محمد الوشيحي

لون الخضرة اخضر

الأوضاع عندنا مقلوبة كزراعة البصلة، رجلها في السماء ورأسها في الأرض. وعندما شاع خبر شبكة التجسس الإيرانية، راحت الحكومة تأكل الرز بالمرق مع الملائكة، وتغط في سبات ونبات، وتركتنا نحن أطفالها نرتعد مبلولين، بردانين، نتبادل نظرات الرعب، ونبتلع ريقنا.

وبعد صمت صامت، استمر يومين، خرج المتحدث باسم الحكومة د. محمد البصيري، ليؤكد لنا، بعد الحمد لله، أن الخضرة خضراء، والحُمرة حمراء، والصلاة على النبي. فصرخنا كما صرخت فيروز «عيدا كمان»، ففعل، فقلّبنا التصريح بحثاً عن كلمة لها اسم وعنوان، ثم وضعنا التصريح على آذاننا وهززناه بقوة كي نسمع خرفشة تفرحنا، فإذا هو كالفضاء الفاضي والخواء الخائي، فيئسنا فعفسنا التصريح ورميناه في الشارع ونحن نضحك على المقلب، ومررنا بحُنين وأخذنا خفّيه وعدنا أدراجنا. الشيء الوحيد الذي فهمناه من التصريح هو اسم المصرّح. والبصيري يعرف جيداً نوع العملة التي تحتاج إليها أسواق الحكومة، ويعرف أن المتحدث باسم الحكومة يجب أن يتحدث فلا يقول شيئاً. نظام هوبّا هوبّا.

والحمد لله أن الذي قبض على الشبكة هو «الاستخبارات العسكرية» في وزارة الدفاع لا مجلس الوزراء. والاستخبارات نعرفها ونثق بها، ونعرف رئيسها اللواء خالد الجراح الذي يحيط نفسه بمجموعة من خيرة الضباط، يعملون بصمت وحب جارف لهذا البلد المسكين. ولتعرفوا الفرق، قارنوا بين تعامل سفاراتنا في الخارج مع المدنيين، وبين ملحقياتنا العسكرية – التي تتبع الاستخبارات – مع العسكريين وأهاليهم. ولعل أكثر ما يطمئننا، برغم عكّ الحكومة، هو أن من يفرش فراشنا ويغطينا بالبطانية، كي ننام، هما خالد الجراح وعذبي الفهد ورجالهما. ولو أن الحكومة هي من يفرش فراشنا للدغتنا العقارب ولهشّمتنا الفيَلة ولتفتتنا، ولتعرّف علينا أهالينا من ساعات أيدينا وموبايلاتنا.

ولا أدري متى نتخلص من روح الفأر التي تلبستنا، فنبحث عن روح أسد أو نمر أو حتى قرد يجيد التشعبط على أغصان أميركا كلما هبّت الرياح الشرقية. وعندما صرخنا في حكومتنا: «أغلقي الباب الذي بيننا وبين إيران، وكدّسي خلفه الطاولات والخزائن والكراسي»، ردّت علينا بصوت لقماني: «ليس بين الطيبين حجاب»، وفتحَت لهم الباب كي يدخلوا في الحوش، ولا يتجاوزوه، لكنها فوجئت بهم في غرفة النوم، وعندما استفسرت أجابوها: «نحن لسنا نحن».

وتقول إحدى النظريات العسكرية: «فكّر بعقلية الآخر»، والآخر هو الحكومة، ولو كنت أنا مكان الحكومة لأعلنت: «الشبكة اعترفت بأن من يموّلها هم نواب التأزيم وسكّان أم الهيمان». 

محمد الوشيحي

إلى بن طفلة والزيد

لا شيء أشدّ إيلاماً من طعنة صديق في ظهرك، إلا أن يسرق ابن عمك رمحك ويضعه على الجمر حتى يحمرّ، ويطعن به ظهر صديقك… حدث هذا عندما كتبت جريدة «الآن» مقدمة لمقالتي السابقة (الكيبل)، بطريقة يراد منها دق إسفين بيني وبين جريدتي، جريدة «الجريدة». لذا يبدو أن على الصديقين، بن طفلة والزيد، استعادة فروسيتهما بسرعة، بعد أن نسياها.

و»الآن» فاتنة لها غواية. ولطالما امتدحتني وهاجمَتني – وغيري – تعليقات معلّقي الآن (بغضّ النظر عن صدق التعليقات أو توجيهها، أو أن من يكتبها هو فلان أو علان)، ولم أتذمر مقدوحاً، ولم أتشكر ممدوحاً، فلم أعتد ذلك… أيضاً لطالما هاجم بن طفلة والزيد، ناشر جريدتنا، الزميل محمد الصقر، ورئيس تحريرها، الزميل خالد الهلال، صراحة مرات، وغمزاً ولمزاً مرات أُخَر. وأدرك جيداً لو أن كاتباً من مدغشقر هاجم الصقر أو الهلال لبروزت «الآن» مقالته ولونتها بالأحمر ولاحتفت بها وسارت خلفها بالطبلة والمزمار. ولطالما شعرتُ بافتراء «الآن» وملّاكها على الصقر والهلال، ولم أتدخل، ولن أفعل، فللصقر والهلال أدواتهما. لكن المثير أن جريدة «الجريدة» لم ترد على هجوم «الآن»، لا مباشرة ولا بالغمز واللمز، بحجة أن «الجريدة» أُنشئت لتقدّم صحافة عالية المهنية، ولا وقت لديها للألعاب النارية وتصفية الحسابات. وجهة نظر. بل إن الزيد وبن طفلة يتذكران جيداً أن أكثر من ناصَرَ «الزيد»، بعدما تعرض لهجوم جسدي، هم كتّاب جريدة «الجريدة».

