محمد الوشيحي


شيء من الغطرسة

صرختُ من أعماقي: «آخ»، وأنا أغمض عينيّ بقسوة وأشد على أسناني وأضرب فخذي، بعدما تلقيت رسالة هاتفية من صديق «ذوّيق»، ينتقد فيها الجملة الأخيرة التي أنهيت بها مقالتي السابقة، ويتساءل: «كيف تكتب جملة بهذه الصياغة؟»، فهرولت بحثاً عن الإنترنت، وراجعت المقالة، فوجدت الجملة المشبوهة، ووجدت – إمعاناً في التعذيب – تعليقاً لقارئ ذوّيق آخر اسمه «الألمعي» يحمل العتب نفسه. والجملة المشبوهة هي «فانظرا ما أنتما تفعلان»! آخ ومليون آخ. كانت الجملة في الأصل هي «فانظرا ما تفعلان»، ثم أحببت إضافة كلمة «أنتما»، لتصبح الجملة «فانظرا ما أنتما فاعلان»، لكنني أضفت «أنتما» ونسيت تبديل كلمة «تفعلان» إلى «فاعلان»، فخرجت الجملة مصابة بحروق من الدرجة الأولى! لذا أضم كفّيّ الاثنتين أمام وجهي وأحني رأسي كما يفعل اليابانيون اعتذاراً لعشاق اللغة. وآخ للمرة المليون على النشاز البشع.

وكانت المقالة المذكورة جدّية قاطبة الحاجبين، كما تفعل بعض بناتنا في مقاهي ومطاعم الدول السياحية عندما يعبسن ليثبتن أنهن الشريفات الوحيدات على ظهر هذا الكوكب. وقد تعمّدت أن أرسم التكشيرة على المقالة وأنا أتحدث عن «وباء إنفلونزا الخنازير» وعن حياة الأطفال، لكن كلمة «أنتما» دخلت على الجملة فقلبت عاليها واطيها، وجعلت أعزة حروفها أذلّة! وأظنها ليست «كلمة»، بل «كلبة». وكم تمنيت لو أنني لوّحت لها بعظمٍ لتتبعني فأنتحي بها مكاناً قصيّاً، ثم أعود جرياً إلى المقالة فأُغلق بابها في وجه الكلبة «أنتما»، أو لو أنني قفزت فوق سور مبنى هذه الجريدة ليلاً، وتسللت إلى أعدادها المطبوعة، وسرقت كلمة «أنتما» وأخفيتها خلف ظهري ودفنتها قبل أن يراها الناس.

هي كارثة على الكاتب قد لا يشعر بها أغلب الناس، لكنها مؤلمة. أشهد أنها آلمتني. وقد يفرح بها أنصار النائب عبد السلام النابلسي، الذين هددوني في رسائلهم الإلكترونية بأن غضب النابلسي عواقبه وخيمة، وأن السماء ستنتقم له مني، فرددت عليهم: «أبلغوه أن يرفع يديه عليّ بالدعاء سبعة أيام بلياليها، قابلة للتمديد، بشرط موافقة الطرفين»، وها هي أمنيتهم تتحقق فأرتكب غلطة في الصياغة. غفرانك اللهم.

وأرى أن كتابة المقال في أغلبها «صياغة وأسلوب»، ثم تأتي الفكرة في آخر الركب، وقد تستغني عن الفكرة، لكنك ستموت عطشاً إن لم تحرص على ملء قربتك بالأسلوب. لذلك يتحمّس أحدهم لكتابة المقالات، كي ينثر أفكاراً ثلاثاً أو أربعاً شغلن ذهنه، وما إن ينثرهن، حتى تفرغ جعبته كلها، فيجلس على قارعة الصفحات، يستجدي (2.5 في المئة) من أموالك التي دار عليها الحَوْل. أما من يمتلك الأسلوب، فلن يضيره لو تكلم عن «السماء وزرقتها»، فجعبته ملأى بالنجوم والكواكب التي تزّين السماء، وهو سيتلاعب بمقالاته كما يتلاعب فارس بني هوازن الأشم «عامر بن الطفيل» بسيفه بين الصفوف، قبل التقاء الجموع، بغطرسة وغرور، وبطريقة تبهر الأعداء وتبث الرعب فيهم، وتنفخ صدور قومه فخراً وثقة، فيكرّون كرّ الفهود.

أجزم أن الكتابة غطرسة تبحث عن «عامر» يتقنها، وقد يسقط السيف من يد عامر مرة أو مرات، لكنه سينحني ليلتقطه ويعاود استعراضه وغطرسته، لترتعد فرائص الأعداء وتنتفخ صدور قومه فخراً وثقة. 

محمد الوشيحي


فاتيما بنت
 بروفيت محمد

مشكلة إيران بعد الثورة بسيطة جداً، يمكن علاجها في أقرب مستوصف، ومن دون الدخول على الطبيب، يكفيها ممرض ومرهم وشاش وحيّ على الفلاح. المشكلة هي أن إيران استبدلت أشياء بأشياء، فهي كانت تصدّر الزعفران وأصبحت الآن تصدّر الثورة، أي أن المسؤولية انتقلت من «سوق الجملة» إلى «سوق المخابرات». وهي كانت تحت قيادة الساسة فأصبحت تحت قيادة الدراويش، أي أن السياسة فيها انتقلت من قاعة البرلمان إلى قاعة الحوزة الدينية.

