تقرر أن قدرات الفرد وملكاته تتدهور شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن، فقدرته على تحليل الواقع تضعف، وسرعته على حل المسائل تتدنى، وملكته على التركيز الذهني تتضاءل ويتشتت ذهنه لأبسط الأمور، وقوة الإبداع عنده تنكمش وتذوي، ويصير الإنسان عبئاً اقتصادياً على الدولة والمجتمع وعائلته، وينسب لأينشتاين مقولة إن من لم يساهم في العلوم وهو في الثلاثينيات من عمره فلن يساهم أبداً.
في عبارة أينشتاين بعض الشطط، لكن تظل الحتمية البيولوجية، هي الأصل الحاكم.
بكل حال، ماذا يعني أن يمتد بك العمر طويلاً وتتجرع معه ويلات الأمراض المستعصية، فما جدوى العلاج الكيماوي لمريض السرطان الكهل، إذا كان مقابل هذا الدواء جرعات رهيبة من العذاب الجسدي والنفسي، أما كان أولى أن نتركه يموت بهدوء، بدلاً من حقنه بشهور أو سنوات كئيبة من العمر الشقي، فليس المهم، كمية سنوات العمر التي تحياها، إنما "نوعية" هذه السنوات، أتذكر، الكاتب والروائي الأميركي اليساري "كويستلر" صاحب رواية "ظلام في الظهيرة" المنتقدة للنظام الستاليني في ذلك الوقت، عندما علم، وهو في بداية الثمانين من العمر بأنه مصاب بمرض الزهايمر، وكذلك بالسرطان، لم يتأخر في ذلك المساء وأقنع شريكة عمره كي تشترك معه في لعبة الموت مثلما شاركته لهو الحياة، فوضع زجاجة "البراندي" بقربه مع علبة حبوب منومة، وشرع بالنزول من سلالم الدنيا، وفي الصباح وجدوه ميتاً مع زوجته التي كانت تصغره كثيراً، أنهى حياته وحياة حبيبته، ظلمها بأنانيته في قرار النهاية، ظناً منه أنه ينتقم من القدر.
لنترك الإجابة عن تساؤل ما إذا كانت هناك حكمة أو تهور وجنون في انتحار "كويستلر" وغيره من مبدعين وكتّاب، ولندع، جانباً، كتاب ازيكيل إمانويل عن أنه لا جدوى للحياة بعد 75، ونقف قليلاً عند عتبة عالم السياسة ففيها قد تمتد سنون العمر طويلاً لحكام مطلقين كقاعدة، وتقصر حياة الشباب من شعوبهم، هؤلاء الحكام الكهول ليسوا استثناء من الحتمية البيولوجية، فهم قد يعانون، ضعف التركيز، وتشتت الذهن، إلى آخر أمراض العمر المديد، حالهم من حال بقية خلق الله، لكنهم يختلفون عن الخلق، بأن لهم سلطة الحكم المطلق، رغم أمراض الزمن، هم يسيرون بعكس اتجاه تيار الدهر الجارف، وهذا ضد حتمية التقدم الإنساني، وحتمية مسار التاريخ… لندعُ الله أن يرحم مستقبل شعوب منطقتنا العربية من قوانين حتمية "البقاء للأسوأ".
عائلة داعش العريقة
"داعش" لم تنزل من السماء، هي ابنة لنا، بتعبير ذكي لأحد المغردين، لكنها ابنة غير شرعية، ولها عشرات الآباء من أم بغي تتخفى بيننا، وتتستر في بيوتنا، وفي مجتمعاتنا، وتتمدد بتاريخنا الذي لا يمكن الإفصاح بنقده، فقوانين القهر للسلطة الرسمية متمثلة بقوانين النشر والجزاء، وكذلك المحرمات والزواجر الأيديولوجية للمجتمعات العربية الإسلامية تمنع كلها هز أسس الفكر الداعشي، وبتر جذوره العميقة الضاربة في وجدان الشعوب العربية المحبطة.
من آباء "داعش"، ثقافة تاريخية تنضح بالتعصب للمذهب منذ أيام معركة صفين وإلى هذا اليوم، سماها طه حسين "الفتنة الكبرى"، لكنها ليست فتنة ولا يحزنون، بل صراع على السلطة، وعلى الشرعية الدينية، بمعنى من كان يمثل الإسلام الصحيح، والإسلام هنا الدولة، وليس الدين فقط.
هو صراع حدث قبل ألف وأربعمئة عام، ومازال يدفع أبناء الإسلام ثمنه من الدماء والرؤوس المبتورة.
ومن آباء "داعش" الغرب الاستعماري (بريطانيا وفرنسا) الذي قسم التركة العثمانية حسب معاهدة سايكس بيكو، في نهايات الحرب العالمية الأولى حسب مصالحه الاستعمارية، ولم يلتفت إلى مصالح شعوب المنطقة وقبائلها، ثم جاء الأب الأكبر الجديد، متجسداً بالعم الأميركي (الذي حرر بعضنا من بعض، مثلما حدث في تحرير الكويت، وتحرير البوسنة وكوسوفو من الداعش الصربي، في ما بعد) إلا أنه وقع، قبل ذلك حلفاً مقدساً مع أنظمة تسلطية في المنطقة العربية، لضمان استقرار تدفق النفط، واستغل حلفه معها في حربه الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وخلق فرانكشتين الأميركي والمتحالفون معه من أنظمتنا ذلك الوحش كي يبطش بالسوفيات في أفغانستان، ثم لينقلب على صانعه في 11 سبتمبر، ويعود إلى منطقتنا، وهي أرض ميلاده الخصبة، ليتناسل بعدها تحت أسماء عديدة، وبأكثر من لقب. نسميه مرة بـ"الخوارج" الجدد، أو "الفئة الضالة" و"الإرهاب"… وألقاب الإدانات والفشل في العلاج الفكري "ببلاش".
ومن آباء "داعش"، وأوحشها، الأنظمة العربية بدولها الفاشلة حضارياً، التي قمعت كل صوت مخالف ووطدت الفساد، فلم يجد البؤساء والمحرومون غير الدين والمذهب والقبيلة للتعبير عن السخط الاقتصادي والاجتماعي ضد النظام القمعي العربي الاستغلالي. ومن يتصور أن أنظمة الثورة المضادة التي ضربت الإخوان المسلمين، مثلاً، ستقمع بذور "داعش"، فهو واهم، فمن رحم تلك الأنظمة سيولد مئات "الدواعش"، فقط اقرأوا التاريخ، وكيف جاءت جماعات التكفير والهجرة وغيرها، بعد إعدام سيد قطب منتصف الستينيات من القرن الماضي، وبعد قمع الإخوان أيام الحكم الناصري.
كان هناك في ذلك الوقت، غطاء قومي، ومهما كانت قسوته إلا أنه كان ينشر بصيصاً من الأمل في أمسنا، وحين هزم وانكسر "القومي العربي" جاء "القومي الديني" ليملأ الفراغ.
آباء داعش وسلالتهم الطاعونيون يحيون معنا الآن، في منازلنا، في شوارعنا، في مدارسنا، في وسائل تعبيرنا… هم في كل مكان بقمامة التاريخ الحاضر، ولا يمكن القضاء عليهم بطائرات "الدرون" و"الفانتوم"، وإنما بالعدل في الحكم، وبالفكر الحر الناقد لكل المحرمات السياسية والاجتماعية.