وعندما صدرت هذه الصحيفة، أو بالأحرى بعد أن شاع خبر قرب صدورها، توقعتُ أن نشهد قصفاً جويّاً متبادلاً بينها وبين جريدة «الوطن»، انتقاماً لثماني عشرة سنة من افتراء «الوطن» على الصقر والهلال، فعلّق يومذاك الغائب الحاضر وليد الجري: «الصقر والهلال لن يفعلا ذلك، خذ العلم»، وصدق أبو خالد.

أختلفُ مع الصقر؟ نعم، من الدعامية إلى الدعامية، باستثناء الماكينة. ولكَم شَغَلْنا محققي المرور بكثرة التصادم بيننا، لكنه ليس من الصنف الذي يطعن في الظهر. ولم يستعن يوماً بالظلام ولا بالسراديب. وكانت، ومازالت، نقاط التوافق والخلاف بيننا واضحة. وقد علّق أحد الزملاء العرب بدهشة: «للمرة الأولى أقرأ مقالة لكاتب يعلن فيها منع مقالة له، وتنشر الجريدة كلامه». وللعلم، منعت لي مقالات عندما كنت أكتب في جريدة «الراي»، ومُنعَ لغيري، في «الراي» وفي «الجريدة» وفي بقية الصحف.

عوداً على بدء… ما أشعل الدماء في عروقي، وأثار امتعاضي وقرفي، أن تُهاجِم «الآن» الصقر والهلال مستعينة بخيلي وإبلي، وأن تعتبر «مساحتي» في «الجريدة» ثغرة يمكن التسلل من خلالها ومغافلة أصحابي! وبن طفلة يعلم أن عادات قبيلتنا، التي هي دستورها، تفرض على الرجل الانتصار لصاحبه على ابن عمه، حتى وإن كان صاحبه هو المخطئ، فما بالك إن كان ابن العم هو المخطئ. وآه ما أجمل بعض عاداتنا… وأكرر، لك يا بن طفلة وللزيد ما قلته قبل قليل، أظن أن عليكما استعادة فروسيتكما، وألا تكررا خطيئتكما، كي لا نتبادل إطلاق النيران فيفرح بكما الشامتون. 

محمد الوشيحي

خصخصة جدي 
بريمان

كان الله في عونكم، سأكتب عن الاقتصاد والتجار، ومن لا يرغب في القراءة فليصم أذنيه، وأنا أولكم. ولغير الكويتيين أقول إن البرلمان والحكومة بصدد إقرار قانون خصخصة، وهو شبيه بمعاهدة «سايكس بيكو». خذ أنت هذا، وأنت خذ ذاك. والفرق بين قانون الخصخصة الكويتي الذي صاغته اللجنة المالية في البرلمان ومعاهدة سايكس بيكو هو لون شعر المجتمعين وسحناتهم. وكان جدي لأمي، رحمه الله، محمد الوشيحي، وكنيته بريمان، قاطع طريق من الطراز الفاخر، وهو أول من طبّق قانون الخصخصة ببندقيته العصملّية، وكان يحسم خصخصته من المداولة الأولى مباشرة، فلم يكن يملك الوقت لمناقشة التعديلات. وعندما مات لم يصدق أحد معارفه: «غير صحيح، لو أنه مات ودُفن فعلاً لهرب الموتى من مقابرهم عراة، بعد أن شلّحهم أكفانهم».

والقانون يحضر ويرفض تكليف التجار صياغة قوانين تجارية، كي لا يتم تفصيلها على مقاساتهم. ولجنتنا المالية تحت سيطرة التجار، وملعون أبو القانون. على أن النائب خالد السلطان حلّق بعيداً، فاقترح أن تبيع الحكومة مشاريعها ومرافقها للتجار، وأن تدفع هي المال كي تساعد التجار في شراء سلعتها. أي والله. يعني يشترون الحكومة بفلوس الحكومة. يعني الحكومة هي التي شسمه وهي المسؤولة عن الماجلة، كما يقول المثل الصايع.

وبعض تجارنا يتعاملون مع الدولة كما يتعامل الطفل الدلوع مع أمه، لا هو يكف عن مطالبه ولا هي تكف عن تحقيق رغباته. وكنت قد تساءلت في الأزمنة السحيقة في برنامج تلفزيوني «هل الكويت دولة مؤقتة؟»، فناحت على رأسي النائحات وصاحت الصائحات، وهاتفني من تباكى على الهواء مباشرة فأبكاني. وبقراءة قانون الخصخصة الحالي ألغيت علامة الاستفهام، وخصوصاً أن جميع التسهيلات متاحة للتجار ومن دون ضرائب. وسأدفع عمري لمن يطلعني على التحويلات المالية التي يكدسها بعض التجار في الخارج، كي يتكئوا عليها إذا اهتزّت الكويت أو هوت في الجب.

