محمد الوشيحي

ارقصوا في غياب الصافرات

الأخبار من الأردن تقول إن شابة أُدخلت المستشفى لإجراء عملية جراحية في أربطة قدمها اليسرى. استغرقت العملية سبع ساعات، وهي عادة لا تستغرق أكثر من ساعتين، وتم شد الأربطة بنجاح، واستفاقت الشابة من التخدير لتشاهد الطبيب وطاقم التمريض حول سريرها، يبتسمون ويسكبون تهاني النجاح في أذنيها، فقالت لهم بصوت أسيف كسير وهي تنظر إلى قدميها: «شكراً، لكنكم أجريتم العملية في قدمي اليمنى السليمة»! الخبر أغضب الأشقاء في الأردن، لكن أحد الكتّاب كانت له وجهة نظر تستحق الاحترام: «تعالوا ننظر لها من الزاوية المشرقة فنحمد الله لأن الخطأ وقع في القدم الأخرى السليمة، ولم يخطئ الطبيب فيشد أربطة الدماغ، إن كان للدماغ أربطة، فقضاء أهون من قضاء».

وهنا في الكويت، وفي ظل حكوماتنا، راحت على الديك الكويتي نومة وشخير، وجاع البعير في صحرائنا وعطش، وراح يجترّ غذاءه من سنامه إلى أن أفرغه، فترنح لشدة العطش والجوع، وترنح، وترنح إلى أن سقط «مُغشاً عليه»، على رأي أحد شبابنا الجامعيين، وقريبا سيموت البعير جوعاً. لذا فالمطالبة بالتنمية وتحديث البنى التحتية وتشجيع الكفاءات ومحاسبة اللصوص والقراصنة، أو المقارنة بدبي وأبوظبي وقطر، هي من باب البطر والعياذ بالله، والواجب أن نحمد الله، وننظر إلى الزاوية المشرقة، فنحيي الأفراح والليالي الملاح ونرقص العرضة إذا مرّ يوم لم ترتفع فيه صافرات سيارات الإطفاء والإسعاف والنجدة. ويوم الاثنين الماضي الثامن والعشرين من سبتمبر، لم تحدث كارثة بحسب علمي، والحمد لله، وهو أمر يجعلنا نبوس أيدينا وش ودقن كما يقول اللمبي.

* * *

المحامي والكاتب عماد السيف هو الذي تولى رفع دعوى قضائية نيابة عن سمو رئيس الحكومة على الكاتب محمد عبد القادر الجاسم على خلفية إحدى مقالاته، ولا أدري إن كان عماد السيف هو المختص برفع الدعاوى القضائية على بقية الزملاء أم لا. الذي أعرفه أن مراقبة ما يكتب الكتّاب والبحث عن هفوة هنا أو كلمة شاردة هناك، والتفتيش عن ثغرة يمكن الدخول منها للاقتصاص من خصوم الرئيس السياسيين، أمر يجب أن يتولاه محامون من خارج الجسم الصحافي.

صحيح أن ما قام به «الزميل» السيف حلال قانوناً، لكنه مكروه ذوقاً ومحرج عرفاً. وكان بإمكانه الاعتذار عن هذه «المهمة» كما اعتذر زملاء له طلبت منهم بعض الجهات الحكومية رفع دعاوى قضائية ضد بعض زملائهم الكتّاب، وما أكثرهم.

على أي حال، هذا رأي عماد السيف وهذا هو موقفه، ويبدو أنه سعيد جداً بهما، والدليل تصريحاته التي أرسلها إلى الصحف. لذا فهو يستحق منا التهنئة: «مبروك يا زميل وعقبال القضايا ضد المدونين». 

محمد الوشيحي

النسر لا ينتظر 
حبوب الارملة


الشيخ عايض القرني في فن الكلام والخطابة نسرٌ يبزّ نسور الشمال ويحرق قلوبها، يسكن الأفلاك ويتفقد حقائب الشموس والكواكب قبل ذهابها إلى مدارسها، لكنه في نظم القصيد ديك بصراوي يعيش على الحبوب التي تنثرها له الأرملة صاحبة العشة.

شيخنا الزاهد الورع بعدما تعالت الأصوات الناقدة لقصيدته التي غناها محمد عبده بعنوان «لا إله إلا الله»، راح يترنح ويهز عصا الغضب، فهاجم نقّادها، وألبسهم ثياب الجهل، على اعتبار أنه عالم. لكنه للأمانة لم يخرجهم من الملة، كان رؤوفاً معهم. ودارت الأيام وازداد عدد ناقدي القصيدة، و»عاديّتها»، فازداد ترنحه وازداد اهتزاز عصا غضبه، فأعلن فضيلته عن جائزة قدرها مليون ريال لمن ينظم قصيدة مجاراة لقصيدته الديكية، ليغيظ الحُساد ويكيد العذال.

ولو كنت أنا مكانه لجعلت الجائزة عشرة ملايين ريال للفائز الأول، وخمسة ملايين للفائز الثاني، وثلاثة ملايين للثالث، فالشعراء البطّالية المحتاجون كثر، والملايين التي جمعتها من «الدعوة» أكثر، وسأجمع أكثر، فرأس المال بشت وغترة بلا عقال، وتأليف وخيال، فلا إيجار شركات ولا رواتب عُمال، وستتراكم الأموال فوق الأموال، لن يحول دونها أزمة اقتصادية ولا خبال، ورجال الدين اليوم هم رجال الأعمال.

وقد شاهدت في لبنان مجمعات سكنية هائلة، بنتها «الكنيسة المارونية» لبسطاء الناس والمعوزين من أتباع الطائفة المارونية، تُباع لهم بالتقسيط المريح الطويل، وبقيمة التكلفة، فدخلتها وتفرجت عليها ووجدت بناءها لا يختلف عن بناء البيوت العادية في شيء، إلا أن قيمة بيوت الكنيسة أقل بنحو أربع مرات عن البيوت العادية. وهنا أتساءل: أين مشايخنا الأثرياء، سنة وشيعة من هواة جمع التبرعات والظهور على القنوات، من مثل هذه الأفكار؟ أم أن مهامهم انحصرت في مهاجمة نانسي عجرم وصويحباتها؟ ويا سبحان الله، هذه النانسي عجرم المسيحية المارونية التي طالما هاجموها وشتموها كانت من أكثر المتبرعين للمسلمين الشيعة الذين فقدوا بيوتهم بسبب حرب حسن نصرالله الأخيرة مع إسرائيل. وهي كانت ولاتزال ترفض الظهور في الفضائيات والحديث عن هذا الأمر.

* * *

قدرات ربك تتجلى في كل أمر، فها هما النائبان سيد عدنان عبدالصمد وعبد السلام النابلسي يتصالحان ويتحالفان تحت عنوان «وحدة البيت الشيعي»، منهيين بذلك حرب البسوس الطويلة بينهما. آخ ومليون آخ، من كان يصدق أن يضع سيد عدنان يده بيد النابلسي لولا حادثة التأبين التي لا تريد فاتورتها أن تنتهي قبل أن تمسح كل نقطة جميلة في سيرة عدنان.