والرئيس الرائع أحمدي نجاد، عتبَ على خصومه الذين انتقدوا تشكيلته الوزارية، وقال لهم مستغرباً: «انظروا إلى شدّة تدين أعضاء حكومتي». أي أنه شكّل حكومته من أئمة المساجد المتعصبين. وهؤلاء سيقودون البلد من ياقة قميصه إلى هاوية الدروشة والمشاكل الطائفية مع الجيران.

وبما أن فخامة الرئيس نجاد يبحث عن المتدينين المتطرفين والخزعبليين، فليته يقوم بتوزير السيد محمد باقر الفالي، الخطيب الإيراني الكوميدي، الذي أتى إلى الكويت قبل فترة، وأشعل النار في أسفل ثوبها، ثم غادرها على وقع تقبيل يديه من أتباعه، بينما سيارات المطافئ تحاصر قصر السيف (مقر مجلس الوزراء). وفي دولة «البرتغال» ظهرت قصة خيالية قبل عقود من الزمن، تحكي عن ثلاثة أطفال كانوا يلعبون في إحدى ساحات مدينتهم، والمدينة اسمها «فاتيما سيتي»، وسمّيت بهذا الاسم نسبة إلى إحدى أميرات العرب الأسيرات بعد الحروب الصليبية، والتي تزوّجها أمير برتغالي، وسمّى المدينة باسمها.

المهم أن الأطفال عادوا إلى أهليهم وأبلغوهم أنهم شاهدوا نوراً أطلت خلفه مريم العذراء، وأنها أمرت الأطفال أن يبلغوا أهل القرية بتخفيف الفسق الذي تجاوز الحد، والتقليل من شرب الخمر، وغير ذلك من النصائح. وتم بناء كنيسة في مكان ظهور العذراء المزعوم.

لكن الفالي في خطبته الجميلة ذكر أن الأطفال شاهدوا فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وأنها لم تنههم عن الخمر بل طلبت التخفيف من شربه، ولم تنههم عن الفسوق بل طلبت التخفيف منه، وأنهم سألوها: مَن أنتِ؟ فأجابتهم: أنا فاتيما بنت «بروفيت» محمد (ولمن لا يتحدث الإنكليزية، كلمة «بروفيت» تعني نبيّ). أي أن فاطمة رضي الله عنها تتحدث مع أطفال البرتغال بلغة إنكليزية مخلوطة بالعربية. ورغم طفولتهم ولغتهم اللاتينية فإنهم فهموها دايركت. وهذه نصيحة للرئيس الرائع أحمدي نجاد، لا أريد من ورائها جزاء ولا شكوراً: باقر الفالي بإمكاناته الهائلة، التي تدفع مستمعيه ومريديه إلى إطلاق صيحات الإعجاب، يستحق منصب وزير المالية، أو محافظ البنك المركزي. وبالتوفيق.

***

شكرا معالي النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، الشيخ جابر المبارك… فبعد نشر مقالتي السابقة عن الطفل الكويتي الذي يرقد في أحد مستشفيات لندن، والذي يحتاج إلى جهاز تنفس، تلقيت اتصالين، بتكليف من معالي النائب الأول، الاتصال الأول جاء من مدير العلاج في الخارج في وزارة الدفاع الشيخ صباح العبد الله، والثاني من الخلوق سالم العنزي، من الإدارة ذاتها. وقد أوضحا لي أن الموضوع تحت متابعة معاليه الشخصية، وأنه أمر بشراء الجهاز قبل نشر المقالة بيومين، ولكن بسبب الإجراءات الإدارية اللازمة، وصلت الموافقة إلى لندن في اليوم ذاته الذي نُشرت فيه المقالة.

فشكراً لهما أيضا، وشكراً لمسؤول المكتب الصحي التابع لوزارة الدفاع في لندن، الرائد أسامة اللهو، الذي قيل لي إنه كان كثير الإلحاح في طلب شراء الجهاز… بيّض الله وجيهكم. 

محمد الوشيحي

آخر الدواء… الميسم

«الحاجة تصنع المعجزات، والخوف يضاعف القدرات»، هكذا تقول الكتب، وهكذا قال مدرس العلوم. وكان أن أخبرني أحد الأصدقاء، أيام الدراسة في المرحلة المتوسطة، عن جارهم العربي الذي يسكن الدور الثاني ويستمتع وزوجته بحقهما الشرعي وفتحة التكييف غير مغطّاة، ويمكن أن نطل ونتفرج بالبلاش المجاني، فاتفقنا وذهبنا لمشاهدة الفيلم الحي، وعشنا أياماً في تبات ونبات، نشاهد المنظر كل ليلة ونكتم ضحكاتنا، إلى أن تظهر كلمة «النهاية» فنعود أدراجنا ونرقع بضحكاتنا المكبوتة! لكن ولأن «السعادة لا تدوم لكائنٍ»، فقد شاهَدَتنا المرأة وصرخت بأعلى صوتها «يا لهوي» فالتفت إلينا زوجها، وحيد القرن، بعينين تنفثان الشرر وترسلان الخطر، وكشف عن أسنان صفراء من غير سوء، فقفزنا إلى الأرض بسرعة، فاصطدمت أسنان صاحبي بركبته، وراح يبكي ويعرج ويجري إلى مشارق الأرض، بسرعة تُخجل العدائين الأولمبيين، وأنا رحت أبكي وأجري إلى مغارب الأرض، ويبدو أن صاحبي أنهى دورته ولف الكرة الأرضية كاملة وعاد إلى الشارع نفسه، فاستأنف الرحلة من جديد لشدة هلعه. الغريب أنه كان سميناً بعض الشيء وكان يحجل كالغراب، فمن أين أتى بهذه السرعة وهذه الرشاقة؟ إنه الرعب الذي يضاعف القدرات.