ولتجارنا خصوصيتهم، ففوائد قروض البنوك في الكويت هي الأعلى أو تحت الأعلى مباشرة، وأسعار المكالمات والاتصالات والسلع هي الأفحش، وعقود المشاريع هي الأكثر كلفة والأسوأ تنفيذاً، وأسعار السيارات هي الأغلى في المنطقة، وكنت قبل سنتين أبحث عن سيارة أشتريها، أجدد بها شبابي، وأزيل بها الغبار عن وجهي، فراقت لي واحدة، فصعقني غلاء مهرها، ستة عشر ألف دينار إلا ديناراً واحداً، فأضربت عن الشراء، وارتضيت العزوبية مكرهاً، فاقترح عليّ صديق أن أبحث عن مثيلاتها في الخليج، ففعلت، وذهلت عندما علمت أن سعر شقيقتها التوأم في السعودية اثنا عشر ألفاً وثلاثمئة دينار. فاشتريتها من السعودية. وها هي تسمع صوتي.

ويحدثني مدير أحد المطاعم فيقول: «تكلفة كأس الكوبتشينو على المطعم، شاملة كل شيء من إيجار محل ورواتب ووو، هي ستة فلوس، أكرر ستة فلوس، ونبيع الكأس للزبون بسبعمئة وخمسين فلساً»، ولكم أن تحسبوا نسبة الأرباح، وأن تتذكروا عدم وجود ضرائب.

هؤلاء هم من سيحكمكم غداً، وسيتحكّم بكم، فأبشروا واستبشروا، وفتّكم بعافية. 

محمد الوشيحي

أبوك زمن


كما نفعل نحن مع قطعة الخبز الملقاة على الأرض، يفعل الكوريون مع الأموال والمشاريع الملقاة على الأرض، يقبّلونها وجه وقفا ويضعونها على الرصيف، كي لا تدهسها أقدام المارة. لكن الكوريين يحترمون ويقدسون عادات غيرهم، لذلك قدسوا عادات الكويتيين، فعندما فازوا بعقد مناقصة ضخمة في وزارة الكهرباء تعاملوا معها بطريقتنا وعاداتنا وتقاليدنا، فرفعوا العقد على نور اللمبة بحثاً عن ثغرة ينفذون من خلالها ويتسللون، وخفّضوا الكميات، وتلاعبوا بالمواد، ولبّسونا العمائم. ومن عرف لغة قوم أمِنَ مكرهم. ونحن قوم يتحدثون بلغة السرقة، بشرط أن يكون السارق قريباً من أصحاب القرار، كي يأمن لهيب النار، ويدافع عنه «العقلاء» والشطار.

وفي هذا الزمن المجهول الأبوين، زمن المؤرخ محمد الجويهل (قد أتحدث لاحقاً عن اتصاله بي وما دار من حديث بيننا، عندما تكرّم ومنحني شرف المواطنة، ومنح أسرتي شرف الانتماء الحقيقي إلى الكويت، وكنت قبلها أشك في كويتيتي وأراقب تصرفاتها وأتفقد هاتفها النقال، لكن رحمة ربك أسعفتني بالجويهل الذي طمأنني، يا ما أنت كريم يا رب. حينها سمع مني كلمات لا يمكن أن تغنيها أم كلثوم، ولا غيرها، وأظنه لن يهاتفني مرة أخرى)، في زمن هذا الجويهل، وزمن «العقلاء»، وزمن كتّاب التحكحك الباحثين عن مناصب وزارية عبر ضرب المعارضة، وزمن الصحف والفضائيات الباحثة عن «الرينج روفر» و»البي أم دبليو» والعقود، باستثناء فضائية الراي، التي نعتبرها شباك سجن تتسلل إلينا منه شوية أشعة شمس انحرفت عن بقية القطيع، إضافة إلى مَن رحم ربي من الصحف والكتّاب… أقول، في زمن بارد كهذا، من لا يسرق ويرتشي ويرشو عليه أن يغادر البلد فوراً، أو «في لحظة التو» كما كتب أحد القراء في رسالته إليّ.

في زمن كهذا، كئيب كالمسلسلات الكويتية، تعرض الحكومة مشاريعها، سواء «استاد كرة قدم»، أو «محطة ضخ» أو «خطوط سريعة»، أو غيرها، فيتنافس المتنافسون، فتفوز شركة اعتادت الفوز، واعتادت حرق الأسعار، ليبدأ اللعب بـ»الأوامر التغييرية». والأوامر التغييرية تشبه حليب الأطفال «سيريلاك»، يجعل طفلك ينمو وينمو وينمو. وقد تلتبس الصورة على الناس فيظنون أن كل التجار لصوص، وكلهم استحواذيون، وكلهم قريبون من الباشا، وهذا غير صحيح، واسألوا أنفسكم عن شيخان الفارسي، مثلاً، الذي يرفع أسفل ثوبه عن مشاريع الـ»هكّا هكّا» التي انتشرت في عهد حكوماتنا الأخيرة، وفي الوقت نفسه تجده أحد أكبر المتبرعين بصمت. وغيره كثر، نعدّهم على أصابع اليد المبتورة.

وأقول لوزير الكهرباء، الدكتور بدر الشريعان، شكراً على إحالة الكوريين إلى لجنة تحقيق، وتأكد أننا معك نتابع التحقيق، ونأمل أن تضع أصابعك في أعينهم الضيقة، وأن لا تتم طمطمة الموضوع بالاستعانة بأحد النواب «العقلاء».