ومن بين الغبار الكئيب هذا نتساءل: وأين النائب صالح عاشور من الصلح يا سادة القوم؟

* * *

لكل من اعترض، وما أكثرهم، على إعراب الجملة التي وردت في مقالتي السابقة «الحشر ليس عيداً»، والتي جاءت هكذا «نحن الكويتيين لا نعلم كيف نشكر الله على جزيل نعمه»، ظانِّين أن الصحيح هو «نحن الكويتيون»، وأن «الكويتيين» خبر يجب أن يُرفع بالواو، أقول باختصار: «الكويتيين» ليست خبراً، فأنا لا أهدف إلى إخبار الناس أننا كويتيون، بل هي مفعول به منصوب على الاختصاص بفعل محذوف تقديره أخص أو أعني وعلامة نصبه الياء، وجملة «لا نعلم كيف نشكر الله على جزيل نعمه» هي الخبر. ولا إعراب آخر لها في الأسواق، فالمعذرة. 

محمد الوشيحي

الحشر ليس عيداً

نحن الكتّاب الكويتيين، وأعوذ بالله من كلمة نحن، وزملاءنا اللبنانيين والمصريين، وأعوذ بالله من كلمة اللبنانيين والمصريين، لا نعلم كيف نشكر الله على جزيل نعمه وواسع فضله لما حبانا به من هذا الكم الهائل من المشاكل في بلداننا، التي تتيح لنا كتابة معلقات هجائية يومية. لكن المخ له مفتاح، والمزاج له كلمة سر، وقد يضيع المفتاح منك وقد تنسى كلمة السر، فتتعومس، وتكتب وتشطب وتمزق، وتعيد الكرّة، فتكتب وتشطب وتمزق، وكأن هذه هي مهمتك. والمواضيع أكثر من الهرنات في شوارع مصر، وأثقل من ماكياج بعض المنقبات في المجمعات، لكن خلقي اليوم أضيق من عباءاتهن.

ما العمل؟ ما الحل؟ مدد يا رب الأرباب، يا عاطي يا وهاب، فالفكرة التي في ذهني تستحق ليَّ الرقاب وتشمير الثياب وإظهار الأنياب، لكن المزاج هذه اللحظة مثل بعض الأصحاب، نذل يا أولي الألباب، هرب وقت الحاجة، كما تهرب من القط الدجاجة.

ولكثر ما كتبت ومزّقت، وجدَت الكآبة لها ثغرة في صدري فتسللت من حيث لا أدري، واختبأت خلف الحنايا، فنحّيت الورقة والقلم جانباً، وناديت ولدَيّ، تحويشة عمري، أو نصف التحويشة، «بو عنتر» و»بو عزّوز»، سلمان ذا السنوات السبع العجاف، وسعود ذا العشرين شهراً، الذي قزّرها حليب وحفاظات، ورحت أبث في عروقهما سمومي، وما أكثرها:

أتدريان من هو الرخمة؟ الرخمة هو من يسمع كلام أبيه وينفذه دون أن يكون له رأيه الخاص. الرخمة هو الذي يمشي على العجين ما يلخبطوش، الذي يتبع الخطوط الأرضية المرسومة له، يقول الناس ولا الضالين فيقول آمين، خروف بين قطيع تسوقه عصا بعض التقاليد الغبية، بقرة تنتظر مع صويحباتها يد الحلّاب، يمين يمين، يسار يسار. والعرب رخوم، وأمثالهم تدل على رخامتهم، وانظروا لمن زرع فينا: «من شابه أباه فما ظلم». أبو لحيته، أقول اقطع واخس.

وها أنذا أقولها لكما بالخط العريض كما قلتها للناس قبلكما، تمردا، على كل ما لا يرضيكما تمردا، عليّ أنا قبل كل أحد تمردا، على المجتمع، وعلى نفسيكما، فالتاريخ لا يسجل إلا أسماء المتمردين، صدقاني التاريخ لا يسجل أسماء الأغنام والأبقار، فكمية الحبر محدودة. تمردا فلا حياة بلا تمرد، تمردا وستعشقكما الحياة والنساء، تمردا فالشجعان وحدهم من يخرجون عن الطابور الخاطئ، والمجتمعات لا يغيّرها إلا المتمردون. والتمرد ليس إتيان المخازي وارتكاب الدناءات، أبداً، بل رفض ما لا يُقنع من الواقع والموروث، مهما كان الثمن، والثمن باهظ، أعرف ذلك، جرّبته بنفسي، وأجزم أن تكلفته قد تفوق القدرة على الاحتمال، لكن هذا لا يهم، الذي يهم هو طرق الحديد ومحاولة ليّه.

أعرف رجلاً لديه أربعة وعشرون ولداً وعددٌ من البنات، كلهم جاؤوا إلى الدنيا بمجهوده، بيّض الله وجهه، يفاخر بأن أحداً منهم لم يخرج عن شوره. ولو كنت أنا مكانه لبطحتهم في اتجاه القبلة وباسم الله والله أكبر.

تمردا وحلّقا في الفضاء الذي يناسبكما، وخذاها مني، كل من يردد المثل: «حشرٍ مع الناس عيد» هو رخمة متنكر في ثياب حكيم. صح؟… إياكما أن تقولا صح. 

محمد الوشيحي

على أم عن؟

لا نزال تحت تأثير مخدّر العيد، ولا تزال العواصف السياسية كامنة لمّا تستيقظ بعد. ولأننا في أيام عيد فقد استخدمت «لمّا» عيدية تبث السرور في صدر رئيس قسم التصحيح في هذه الجريدة، أستاذنا السوري الرائع خالد جميل الصدقة، الذي، بسبب حرف جر واحد سقط من يدك سهواً أو خطأً، سيتصل بك وسيسوق إليك أربعة وثمانين دليلاً من القرآن الكريم والحديث الشريف والمعلقات والقصائد القديمة، ليصل في النهاية إلى مراده من أنه لا يصح القول «أجاب على السؤال»، بل «أجاب عن السؤال».

والحديث عن الزميل خالد الصدقة «أبي يامن» يدفعني إلى أن أزعم أن أحداً ممن أعرف لم يقرأ في الأدب واللغة العربية كما قرأ أبو يامن. وقريباً سيخرج معجمه من مخدعه إلى المكتبات، وهو معجم لو تعلمون مهيب، أجزم أنه الأفضل من نوعه في المكتبة العربية، وقد استغرق تأليفه نحو عشر سنوات أو أكثر، وسينتهي من مراجعته قريباً، خلال شهر أو أقل، وهو كتاب يتحدث عن الأمثال المقارنة، فيسوق مثلاً إنكليزياً، ويحدد تاريخ المثل وقائله ومناسبته، ثم يأتي بما يقابله من نثر العرب وشعرهم، محدداً المناسبة والقائل إن كان معروفاً، ومبيناً بدقة تاريخ ميلاده ووفاته، ومعتمداً في إثبات كل معلومة على أمهات المراجع في اللغتين. يغلف هذا الجهدَ كلَّه حرصٌ شديد على المصداقية ودقةٌ تحرص على تجنب الخطأ ولو كان يسيراً. وبسبب الدقة والحرص قرأ أستاذنا مئات المراجع العربية وعشرات المعاجم والكتب الإنكليزية وغاص في بحور «غوغل»، لا يستريح يوماً ولا يأخذ إجازة، فكانت عشر سنوات لم تهدأ فيها أنفاسه عن اللهث ولم يتوقف عرق جبينه عن النز والنزف، وهذا – ورب البيت – أمر تشيب لهوله الغربان في مهادها، ولاسيما إذا عرفنا أنه لم يستعن بأحد، بل كان جهده فردياً خالصاً.

