إذا استمر نزول سعر النفط، وهو الأرجح، فماذا ستفعل الحكومة؟! هي تفكر بتردد في رفع الدعم عن الكهرباء، والماء، والبنزين، وغيرها من سلع وخدمات، وستجد نفسها يوماً ما بحالة عجز جزئي عن توظيف المزيد من القادمين لسوق العمل، وهي الآن بالكاد توفر رواتب العاملين الحاليين ومعاشات المتقاعدين، أما القطاع الخاص عندنا فهو مضحك، ويرتزق من نفقة القطاع العام، ويتبعه وجوداً وعدماً، ولا يمكن المراهنة عليه للتوظيف… وخلق روح الجدية وتقديس العمل المنتج في نفوس الكثير من المواطنين لن يكون سهلاً بعد عقود من التواكل على عمل الغير والتسيب في الأداء، بسبب المحسوبيات في التوظيف والارتقاء في المنصب العام… فساد إداري عم معظم أجهزة الدولة من غير استثناء.
كل الأمور السابقة هي مسائل يمكن تصورها إذا استمرت حالة العطالة في سوق النفط، لكن أسهل على الحكومة (أو السلطة بكلام أدق) اختيار طريق أسهل من الناحية الأمنية حتى لا يشعر المواطنون بوطأة الحالة الاقتصادية بصورة خطيرة، الطريق الأسهل، في العقيدة السلطوية، أن تبقي الحكومة على سياسة "التسكيت" أو الاسترضاء بالمنح المالية والهبات للناس، بيدها اليمين، وعصا القمع بيدها اليسار… بكلام آخر، لن تغير شيئاً على المواطنين، غير الزيادة في رداءة الخدمات بحجة عدم كفاية بنود الميزانية، وحتى تفعل ذلك، أي تبقي الأمور على حالها، وتتجنب مخاطرة التظاهرات والمسيرات، لأن "السكين وصل العظم" ليس عند أرباب السلطة، مثلما صور الأمر الشيخ محمد العبدالله، وإنما السكين وصل عظام الناس العاديين، عندها ستبدأ السلطة "بتكييش" استثماراتها الخارجية وصناديقها السيادية، إن لم تكن فعلت ذلك مسبقاً، وإن كان حجم أصول هذه الاستثمارات والصناديق غير معروف على وجه الدقة، ومن المؤكد أن الكثير من الخسائر أصابتها في الماضي لغياب الرقابة الفعالة عليها، وهيمنة أفراد قلائل من حزب "حاضر طال عمرك" عليها. فنحن نتذكر، جيداً، على سبيل المثال، قضايا استثمارات إسبانيا أيام الاحتلال، وكيف تمت سرقات كبرى قيدت ضد مجهول حينها، كما أن هذه "المصادر الخارجية للدخل، أي الاستثمارات، وفرت للعديد من المهيمنين النافذين في الحكم أداة شراء ذمم لسياسيين ومشرعين، واغتناء غير مشروع وحكاياتها قريبة من الذاكرة، إلا أن تلك الاستثمارات ظلت الرافد الثاني للدخل العام، وغير برميل النفط وصناديق الاستثمار، "سلامتكم ما كو شي" بجيب الدولة، وحين يتم "التكييش" لأموال الدولة، ماذا يبقى، لنا (وليس الأجيال القادمة كما نردد، فقد نسيت هذه تماماً) من أعمارنا وعمر الدولة…؟!
كارثة إن ظلت السلطة، تفكر، وتسير، بطريقتها القديمة ذاتها، وهي لن يمكنها تغيير نهجها، ما لم يتغير البشر الذين يحركون دفتها، لتصارح الناس بحقيقة أوضاعنا اليوم، ولتوعيهم بخطر الحال، وتخبرهم أن أيام البندروسا ولت من غير رجعة، ولتفتح أبواب التغيير وتقطع دابر الفساد والمحسوبيات في أجهزة الدولة المترهلة، بمشاركة سياسية حقيقية، وهذه المشاركة ليست ضامناً لخلق دولة الحداثة والحصافة والقانون أو توثق نهاية عمر الفساد، فالأخير، سيظل باقياً طالما ظلت دولة الريع باقية، لكن تلك المشاركة، في أسوأ حال، ستضمن أن الناس أحرار في اختيار مصيرهم، ويتحملون نتائج قراراتهم.
التصنيف: حسن العيسى
ماذا نفعل؟.. نلطم!
مضى 19 عاماً بالضبط (عدد أكتوبر نوفمبر 1995) على نشر الباحث الأميركي فاهان زانويان مقالة في دورية "فورن أفيرز" بعنوان "ما بعد بحبوحة النفط، الإجازة تنتهي في الخليج".
عند الكاتب هي إجازة الاقتصاد للدول الخليجية المفترض نهايتها بعد تدهور أسعار النفط في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فالخطر على المصالح الأميركية في ذلك الوقت لم يكن بقاء صدام في السلطة، ولم يكن هذا الخطر متصوراً في إيران، بل كان متحققاً في التآكل الاقتصادي وجمود المؤسسات السياسية لدول المنطقة.