وكانت الرشوة مقصورة على بعض المقيمين من غير الكويتيين، ومع انتشار الفساد انضم إليهم بعض صغار الموظفين الكويتيين، ثم جاء هذا الزمن، زمن المؤرخ، فانضم الكبار، وها هو أحد الأطباء الكويتيين في مستشفى الرازي يبتز المرضى بكل ثقة، ويجبرهم على شراء المستلزمات الطبية من صيدلية محددة، فتذمّر الناس، ولا من حسيب ولا رقيب… العب يا دكتور بنا لعب البرازيل بالكرة، فأنت ونحن نعلم أننا في «زمن مجهول الأبوين». أبوك زمن. 

محمد الوشيحي


 مرمانا… انتفخ

إطلاقاً، لا علاقة لي بالرياضة لا من قريب ولا من حبيب. مع أنني شاركت في بعض المباريات التاريخية، أهمها المباراة التي جمعت قبيلتي العجمان ومطير في مصر، أثناء الدراسة الجامعية، وكانت القوانين تنص على أن يلعب ستة من كل فريق، وكان عددنا على المقاس، ستة فقط، وكان الخصم، الذي هو قبيلة مطير الشقيقة، ستة وعشرين نسمة، ينتقون منهم ستة، والبقية عند اللزوم، أي أن لديهم فائضاً من الذخيرة في المخازن، بينما نحارب نحن بذخيرتنا المحشوّة في البنادق فقط، وعند انتهائها وانقضائها ليس لنا إلا أن نلجأ إلى السناكي والحراب وشد الشعر باليد المجردة.

وقبل بدء المباراة، مررت بجانب الخصوم الستة وهم يسخّنون ويهرولون متمتماً بخشوع وأنا أمسح شاربي: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً»، وأشرت بيدي إلى حارس عرين مرمانا محمد صنيدح العجمي الذي أيقظناه من نومه والتحق بنا قبل المباراة بثوانٍ: «هذا كالقعقاع الذي هو عن ألف رجل… فاحذروه»، وتبين لاحقا أن قعقاع العجمان، الذي هو صنيدح، يعتقد أن القوانين تبيح اللكم والخنق والشلاليت، فطبّق القوانين على أكمل وجه وعلى خير ما يرام، فسحبه حكم المباراة من ياقة فانيلته إلى خارج الملعب، فجلس على الخط، وراح يمد كراعه أمام كل لاعب مطيري يمر بجانبه ليسقطه على وجهه. وكانت العقوبة الأصح التي يستحقها القعقاع هي حلق الشعر والنفي خارج البلاد وقطع يديه ورجليه من خلاف، لكنّ ربك سلّم. وأكملنا المباراة بخمسة لاعبين (انسحبنا من المباراة قبل نهاية الشوط الأول)، ولا أتذكر كم هدفاً سجلوا في مرمانا، فقط أتذكر أن المطران كانوا يهرولون باتجاهي بعد كل هدف: «فئة قليلة… هاه؟ والقعقاع وموسى بن نصير؟ والله لو استعنتم بالظاهر بيبرس والدولة الأيوبية». وكان محمد بن دبلان العجمي، كابتن الفريق، أو عقيد القوم، كلما هجمَ المطران على مرمانا، تركنا نواجه مصيرنا البائس وركز ساقيه وراح يجري بأقصى سرعة إلى مرماهم من دون كرة، فأصرخ فيه: «يا عمي وين رايح؟ تريد أن تلتف عليهم من وراء الجبل لتأسر الأطفال وتسبي النساء أم ماذا؟ تعال ساعدنا»، وكانت خطته أن نمرر له الكرة بسرعة أثناء وجود لاعبي الخصم في ملعبنا.

واستمرت مبارياتي على شاكلة المباراة هذه، إلى أن سألني طالب مصري ملحوس: «زملكاوي أم أهلاوي؟»، فأجبته: «كلنا لآدم»، فشرح لي: «الزمالك بتاع علية القوم وركّاب المرسيدس، والأهلي بتاع الصنايعية وركاب الأتوبيس»، ولأن جيناتي وأنزيماتي تميل تلقائياً ناحية الأتوبيس، فقد شجعت الأهلي (اكتشفت لاحقاً أن الزملكاوية والأهلاوية يركبون الأتوبيس)، وإن كنت أتمنى أن يفوز الزمالك ولو بعد حين، كي لا يخلو الدوري المصري من الملح. والزمالك هم الفئة القليلة والأهلي هم الفئة الكثيرة. وكان صاحبي الملحوس بعد كل مباراة – طبعاً يفوز فيها الأهلي – يصرخ بتشفٍّ وشماتة: «هوّه فيه إيه يا جدعان، دا الهواء أصعب من الزمالك»، وترجمتها: «هوّه فيه ماذا؟».

كذلك الحال مع برشلونة وريال مدريد، فالأخير هو نادي الملك والطبقة الثرية، بينما برشلونة هو نادي عمال المصانع والمزارعين، لذا فأنا برشلوني. وفي الفن الخليجي انقسم الناس ما بين محمد عبده وطلال مداح، ولأن عبده هو فنان الصالات والمخمل، ومداح الله يرحمه هو فنان الحوش والحصير، فقد وجدت نفسي مدّاحياً متحمساً.