أبو يامن يعلم ويدرك أكثر من غيره، أن الوقت هذا ليس وقت تأليف «أمهات الكتب»، وأن عدد قراء كتابه لن يبلغوا، في أحسن الأحوال، خُمْس قراء لقاء صحافي لهيفاء وهبي، لكنه يدرك أيضا أن اللغة العربية يتيمة الأبوين، تنام على حصير وتحيا على الشعير، وأن من رعاها وداراها فأجره على الله. ثم إنه مفتون باللغة، عاشق لها، ولو أنها كانت امرأة لتزوجها، ولدلّلها، ولتغزّل فيها شعراً، وما أجمل أشعار أبي يامن وما ألذّها، الجاد منها والساخر.

وتعالوا نقتطع هذا الجزء إلى حين عرض الجوهرة:

The face is the index of the heart أي «الوجه مرآة القلب»…

• ابن الرومي (221 – 283 هـ / 836 – 896 م):

له مُحيّاً جميلٌ تَستدلُّ به

على جميلٍ وللبُطْنانِ ظُهرانُ

وقلَّ من أضمرتْ خَيْراً طَوِيَّتُهُ

إلا وفي وجههِ للخيرِ عنوانُ

• ابن نباتة السعدي (327 – 405 هـ / 938 – 1014 م):

ألا إنّ عينَ المرءِ عُنوانُ قَلبهِ

تُخبِّرُ عنْ أسْرارِهِ شاءَ أمْ أبى

• مصطفى صادق الرافعي (1298 – 1356 هـ / 1881 – 1937 م):

ينبيكَ ما في وجههِ عن قلبهِ

إن الكتابَ لسانهُ عنوانهُ

هذا مثلٌ سقته مثالاً، وقد اختصرته حتى كاد يتقطّع في يدي، فشكراً للزميل على جهده الخالد، ونحن بشوقٍ ننتظر. 

محمد الوشيحي

لكين هوه ما لاقي


ما ممكن، على رأي السودانيين، أن يضحكني أحد كما يضحكني الوزير السابق والنائب السابق ورئيس جمعية حقوق الإنسان (يا عيني) الزميل علي البغلي، عندما يتحدث عن الوطنية ووحدة الصف! أين أنت يا يوسف وهبي الله يرحمك كي تصرخ من أعماق جوفك بصوتك المهيب: «يا للهول».

علي البغلي الذي قسّم مقالاته إلى قسمين، مرة ينتقد المتدينين السنة، ومرة ينتقد نواب القبائل، ويا سلام لو كان النائب قبلياً متديناً، ولا يكثر على الله شيء، سبحانه.

وكم حاول آية الله البغلي، وكم تمنى، أن يجد شيئاً على التيارات السياسية الشيعية، أو المتدينين الشيعة، لكين هوّه ما لاقي (معلش المزاج اليوم سوداني)، شتبونه يسوّي؟ لا أحد منهم يخطئ.

وكلما استمعت إلى فيروز وهي تردد: «حامل هالقصة وداير، داير مندار»، تذكرت صاحبنا البغلي وهو «حامل قصته وداير» ليعرضها على الفضائيات والصحف والسهول والجبال، وقصته هي «لماذا لا ينتقد النائب مسلم البراك مؤسسة التأمينات الاجتماعية؟»، وهو يريد أن يقول إن البراك قبلي، والدليل أنه لا ينتقد مؤسسة التأمينات التي يرأسها أحد أبناء قبيلته.

وهنا تطل شخصانية البغلي برأسها وجسمها ورائحتها النتنة. ولا أدري، ولا أظن أن أحداً غيري يدري، ما هي مخالفات رئيس المؤسسة. وإن كان علي البغلي يعلم عن أي مخالفة في التأمينات، فلماذا يسكت وهو الوزير السابق والنائب السابق والقانوني الذي يعرف الدستور ومواده؟

البغلي يذكرني بشبيهه الدكتور ساجد العبدلي، وكلاهما من فريق واحد ذي هدف واحد، وكلاهما من النوع الأملس الذي «يزلق» من يدك إذا حاولت مسكه. ورغم يقينك أنه غارق في الطين، فإنّ ثيابه «الخارجية» نظيفة براقة. وكلاهما أيضاً يُظهر الوداعة والمسكنة والوطنية، حتى تكاد تبكي وأنت تقرأ له. لكنهما يا للصدفة «شديدا العقاب» على التيارات الدينية السنية، «غفوران رحيمان» على التيارات الدينية الشيعية. وأتذكر جيداً – عندما اتصل بي الزميل ساجد عاتباً بسبب مقالة كتبتها عنه وعن شبيهه البغلي – أنني قلت له: «أنت تعلم، وغيرك أيضاً، كم أخاصم المتدينين الساسة ويخاصمونني، سنتهم وشيعتهم، بينما أنت وصاحبك لا تخاصمان إلا المتدينين السنة، فهل المتدينون الشيعة معصومون؟»، فقال: «كلامك صحيح، لكن صدقني لم يكن هذا عن قصد»! يا سبحان الله. كذلك لم يقصد ساجد مهاجمة التكتل الشعبي دائماً لأنهم خصوم الرئيس، وفي المقابل لم يقصد غض الطرف عن رئيس البرلمان، على سبيل المثال، دائماً أيضاً! هو بَحَثَ عن خطأ ارتكبه رئيس البرلمان، لكين زي ما قولتا ليك هوّه ما لاقي، أو أنه «لاقي» لكنه سها، والسهو له سجدة، وساجد دائماً ساجد.

وكنا، مسلم البراك وأنا وجمع من الأصدقاء نتسامر قبل أيام، فجاء من يخبرنا أن «البغلي الآن على شاشة إحدى القنوات الفضائية، يتحدث عن قصته الأزلية، البراك والتأمينات»، فضحكنا، وقلت للبراك: مبروك، ألف وخمسمئة صوت إضافي، فهجوم البغلي نعمة من الله تستحق ركعتي شكر. وكما افترى عليك الزميل ساجد يا بوحمود وادعى في مقالة له أنك هاتفته، وكما افترى أيضاً عليّ أنا، سيدّعي البغلي عليك وسيفتري بـ»ملاسته» المعهودة، فالباحث عن المنصب الوزاري يفضَّل أن يكون ذا جلدٍ مغمور بالزيت و»يزلق». ولن أستغرب إذا خاض الاثنان الانتخابات المقبلة معا في الدائرة الأولى.