ففي دولنا، تمثلت الإجازة من الاقتصاد في غياب ضبط الميزانيات العامة، وتحديد أولويات الإنفاق العام، إضافة إلى ذلك كانت الصور الفذة لهذه الإجازة قد تجلت في ضخامة الكعكة المالية التي أصاب خيرها الكثيرين.
تلك الإجازة تأصلت على قانون الدخل الريعي، أي دخل الدولة القائم على استخلاص ثروة طبيعية (النفط) من دون جهد إنساني مقابل، مثل ريع صاحب العمارة الذي ينتظر الأجرة من المستأجرين كل شهر، دون عمل وجهد حقيقيين.
هذه الحالة الريعية تأصلت في سبعينيات القرن الماضي، بعد طفرة أسعار النفط، وتحققت أشكالها في اقتصادات دول المنطقة، حين بنت المستشفيات والمدارس والطرق، والكثير من البنى التحتية، دون أن يرافق ذلك تغيير حقيقي للبنية الاقتصادية والسياسية.
كان الوضع العام ممثلاً في أسر حاكمة وعائلات ثرية لها امتيازات خاصة في الدخل، والآن (الحديث مازال عن أزمة أسعار النفط عام 95) الإشكالية، في ذلك الوقت هي كيف يمكن للحكومات والقطاع الخاص (وهو قطاع توريثي) وللكثيرين المستفيدين من إجازة الاقتصاد، خفض ميزانية الإنفاق العام دون المساس بمصالحهم، وتحقيق بعض الإصلاحات السياسية؟
فأولويات دول المنطقة انحصرت في الأمن ولا شيء غير الأمن، وهناك قناعة عند الإدارة الأميركية (تذكروا هذا الحديث كان قبل 20 سنة تقريباً) أن أي إخلال في أمن الأنظمة سيوفر للجماعات المتطرفة الدينية منفذاً للهيمنة على الحكم.
الآن، بعد مضي 19 عاماً من المقال الفذ لـ "فاهان" أسأل: ماذا تغيّر علينا، وماذا تعلمت الكويت، تحديداً، من تجربة منتصف التسعينيات؟!
وما بين الأمس واليوم، ماذا صنعت الإدارة السياسية لإصلاح نفسها وإصلاح مرض الإجازة الممتدة، التي أصابت الديرة بالشلل ومرض النوم والتسويف في الإنجاز والاتكال على عمل الغير، غير إبر المخدر التي كان تضخ في عروق الدولة عبر الهبات والكوادر المالية والامتيازات للبعض، مقابل صمت الناس عن هدر وفساد ماليين متأصلين في الإدارة السياسية للدولة؟! لا شيء قُدّم!
ما هي أولويات السلطة، وهي تواجه الآن هذا التحدي الكبير في تدهور سعر النفط؟!
اكتب المقال الآن، وأمامي مانشيت جريدة "الجريدة" بعنوان "الاتفاقية الأمنية أولوية حكومية"..!!
ماذا نفعل… نلطم؟! مساكين أطفالنا…
هويات للبيع
الأوطان ليست سلعاً تباع وتشترى في الأسواق، والمال لا تشترى به الولاءات الوطنية، وإن كان من الممكن أن يكسب به الجماعات الانتهازية والاستغلالية، التي كما تم شراؤها بالمال ستبيع الأوطان في أي لحظة حين تتضاءل مقابل الانتفاع المادي، واليوم بعد أن أصبحت قضايا الفساد المالي وحكايات المافيا تجثم على الصدر الكويتي، أضحت الثقافة النفعية الانتهازية هي المهيمنة في عوالم الرشا والمحسوبيات في «ديرة من سبق لبق». على ذلك لم تكن مفاجأة أن يعلن بالأمس الشيخ مازن الجراح عن المشروع المادي لشراء وطن للبدون الكويتيين، في جزر القمر.
البضاعة المعروضة هي هذه الدولة التي يمكن شراء جنسيتها، ولا يهم الولاء لهذه الأوطان المعدمة، يكفيها أن يعرض عليها العوض المادي، لتسبغ جنسية المواطنة على من تريد دول الأثرياء الكويتية نبذهم والتخلص من همهم، وكأنهم هم الذين خلقوا قضيتهم، وهم الذين دلسوا واقعهم كبدون.
جناسي جزر القمر المعروضة الآن في بورصة السياسة الكويتية، وما أكثر ما يتم إشغال الناس هنا بين كل يوم وآخر بمثل تلك «الترهات» السياسية، لا تختلف في حقيقتها عن المشروع الرسمي السابق للسلطة «المحتاسة» بالبدون في التسعينيات للحصول على جناسي أي دولة في أسواق الوطنيات المختلقة، وحين حصل عدد من البدون على تلك الجناسي بالشراء، وبغرض استقرار أوضاعهم المهددة، تبين أن تلك الجناسي مزورة، وأنهم كانوا ضحية ذلك التزوير بالأمس، واليوم أصبح أبناؤهم ضحايا الحرمان من التعليم، ولا عوض لهم غير تصريحات رئيس الجهاز المركزي للمقيمين بصورة غير قانونية عن أريحية الدولة معهم حين تكفلت بمقابل التعليم وبشرط شهادة ميلاد رسمية… وبشرط شهادة بدون مختلفة الألوان، وبشروط إذلال تعجيزية ليس لها نهاية… مشروع جناسي جزر القمر، الذي ستوفر الدولة ثمنه من «المال العام»، يدفع لمؤسسة أو شركة ما، التي ستكون الوسيط بين مشروع المواطنة للبدون ودولة جزر القمر بمقابل استثماري معلوم يقبضه سمسار الشركة، لا يعني، كما يصرح المسؤولون في الدولة، حرمان البدون من ميزات الإقامة أو بعض المزايا الأخرى التي «تكرمت» بها عليهم، بل ستظل باقية، ولكن، في آخر الأمر، يصبح وضع البدون، قابلاً للتصدير للغير، ويصبح البدون قابلين للإبعاد… وبهذه الصفقة الخائبة تنتهي الدولة من وضع البدون المعلق، وتستحق عندها أن يقال عنها مركز إنساني مرة أخرى، فلا بدون، ولا يحزنون، وكل أمر له ثمن وقابل للبيع من الهويات الوطنية حتى المراكز الإنسانية.
