محمد الوشيحي

اقطع واخس

وغلاة النائبين خالد السلطان وحسين القلاف، أصدق وأنقى وأتقى نواب عصرنا هذا، وأكثرهم زهداً وورعاً، أنني لا أتعامل مع التكنولوجيا إلا بوجود محرم، ولا فرق عندي بين البلاك بيري والياهو والفيسبوك، ولا يهمني شخصياً إنْ منعوا هذا البرنامج أم سمحوا بذاك، الأهم ألا يمنعوا التدخين. مشكلتي فقط هي في هذا الكم الهائل من موظفي المنع، والميزانية الهائلة المخصصة للمنع، والسيد رئيس قسم «امنع» الذي يخاطب السيد رئيس قسم «اقطع» ليوعز إلى السيد مدير إدارة «اخس»، ويأتيك كتابنا هذا الصادر برقم والمؤرخ بتاريخ، وتقبل فائق التقدير، واقطع واخس.

ولا أدري لماذا أتخيل الكويت دائماً بيتاً مطليّاً باللون الأسود من الداخل، لا نوافذ له، مصمتاً، إضاءته صفراء باهتة، وصوت السياط والكرباج يتصاعد من إحدى غرفه، وبجانب المطبخ تتناثر أكوام زبالة، وحولها كلابٌ تنبح، وثكلى تنوح، وأطفال بملابس رثة، احتل الذباب مساحات وجوههم.

وفي فنلندا، سقى الله فنلندا، ينص الدستور على أن توفر الحكومة لكل أسرة خدمة الإنترنت عالي السرعة مجاناً. صدقاً لا مزحاً. الدستور بجلالة قدره هو من ينص لا القانون. وفي اليابان يشتري الناس خدمة الإنترنت بسرعة «1 ميغا، ولا تسألني عن معنى ذلك، ولن أسألك» بسعر يعادل «76 سنتاً» أي ثلاثة أرباع الدولار في الشهر، ونشتري هنا «1 ميغا» بسعر يعادل «170 دولاراً» شهرياً، وخدمة ما بعد البيع تجلب الحصوة إلى الكلى. لكننا مسلمون سندخل الجنة، بينما الفنلنديون نصارى سيدخلون النار وبئس المصير، هم واليابانيون البوذيون الكفرة.

وفي جمعية ضاحية علي صباح السالم (أم الهيمان) فازت القائمة الإسلامية، وارتفعت راية الحق. وتعال شوف يا معالي وزير الشؤون الدكتور محمد العفاسي، يا من نحبه ونحترمه، تعال شوف ماذا فعل الإسلاميون جزاهم الله خيراً بالميزانية، وهم الذين منعوا بيع الدخان للناس من باب الوَرَع واستبدلوه ببيع الهواء. واطلب المستندات لتعرف كم قبض المحاسب الوافد المتعاون مع الإدارة، وستكتشف أنك أمام شجرة صفراء، أصلها في أم الهيمان وفرعها عندك في الوزارة، وستعرف أن القصة فيها شبكة وكتْب كتاب.

يا أبا سعود، أغلب الناس في أم الهيمان غلابة، يسحرهم من يطيل لحيته ويقصّر ثوبه ويبدأ حديثه بجملة «بعد أن صليت الفجر جماعة». أهل أم الهيمان يخافون الله ويرجون رحمته لكنهم بسطاء. فيا معالي الوزير، أم الهيمان طفلة يتيمة قاصر، مات أبواها فتولى أمرها اللصوص وقطّاع الطرق، فاحفظ أموالها يحفظك الله إلى أن تبلغ الطفلة مبلغ النساء وتدرك زيف بعض اللحى، وتفهم أن الصدق والأمانة والكفاءة لا علاقة لها بطول اللحية ولا قِصر القماش… يا معالي الوزير افتح التحقيق بعد أن تغلق أنفك، وعيِّن مجلس إدارة ترضاه يراعي ضميره في تحديد الأسعار وتوزيع الأرباح. 