***

في الصفحة قبل الأخيرة من عدد اليوم، أكتب أولى استراحاتي بعنوان «وشاحيات»، وهي الحلقة الأولى من سلسلة استراحات. 

محمد الوشيحي

وشاحيات: بين البر والبحر

للعلم والخبر، العنوان «وشاحيات» من اختيار الزميل صالح الشايجي الذي يتعامل مع المفردات كما يتعامل مدرب السيرك مع حيواناته الأليفة، فبغمزة عين من صالح تقفز حروف الجر فوق الكراسي، وبصرخة غضب منه تبرك حروف العلة على رُكَبها، وبضربة سوط يرتفع الفاعل من تلقاء نفسه وينفتح المفعول به، وبالجزمة القديمة يُسكّن المتحرك ويحرّك الساكن، على وقع تصفيق جمهور القراء وإعجابهم.

«وشاحيات» هو عنوان لاستراحات المخ، وهو للمواضيع الخارجة عن السياسة الداخلة في الهلوسة. وقد تكون الاستراحة عن موضوع واحد وقد تكون عن مواضيع عدة، بحسب الريح، ولن ألتزم فيها بموعد نشر ولن أعلق من أجلها روزنامة، فمتى ما هبّت عواصف اللوثة وداهمتني شياطين الهلوسة، أوكلت أمري إلى الله، وفتحت الورقة وامتشقت القلم ونشرتها على البلكونة للمارة وعابري السبيل ومن في قلبه مرض.

وفي الرسومات الكاريكاتورية سأتكئ على كتف الزميل الجزائري الفنان عبدالقادر أيوب، وعسى ألا يغافلني ويحرك كتفه فأسقط على خشمي. وإن فعلها فسأكشف للناس أنني لا أتفاهم معه إلا بالإشارة المجردة، توفيراً للوقت والجهد، وأحيانا أعجز عن التعبير والشرح بالاشارة فأتوكل على الله وأرقص له وأهزهز حواجبي، ومن له حيلة فليحتل. استيراد وتصدير

البحر للتصدير والبر للاستيراد، هي هكذا. فعندما تتزاحم الهموم والأحزان في قلبك، ويصبح لديك فائض من الدموع والآلام، تحمل شحنتك وتتجه إلى البحر لتفرغها هناك، فيلتقطها البحر منك ويدفنها في قيعانه، هناك بجانب الشعاب المرجانية وبقايا السفن الغارقة وحطام الطائرات الساقطة من علٍ، كجلمود أخينا امرئ القيس. لذا فأنت «تصدّر» أحزانك من خلال البحر.

في حين أنك عندما تريد التوقف على اليمين في طريق الحياة السريع، لمراجعة نفسك، والتفكير في تغيير محطاتك، والاستعداد للقفز خطوات واسعة إلى الأمام، فستتوجه إلى البر. والبر ملجأ للثوار واللصوص والصعاليك والأحرار، فإليه لجأ عروة بن الورد وتأبط شرّا وامرؤ القيس وسالم أبو ليلى المهلهل وآخرون. ومن اعتاد حضنَ ماما الحنون وصدرها الدافئ فليبتعد عن صحبة هؤلاء الضالين الخارجين على قوانين الأرض، وليذهب إن شاء إلى صالة التزلج، وإن أراد إلى ستار بوكس، فهناك تتوافر الموكا والكابتشينو والهوت شوكليت، بينما العيشة مع امرئ القيس وصحبه تحتاج إلى كفوف أكثر يُبْساً وصلابة من كفوف عمّال البناء، وجلود كجلود الذئاب، وقلوب كقلوب الفهود، ومن دون هذه «المتطلبات» ستقتلك عقربة بنت عقرب، ليس لها قيمة في مجتمع الصحراء.

والصعاليك لا شغل لديهم ولا مشغلة، فهم يتبطحون بين النساء والخمر ونظم الشعر وقطع الطريق، وهم أوفياء بعضُهم لبعض إلى درجة الموت، أو الدرجة التي تعلوها. وهم في الخمر أباطرة، وهم في نظم الشِّعر أساتذة بحجم شاعرنا أحمد الشرقاوي صاحب الروائع الشعرية الخالدة: «جمبلي جمبلولو»، و»آخر بير طفيناه وقلب العدو حرقناه أووو أووو»! وعليّ الطلاق لو استمع تأبط شرّا لقصائد الشرقاوي لخنقه بغترته حتى الموت، ثم لصلبه وأرسل دعوات العشاء إلى الضباع الجائعة. ولو أن عروة بن الورد استمع لمعلقات شاعرنا المبدع «ساهر»، لكَمن له خلف فرع البنك الوطني، ولاختطفه، ولقتله عضّاً ورفساً وشلّوتاً وبكساً.

امرؤ القيس وتأبط وأصحابهما استقوا الجزالة من البر والفضاء المفتوح، فالبَر ملهم، وقد سمعت أن رجل الأعمال السعودي «الراجحي»، ولا أعرف اسمه الأول، كان يصطحب أبناءه وإخوته إلى برّ قرب الرياض، فيجلسون على حصيرة ويتدارسون صفقاتهم ويتخذون قراراتهم الحاسمة والمهمة. أما البحر فمكب نفايات الأحزان، وهو مخلوق لذلك، وهو يحمل على أكتافه أحزاننا، ويخبئ العشاق عن أعين المتطفلين والدراويش، ويستمع لكل ذي شكوى ضعيف. ولو كان الأمر بيدي، لنصحت جامعة الدول العربية بأن تعقد اجتماعات القمم العربية على شاطئ البحر، توفيراً للمصاريف، ومن الزعماء للبحر مباشرة.

وأهل البحر يعمرون الأرض، بينما أهل البر يدمرونها، فالبرّي لا بيت له، وهو يقطع الفيافي والقفار وبحار الرمال من دون علاوة طريق، ويمر بجانب النمور، ويسمع عواء الذئاب وزئير الأسود ولا يتقاضى علاوة خطر. أما البحري فحياته «آب آند داون» بلُغة الطيارين والمضيفين، أي أنه يتعامل مع البحر بسياسة اخطف واجرِ، فهو يغزو البحر في فترات محددة من السنة ثم يعود بسرعة يلهث فرحاً بسلامته، وتقام لعودته الأفراح والليالي الملاح، وهو في غزوته لا ينزل البحر إلا في فترات قليلة، وقد لا يلامس جسمه البحر إذا كانت رحلته تجارية. إذاً علاقته بالبحر ليست ودية وليست على ما يرام، بينما البري يعشق الرمل حتى الثمالة والخبالة، وهو إذا استبد به الغرام، اختطف معشوقته وأردفها خلفه على الحصان وانتحى مكاناً قصيّاً و»جلس معها على الرمل»، وهو إذا ضاقت عليه قلوب أهله، انتحى بعيداً و»جلس على الرمل»، وراح يخط بعصاه ويغني و»يهيجن ويجرّها سامرية»، أما البحري ورغم عشقه للماء، فإنه ينظر إليه من اليابسة أو من سطح المركب، ولا يلامسه إلا عند الضرورة أو لدواعي الخطف، خطف السمك والربيان أو خطف اللؤلؤ والمرجان. لكنه أحيانا قد يدلدل رجليه في البحر، رجليه فقط.