حكاية بينوشيه
الأمم الحية تتعلم من التاريخ ومن تجاربها ومحنها وتجارب غيرها، وهو ما يؤكده فوكوياما في كتابه "النظام السياسي والتآكل السياسي من الثورة الصناعية إلى اليوم" (ترجمتي للعنوان).
ففي الولايات المتحدة، انغمس بعض قادتها في المزايدات السياسية للشعبويين، وهذا يعني المحاباة والميل لأصحاب النفوذ والأصوات الانتخابية، وسلك السياسيون نظام "الزبائنية" ـ أي علاقة الارتباط النفعية بين السياسي والناخب ـ في إدارة الدولة، لكن هذا لم يستمر طويلاً، فقتل الرئيس غارفيلد عام 1880 من قِبل معتوه كان هزة سياسية لبداية مشوار الإصلاح.
وهذا الإصلاح وإنهاء الفساد لم يكونا يحدثان لولا ثقافة وإخلاص السياسيين لدولهم، مثال ذلك الرئيس تي. دي. روزفلت، خريج هارفارد، وهنا يورد الباحث ملاحظة أن محاربة الفساد وحدها لا تكفي لصناعة الأمم، فلابد من توافر عنصر "الشطارة" و"الحرفنة" عند الإداري، فما فائدة أن يتولى الأمور الإدارية شخص نزيه، ولكنه جاهل ولا يعرف "فك الخط"؟!
فبناء دولة الإصلاح وإحلال "نظام الجدارة" بدلاً من نظام الزبائنية في تولي المنصب العام لا يتم من غير أشخاص مخلصين وحذقين بمهاراتهم وعلومهم، إضافة إلى صدقهم وولائهم لوطنهم.
لنتوقف هنا، حين يثور الكلام عن أي الطريقين أفضل لتقدُّم الدولة، هل يكون بهيمنة الحكومة على الخدمات العامة، أم تترك الإدارة للقطاع الخاص؟!
الإجابة، ليست هذا أو ذاك، فأحياناً إدارة الحكومة قد تكون أنجح من القطاع الخاص، وأحياناً العكس، ويضرب الباحث مثالين على نجاح الإدارة الحكومية في هيئة الزراعة والغابات أولاً، ثم الصفقة الكبرى، ثانياً (أو الجديدة مع فرانكلين روزفلت عام 1930). في الأولى، أي إدارة الزراعة والغابات، ترأسها قائد اسمه كيفورد بينوشيه، كان هذا ابن عز، وإذا لم تكن أميركا تعرف الارستقراطية مثل أوروبا، إلا أنه يمكن – تجاوزاً – عد بينوشيه كأرستقراطي أميركي من الدرجة الأولى، فهذا، أنهى دراسته من جامعة "اكزتر" ثم "ييل"، وحين وصل إلى منصبه فتح أبواب الإدارة للعلماء والباحثين المتخرجين في الجامعات الكبيرة، وشرع في فصل الإدارة عن الطموحات السياسية للقادة السياسيين، وسانده صديقه الرئيس روزفلت، فهذا الرئيس لم يتركه بينوشيه وحده في معركة الإصلاح، ورغم ذلك، لم يتوقف هجوم السياسيين الشعبويين عليه، واتهموه بالولد المدلل الذي ولد وملعقة الذهب في فمه، كل هذا لم يفتّ في عضده، حين جعل هذه الإدارة من أفضل الإدارات الحكومية كفاءة، ومثلها إدارات أخرى تمثّل النجاح الحكومي.
خذوا مثالاً آخر يخالف السابق يتحدث عن فشل الإدارة الحكومية، فخدمة السكك الحديدية كان يتولاها القطاع الخاص في أميركا، ورأت الإدارة الأميركية عام 1971 استملاكها لوقف احتكار الشركات للخدمة، وكانت النتيجة لملكية الدولة لشركة "أماتراك" كارثية، بينما للمفارقة، ظلت خدمة السكك الحديدية في أوروبا بإدارة الدولة، وهي تقدم أفضل خدمة يمكن تصورها!
بالمناسبة، وبين قوسين، هل تتذكرون، الآن، "حيص بيص" مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية"؟!