حكايات كثيرة و»قصصات» على رأي ولدي الفصيح، كلها تؤكد أن الإنسان يمتلك طاقة لا يستخدمها إلا في الكوارث. ونحن اليوم في زمن كارثي، وفي حاجة وخوف، تقودنا حكومتنا إلى وادٍ غير ذي زرع، لا زمزم فيه ولا مطعم، وما إن نخرج من مصيبة ونغسل وجوهنا من غبارها ونسند ظهورنا إلى الجدار لنسترد أنفاسنا، حتى نسمع نحيباً رهيباً وعويلاً ثقيلاً، فندير رقابنا تجاه الحكومة علّها تمدنا بمناديل، فإذا الحكومة مثلنا تبحث عمّن يمدها بمناديل! وأظن أن الخوف والحاجة سيدفعاننا إلى استخدام آخر الدواء، الميسم والنار والكي، وهذا ما يجري الآن التحضير له من بعض النواب، كما بلغني، فالخيل تُسرَج اليوم وتُزعفَر، والسفن تم حرقها، والحرب المقبلة ستكون الأخيرة، فإما أن تسقط المدينة أو يموت المهاجمون.

***

معالي النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، وصلتني رسالة من والد طفل كويتي مريض، يرقد في العناية المركزة في أحد مستشفيات لندن. الطفل عمره ثلاث سنوات، وهو مُرسل على حساب وزارة الدفاع، وقد سمح له الأطباء – منذ الثالث من شهر يونيو الماضي – بالخروج شريطة توافر جهاز تنفس صناعي قيمته 16 ألف جنيه استرليني، لكن عباقرة المكتب الصحي الكويتي في لندن «طوّلوا السالفة وعرّضوها» كعادة الموظفين عندما تتلبسهم «النحاسة». والمضحك في الأمر، إن كان في المآسي ما يُضحك، هو أن تكلفة الليلة الواحدة في العناية المركزة تبلغ ثلاثة آلاف جنيه استرليني، أي أن الإخوة عباقرة المكتب الصحي صرفوا حتى الآن نحو 270 ألف جنيه استرليني، وسيرتفع المبلغ مع بقاء الطفل في العناية، في حين أنّ بإمكانهم جلب الجهاز المذكور، وتوفير الأموال العامة والدموع الحارة.

معالي النائب الأول، صورة الطفل التي وصلتني تذيب صخور الجبال، وتحيلها إلى صلصال. والقلم في يدك، والأمانة في رقبتك، وشكراً بالنيابة عن الطفل ووالده، مقدماً. 

محمد الوشيحي

على هالخشم


في بلاد الكفرة الفجرة، الذين وجوههم ترهقها قَتَرة (افتح القاف والتاء، الله يفتحها عليك)، يموت الكافر بن الكافر فتنهمر الدموع من أعين ذويه بهدوء، ثم ترتدي امرأته وشقيقاته الأسود من الهدوم ويتّجهن مع الأقارب والأصدقاء إلى المقبرة المليئة بالورود والمناظر الخلّابة، ليضع الجميع وروداً على القبر، وخلال نصف ساعة ينصرف الجميع. وعندنا نحن المسلمين الطاهرين الذين سندخل الجنة وحدنا وسنغلق بابها خلفنا، يموت الواحد منا فيطلب أهل الميّت «نسّاف رمل»، وهات يا نثر الرمل على الرؤوس، وهات يا تمايل ودموع مصطنعة ومفبركة، وهات يا نواح على الفقيد الشهيد، الذي قاد الجيوش، وهزّ العروش، وفسفس القروش، بينما هو لا يعادل في السوق سعر عنزة جرباء، يتيمة الأبوين.

ويسافر أحدنا من صعيد مصر إلى الكويت ليجلس على مكتب وثير أمام مكيف له زئير، فيخرج معه «الكَفْر» كله على هاف لوري، ودموع، ومناحة، وربنا حارسك يا ابن بطني يا أصيل. ويسافر العسكري الأميركي من بيته في تكساس للقتال في أفغانستان، ويعيش في الجبال بين الثعابين والأفغان، وقد يعود وقد لا يعود، فيفتي فيفتي، ولا يودعه إلا امرأته وطفله الصغير، بوردتين، وابتسامة، وتلويح بأصابع اليد اليمنى، وفي طريق العودة من المطار إلى البيت، تشتري المرأة «لبّ وحَب مالح» وتقزّرها «تأزئيز»، على رأي بيرم التونسي، لا تشتكي إلى أحد ولا تستعرض حبها لزوجها أمام المارة وعابري السبيل والمؤلّفة قلوبهم! وهم في بريطانيا يسمّون الطبيب البروفيسور «المستر فلان»، والحارس «مستر علّان»، وكلهم على بعض مساتر، ونحن نعتبر أنّ الشاب الذي للتو تخرّج من كلية الطب «دكتور وناشط سياسي وأعزب ويعول خمسة أولاد».