محمد الوشيحي

ألقِها يا موسى

كل البيض الإعلامي التلفزيوني السياسي فاسد، وكل ما يحدث هنا هجص. طبعاً باستثناء تلفزيون الراي، ومذيعه الشاب الرائع عبد الله بوفتين، الذي وُلدَ وفي فمه ملعقة من صدق، وعلى وجهه مسحة من خجل، وعلى أنفه نظارة من بحث واستعداد للحلقة. يعيبه انخفاض سقفه. ولا أدري هل ذلك باجتهاد منه أم هي تعليمات الإدارة، الأكيد أنه سقف لا يليق بعملاق اسمه «تلفزيون الراي». فيا أهل «الراي» ليس لمثلكم الزحف، ولا الالتصاق بالجدران، ارفعوا سقفكم يرحمنا ويرحمكم الله وامشوا وسط السوق مشي العظماء لينزوي الآخرون في جحورهم وينكشفوا أمام الناس. ارفعوا سقفكم كي يضحك الناس على المذيعين البكّائين الذين انتشروا في الفضائيات انتشار الجراثيم في مكب النفايات. ارفعوا سقفكم في حدود القانون كي يميّز الناس بين المذيع السياسي الحقيقي وبين مذيعي التمثيل والتزوير. ارفعوا سقفكم وافتحوا الهاتف لتستقبلوا مكالمات المؤيدين والمعارضين، لا كما تفعل «فضائيات النفايات» التي لا تستقبل إلا ذوي الطبلة وذوي الصاجات وأحفاد الراقصة الفاضلة تحية كاريوكا. ارفعوا السقف فقد ملّ الناس الكذب، والجهل، وسوالف الورعان. ارفعوا سقفكم لتتساقط كل هذه الكائنات التي لا عمل لها إلا الشمشمة والنباح خلف مسلم البراك، وتترك انقطاع الكهرباء والماء في بلد تفيض منه المليارات وتنشف فيه الحنفيات.

شنو ما هذا الإعلام الذي يتحدث عن أوضاع إيرلندا أو السلفادور أو أي دولة أخرى ليست الكويت بالتأكيد؟ ما كل هذا التمثيل والبكاء على الهواء المسكوب؟… وأتذكر أنني تلقيت اتصالاً من صحافي (أصبح الآن مذيعاً كثير البكاء) ليُجري معي مقابلة صحافية. وبعد أن زارني في المكتب، طلب مني أن أحكَّ جبهتي وأسرح بنظري بعيداً، كي يلتقط لي صورة يكتب تحتها «الوشيحي يفكر بعمق»، فاعتذرت له ضاحكاً بكل ما أوتيت من قرف: «أنا أفكر على السطح، وأخجل من حركات كهذه»، فتحدث إليّ بنبرة الخبير المشير: «صدقني، أنا أعرف عقليات الناس، يجب أن تمثل عليهم، وهم أغبى من أن يكتشفوا شيئاً»! وهو ما أصبح يفعله في برنامجه. تمثيل باهت مكشوف مقزز.

وقبل ذلك تلقيت رسالة إلكترونية من شابين يطلبان إجراء لقاء صحافي يخدمهما في دراستهما في كلية الإعلام، على أن يدور الحوار حول «الكتابة الساخرة». وفي مكتبي، طلب أحدهما بأدب أن أُمسك بالقلم وأتظاهر بالكتابة ليلتقط لي صورة، على اعتبار أن الصورة التقطت لي فجأة وأنا أكتب المقالة، ومن دون علمي، فصارحته: «لك مستقبل في الإعلام الكويتي الغبي، لكنك بالتأكيد ستتعرض للخنق ونتف الشعر لو عملت في إعلام آخر يحترم نفسه»، ثم وبغضب حذرتهما: «مبدئياً، إذا كان من ضمن أسئلتكما سؤال عن أسوأ عيوبي، وتتوقعان مني أن أجيبكما (طيبة قلبي الزائدة عن الحد)، وما شابه من أسئلة وأجوبة، فعليّ اليمين لنتبادلنَّ التراشق بالطفّايات. اتركا الغباء والتمثيل»، فضحكا مرعوبَين وطرحا سؤالهما الأول: «ما سبب التباين الواضح في مقالاتك؟»، فصرخت فرحاً: «صح، هذه هي الأسئلة لا أمَّ لكما»، وخلعت غترتي وأشعلت سيجارتي وابتدأ مشوار الحوار.