لا أفاضل هنا بين إدارة "العام" أو "الخاص"، بل الغرض هو تسليط بقعة الضوء على معيار النزاهة والجدارة في اختيار الأشخاص لإدارة خدمة المرفق العام.
مثال العملاق بينوشيه ذكّرني بقضايا الاتهامات لهيئة الزراعة بشأن توزيع الأراضي الزراعية في كبد، في الأول، ثم الوفرة في ما بعد، وبأنها خصصت المساحات الشاسعة من هذه المزارع، لجماعات "تقبيل الكتف وأذنك وخشمك"، ومازلنا ننتظر نتائج لجنة التحقيق فيها، إذا لم ينسها الناس حالها من حال "بلاوي" كثيرة طويت لجانها وتحقيقاتها في صفحات النسيان واللامبالاة، ويا ليتها كانت فقط تلك الهيئة، هي الدولة برمتها التي لم ولن تعرف حكاية بينوشيه، ولا تاريخ وتجارب دروس غيرها من الأمم، فمن يقرأ ومن يتعلم؟! ألف حسافة!
كاسندرا قارئة فنجان مستقبل الدولة
أسعار النفط تتهاوى يوماً بعد يوم، ويعني هذا ببساطة تناقص مورد الدولة شبه الوحيد، وإذا جلسنا مكان "كاسندرا" قارئة المستقبل المجهول في الأساطير اليونانية، فماذا يمكن أن تفعل السلطة، وما الافتراضات التي يمكن تصورها أمام أكبر تحد اقتصادي تواجهه الدولة اليوم؟ يمكن، بداية أن نفترض أن السلطة ستقتنع أن الأزمات التي تعصف بالدول هي فرصة لتصحيح الإدارة السياسية والمالية، فتشرع في غربلة جهازها الإداري العاطل والفاسد، وتتخلص من قيادات رديئة، كانت شهاداتها التعيسة هي المعارف والواسطة، والمحسوبية، والتزلف. بكلام آخر، هنا تبادر السلطة السياسة بإنهاء حالة "الزبائنية" clientelism في الدولة، وهي العلاقة التبادلية بين الزبون طالب المنصب، ورجل السلطة الذي يوظف ويعين هذا الزبون أو يفضله في بلع ثروة الدولة، تحقيقاً لمصلحة سياسية استغلالية، وهي أبشع صور الفساد، ونسميها، أحياناً، المحسوبية والواسطة.
حين تضع السلطة الشخص المناسب في المكان المناسب، وتشرع في القضاء على الفساد الإداري، الذي يستتبع تقليل فرص الفساد المالي، عندها، وتحت ظلال المساواة حين تتساوى الفرص العادلة، وتحت مبدأ سيادة القانون الذي لا يعرف المحسوبيات الاستثنائية ولا من "صادها بالأول عشى عياله" يمكن للمواطنين، أن يرضوا بالتضحيات المادية حين تطالبهم السلطة الحاكمة بها لظروف الدولة المالية الصعبة، لأنهم "يثقون" بسلطتهم وحكومتهم، والثقة هي مفتاح الخروج من الأزمات وصلاح الدولة، وحتى تتأكد هذه الثقة يجب على السلطة فتح أبواب المشاركة السياسية الصحيحة كي تستقوي بها، هذه المشاركة الحقيقية لا تعني فتح أبواب الواسطة والمحسوبيات من جديد عن طريق النواب، لأن السلطة التنفيذية إذا سارت على الطريق الصحيح فلن تخشى تهديدات نواب بالاستجوابات الانتهازية عند الذين وصلوا إلى النيابة عبر بوابة "الزبائنية"، فهي (السلطة الحاكمة)، يفترض أنها تطبق القانون بعدل، والنواب يفترض أنهم وصلوا لخدمة الأمة لا لقبيلتهم أو طائفتهم أو جماعتهم التي يدورون في فلكها، فالوعي السياسي بالمستقبل لن ينزل من السماء فجأة، بل يحتاج إلى وقت ومثابرة وتضحية من الكبار قبل الصغار.
والحل الآخر، أن تبقى السلطة على "طمام المرحوم"، وهذا مثل كويتي رائع يعبر تماماً عن واقعنا، فالسلطة هنا، لا تريد وجع الرأس، وتستصعب طرق درب الإصلاح الطويل وما يتطلبه من تضحية، وتقنع نفسها أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، هنا السلطة، لن تنبش أعشاش الفساد المستوطنة في عظم الدولة، بل تفضل الحلول الترقيعية المؤقتة، مثل الذي يعالج السرطان بأقراص الإسبرين، فهي تخشى أن تفقد "شعبويتها" المريضة، وتؤثر، حينها، سياسة الاسترضاء السياسي مهما ارتفع ثمنه، لأن الإصلاح الحقيقي يتطلب تضحيات كبيرة، وقبل هذه التضحيات يتطلب "رؤية" ثاقبة للمستقبل، وكفاءة عند أصحاب القرار، وهذا غير متوافر حالياً، والنتيجة، هي "ترهيم" الوضع المالي الصعب للدولة بالاقتراض، ولو برهن الأرض، لا قدر الله…
يبقى أن نتخيل احتمال درب ثالث يمكن أن تسلكه السلطة، كأن ترفع الدعم عن الخدمات العامة، وتقلص فرص العمل بالوظيفة العامة، وتتبع وصفات صندوق النقد الدولي بحذافيرها دون أي تغيير سياسي يرافق كل هذا، فهنا لن يكون أمامها غير إنهاء شبه حالة "الاستثناء الكويتية" في المنطقة العربية، وتصير حالها من حال غيرها، حين تشد الحزام على الناس وتتركه رخواً على جماعتها، عندها ستعلو أصوات المعارضة، وتتجذر بالمسيرات والتظاهرات، إزاء ذلك، ستشتد سياسة القمع أكثر مما هي عليه، وستدخل الدولة نفق المجهول المخيف… فأين تنتهي نبوءة "كاسندرا"!