هات وخذ وعنعنة

وأهل البحر أكثر ثقافة واطلاعاً من أهل البر، وأكثر تقبلاً للثقافات الأخرى، فعقل الانسان البحري مفتوح بلا أبواب، بينما عقل الانسان البري مغلق بالثلاثة. والبري أقرب إلى الدروشة من البحري، ويا ويلك ويا سواد ليلك إذا حدثت البري في أمرٍ لم يسمعه من أبيه، إنك إذاً صبئت، وفسقت، وفقست، ووجب سلقك. وسيتحدث معك البحري عن أستراليا كما يتحدث عن المقوع، فهو مطّلع، وكثير الترحال، وهو يأخذ ثقافة ويعطي ثقافة، بينما سيحدثك البري بأسلوب «العنعنة»، عن والدي عن خالي عن جدي الأكبر سفيان بن خرطان، أن مَن خرج عن شور أبيه فستلدغه عقرب وسينطحه تيس، وعندما تسأله: وأين رأيك أنت يا كوبان بن خيبان؟ سيذبح لك كبشاً ليُريك رجولته، فهو يقوى على الكباش، ولا يقوى على مناطحة الحياة، ولا مصارعة الثيران ولا الحيتان، وهو وإن كان أرذل القوم في عصره الذي يعيشه لكنك ستجده أكثرهم فخراً واعتداداً بنفسه.

بين العصر والمغرب

و»العظيم» بين أهل البحر، هو من يأتي بالجديد، جديد الثقافة، جديد العلم، جديد اللباس، جديد الفن، أيّ جديد، بينما «العظيم» بين أهل البر، هو من «يحافظ» على القديم، فثقافته هي ذاتها ثقافة جده التاسع عشر، لذا تجدها بالية، متهتكة، مرقّعة كما جلابية درويش الموالد، لا تصلح للعصر الذي هو فيه، يضحك الناس عليها وعليه، ولكنه سعيد، فهو «ضامن» الجنة، أو هكذا يظن، ولا شيء آخر يهم، وقد أوصاه جدّه وصية واحدة فقط لا غير: «المرأة مثل الشاة، إذا تركتها وحدها أكلها الذئب، فانتبه لشياهك»، لذا فهو لا يهمه إلا أن يحفظ شياهه، التي هي نساؤه، فهذا هو المجد، وهذا هو الشرف الذي لا يفوقه شرف، والخليجي البري والبحري- وهذه صفة يتفق فيها الاثنان – يرى أن الشرف موجود في أفخاذ الشياه، أو النساء، ويأتي الأجنبي الغربي الأحمر الأشقر فيحتل بلد صاحبنا بتاع الشياه، فلا يغضب ولا يقاوم، ليش؟ لأن المحتل الأحمر لم يمس الشرف، الذي هو في مكان حساس معلوم، ويدوس الأجنبي الأشقر بحذائه على صدغه، فيقول صاحبنا وهو تحت الحذاء: افعل ما بدا لك طالما لم تقترب من شرفي! فيصفق له الأجنبي وهو يكتم ضحكته: «كم يبهرني شرفك».

التجارة والرفق بالحيوان

وأهل البحر أكثر جشعاً من أهل البر، فهم لا يكتفون بحاجتهم من الأسماك، بل يبيعونها ويتاجرون بأرواحها، في حين يكتفي البرّي بما يسد رمقه ورمق أسرته، فهو لن يقتل غزالاً كي يبيعه، ولن يتاجر بالأرانب والجرابيع، وهو يؤمن بالأفكار هذه قبل ظهور جمعيات الرفق بالحيوان، وقبل العمّة بريجيت باردو، أو «بي بي» كما يدلّعونها في الغرب. وعلى طعم سالفة «بي بي»، أتذكر أثناء الدراسة الجامعية في مصر عندما سأل الدكتور أحد الطلبة عن الرمز «بي بي»، وهو اختصار لمادة كيميائية اسمها «بلاك باودر»، أي المسحوق الأسود الذي يُستخدم في حشو القنابل والمتفجرات، أجابه زميلنا ببراءة: «بريجيت باردو»، فسحبَ الدكتور شخرة طويلة من هنا إلى هناك، وصرخ في وجه صاحبنا: بريجيت باردو مين يا روح أمك! ثم التفت إلينا وقال بغضب: سأحشو الـ»بي بي» في مناخير هذا الأهبل وسأشعلها لأرتاح من غباء أمه.

لكن ليس أجمل من أن تتعامل مع البر والبحر، أي أن تكون ذا قلبين وعقلين، فأنت مثقف مرهف الإحساس، عقلك مفتوح للنسائم العابرة، تفكر في التعمير والتجارة، وفي الوقت ذاته أنت شجاع لا تبدّل مواقفك خوفاً من سيف العشماوي أو طمعاً في تفاح البستاني، وتمتلك من الفصاحة ما يقيك البرد ويطعمك من جوع ويؤمِنك من خوف ويسمح لك بمجالسة عروة بن الورد.

بريمان

والبري أذكى بكثير من البحري، لكنه أقل منه ثقافة، فثقافته جامدة يستقيها من محيطه القريب المشابه له، فلا جديد في الأمر. وإذا تعامل البري مع البحر فستكون كارثة ولا تشيرنوبل، وستسخن حناجر النساء بالعويل والنواح. وقد نقل لي كبار السن أن جدي لأمي رحمه الله – الذي أحمل اسمه الكامل، محمد الوشيحي، والذي يُكنى «بريمان» – برّي من الطراز الفاخر، شجاع تهابه الصحراء والظلمة، أرعن، تمرّ قبائل الجن بجانبه فـ»تبسمل» وتقرأ آية الكرسي وتسير على أطراف أصابعها قبل أن تعض أسفل ثيابها بأسنانها وتهرب لتنجو بنفسها، صادق كالسيف، سريع القرار كلمعة البرق، كريم كالمطر، عنيد ولا حظ الفقير، صبور ولا البعير، يتخذ الإجراء ثم «يحلّها الحلاّل»، آراؤه تُدخلك في جسر الدائري الخامس بإذن الله، لا يعترف بـ»دراسة الجدوى»، ولا يحترم كليات التجارة ولا الاقتصاد، وهو يأبى أن يتبع أحداً أو يعمل لمصلحة أحد، ولو أنه يعيش معنا وبين ظهرانينا لاستدعاني ونصحني بوقار: «اقتل صاحب الجريدة محمد الصقر، واستحوذ على جريدته يا رخمة»، وكنت سأطيعه وسأنفذ أوامره، مكرهاً أخاك لا بطل، معلش يا بوعبدالله. المهم، هذا البريمان العظيم متمرد في تكوينه، وكان قد قتل أحدهم، فغضب عمّه عليه، عمه هو لا عم القتيل، فهرب من عمه إلى اليمن، وهناك قتل يمنياً، فطاردته قبيلة اليمني، فهرب إلى «العين» في الإمارات، ثم لجأ إلى العراق، فتقاتل معهم، وهكذا، ويبدو أن مشكلة التزايد السكاني كانت ترهقه، فكان الحل الوحيد المتاح هو القتل لتخفيف الزحمة.