نحن أمة «شو» واستعراض على الفاشوش المغشوش، وكلنا ندّعي المظلومية، ونكافح مظلومياتنا بالدعاء فقط، وهي حيلة العاجز، فأنت عندما تصفع المرأة العاجزة، لا تجد هي إلا الدعاء عليك، بينما إذا أنت صفعت «شنباً» فسيصفعك وسيركلك وسيدهسك بإذن الله، من دون دعاء، أنت الذي ستدعو عليه وأنت تحت قدميه، ونحن امرأة عاجزة تدوسنا الأمم بالجزم فنغضب ونرفع أيدينا بالدعاء عليهم لننتقم: «اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا بين الأمم»، ثم نروح ننام بعد هذا الانتقام.

ونحن إذا ظهرت عندنا قنوات فضائية، تعيش في المجاري، وتعتاش على الطحالب، وشرعت تشرشحنا، وتبهدل ديمقراطيتنا، وتسخر من نواب المعارضة بطريقة راقصات السراديب، وتفتري، وتفجر، وتقول كلاماً يزكم الأنوف، لو شمّه كلب لعَوى ثم انزوى، لا نفكر إلا في إغلاقها والدعاء والشكوى عليها. لا نفكر في افتتاح قنوات منافسة عليها القيمة، ولا نرد التحية بمثلها، فننتج مسلسلاً اسمه «هي أرجل من أخيها»، مثلاً، ولا نثق بالشعب وأنه سيمل رائحة المجاري عما قريب وسيبحث عن الحدائق الزاهية. نحن فقط نبكي ونشكي ونرغي: «اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا». عجايز.

وفي الأيام الماضية، أجبرتني الضجة على مشاهدة بعض حلقات المسلسل المذكور، في القناة سافلة الذكر، أو سالفة الذكر، وتأكدت أن المسلسل فقير يستحق صدقة قليلة تفرج مصائب كبيرة، وأيقنت أن القصة والسيناريو والحوار والأداء – باستثناء الأطفال الأربعة – كلها من سوق الجمعة، فقط «الماكيير»، هو من يستحق التصفيق. لكن ومع ذا سنقاتل الحكومة كي لا تغلق القناة أو توقف المسلسل، وسنقاتل أيضا من أجل إلغاء الرقابة المسبقة على نصوص المسلسلات والمسرحيات والقصص والروايات. وتذكّروا كم سنة وأنتم أوصياء على الناس، وماذا كانت النتيجة؟ مزيداً من الجهل والتخلف والتعصب الطائفي.

ونحن مع النائبين عبد السلام النابلسي وعلي بو دمعة في عدم تقييد الحريات، وأرجو ألا يغضبا منا ولا يبكيا ولا يشتكيا علينا ويطالبا بإحالتنا إلى أمن الدولة، كالعادة، إنْ نحن وضعناهما على خشبة المسرح وأعلنّا بيعَ التذاكر لمن أراد أن يضحك. معلش، الحرية ليست دائماً «دوش بارد يعقبه عصير الليمون»… تبون حرية؟ على هالخشم. 

محمد الوشيحي

المهم أن تمتلئ الخيشة


استمعت إلى قصيدة الشيخ الدكتور عايض القرني «لا إله إلا الله»، التي غناها فنان العرب محمد عبده رغم اعتراضات المتجهمين، كالعادة. ومع أن القرني خطيب مفوّه، كلمات هجائه سيوف قاطعة، وعبارات ثنائه ورود يانعة، فإنّ صياغته للقصيدة لم تجرؤ على الخروج من دائرة «العادي» أبداً، أو كأنها عندما خرجت من صدره كانت تتلفت خوفاً من أن يراها أحد، واضطرت إلى ارتداء ثيابها العادية التي كانت ترتديها في البيت، وسرّحت شعرها على عجالة، ولم تضع عطراً على رقبتها، للأسف. كانت عادية مملة رتيبة كأحاديث الساسة، تدفعك إلى التثاؤب مللاً والتمغط كللاً.

أين عايض القرني الذي يشدني إلى الاستماع إليه بفم فاغر، لا لمضمون أحاديثه ورواياته، فأنا أعرف أن جلها من تأليفه، سيما وهو يتحدث عن التاريخ، فإذا به يأتينا بأشياء جديدة لم نسمع عنها أبداً! إنما إعجابي به سببه الفصاحة التي تدفعني إلى تتبع أصحابها والتصفيق لهم، فما الذي أصابه ليأتيني بقصيدة ألبست ظني به خيبة ذات هيبة.

بالله عليكم يا أهل الشعر ويا متذوقيه، هل هناك من قافيتين أسهل من (ــاب) و (ــابه)، القافيتان اللتان توفران لك بحراً يفوق المحيطات عرضاً وعمقاً، وأنواعاً من اللؤلؤ ما عليك إلا أن تنتقي منها ما يخدم فكرتك؟ لكن القرني جلس على الشاطئ وانتقى من محّاره ما يملأ الخيشة، فالمهم أن تمتلئ الخيشة. يا خسارة… أين القرني وهو يتحدث عن سيرة عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب أو خالد بن الوليد رضي الله عنهم؟ أين اختفى خياله؟ ما الذي حداه على الرضا بمثل هذه القصيدة، وهو حر من سيف الوقت، إذ قد نقبل أن تخرج مقالة أو قصيدة إلى النور ليست بمستوى كاتبها، لكننا سنعذره إذا تذكرنا سيف الوقت، أما أن تخرج قصيدة – غير ملزمة بتوقيت – تزحف على الأرض لخطيب يحلق في السماء، فسنقول حينئذٍ بلهجة أجدادنا: «لا وا سفا»، أو يا للأسف.