مريم وُلدت ومثّلت وماتت
ما أكثر ما شاهدت في الشاشتين الكبيرة أو الصغيرة، مريم فخر الدين مستلقية على الفراش، ترتدي قميص نوم أبيض، أو هكذا كنت أتخيله، فلم تكن هناك سينما بالألوان- تسيل دموعها وهي تسمع من الراديو الملاصق للسرير أغنية عتاب أو أسى حزينة، أو كلمات طرب ودعوة إلى الصفح من الحبيب.
والأرجح، وفي العادة، يكون هذا الحبيب فريد الأطرش، دموع مريم حزينة، حانقة، على رحيل العاشق الذي غدر بها – كما تتصور، أو أجبر على البعد عنها من دون علم منها، بينما الحقيقة التي حبكها المخرج، تقول إن البطل العاشق قد ضحى من أجلها، تضحية ليس لها معنى في قواميس العشق، إلا أنها تحمل كل معاني السمو العذرية في خيال الحرمان العربي، كانت تلك فترة الرومانسيات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهي لحظات الزمن الجميل في عمر القومية العربية الناهضة والكبرياء، تضج بخطب عبدالناصر المثيرة بين كل فترة وأخرى، تستنهض الحماسة والفخر في وجداننا، في زمن لم تكن الحريات السياسية ناضجة في عقولنا الصغيرة، لم نكن نعرفها.
كان يكفينا في ذلك الزمن القليل من الرضا بحماسة قوميتنا وبحرياتنا الاجتماعية النسبية، ونكتفي ونسعد بمسلسل ألف ليلة وليلة من إذاعة صوت العرب، أو القاهرة – لست متأكداً- كانت حكاية من شهرزاد تبدأ هكذا "بلغني أيها الملك السعيد… "، تسعدنا بمثل ما أسعدت الطاغية شهريار، حين انتشى بخمر حكايات الجن والعفاريت والجنس.
لم يعد أحد يعرف اليوم حكايات شهرزاد، وإن ظلت أوهام العفاريت وأحلام الجن معششة ومستبطنة في اللاوعي العربي، ويجاورها صامداً قوياً "شهريارات" زمننا، لا تهزهم رياح الربيع ولا الخريف ولا الشتاء، ظلوا صامدين جبارين أمام عواصف التغيير، ولو نُحرت شهرزاد العربية مئات المرات بقوانين وأعراف شهريارات المجتمع اليوم.
رقبة مريم العاجية تحمل ذلك الرأس الجميل والشعر الأحمر (أيضاً أتخيله هكذا في أفلام الأبيض والأسود) تحدق ساهمة في عيون عبدالحليم حافظ، وهما يجلسان على رصيف بشاطئ النيل يغني لها، "قولوله الحقيقة" في فيلم حكاية حب، وقفت طويلاً مع والدتي كي نشتري تذاكر بسينما "الحمرا" عام 1959 أو 1960 لأجل حليمو ومريم، طوابير طويلة امتدت عند سينما الحمرا والفردوس لمشاهدة فيلم العندليب والشقراء… وما أسرع طيش أحمد (عبدالحليم) حين وقع في غرامها من "أول دقيقة"، الحب لا يعرف حكمة "العجلة من الشيطان"، فالحرمان يلقي بأصحابه في وديان "العشق من أول نظرة" العميقة و"هيامات" العذاب اللذيذ من أجل المحبوب، كان يمكن تجنب العذاب، إلا أن الأحبة الشرقيين لا يفعلون، "مازوخية" أو عشق تعذيب الذات كي يبدع الشاعر في شعره والمطرب في فنه، قال من هذا د. صادق جلال العظم، الكثير في كتاب "في الحب والحب العذري"، فلا حاجة كي أعيد.
أتذكر عيون مريم الخضراء (أكرر أتخيلها) والفم الصغير وجسدها الباسق، وكل جميل فيها، وأتأمل الآن صورتها بعد أن قذف بها الزمن إلى الحاضر، كل سنة مرت من عمرها حفرت أخدوداً في وجهها الصافي، وترهلاً بالجلد، ووهناً بالنشاط، وضياعاً بالذاكرة، وقرباً بصاحبتها من نهاية الوجود.
أين ذهب ذلك الوجه وذلك الجسد؟ دفنهما وقبر صاحبتهما الزمن كما سيقبرنا يوماً ما.
كتب مارتن هايدغر "أرسطو ولد وكتب ومات"، وأقول "مريم ولدت ومثّلت وماتت"، وهكذا نحن مع عبثية الحياة.