وحكومتنا اليوم، بميزانيتها ووزرائها ونوابها وفضائياتها وصحفها ورسلها وجهّالها وحقوق إنسانها وخليجها الفارسي، هي الفئة الكثيرة، ومشجعوها من ركاب المرسيدس، والراغبين في ركوب المرسيدس، ونحن المعارضة الفئة القليلة، ركاب الأتوبيس، وقتلانا وجرحانا اليوم لا عدّ لهم، لكننا سنلتف عليهم من وراء الجبل عما قريب، بعد أن ندفن قتلانا ونداوي جرحانا ونعيد ترتيب صفوفنا ورسم خططنا… يا معين. 

محمد الوشيحي

آيات وبايات

خذوها مني وارموها في البحر، أو خذوها مني وأعيدوها إليّ، أنتم وضمائركم: «ستتغير الخارطة التجارية الحالية في الكويت تغيراً جذرياً، وستختفي بعض الأسماء وستتبدد كالرذاذ، وستحل محلها أسماء لم يكن لها إعراب تجاري من قبل، بسبب قانون الخصخصة، وبسبب الرقابة الهشة التي ستسمح للشركات بالدوران على حل شعرها بلا رقيب ولا عريف. وستنتقل كفة القوة من الأسرة الحاكمة إلى الأسر التجارية الصاعدة المتوحشة». وأدي دقني جاهزة للحلاقة بلا معجون ولا عطر «أفتر شيف». فكما اختفت أسماء أسر تجارية قرأنا وسمعنا عنها، وسيطرت أسماء أخرى، بعد موت أبي الدستور الشيخ عبدالله السالم، ستختفي غداً بعض الأسماء الحالية وستظهر أسماء جديدة بدلاً منها.

ولا نحتاج إلى قارئة فنجان، أو ضاربة ودع، أو منجّمة أبراج، أو أي مشعوذة مهما كان مسمّاها الوظيفي كي تتنبأ لنا بأسماء التجار الجدد والبُدد (أي البائدين)، فكل من يتحكحك اليوم بجدران مجلس الوزراء سيحلّق مع النسور في عالم المال والأعمال، وسينافس «آيات الله الإيرانيين» بالثروة والسلطة والجاه، وستنتشر شركاته القابضة والخانقة والعاصرة في أرجاء البلد، أما التاجر الذي ينهبل ويمشي على القانون ما يلخبطوش، ويحترم نفسه ووطنه وشعبه، فسيصبح «عزيز قوم…»، وسيقول على طريقة «باي تونس»: «هذه ليست الكويت، وهؤلاء ليسوا الكويتيين». وكان الاحتلال العثماني قد ولّى على تونس عميلاً تونسياً لُقّب بـ»الباي»، وعلى الجزائر عميلاً جزائرياً لُقّب بـ»الداي»، ولا أدري ما معنى الباي ولا الداي، ولا يهم. ما يهم هو أن الأستاذ الباي ودّى تونس في الباي باي، وعاش ولا القياصرة، وترك الشعب يطبخ التراب ويأكل الهواء، مرة مطبوخاً وأخرى مسلوقاً، وأعدمَ وعذّبَ وسجنَ معارضيه تحت شعار «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ». وعاشت تونس تحت عصاه ليلاً طويل القامة، إلى أن نجح انقلاب بورقيبة. عندها أُصيب أخونا الباي بلحسة في مخه، وراح يمسح دموعه ويهذي: «هذه ليست تونس، وهؤلاء ليسوا التوانسة».

ولم يكن بيني وبين الخصخصة عداوة ولا محبة، حالها عندي حال بقية الأشياء، إلى أن قضيت اليومين الماضيين بالتنقل بين ذوي الدراية، أخرجُ من بيت هذا إلى ذاك، ومن مكتب ذاك إلى ذياك، فاتضحت لي الصورة بلا رتوش، فعدت إلى بيتي مهرولاً، واحتضنت أطفالي، وقلت لهم بفحيح «بعد عشر سنوات ستسألوني وسأجيبكم: كانت الكويت دولة رفاه، كما أراد لها عبد الله السالم، وكان الشعب يشارك الأسرة الحاكمة الحكم عبر برلمانه، فلعبت الحكومة ونوابها لعباً محرّماً، فاختفى الرفاه، وتلاشى البرلمان واختفى، واختفى معه حكم الأسرة الحاكمة الفعلي، وبقي في البروتوكولات، واختفت كويت عبدالله السالم، وأصبح التجار قسمين (آيات وبايات)، ويا ويلكم من سطوة وجشع وعنف غالبية الآيات، تجار الخصخصة، ويا سواد ليلكم. الفاتحة على أرواح الضعفاء والبسطاء». 

محمد الوشيحي

وبراءة التجار 
في عينيه

لم أعد أميز الحق عن شقيقه الباطل، ولا الصدق عن شقيقه الكذب، فتبكّمت، على رأي الزول السوداني «الطيب صالح». أتحدث هنا عن أهم القوانين في تاريخ الكويت، قانون الخصخصة. لذا أعدت قراءة القانون بإمعان، ثم ولّيت وجهي شطر الرئيس أحمد السعدون، أبي القانون ومتعهّده من المهد إلى اللحد (المعلومة الملتبسة عند الناس أن السعدون وافق على القانون فقط، بينما الحق أنه هو من أطعمه وكساه وتعهد برعايته)، واستمعت إلى رأيه، فاقتنعت، ويممت وجهي شطر منزل النائب الفذ خالد الطاحوس. وفي الطريق استمعت، هاتفياً، إلى حجة الزميل سعود العصفور الرافضة رفضاً قاطعاً لقانون «الخسخسة»، وبيّن لي مثالبه وثغراته والخطر الماحق الذي سيحيق بالبلد والناس في حال تمريره. وسعود العصفور دقيق، دقّته تجلب المرض لي ولأمثالي من الفوضويين والبوهيميين وأنصار «يا عمي عدّيها» وعشاق «هوّنها وتهون».