وبعد أن استقرت الدول والأنظمة في المنطقة، واستقرت به الأمور، لم يجد أحداً يغزوه، فقرر غزو البحر، بشرط أن يكون هو «النوخذة»، ويا سلام لو أمكنه ركوب البعير فوق ظهر المركب، لكانت ليلة جميلة. ونسيت أن أشرح لمن لا يتحدث الخليجية أن كلمة «النوخذة» تعني القبطان. وبالفعل، استأجر بريمان مركباً و»تنوخذ» واستعان بمجموعة من الأقارب والمعارف السعداء الحظ، وكان بريمان ذا خبرة بحرية تسعفه إلى حد ما، أما البقية فتعرفوا على البحر وهم بين أمواجه، وأظن أن رحلتهم كانت إلى الهند، ويبدو أن القبطان العظيم لم يكن يبحث عن اللؤلؤ ولا يفكر في استيراد الأخشاب والبهارات من الهند، بل كان يفكر في غزو الهنود والاستيلاء على جِمالهم، ليحملها معه على ظهر المركب إلى جزيرة العرب والمسلمين، فهذه صنعته التي يجيدها، فهو أحد أشهر قطّاع الطرق في الجزيرة العربية في العهد المتأخر، لكنه للأمانة لم يكن ليأخذ أبقارهم غنيمة، ليس تعففاً، بل لأنه يجهل ماهية الأبقار ويجهل طريقة التعامل معها، كان سيحدق فيها قليلاً ثم يقتلها، كي لا يشغل دماغه بها. المهم، خاض النوخذة وبحارته غمار البحر، وما هي إلا أيام حتى شاع الخبر: «المركب طبع»، أي غرق، وبعض البحارة راحوا طعام أسماك، ونجا هو كعادته، إلى أن مات – معمّراً – موت فراش في المستشفى الأميري، إن لم تخني الذاكرة، رغم كل الحرائق التي أشعلها والجرائم التي ارتكبها والمعارك التي خاضها. واعتبرت قبائل الجن يوم موته يوماً وطنياً، لاتزال تحتفل به كل عام. رحمة الله عليه، مات قبل أن يأخذ ثأره من البحر.

قفل الباب

روعة البر أنه سيستقبلك وحدك إذا رفضك المجتمع أو رفضته، بينما البحر لن يفعل. وهل سمعت عن صعلوك يعيش في البحر وحده؟. والبحري يفكر في نفسه أولاً ثم في من حوله، كما هي تعليمات مضيفة الطائرة: «لا تساعد أحداً على ارتداء كمّام التنفس قبل أن ترتدي كمّامك»، بينما البري يفكر في أقاربه وينسى نفسه، فكل ما لديه من تفكير سيبعزقه على أقاربه وأبناء قبيلته. 

محمد الوشيحي

يا حصان

في لندن، غضبت شابة إنكليزية من أصل إيراني على عشيقها الكويتي، ورفضت استقبال مكالماته، فاستنجد بصديقه ليعيد العلاقات ويرمم ما تهدّم، فاشترط عليه صديقه أن يشتمه على مسامعها ويوبّخه «بس عشان يلين رأسها» قبل أن يبدأ التوسط والشفاعة، فوافق العاشق، وفعلاً اتصل صديقه بالشابة الإيرانية، وشرع يشتم زميله كي يكسب ودّها، وكانت أول جملة: «يو آر بيقر ذان هيم»، ويقصد أنكِ الأكبر عقلاً فتجاوزي عن أخطائه واصفحي، فصححت معلومته: «لا، هو أكبر مني»، فامتدح تواضعها وواصل حديثه وكرر جملته، فصححت معلومته مرة أخرى ولكن بغضب: «هو مولود في فبراير 69 وأنا في نوفمبر 72، فكيف أكون أنا الأكبر؟»، فتجاهل سؤالها وقفز إلى جملة اخرى: «هي هاز نو ستوري»، أي «ما عنده سالفة»، ومعناها بالفصيح «هو مخطئ»، فلم تفهم الفتاة واستفسرت: «وات؟»، فأعاد على مسامعها الجملة، فأعادت الاستفسار بنبرة غاضبة، فسألها: «ألا تفهمين الإنكليزية؟»، فصرخت في وجهه: «اذهب إلى الجحيم أيّها الغبي»، فانفعل صاحبنا ورد على الشتيمة بأحسن منها: «أنتِ كلبة»، فاستفسرت منه: «هل تقصد أنني أمتلك كلبة؟»، فأوضح لها: «لا، أقصد أنك أنت الكلبة ذاتها»، فاستغربت هذا التشبيه ولم تفهم، واستفسرت وهي تطلق زفرات الغضب على اعتبار أن لغته ركيكة: «هل تتحدث الآن معي عن الكلاب، ما بها؟ ما الذي يمكن أن أفعله من أجلها؟»… كل هذا يتم وعشيقها – الذي يتحدث الإنكليزية بطلاقة – يستمع من خلال السبيكر إلى الحوار ويتلوى على الأرض من شدة الضحك.

حتى في ما بيننا نحن أهل الخليج، تختلف مفرداتنا ومعانيها اختلافاً طفيفاً، لا يستدعي تدخل الأطباء. ففي أبوظبي، وأثناء دورة تدريبية جمعت ضباطاً خليجيين، دار حديث بيني وبين ضابط إماراتي عن «الملابس الداخلية للرجال». ويجب التوضيح – لغير الخليجيين – أن أهل الكويت والسعودية والبحرين وقطر يرتدون «السروال» تحت الثوب، وهو في طول البنطلون، في حين يرتدي أهل الإمارات وعمان «الوزار» تحت ثيابهم، وهو مفتوح على الحديقة العامة ويطل على الشاطئ مباشرة. وانتقد صاحبنا الإماراتي سراويلنا، موضحاً أن النساء وحدهن اللاتي يرتدين السراويل، فانتقدت بدوري الوزار، وكيف أن الرجل إذا سقط على ظهره فستحل الكارثة، ودار النقاش على وقع ضحكات الزملاء، وعندما هَمّ الإماراتي بالمغادرة، قال لي بودّ: «في خاطرك شيء؟»، ومعناها باللهجة الكويتية: «هل تحمل ضغينة عليّ؟»، في حين أن معناها بالإماراتية: «هل تأمرني بشيء؟»، ويقولها المرء عادة قبل مغادرة المجلس. فأجبته: «لسنا أطفالاً كي نحمل في خواطرنا شيئاً على بعضنا بسبب نقاش ضاحك»، فلم يفهم، وكرر السؤال، فقلت له بغضب: «يا أخي ليس في خاطري شيء، لماذا تهوّل الأمور؟» فغضب بدوره: «وما الذي يغضبك الآن؟!» وكبرت القصة والسبب سوء الترجمة.