«اللي فينا كافينا»
عبارة يجب أن يسمعها أعضاء مجلس التابعين الحكومي، بعد أن قرأنا أخبار حماسة 33 عضواً لإقرار الاتفاقية الأمنية بين دول الخليج، العبارة هي «اللي فينا كافينا»، يكفي علينا قلقنا الكبير من تهاوي أسعار النفط وعلى رقابنا سلطة كانت «محتاسة» وغارقة عندما كانت أسعار النفط فوق المئة دولار، والآن تواجه أكبر أزمة اقتصادية بالفكر الساذج ذاته، ويكفي علينا: غرقنا في أخبار «توتر» عن مشاريع تثمينات بأرقام فلكية، في الوقت الذي يختنق اقتصاد الدولة مع حكومة مازالت تردد أسطوانة «يجب أن نشد الحزام… ويجب أن نرشد الإنفاق، ويجب اتباع وصفات صندوق النقد الدولي»…! تهنا معها ومع خصبصة ضياعها الإداري والمالي، ويكفي علينا مشاكل ليس لها أول ولا آخر من مرور خانق وأزمة سكن وأسعار أراض جنونية، إلى تردي الخدمة الصحية، إلى تدهور التعليم من روضة إلى جامعات «الفالصو»، وإقرار شهاداتها تنفيذاً لضغوط نواب مجالس الهم والغم، يكفي علينا همومنا الكبيرة التي ما كان يجب أن تتراكم على بلد في مثل حالتنا، حين كانت كل ظروف الداخل والخارج تقدم أفضل الفرص للتقدم والتنمية وارتقاء البشر، فضيعتها الإدارات السياسية المتعاقبة، وهي «شكلاً» متغيرة ومتعاقبة لكن جوهرها واحد ويا خسارة، ويكفي علينا التضييق المتزايد يوماً بعد يوم على حريات الضمير، ولا يجد الشباب المهموم بقضايا الوطن من يلجأ إليه لإنصافه.
يكفي علينا الكثير والكثير من «حوسة» هذا الوقت الأغبر، ولا تنقصنا هذه الهرولة المزايدة لإقرار الاتفاقية الأمنية الخليجية… أي أمن يتحدث عنه نواب المرايا العاكسة للحكومة في الخليج و»المخاطر الخارجية»، كما يروج في وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية؟! اذ لا توجد دولة خليجية واحدة ليس لها خلاف حدودي مع جارتها، اعطوني يا حضرات النواب مثالاً واحداً عن حدود مستقرة ومعترف بها بين دولتين جارتين من دول المجلس حتى نهلل معكم للاتفاقية، أخبروا قواعدكم الذين صوتوا لكم عن المادة السادسة من الاتفاقية التي تنص على عبارة مثل «… الجريمة المنظمة عبر الوطنية المستجدة»، ماذا تعني تلك العبارة؟ وأي فقيه هو «فلتة زمانه» يمكن أن يرشدنا لمعاني كلمات مثل «المنظمة، عبر الوطنية، مستجدة»!! قولوا لنا، مثلاً، إن المقصود بها ملاحقة جرائم الرأي والتجمعات السلمية الناقدة لأنظمة الحكم…! ماذا نفهم من تلك الكلمات غير المزيد من القمع واللكمات؟
بأضعف الإيمان شاهدوا لقاء رئيس مجلس الأمة السابق أحمد السعدون مع الزميل محمد الوشيحي في برنامج تلفزيوني حر وجريء تم قبره ووئدت معه القناة التلفزيونية التي كانت تبثه تحقيقاً لحرية الرأي بدولة الحريات، وماذا قال أحمد السعدون عن الاتفاقية وتاريخها؟ وكيف تم تعديلها للأسوأ من قبل الدول الموقعة عليها؟
يكفينا اللي فينا يا نواب 33، آخر ما ينقصنا اليوم… هو حصافتكم حين تمثلون هذه الأمة المغتمة بكم.
قضاة شرّفوا كراسيهم
القضاء، هو المعقل الأول والأخير لحماية حقوق الأفراد وقطع دابر الفساد متى استشرى في السلطتين التشريعية والتنفيذية والإدارات البيروقراطية بالدولة، وهو الحكم المحايد حين يوازن بين السلطتين، ويضمن عدم تجاوز أي منهما لسلطانه، ويضع بالتالي الحدود الفاصلة لتلك السلطات.
تاريخياً، كان ينظر للقضاء على أنه امتداد للسلطة التنفيذية، ومع التطور الحضاري وبتأثير من فلاسفة ومفكرين من أمثال مونتسكيو تقدمت نظرية الفصل بين السلطات، لضمان استقلال كل سلطة من سلطات الدولة الثلاث عن الأخرى، وتطور القضاء ليصبح مستقلاً، لكن حتى مع مبدأ استقلاله، تظل السلطة القضائية هي الأضعف بين السلطات الثلاث، فهي «لا تملك سيفاً ولا محفظة»، بتعبير هاملتون، وهو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.