وأجزم أنه لولا اسم «القرني» لما طلب محمد عبده غناء القصيدة الباهتة أبداً، ولولا اسم عبده لما استمع لها هذا العدد من الناس.

هي سقطة شعرية في رأيي يجب أن يتبعها ما يمحوها يا دكتورنا الفصيح.

***

إيقاف المسلسل التلفزيوني الذي يتعرض للساسة والشخصيات العامة مخالف للدستور، رغم أن القائمين على القناة هم أكثر من يخالف الدستور ويطعن المدافعين عنه. ولطلال السعيد الذي يتباكى على قناة عائلته وعلى الحريات، أذكّره بدعواه القضائية التي رفعها عليّ عندما كتبت عنه سطرين لا أكثر… وموضوع إيقاف المسلسل يستحق العودة للكتابة عنه باستخدام الضوء. 

محمد الوشيحي


ستصبحون جِمالاً… فانتبهوا

في زيارة سريعة خاطفة إلى مصر، التقيته مصادفة. كان زميل دراسة في الكلية الفنية العسكرية في القاهرة، وكانت بداية معرفتنا في زنزانة الكلية، أنا دخلتها بعد القبض عليّ متلبساً بالتدخين كالعادة، وهو بتهمة الإهمال وعدم حلاقة ذقنه.

كان متسلطاً في الزنزانة، والطلبة يهابونه لضخامة بنيانه الذي يرشحه بجدارة للتمثيل في السينما كأحد رجال القيصر الذين يسيرون بجانب العربة، وهو فوق ضخامته متهوّر أرعن مجنون لا يعي عواقب الأمور، وهذا ما قاده في النهاية إلى الطرد من الكلية، لكنه للأمانة كان ذا نكهة لذيذة، وذا منطق خاص، وزاوية خاصة ينظر من خلالها إلى الأشياء. وكان مؤمناً بنظرية التطور والارتقاء «بتاعة الحاج داروين»، كما كان يسميه، وأن الإنسان أصله قرد، وأن العميد الركن سعيد «لسّه في مرحلة الشمبانزي، فاضل له شهرين ويبقى بني آدم زينا».

وستكون ليلة الزنزانة وسكانها الأفاضل أشد سواداً من ريش الغراب عندما يحصل صاحبنا على «صاروخ»، وهو اسم الدلع لسيجارة الحشيش الضخمة. لن ينام أحد تلك الليلة المباركة، فالنقاش الفلسفي سيرتفع مع ارتفاع الدخان الأزرق، والنظريات ستملأ الأرجاء، وعلى الجميع الإنصات والاستفادة من رجل القيصر قبل أن يموت وتخسره البشرية، وكان يسمي «هلوساته» محاضرات. وهو إنسان مهووس ملحوس منحوس، ذهب الحشيش بكل مخه وتركه في العراء يلقي محاضراته.

وذات نومة إرهاق وشخير في الزنزانة، شعرت في ما يشبه الحلم أن فيلاً إفريقياً يضربني بخرطومه، وتكررت الضربات، وتكرر معها النداء الهامس: «واد يا أخا العرب، أخا العرب، أخا العرب…»، فاستيقظت مفزوعاً فإذا الفيل الذي خيّل إليّ ليس إلا صاحبنا «شريف»، رجل القيصر، يلكزني في كليتي، وكان يسمّيني «أخا العرب»، إذ ليس لديه وقت لحفظ الأسماء، فهو مشغول بما ستؤول إليه الطبيعة والبشر بعد ألفي عام من اليوم. وكان يتوقع أن يتحول العرب إلى جِمال، والعرب بحسب رأيه هم شعوب الخليج العربي واليمن فقط، أما المصريون فسيتحولون إلى جواميس، وإخواننا الهنود ثعابين، واليابانيون نسانيس، و»البت فلانة» (نسيت اسمها، وكان مفتوناً بها) ستتحول إلى فراشة، وسيتحول أبوها إلى حمار يحمل الحديد إلى أعالي الجبال، وهكذا…

استيقظت على لكزاته ونداءاته «أخا العرب أخا العرب» وصرخت في وجهه: ملعون أبو العرب على أبو كليب بن وائل، عاوز ايه؟ فأجاب: مش جاي لي نوم، قلت أصحّي أخا العرب يستفيد مني قبل ما أموت، أصل أنا ملاحظ إنك كلما بدأت أنا المحاضرة تروح تنام! ثم راح يحكي دون أن ينتظر إجابة: «مش انت بتقول إن كل شبر في الكرة الأرضية عام 3904 سيمتلئ بالبشر، وسيعيش الناس وقوفاً لعدم توافر المساحة للجلوس…»، فقاطعته: «مش أنا اللي بقول الكلام ده، هذا حفيد الحاج داروين بتاعك، يقول إن نسبة تزايد السكان ترتفع بشكل مخيف، وباستخدام الآلة الحاسبة توقع أن يعيش الناس وقوفاً على أقدامهم عامذاك، ينامون وقوفاً مستندين إلى بعضهم، يقضون الحاجة وقوفاً، يتزاوجون وقوفاً، وهكذا»، فصرخ بغضب: «مين الملعون اللي هيتزاوج يوميها واحنا واقفين في الطابور، دا أنا أفرمه بإيدي، هو احنا ناقصين زحمة؟».