وفي منزل الطاحوس، بيّن لي أبو مشعان أسباب رفضه القانون، وهي أسباب وجيهة وبنت حسب ونسب. ثم عدت إلى منزلي وراجعت ما كتبه الأستاذ أحمد الديين عن خطورة القانون، فاختلط حابلي بنابلي، وتذكرت «الزجل اللبناني» الذي يتنافس فيه شاعران على قوة الحجة، إذ يمتدح هذا الماء ويذم النار، فيمتدح ذاك النار ويذم الماء، أو يمتدح أحدهما الجبل ويذم السهل، فيمتدح الآخر السهل ويذم الجبل، وما إن ينتهي أحد الشاعرين من رده حتى تقتنع بما قاله فتصفق له وترثي لحال الآخر، فيرد الآخر فيقنعك فتصفق له وترثي لحال الأول، وهكذا.

باختصار، كانت ليلة صداع من الطراز الفاخر، فقد دخلت في تفاصيل اقتصادية ونِسَب مئوية وقضايا قانونية وبلاوي زرقاء باهت لونها، لا أول لها ولا آخر، ولم أتوصل، حتى اللحظة، إلى إجابة قاطعة عن سؤالي الوحيد: «هل نحن أمام خصخصة أم خسخسة؟».

على أن المضحك هو ما قاله لي أحد التجار الظرفاء المتحمسين للقانون، وبراءة التجار في عينيه، وقد كنت أظن التجار ثقلاء دم، ملحوسي مخ، إلا من رحم ربي، فخيّب هو ظني وأزال الغشاوة عني. إذ شبّه حفظه الله تجارنا بتجار أوروبا، وساوى بين حكومتنا وحكومات أوروبا، وعندما سألته عن سلطة الرقابة أجابني بجدية: «الحكومة، عبر المجلس الأعلى للتخصيص، ستراقب حركات الشركات وسكناتها، وستحاسبها بقسوة». لا إله إلا الله.

عموماً، لم يقل لي السعدون كل شيء، بسبب ضيق الوقت، لكنني قرأت ما بين سطوره، أكرر، لم يقل لي وإنما قرأت ما بين سطوره، وأزعم أنه يخشى من أن يتمكن بعض تجار النهب، بمساعدة نواب الحكحكة، من إقرار قانون مائع دلّوع يمسح على رأس المخطئ، ويكون أقصى عقابه «لا تعودها»، أي لا تكررها، لذا صاغ هو بنفسه القانون، ورسم الخطوط الأرضية، وغلّظ العقوبات، والباقي على ربنا ومولانا. ولا يعني هذا تأييدي له، إلا أنني أحد الذين يثمّنون اجتهاده وعمله وسهره الدؤوب، وعلى مَن يشك في ذلك أن يناقشه، ليس في القانون هذا فحسب، وإنما في قوانين الدول المتقدمة، ليغرقه الرئيس السعدون في سيل من المعلومات والمقارنات. وأشهد أن السعدون بذل جهده، وفوق جهده، وأشهد أن إحدى عينيه كانت مفتوحة على صياغة القانون، والأخرى على المواطن. فشكر الله سعيك يا أبا عبدالعزيز، حتى وإن خالفناك. 

محمد الوشيحي

خيبة السبت والأحد

إذا كان يوما الثلاثاء والأربعاء هما الأسوأ للحكومة، إذ تُعقد جلسات البرلمان، فإن أسوأ الأيام بالنسبة للصحف الكويتية، هما السبت والأحد. على أن مصيبة السبت أهون، فهو يأتي بعد يوم عطلة، أما الأحد فيأتي بعد يومَي عطلة، أي أن كارثته كارثتان، وخيبته خيبتان. ولو كان الأمر بيد الصحف لانتزعت هذين اليومين من الروزنامة، ولرمتهما إلى الكلاب الضالة. فأيام الأسبوع العادية ملأى وحبلى بالمشادات والمشاحنات، وغالبية الناس، من وادي الذهب في تشيلي إلى وادي الصفيح في الصين، تبحث عن الإثارة، عن الأكشن، عن الأخبار المالحة، الحامضة، في حين أن يوم الأحد يوم أقرع ماصخ، لا ملح فيه ولا ليمون. وكان الفنان أحمد بدير يؤدي دور السبّاك في أحد الأفلام، عندما مرّت عليه أيام عجاف لم يُرزق فيها، فرفع يديه إلى السماء ودعا بدعاء السبّاكين: «اللهم بوّظ (بوّز) حنفيات الشعب، اللهم اكسر بايباتهم». والصحافة، كأحمد بدير، تنتعش في أيام الحنفيات المكسورة سياسيّاً، والبايبات المطعوجة اجتماعياً.