إلا أن فكر وثقافة ووطنية الأشخاص، وليس مجرد النصوص، العاملين في الجهاز القضائي تظل هي الضامن للعدل وحكم القانون، والتي – بالتالي – تزرع القوة والسلطان في هذه السلطة. القاضي مارشال، رئيس المحكمة العليا الأميركية وضع عام 1803 سلطة الرقابة الدستورية على قوانين الكونغرس في الحكم الشهير بقضية «ميرفي ضد ماديسون»، وتطور قضاء المحكمة العليا، ليضع في ما بعد مبادئ تحرم التمييز العنصري ضد السود، ثم بعد ذلك منع الفصل في التعليم بينهم، وتمضي تلك المحكمة في أحكام عديدة كرست وطورت من خلالها «الفهم» المعاصر لنصوص الدستور الأميركي، بما يتواءم مع تطور الزمن.
أما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فقد وضعت قيوداً على الدول الأوروبية الموقّعة على ميثاق المحكمة، من هذه القيود المتمثلة ضد قرارات أو قوانين تلك الدول، مثلاً قيد حق الدولة الفرنسية بالنسبة إلى المهاجرين المسلمين، وآخر ضد أيرلندا في موضوع الإجهاض، وضد بريطانيا في موضوع الشواذ الجنسيين. وهكذا مضت أحكام تلك المحكمة في تكريس مفاهيم الحريات، ولم تحد من سلطانها في أحكامها مسائل سيادة الدولة ونظرية «أعمال السيادة» التي تتحجج بها الدول السلطوية لقمع حريات البشر وانتهاك أبسط حقوقهم، بحجة تلك السيادة المزعومة التي هي بكلام آخر، سيادة القوي على الضعيف، لا أكثر.
في إيطاليا، وهي من الدول المتقدمة، إلا أنها ابتليت بالمافيا وفساد السياسيين، إلا أن المفكر فوكوياما في كتابه «النظام السياسي والتآكل السياسي» – والذي سأعود إليه في مقالات لاحقة – لاحظ أن حركة الرفض للسلطة اليسارية في أوروبا في منتصف الستينيات (ما يسمى ثورة الطلبة) تركت بصماتها على المحامين الشباب من المثاليين اليساريين، الذين أضحوا في المناصب القضائية في الثمانينيات، وأخذوا في ملاحقة قضايا الفساد السياسي بالدولة، وتصدوا لغول المافيا الخطير بأحكام شجاعة، مثل القاضي جوفاني فالكون، الذي لاحق المافيا والفساد السياسي، ودفع الثمن الغالي حين قتلت زوجته وحرسه عام 1992.
وتضاعفت حماسة هؤلاء القضاة لصد موجات الفساد في الدولة، بعد مقتل رئيس البوليس هناك «البيرتو شيسيل»، وتمضي حركة تنظيف الدولة من الفساد، وبدعم من الرأي العام بقيادة هؤلاء القضاة لتزيح رئيس الوزراء «أندريوتي» ومعه الحزب الديمقراطي المسيحي بعيداً عن السلطة.
وقبل فترة قريبة، قرأنا في عناوين الصحف عن رئيس الوزراء السابق «بيرلسكوني» الذي حكم عليه بالسجن بتهمة التهرب من الضرائب واستغلال النفوذ، ويخفف الحكم لكبر سنه، بالعمل لخدمة المجتمع في أي عمل متواضع.
ورأيناه وهو المليونير العجوز و«بلاي بوي» الشهير، ولم يشفع له مركزه ولا ملايينه ولا ملكيته لأكبر وسائل الإعلام في إيطاليا.
كان هناك قضاة آمنوا بالعدل والإنصاف والحرية لمواطنيهم، فهم لم ينساقوا لمغريات السلطة الحاكمة، ولم يخشوا بطشها، ولم يكن القانون عندهم نصوصاً عامة مجردة، بل كان قضية إيمان ثابت بالحق لا أكثر.
بلد الإنسانية أو ماذا؟!
الذي فهمته عن مأساة الأطفال البدون المحرومين من التعليم من مقالات الزملاء الإنسانيين أن أهل هؤلاء الأطفال غير مسجلين في الجهاز المركزي للمقيمين بصورة غير قانونية، أو أنهم لم يجددوا بطاقاتهم، وبالتالي لم تصدر للأطفال شهادات ميلاد، وكما كتبت بصدق ابتهال الخطيب، لا تقبل نيابة الأنساب دعاوى الأهل لأنهم لا يحملون بطاقة صالحة من الجهاز المركزي… "حوسة"، وعذاب، وبهدلة، وانتهاك كرامة البدون، وكأنهم بدون هوية إنسانية وليس بدون هوية كويتية، حين تم حذفهم وتقفيزهم من جهاز بيروقراطي لآخر، ومن دائرة إلى أخرى، والنتيجة واحدة، هي الرفض، فلا حلم بسيطاً بتعليم أيتام قانون الجنسية، ولا أمل لإطفالهم بحق إنساني بالتعلم.