وفي الكويت ذاتها، تختلف اللهجات والثقافات، فالبدوي إذا أراد أن يمتدحك وصفك بأنك ذئب أو حصان، في حين أن هذين الوصفين عند الحضري يتطلبان تدخل (112) خدمة الطوارئ الهاتفية.

الثقافات تختلف، وهذا ما دعا النائب محمد هايف إلى مطالبة الحكومة بطرد السفيرة الأميركية بعد أن تحدثت عن الكلاب والقطط في برلماننا، ولو كان الأمر في يد نائبنا الفاضل لأمر بجلدها وحلق شعرها، وهي لن تحرص على شعرها بقدر حرصها على معرفة الجريمة التي ارتكبتها. يالله معلش «هي هاز نو ستوري». 

محمد الوشيحي

ساحت الأسماء وتداخلت

السؤال السريع: لماذا التعديل؟ الجواب الأسرع: لأنه وناسة… والسؤال المباشر: هل التعديل بمنزلة إقرار بسوء الاختيار؟ الجواب الأبشر: نعم… طيب ما هي الأخطاء التي ارتكبها الوزراء المحكومون بالإعدام؟ العلم عند الله.

الأوروبيون كثيراً ما يتهكّمون على أبناء بلد الورود والطواحين الأوروبي، ويعتبرونهم قوماً لا يعرفون كلمة «عيب». ليش؟ لأن أغلبية هؤلاء تشكّلوا من حثالة المجتمعات الأوروبية القديمة، من القوادين واللصوص والشواذ والعاهرات وأصحاب المهن الوضيعة وعصابات القمار وما شابه، أناس وجدوا أنفسهم منبوذين من الآخرين فتوجهوا إلى ذاك البلد، وفتحوا المسائل على البحري، وتركوا لكل غارب حبلَهُ، فكل شيء مسموح، وكل باب مفتوح: مخدرات؟ تفضل، وبموافقة الحكومة! شذوذ؟ يسعدنا، ويا حبذا لو تُوّجت العلاقة بزواج علني يباركه القس، ويحضره أفراد الأسرتين! قمار؟ أهلاً وسهلاً… حتى هؤلاء الناس الذين لا يعرفون العيب، لو رأوا طريقة تعديلاتنا الوزارية لعتبوا علينا ولتمتموا في صدورهم: صحيح اللي اختشوا ماتوا.

وقبل فترة، علا نحيبنا ونشيجنا تأثراً ونحن نستمع إلى نواب الحكومة وهم يتحدثون عن وجوب منح عمّتهم فرصة كي تخطط وتنفذ، واليوم نسمع عن تعديل وزاري بعد ثلاثة أشهر من التشكيل، ولا ندري ما هو رأيهم الآن في عمّتهم.

هناك تفسير واحد لحكاية التعديلات الوزارية السريعة هذه، يبدو أنها «زغالة» حكومية لتعذيب الشعب. فما إنْ نحفظ أسماء الوزراء حتى يتم نفيهم إلى جزيرة سانت هيلانة، وتوزير آخرين بدلاً منهم، فتلخبطت عندنا الأمور، وساحت الأسماء على بعضها، وتشربكت المناصب كما أسلاك التلفون، وأظن أن كل وزير يعاني مثلنا في حفظ أسماء زملائه، فإذا شاهد أحدهم زميله ضرب جبهته وتساءل: هالوجه شايفه بس وين؟. والمشكلة أن الصحف غداً ستمتلئ بتصريحات نواب يرفضون توزير هذا ويحتجّون على ذاك، وسيعلو الضجيج وسيرتفع الدخان، وستشتكي الحكومة – بكل براءة – من تدخّل النواب في سلطاتها.

بقي شيء تهمني معرفته، ما هو وقع شائعات التعديل الوزاري على الوزراء أنفسهم؟ وهل سيغامرون باتخاذ قرارات جريئة تصحيحية في وزاراتهم أم سينصبّ تفكيرهم على محاولة تثبيت كراسيهم؟ وكم من عملية أجرتها الممثلة بنت عبدالمجيد فازدادت بشاعة، وازددنا هلعاً منها ورعباً. اهب يا وجهها.

* * *

مرَّتْ يومَ أول من أمس الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد البطل الكويتي مبارك النوت، الذي كان واحداً من أبرز المطالبين بإعادة العمل بالدستور، قبل الغزو، وكان رئيساً لجمعية العارضية، فدخل عليه الغزاة مكتبه، فوجدوا صورة الأمير الراحل الشيخ جابر معلّقة على حائط خلفه، فأمروه بإنزالها، فرفض، فاقتادوه معصوب العينين إلى ساحة جمعية العارضية، وأعدموه أمام الناس… رحمك الله يا مبارك، وشكراً للشبان الوطنيين الذين راسلونا لتذكيرنا بهذه البطولة والتضحية.

مبارك النوت واحد من أبناء المعارضة الكويتية، الذي يعارض وفق الدستور، لكنه لا يقبل إهانة الحُكْم مهما كان الثمن.

ويا حكومة، أو بالأحرى، يا حُكْم، يميناً بالله لن تجدوا أكثر دفاعا عن النظام من حماة الدستور وأنصاره. والأيام بيننا، خصوصا أن الرياح هذه الأيام شرقية عاتية، والمثل يقول: «لا شرّقت… غرّقت».

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

محمد الوشيحي

نحن: لا نأكل الغبقة


قال الخواجة اللبناني معلقاً على كلامي وقد ارتفع حاجباه حتى كادا يطيران من مكانيهما ويتركان جبهته جرداء لا زرع فيها ولا ماء: «معقولة! كويتي وليس لديه ما يكفيه إلى آخر الشهر؟». قلت وأنا أفرج عن دخان سيجارتي دفعة واحدة: «ليس ذلك فحسب يا مولانا غابرييل، هل تعلم أن عدداً كبيراً من الكويتيين ممنوعون من السفر لعدم قدرتهم على سداد مبالغ أقل من ثلاثة آلاف دولار؟ وأن عدداً أكبر يتزاحم أمام اللجان الخيرية بسبب العلاج في المستشفيات الخاصة، هرباً من الموت الزؤام، ووو»، وقبل أن يرتد إليه فكّه الأسفل عاجلته بضربة أخرى: «لا ألومك، خصوصاً أن قدمك لم تطأ أرض الكويت، فهذه هي الفكرة السائدة عند العالمين، طيب ما رأيك أن شيخ الساخرين محمود السعدني – شفاه الله – عاش في الكويت سنين عدداً، ثم نجده يقول في أحد كتبه إنه تذوّق المنسف في الأردن والمسقوف في العراق و(الغبقة) في الكويت! علماً أن الغبقة ليست وجبة محددة، بل هي (موعد الوجبة)، وهي لا تكون إلا في رمضان، وترجمتها بالعربي الفصيح – أو بالعربي المَحْط، على رأي الساخر الراحل محمد مستجاب – هي (العشاء الرمضاني). لكن السعدني الذي اعتاد الغوص في قيعان المجتمعات، لم يغص في قاع المجتمع الكويتي، فالتبسَ الأمر عليه، وهو مثلك ومثل كل العرب يظنّ أن كل كويتي سيموت كما مات هارون الرشيد، في الخامسة والأربعين من عمره بسبب التخمة والزحار».