كانت نقاشات لذيذة أحياناً، غبية أحياناً أكثر… وقبل أشهر التقيته مصادفة فعرفته وناديته، فأقبل نحوي بكرش يتدلدل على ركبتيه وقد أطلق ضحكته المجلجلة، فاتحاً ذراعين كجناحي طائرة: «يا أهلا يا أهلا، ايه الصدفة الجميلة دي يا أخا العرب، يخرب بيتك، انت كبرت اهوه زي البشر، سنتين وهتبقى جمل وترعى في الفلاء»، قال ذلك ثم أطبق عليّ بجناحيه الضخمين، فتذكرت موقف سيدنا يونس وهو في بطن الحوت، وقلت بصوت يشبه الفحيح: «ما شاء الله، الكرش على قدر المسؤولية، مبروك ومنها للأعلى»، فاستفسر عن معنى كلامي، فأوضحت له أنها دعوة لمزيد من الانتفاخ، فأشار إلى كرشه: «أكتر من كده إيه؟»، قلت: «الانفجار الكوني الضخم وتكوّن المجرات»، فتزلزلت الأرض بضحكاته.

ثم سألني فأجبته وليتني لم أفعل: «أشتغل في الصحافة يا شريف»، فحلّفني بكل عزيز أن أقول للعرب، الذين هم أهل الخليج واليمن، أنهم سيتحولون إلى جِمال ترغي خلال أقل من ألفي عام، فلينتبهوا. 

محمد الوشيحي


النابلسي… 
عيدا كمان

هذا الذي تشاهدونه أمامكم الآن في الفضائيات، والذي يخرخر تصريحات، ويهدد بأن يشكونا إلى جدته، هذا ليس نائباً، هذا عبدالسلام النابلسي. يخلق من العَتَه أربعين.

الأخ النابلسي يعمل كل شيء في وقت واحد، يصرح ويشتم ويضحك ويبكي ويقسم ويفجر ويَعِظ ويتشقلب ويقف على رأسه خلال أقل من ستين ثانية. وهو رجل أصيب بداء الخرخرة، خمسة وثمانون تصريحاً تخرخر من خزّانه في اليوم الواحد. وكل جملة ينطقها تقول لشقيقاتها أنا الأسفه أنا الأعته.

أحدث نابلسياته هو التهديد باستجواب بعض الوزراء… مَن هم هؤلاء الوزراء سقى الله نابلس؟ يجيبنا: معروفون، الفاشل والحالم والباشق والجاحظ! شكراً على التوضيح.

لطالما حذرنا وحذر غيرنا من تزاوج الدين والسياسة، فاتُّهِمنا بكل الموبقات، وها هو النابلسي مصداق لكلامنا. رجل يختبئ خلف لباسه المقدس، ولسان شتّام، وعقل ينافس عقل الديك الرومي. وكان أن سقط في أحد الانتخابات فغضب وراح يهدد بالويل والثبور والشكوى إلى جدته (إن صدَقَ ادعاء النسب)، وأنه سيأخذ حقه من الناس الذين لم يصوتوا له. متى يا نابلسي ستأخذ حقك؟ يوم القيامة! خير إن شاء الله.

وكان قد أقسم يميناً – بعد سقوطه في الانتخابات – أنه لن يخوض أي انتخابات في المستقبل، ثم عاد وخاض الانتخابات، وتلاشى القسم. وكان أيضاً في استجواب وزير المالية الأسبق محمود النوري قد طلب الحديث، فرفض رئيس البرلمان باعتباره غير مسجل في كشف طرح الثقة، فأقسم النابلسي (لاحظوا كيف يتعامل مع القسم وهو رجل الدين) أقسَمَ أنه سيسجل اسمه في «كل» كشف طرح ثقة قادم، هكذا من دون تحديد، كانتقام وردّة فعل على منعه من الحديث، وكأنه يريد أن ينتقم من اللائحة الداخلية، ثم تدور الأيام وإذا به هو الذي يدافع عن الوزراء المستجوبين. أين القسم يا نابلسي؟ يالله معلش.

وهو لطالما تحدث – وهو على شفا حفرة من البكاء – بوجوب منح الحكومة فرصة لتعمل وتنتج، وها هو الآن ينسى مطالباته ويهدد باستجواب الباشق والماشق، لكنه لا ينسى، في خضمّ ذلك، امتداح سمو رئيس الحكومة، وهي خطة سبق أن تحدثت عنها، تقوم على التالي: «أحرق روما إن أردت، لكن لا تنسَ أن تمتدح الرئيس بسطر من الحبر المغشوش»، ولا أدري مَن الذي اختار الباشق والجاحظ في التشكيلة الوزارية.

هو رجل تحيط به الفهلوة والجمبزة إحاطة العقد بعنق الغندورة، وهو على يقين من أنه وحده يَرجح ببقية النواب، لذا فهو يتعمد التأخير في تحديد مواقفه، ويعتقد أن الناس ستنتظره فاغرة أفواهها متمتمة: «اللهم سلّم سلّم، اللهم سلّم سلّم»، في حين يتمتم العقلاء: «ما عنده ما عند وضحة، ما عنده ما عند وضحة».