هذا اليوم، الأحد، أثقل على الصحافيين منه على القراء. والأحد في روزنامة الصحافة هو السبت، أي أنه يوم عمل للصحافيين، ويوم كآبة ليس كمثلها كآبة، لذا تكثر فيه المشاكل بين شباب الصحافة، أو بصورة أخرى «هو اليوم الأكثر تشويشاً»، ولو حاول باحث اجتماعي نشط لهلوب التفتيشَ عن أسباب المشاكل التي تنشأ بين الصحافيين في الكويت وتوقيت حدوثها، لوجد أن معظمها يحدث يوم السبت عصراً ولأسباب سخيفة، بينما السبب الحقيقي هو «قلّة المحصول».

والحمل الأكبر يقع على أكتاف رؤساء التحرير، إذ يحكّون رؤوسهم حكّاً مبيناً، بحثاً عما يملأ بطون المطابع الجائعة، ولو بساندويتش حاف، ويسد رمق عيون القراء الدامعة، ولو بوردة ذابلة. ولو كنت رئيس تحرير، لا قدر الله، لخصصت الأحد، كل أحد، للتحقيقات الصحافية، ولجعلت المانشيت شاملاً أهم أحداث الأسبوع، مثلاً: «عهد الخصخصة… يستيقظ من نومه»، أو «الكويت… بين الاشتراكية والرأسمالية»، أو ما شابه، قبل أن أسطر تحت المانشيت آراء مختلفة للمتخصصين. على أن أحرص على أن أكتب افتتاحيتي في أيام الأحد.

ويمكن التفكير في جعل هذا اليوم خالياً من السياسة وطاهراً من النجاسة. فتطلب الصحيفة من قرائها إرسال مقترحاتهم طوال الأسبوع عن أهم القضايا التي يجب أن تُناقش، أو أن يكتب المانشيت أديب من خارج الوسط السياسي، أو فنان، عبدالحسين عبدالرضا أو سعد الفرج أو سناء الخراز، أو لاعب له جمهوره، أو أو أو، بمساعدة رئيس التحرير طبعاً.

المهم أن أقلب الأمر، وأبدِّل الأحد من يومٍ باهت يتحمّله القراء على مضض ومرض، إلى يوم رشيق ينتظره القراء على جمر الغضى.

محمد الوشيحي

يا ارنبتي الارنوبة


آسف، مُنعت مقالة الأحد الماضي من النشر، فقد رآها ناشر هذه الصحيفة، النائب السابق الزميل محمد الصقر مقالة تجريحية، ورأيتها أنا توضيحية، وأصر كل منا على رأيه، وثبت على موقفه، فأغلقنا الشارع العام، وتوقفت حركة المرور، فهو يابس الدماغ، وأنا ناشف الدماغ، لذا فعل كلٌّ منا ما يمليه عليه رأسه، فكتبت أنا المقالة، ومنع هو نشرها. وعند النقاش عرض عليّ فكرة: «هاجمني أنا وسأحتمل وسأنشر»، فأجبته: «الحدود الدنيا من الأدب والذوق تمنع، ثم إن القنابل يجب ألا تثور في مخازنها».

ولو كنت أعلم أن إيقاف مقالة أو مقالتين سيتبعه رد فعل كهذا، يرضي الغرور الكامن في صدري، وينشر الحبور في أرجائي، لفعلتُ منذ الأزمنة السحيقة، بعدما وصلتُ إلى مرحلة يتهمني فيها أصدقاء السوء بالبلادة الشعورية، فلا مادح يفرحني ولا قادح يجرحني. وهنا لا يسعني إلا أن أقول ما قاله الشيخ المواطن علي الجابر الأحمد الصباح في مثل هذه المواقف الصعبة، في مطلع قصيدته التائية العظيمة: «يا أرنبتي الأرنوبة يا حلوة يا حبوبة»، وهي قصيدة تدخل من باب الرثاء وتخرج من باب الهجاء إلى أن تستقر في باب «الحداء»، حداء الحرب.

وكانت الحروب في السابق تعتمد على شعر الحداء لبث الحماسة في روح الفرسان، وكان سيف بن ذي يزن، الملك اليماني الشهير، قبل بدء كل معركة، يستعرض جيشه على ظهر حصانه، ثم يصرخ بأعلى صوته وهو يشير بسيفه إلى أعدائه: «يا أرنبتي الأرنوبة»، فيرد العساكر بصوت واحد يهز الجبال والسهول والوديان: «يا حلوة يا حبوبة»، ويكرّون على عدوهم كرّ الأسود الجائعة، فتتساقط الجثث وتحوم الغربان ويتعالى صوت الثكالى.

الشعر قاتل، واسألوا المرحوم أبا الطيب المتنبي الذي عَرَضَ له كمين أثناء مسيره من شيراز إلى بغداد، هو وخادمه وابنه، فأمرهما بالهرب، فسأله خادمه العجوز بنذالة: ألست القائل «الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟»، فأجابه المتنبي: «قتلتنا قتلك الله»، أي «رحنا فيها»، وكرّ على أفراد الكمين، فقطّعوه بسكّين المطبخ.