«يا عمي عندكون حقول بترول أكبر من المحيطين الهادي والأطلسي، وين عم تصرفوا فلوسكون؟»، قال غابرييل وقد ساوره الشك في صدق معلوماتي. قلت وأنا أعبث بشنبي: «تنتشر أموال نفطنا في الاتجاهات الخمسة، باستثناء اتجاه مصالح الناس والبنية التحتية، جزء من ثرواتنا يتجه إلى قرغيزستان وطاجيكستان وكل ذي ستان، وجزء منها تبخر في المناقصات والمزايدات الأحياء منها والأموات، وجزء هرولَ إلى قنوات فضائية وصحف وكتّاب كلهم ارتدوا ثياب الراقصات المشخلعة العارية، ووضعوا أيديهم على خصورهم وهات يا ردح ضد خصوم الحكومة، والمصيبة أن الملامة بعد كل هذا تقع على الناس البسطاء».

وأكملتُ: «هل تتذكر يا صاحبي حاكم أوغندا الأسبق عيدي أمين، الذي لا يمر يوم دون أن تكتب الصحافة العالمية عن آخر (إبداعاته)، والذي أعلن اسلامه، وعندما بلغه أن الإسلام يحرّم الزواج من أكثر من أربع نساء ويأمر بالختان، تراجع وارتد، ثم أخذها من قصيرها وأعلن ألوهيته، فاستراح وأراح. نحن لدينا حكومة الخالق الناطق عيدي أمين، إلا أنها مسلمة ولا تأكل لحوم خصومها بالمعنى الحرفي للأكل، وكان أن أبرق عيدي أمين إلى ملكة بريطانيا (جلالة الملكة استعدي، سأزور بريطانيا، وخاطبي حكومتكم لتوفّر لي كشفاً بأسماء محلات الأحذية، فتجار بلدي، عليهم لعنات السماء ولعناتي، لا يبيعون الأحذية)، متناسياً أن أوغندا في عهده تخلو من الأسواق، وحكومتنا الكويتية تسافر إلى شرق آسيا فتبهرها البنية التحتية هناك، فتعتب علينا نحن الشعب، وتحمّلنا الملامة».

وحكومتنا، يا غابرييل، مثلك ومثل السعدني ومثل بقية العرب، تعتقد أننا نأكل الغبقة، ولا تعرف أن الغبقة ليست وجبة تؤكل… صدقني يا صاحبي، لو كان في الأرض عدل لتمّ الحجر على حكومتنا، ولأودعت أموالنا في هيئة شؤون القصر إلى أن نبلغ سن الرشد. 

محمد الوشيحي


 احذروا تفاحة آدم

قَسماً عسماً – على رأي سائق تاكسي في مصر يريد أن يقنع الناس أنه صايع وأنه هو الذي قطّع السمكة وذيلها، بينما هو أغبى من وحيد القرن وأغلب من عمال المناجم الأفارقة – أن خللاً هائلاً قد تسلل إلى أدمغتنا وعبث بمحتوياتها، وقلبَ عاليها واطيها، وسرق كنوزها، ثم خرج وترك بابها مفتوحاً تعزف عليه الرياح ألحان صفيرها. وإلا فما معنى أن يصاب إنسان بارتفاع درجة الحرارة، فيذهب إلى المستشفى، فيطلب الطبيب منه التوجه إلى غرفة العزل لحين ظهور نتائج فحصه، فتهرب من أمامه الممرضات، وكأنهن «حمرٌ مستنفرة فرّت من قسورة»! فيَرى المراجعون المشهد فيلوذون بالفرار ويتفرقون كأنهم شظايا زجاجة سقطت من على الرف العالي، ويبدأون قصفه بنظرات حارقة مغلفة بالقرف، فيشعر المريض، الذي لم يُعرف مرضه بعد، بحرج وخجل لم يشعر بهما لص قبضوا عليه متلبساً بالسرقة في عز الزحمة.

هذه النظرات الحارقة، رغم سخافتها، قد تكون السبب في عزوف الناس عن التوجه إلى المستشفيات إذا شعروا بارتفاع درجات الحرارة، وبالتالي سيؤدي هذا إلى كارثة صحية في البلد. ولا تتهموني بالمبالغة، وتذكروا أن سبب خروج أبيكم آدم من الجنة كان تفاحة، رغم أنه كان في الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرَ على قلب بشر، لكنه غوى فهبط وهبطنا بعده إلى الأرض لنجد أمامنا النائب الكويتي عبدالسلام النابلسي والممثل محمد العجيمي والثعابين والعقارب وبقية مخلوقات الله الضارة، كل هذا بسبب تفاحة، وكيلو التفاح اليوم بأربعمئة فلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأجزم أن الأوروبيين في أوروبّاهم، لو دخل عليهم خنزير – بجلالة قدره ونتانة رائحته – المستشفى وهو يضع على أنفه منديلاً ويسعل ويعطس، لما غيّروا أماكن جلوسهم، ولتوجّه هو مباشرة إلى ماكينة الأرقام وسحب رقمه وجلس على كرسيه يقرأ كتاباً، مثلهم، في انتظار دورِه.

صحيح أن من حق الأوروبيين أن يضعوا رجلاً على رجل بحضور الخنزير، لكفاءة أطبائهم، وتوافر أجود أنواع الأدوية والمعدات وكل التجهيزات اللازمة، وصحيح أنهم لن يرضوا بمعالجة كلابهم في مستشفياتنا، لكننا بهذه الطريقة في تعامل بعضنا مع بعض سنزيد السوء سوءاً، وسننشر الوباء بيننا بسرعة أكبر ليفتك بنا قبل أن تُنهي مصانع الأدوية إنتاج حصتنا من اللقاح المضاد… فارحمونا، أو ارحموا أنفسكم، يرحمكم الله.

وطبعاً، أنتم تابعتم الخبر الذي يقول إن «الاتحاد الأوروبي يبحث عن مساحات فاضية في أوروبا لتحويلها إلى مقابر جماعية، إذ من المتوقع أن يكشر وباء الخنازير عن أنيابه في الشتاء المقبل»، كل هذا يتم عندهم بهدوء تام، ومن دون ولولة ولا عويل.

***

باشر المحامي الرائع الأستاذ حسين العبدالله أمس توجيه رسائل إنذار إلى شركة الاتصال المسؤولة عن إزعاج الناس، وما لم تتوقف هذه الشركات عن غيّها فسيكون «البيع أغلى من سعر السوق»، كما نقول في أمثالنا، خصوصاً أن العديد من الرسائل وصلتني تعلن رغبتَها في توكيل الزميل لرفع دعاوى مماثلة. وقد أعذر من أنذر.