النابلسي، منذ نحو تسعة أشهر، لا يكاد يجري لقاء، وما أكثر لقاءاته، إلا وطالبَ جهاز أمن الدولة بالقبض عليّ، وآخرها قبل يومين، وأنا أردد مع فيروز أغنيتها الشائقة «عودك رنّان»: «عيدا كمان ضلّك عيد يا علي، عالعالي، عيدا كمان»، وأعرف أنه مثلي يعشق الطرب، خصوصاً عندما يرتفع دخان «أرجيلته» ويعتدل مزاجه، صحة يا مولانا جزاك الله خيراً. 

محمد الوشيحي

قفوا نبكِ


فعلاً، آخر ما نحتاج إليه في اللحظات هذه هو إلقاء التُّهم من علٍ على المسؤولين، أو رشق الحكومة بصفات التخاذل والتقصير في «كارثة العيون»، وكأننا بذلك نريد أن نبرِّئ ذممنا.

دعونا من كل هذا الآن، ولنركز على حالات المُصابين، وكيفية تعامل الحكومة معها، ولنفكر في طريقة تخفف -أقول تخفف- بعضَ ألم ذوي الضحايا، ولا أدري كيف، لكن لنفكر في «كيف».

وعزاؤنا، إن كان ثمة عزاء، هو أن دماء ضحايا «العيون» رفعت إصبعها في وجوهنا وخاطبتنا بجدية المتألّم: «دعوا كل ما في أيديكم من توافِه، وابنوا مستشفياتكم تحسُّباً لكارثة مثل هذه أو أكبر، لا قدَّر الله». فهل نحقق طلب الضحايا أم نبقى سادرين في غيّنا نتهم كل من صرخ في وجه الحكومة مطالباً بالمستشفيات بأنه «مؤزِّم»؟ ألا لعنة الله على المتخاذلين.

لاحقاً لا الآن، سنتحدث عن تلفزيون الدولة، وعن دور وزير الإعلام ووكيله، وسنتحدث عن الدولة المتهالكة، وعن المسؤولين الذين اعتقدوا واهمين أن فصول السنة كلها ربيع.

عبدالله العتيبي ومظلومية القبائل

حكاية استقالة الزميل عبدالله العتيبي من جريدة «الجريدة»، ليست مؤلمة بقدر ما هي غريبة.

ولمن لم يبلغه الخبر أقول: تقدم الزميل العتيبي باستقالته مبرراً ذلك بأن «الجريدة» تخاذلت في تغطية كارثة العيون لدواعٍ عنصرية!! (أول مرة في حياتي الكتابية أستخدم علامتَي تعجب معاً)… ما هذا يا زميل يا جميل؟!

بلغني الخبر فقررت الاتصال بإدارة التحرير لأتبيّن ما وراء الستارة، وحرت، هل أتصل برئيس التحرير الزميل خالد هلال «المطيري»، أم بمساعد مدير التحرير الزميل سعود «العنزي»، أم بمسؤول الصفحة الأخيرة الزميل ناصر «العتيبي»، وهو الرئيس المباشر الذي يتبع له الزميل المستقيل عبدالله العتيبي، أم أتصل بمستشار الجريدة، وأحد أبرز أعضاء مجلس قيادة ثورتها الزميل المبدع حسين «العتيبي»؟

حقيقة حرت، فكيف اتّهم أبناء القبائل بأنهم ضد القبائل؟ ما ترهم… وآه كم أهلكتنا المظلوميات الكاذبة.

المؤلم أكثر، هو أنك يا زميلنا عبدالله، تعرف رئيس التحرير منذ نحو عشر سنوات، كان طوال المدة تلك رئيسك، وتعرف الزميل ناصر العتيبي أكثر منّا نحن، وتعرف الزميلين سعود العنزي وحسين العتيبي عن قرب، وتعرف طبائعهم و»وقفتهم» مع زملائهم، وهم يعرفونك ويقدّرونك تقديراً يليق بالزمالة والصداقة والمهنية، وأنت مهني لا شكّ في ذلك ولا عكّ، لكن تصرفك الأخير لا يُقدِم عليه أمثالك، ثم تعال نتفاهم بهدوء…

أنت تعرف أن ثماني صحف جديدة لم تنشر خبر الكارثة على طبعاتها الورقية، واستعاضت عن ذلك بطبعاتها الإلكترونية، ليس استهانة بدماء الضحايا بالتأكيد، بل لسبب تعرفه أنت أكثر من الآخرين، وهو أن الصحف هذه لا تمتلك مطابع خاصة بها، يسهل معها التحكم في موعد الطباعة، تأخيراً أو تبكيراً، وتعلم أن خبر الكارثة جاء متأخراً، أي بعد أن دارت المطابع بفترة طويلة، بل إن جزءاً من الأعداد كان في طريقه إلى السوق ونقاط البيع! وأجبني من فضلك: هل الزميلة جريدة «عالم اليوم»، على سبيل المثال، ضد القبائل؟

نعم، نعلم أنها كانت لحظات غضب بسبب الكارثة، ونعلم أنك -حسب قولك- لست مَنْ نشر الخبر، وكلنا نصدقك، فأنت صدوق بشهادة الجميع، ونعلم أن أحداً ما قد سرّب الاستقالة، لكن السؤال الأهم: لماذا الاستقالة من الأساس؟ والسؤال الموجه إلى الزميل رئيس التحرير: لماذا قبِلت الاستقالة على الفور وأنت تعلم أنها كانت نتيجة لحظات غضب كارثي؟

على أي حال، «لم يسبق السيف العذل»، فلايزال العذل في الصدارة، ولايزال «الحُرُّ يفهم بالإشارة»، والزميل عبدالله لا غنى لنا عنه، و«الجريدة» هي سقفنا الذي نستظل به من حرقة الشمس وغرقة المطر. 