المطالبات بأوراق إثباتات وشهادات من الجهات الرسمية تأتي هنا ليس بمعنى تنفيذ القانون، وإنما كعقوبة وأداة ابتزاز على الأهل من السلطات، حاملة عصا الترويع، كي يقدموا جناسيهم (أو جوازاتهم الأصلية)، ولا يدعون بالتالي أنهم بدون، في حين، كما أخبرتني زميلة، أن عدداً من هؤلاء الأهالي، وجدوا أنفسهم في ورطة الوعود الحكومية في زمن مضى، حين وعدتهم السلطات بإقامة وعمل بمجرد أن يقدموا وثيقة سفر صالحة من أي دولة كانت، فاشتروا جوازات سفر من دول "أي كلام" كي يستوفوا شروط الإقامة، وتبين في ما بعد أنها جوازات مزورة، هم ضحايا لم يزوروا تلك الجوازات، وإنما هرولوا لها، كي يغلقوا أبواب الاشتراطات الرسمية، التي تتبدل وتتغير، كل يوم حسب حصافة المسؤولين، وكي يستقر بهم الحال، فهم مقتنعون بأنهم من أهل البلد، وأن ليس لهم وطن آخر، ولو كان لهم مثل هذا الوطن لما وضعوا رقابهم تحت مقصلة الجهاز المركزي.
أياً كانت عليه الأمور، فإن القدر المتيقن اليوم أن من يدفع الثمن أطفال أبرياء، لم تشفع لهم طفولتهم ولا دموع أهلهم الساخنة، هؤلاء الأطفال ولدوا بالكويت، وأهلهم لا ينتسبون لمكان آخر، وبإمكان الدولة الاكتفاء ببلاغ الولادة، كما كانت عليه الأمور سابقاً، كم أتمنى، اليوم، على وزير التربية الجديد د. بدر العيسى إنهاء عذاب أهالي البدون، وأن يبشر أطفالهم بحلم الإنسانية بالتعليم، أليست هذه بلد الإنسانية؟! "ولا هو كلام جرايد بس…".
ليتها وقفت عند رواتب القياديين
يضرب فوكوياما في كتابه الأخير "النظام السياسي والتآكل السياسي" مثلاً عن الفساد وعجز الحكومات عن مكافحته من إندونيسيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حين فشلت الحكومة هناك في وضع حد لجريمة الرشوة التي انتشرت في إدارة استيفاء رسوم الدولة من الواردات الخارجية، واضطرت الحكومة عندئذ للتعاقد مع شركة سويسرية لاستيفاء رسوم الدولة المقررة.
ويعطينا الكاتب مثالاً آخر عن الهند حين أظهرت دراسة أن 48 في المئة من المدرسات في القرى الهندية النائية يقبضن الرواتب الحكومية من غير دوام، تلك أمثلة بسيطة، تذكرتها وأنا أقرأ خبر تقرير ديوان المحاسبة عن قياديين في الحكومة يقبضون رواتبهم رغم انتهاء مدة مراسيم التكليف، يعني الجماعة يحيون في ربيع دائم على مدار العام، لكن من الظلم إدانة هؤلاء القياديين فقط، فهم في النهاية "غيض من فيض" بدولة "أكبر حكومة في العالم"، وهي حكومة الكويت مثلما ورد في تقرير الشال.
واستمعت مرة إلى أستاذة ذات ضمير تدرّس في معهد "عالي" وهي تقول، إنها تشاهد يومياً معيدات في قسمها، يأتين في الصباح ويضربن كرت الدوام ويخرجن وماكينات سياراتهن تعمل، ثم يعدن قبل نهاية الدوام قبل الساعة الثانية ظهراً، ليضربن كرت نهاية الدوام، ثم يعدن مرة أخرى للدوام المسائي ويداومن لقبض زيادة الإضافي. بكلام آخر، هن يقبضن الرواتب كاملة دون عمل، وكرّسن واقعاً كاذباً بنقص أعضاء هيئة التدريس ليقبضن من الإضافي! عيب عليهن وعيب على هذه الشاكلة من وزارات النوم العميق.
مثل تلك الحكايات السابقة، يصبح أمرها شأناً عادياً مقبولاً لدرجة كبيرة بثقافة "هذا سيفوه وهذي خلاجينه" السائدة بالدولة فلا محاسبة ولا رقابة، ولو فُرِض أن الحكومة- مجرد فرض- تريد مكافحة مثل هذا السلوك، فلن تقدر، فحالها من حال الحكومة الإندونيسية في الخمسينيات أو كحال الحكومة الهندية مع المدرسات في القرى النائية، لكن مع الفرق أن الهند أطلقت مسباراً حول المريخ كدليل عن واقع التنمية والحداثة اللتين تتقدم بهما إلى الأمام من دون ريع النفط ومن دون وفرة الموارد، غير مورد الإنسان الهندي المنتج، بينما الجماعة هنا وقتهم مشغول بملاحقة المغردين، وماذا كتب هذا المغرد، وكيف يمكن متابعة حسابه لمعاقبته…!
الفساد مرتبط بفعالية وكفاءة الحكومة وجهازها الإداري، والعلاقة بين الاثنين عكسية، فكلما نقصت هذه الفعالية، بمعنى تناقص مبدأ سيادة حكم القانون، زادت نسبة الفساد، والعكس صحيح… وياليتها وقفت عند رواتب القياديين أو مدرسات الإضافي…! "الشق عود" بإدارة الدولة، وكيف يمكن مواجهة هذا التسيب وهذا الفساد خلال الأيام المقبلة بكل ما تحمله من "كسافة"؟. الله العالم.