وكان أحد الصعاليك العرب، أظنه الأخ تأبط شرّاً – صاحب قصيدة «لعمر أبينا ما نزلنا بعامر» – لا يكر على خصومه إلا بعد أن يتغنى بمعشوقتيه، الخمرة ومحبوبته الغانية السمراء، قاتله الله، فيمتدح جودة الأولى وأرداف الثانية. وكانت عورته تظهر في الحروب، إذ لا يعترف بـ «الأندر وير»، الملابس الداخلية، لأنه صعلوك سفري، سيليكو. وكان زعيم قبائل يام، الفارس الخالد راكان بن حثلين، قبل المعركة يتغزل شعراً -فقط- بمحبوبته، ذات النحر البراق، وذات الشعر المعثكل، فتهتز الصفوف وتغلي دماء الرجال في عروقهم. والفارس الشيخ المواطن علي الجابر يدرك ما للشعر من أثر، لذا نظَمَ قصيدتيه الخالدتين بعد تحرير الكويت: «قطوتي يا قطوتي»، و»قم تقمقم ريحتك فطيس»، قبل أن يلحقهما ويعززهما بمقالاته التي كتبها بماء الذهب واللهب.

والألسنة عناوين، وكلام الرجل يرفع البطانية عن قلبه ويكشف معدنه، ومقالات المواطن الشيخ تدل على أنه رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة على ظهرها، وأن مستقبل البلد بخير وبصحة وبعافية. وكان سعادة المواطن محافظاً للجهراء قبل أن يتولى محافظة العاصمة، وقد يتولى محافظة الفروانية عما قريب. وعلى أكتاف العظماء من أمثاله تتكئ الدول، وتنهض الشعوب، وتستقر الأنفس الهائجة. فلله دره. 

محمد الوشيحي

ليلى في العراق لا تتسوق الهبّاشون

العراقيون يقولون: المستقبل للعراق، وأنا أقول: أحلق ذراعي إذا استطاع أحد التمييز بين مستقبل العراق وماضيه. يقولون: مستقبله مشرق باسم، وأنا أقول: مستقبله مشرق كالفحم، وباسم كابتسامة الأرملة البائسة عندما يطرق بابها صاحب البناية ليستوفي الإيجارات المتأخرة. لن يفلح العراق، ولن يفلح بلد يتخانق أبناؤه على قماشته، وكل قماشة تتجاذبها الأيدي ستتمزق. واسألوا الكويتيين، واسألوا المصريين واللبنانيين.

والعراقيون عندهم أحمد الجلبي الذي «يستفيد» من أموال الاستثمارات ويفتتح بها صحيفة يهاجم بها الشرفاء، ويمزق الشعب. والعرب مثل القرطاس، والعراقيون أسوأ القراطيس، يسهل تمزيقهم وتفريقهم. والروائيون العالميون يزعمون أن «أشرس الناس وأكثرهم هوساً بالعراك والخناق هم شباب نابولي في إيطاليا، ومراهقو مكسيكو سيتي»، وعلي النعمة لو أن الروائيين هؤلاء سمعوا عن «نينوى» و»الأعظمية» و»الناصرية» لمزقوا رواياتهم، ولكتبوا: «الخناق في العراق لا يقتصر على الشباب والمراهقين، في العراق حتى النساء يسلّين أوقاتهن بالعراك… في العراق، الخناق، مثل التدخين، لتزجية الوقت».

واليوم كردستان رفعت علمها ولوحت بيدها الكريمة وحملت متاعها ورفعت قضية خلع، وغداً ستتبعها مدينة الرمادي، وبعد غد ستودّع الناصرية جيرانها… والمستقبل للعراق. أي مستقبل للمرضى يا عمنا؟ العراق مريض منذ ما قبل الحجاج إلى يوم يبعثون؟ حتى الأهبل بن الأهبل قيس بن الملوح يعترف: «يقولون ليلى في العراق مريضة، فيا ليتني كنت الطبيب المداويا»، هو لم يقل إن ليلى في العراق ترقص، أو تتسوق، أو تتمشى على ضفاف دجلة ببنطلون ضيق، أو ترسم «تاتو» على كتفها استعداداً للقاء حبيبها، بل قال «مريضة»، ليش؟ لأنها في العراق، والعراق ملوث بفعل غالبية ساسته وشعبه، بعيد عنك. ولأن قيس أهبل ولقبه المجنون فهو يتمنى لو أنه كان موجوداً بجانبها يداويها ويدغدغها وينغنغها، وأنا والله لو كنت مكانه لتركتها هناك بين المالكي والجلبي وأتباع الزرقاوي وأتباع الشاب الموهوب مقتدى الصدر وبقية الصحبة الصالحة، تتدبر أمرها.

«المستقبل للعراق»، يقول السياسيون ذلك وهم يهبشون الفلوس ويهبرون أموال النفط ويستثمرونها في الأردن ولبنان، لأنهم يعلمون أن الحديث عن مستقبل للعراق هو طق حنك، ليس إلا.

وخذوها مني ثم حاسبوني عليها: لن يستثمر أحد في العراق إلا حكومة الكويت. والكويت لن تنتظر أرباحاً من مشاريعها في العراق، لكنها تستثمر هناك وهي ترتجف كما يرتجف العصفور تحت ليل يناير البارد وأمطاره، وينتظر الشمس، ولن تشرق شمس من جهة العراق أيها العصفور، وليس أمامك إلا أن تتحول إلى نسر بمخالب كالسكاكين وجناحين عملاقين، أو على الأقل فلتكن عصفوراً بقلب نسر.