محمد الوشيحي


الرواية لا تزال في جيبي

سأكشف مضمون الورقة، وقد يهمك المضمون أو يغمك، وقد لا يهمك ولا يغمك، حسب التوافيق واتجاه الريح.

في البدء، راودتني عن نفسي فكرة كتابة رواية، ثم عدلت عن رأيي وسلكت طريقا قصيّاً، فعزمت على أن تكون الرواية مصوغة بطريقة يسهل معها تحويلها إلى فيلم سينمائي. لكن الكويت لا سينما فيها ولا شية تشيها، فكل ما فيها عبارة عن شركة احتكرتنا و»حكرتنا» في زاوية اختياراتها، يتبوأ فيها الشيخ دعيج الخليفة منصباً مهماً. والشيخ دعيج يتبوأ دائماً، وهو يجيد التبوّء، بل هو خير من يتبوأ، فهو يتبوأ الشعر، ويتبوأ التلحين، ويتبوأ منصباً يشار إليه بالذهول في وزارة الخارجية، ويتبوأ في شركة السينما الكويتية، وقصائده تتبوأ الصحافة، وتصريحاته تتبوأ وسائل الإعلام، ونحن نقرأ قصائده وتصريحاته فنتبوأ بغزارة.

ولا حاجة إلى التذكير بأن ثلاثين ألف مواطن مكتوبة أسماؤهم في سجلات ديوان الخدمة المدنية، كلّ منهم ينتظر وظيفة صغيرة يتبوأها، تسد رمقه ورمق أسرته. لكن التبوّء قسمة ونصيب، وخير البر عاجله، والدستور عندما تحدّث عن المساواة كان يتغشمر معنا.

ويبدو أنني تبوأت مع الشيخ دعيج وسرحت ونسيت الموضوع. لكن للأمانة، إضافة إلى كل ما تبوأه دعيج، هو يتبوأ أخلاقاً عالية على المستوى الشخصي… المهم، لعدم وجود سينما في الكويت قررت تحويل الرواية إلى مسلسل تلفزيوني، لكن القصة تحتاج إلى ممثلين كثر، لكلّ منهم وزنه، فالبطولة في القصة لعدد كبير من الرجال والنساء والشبان، كلهم في المستوى نفسه من الأداء، وفي الكويت لا نملك هذه الأعداد من الممثلين، أقصد المبدعين. ثم إن وزارة الإعلام تفرض الرقابة المسبقة على المسلسلات والمسرحيات، وهي بالتأكيد لن تسمح بعرض هذه الرواية، إذ إن الرواية هذه لا تعتمد على شد الشعر على أنغام الناي الحزين، بل تتحدث عن الأباطرة والسلطة والمجتمع السفلي والدين المسيّس وغير ذلك…

بعد ذا، فكرت في تمصيرها، أي تحويلها إلى رواية مصرية، وتبديل التفاصيل بما يناسب المجتمع المصري، ليسهل تمثيلها، أو تسويرها، أي تحويلها إلى رواية سورية، لكنني عدلت عن رأيي لجهلي بالمجتمعين المصري والسوري، هذا أولاً، وثانياً لأن الحريات في مصر وسورية تُكتب ولا تنطق. لذا، عدت إلى نقطة انطلاقي الأولى، وهي نشرُ القصة في رواية وبس، لكن وزارة الإعلام الكويتية أيضا لن توافق، فالدستور لايزال يتغشمر معنا عندما تحدث عن حرية النشر. والدستور دمه خفيف، في عيون مسؤولينا، وهو بلغ به الخرف مبلغاً لم يعد معه أحد يصدق هذيانه.

وما بين فكرة وضحاها، وضعت الرواية في جيبي، وتناسيت الموضوع، إلى أن جاء من ينصحني: اطبعها خارج الكويت. فوافقت.

* * *

تلقيت رسالة من الأستاذ جاسم بودي، يعلن فيها استعدادَ «مجموعة الراي الإعلامية» للتكفل بكل ما له علاقة بجائزة الأستاذ أحمد الديين السنوية، بحيث يضع الديين الشروط والإجراءات التي يراها… شكراً لأبي مرزوق، وهو أمر غير مستغرب منه، لكن اللجنة التي سيتم اختيارها – أو بالأحرى، اختيار رئيسها الذي سيقوم بدوره باختيار زملائه أعضاء اللجنة – هي التي تضع الشروط والتفاصيل كلها، لا الديين ولا أنا.

شكرا كذلك لمنتدى الشبكة الوطنية الذي دعم الفكرة، ولمن أيد الفكرة وتساءل عن كيفية المساهمة فيها، وأقول لهؤلاء الأفاضل: سيتم إعلان رقم الحساب البنكي والتفاصيل من قبَل اللجنة المسؤولة لاحقاً. كذلك شكراً لمن عارض الفكرة، أياً كانت أسباب معارضته. فالمعارضة ليست كفراً، خصوصاً ونحن نتحدث عن اثنين من أكثر المطالبين بحرية الرأي.