واليوم، أجزم أن إنشاء فضائية مهنية صادقة ستكون – منذ أسبوعها الأول وهي في مهادها – كعصا موسى تلتهم حيّات السحرة والبكّائين… «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ».

***

أوف، نسيت الشاب المبدع في تلفزيون «الوطن»، عبد الوهاب العيسى، الذي يمتلك موهبة يُشار إليها بالانبهار، لولا أن قناته تكتب بـ «خط الرقعة». 

محمد الوشيحي

حسين الوشيحي… الدائري السابع

سامح الله عمنا الفلكي الكبير صالح العجيري، الذي أرعبنا بتصريح خصّ به الزميل فهد التركي ونشرته هذه الجريدة: "البوارح خلال أيام، والصيف هذه السنة سيكون حاراً جافاً مغبراً!"، والحمد لله أنه لم يقل سامّاً. سامحك الله يا عم، ألا يكفينا رؤية كل هذه الوجوه الأسمنتية لتزف إلينا بشرى كهذه.

لكنني رغم رعب التصريح "ضحكت حتى أذني" كما يقول الأشقاء التوانسة، بعد قراءته، فقد تذكرت صيف 2008، عندما اصطحبت أسرتي إلى أقصى شمال شرق تركيا، واستأجرت كوخاً بدائياً في منطقة بشوشة، من شيخ طاعن في السن، شخبط الزمن على وجهه ورقبته، لكنه في كامل لياقته ومرحه وحبه للحياة.

كنا نجلس في حديقة الكوخ، فيمرّ من تحت أقدامنا جدول ماء يتمايل كتمايل الغندورة المغرورة، صافٍ كخدّها، طويلٌ كعنقها، هادئ كابتسامتها، شقي كشفاهها، نحيف كخصرها، وتحاصرنا سلسلة جبال تقف وقفةَ إمبراطورةٍ شامخة متشحة بالخَضار، يتزحلق على متنها شلالٌ طفلٌ تركته أمه يمرح، وأوصت الأشجار الباسقة عليه، وفوقنا نسمة لم تحسم قرارها بعد، هل تبرد أم تعتدل، وأطفالي حولي، بعض الأحيان، وفوق ظهري وأكتافي أغلب الأحيان. منظر يشجعك على كتابة سبع مقالات سمان في يوم واحد، ويدفعك ولو كنت أعجمياً إلى نظم قصيدة تغيظ زهير بن أبي سلمى، ويحرّضك على تأليف مقطوعة موسيقية يتراقص على أنغامها العشاق متعانقين، ويشجعك على رسم لوحة فاخرة، بل ويشجعني أنا على الرسم، وأنا الذي في طفولتي أغضبت مدرس الرسم بعدما طلب من التلاميذ رسم لوحة واختيار عنوان لها، فاجتهدت ورسمت "بطة" و"أرنباً" و"أسداً" فوق ظهر "بقرة" تطير، من باب "كل الأحبة اتجمّعوا"، فذهل المدرس، لا لأنني حولت البقرة إلى "إير باص" فقط، بل لأنني رسمت البطة تأكل جزرة، والأرنب تأكل تفاحة، والأسد يلحس جبنة. سوء تفاهم. وكان عنوان اللوحة "حديقة الحيوان الطويلة".

أقول، في ظل أجواء الكوخ هذه، وبعد وجبة غداء نهري فخيم "حبسته" بكوب من الشاي "العصملّي"، بعثت برسالة هاتفية خبيثة إلى أخي غير الشقيق، حسين، الذي يكبرني بثمانية أشهر مازلت أدفع ثمنها: "الجدول يتسلل من بين أقدامي، والشلال يتراقص أمامي، والجبال تظللني، والنسمة تداعبني، والشمس تلعب معي استغماية، والعصافير في مسابقة سوبر ستار لاختيار أفضلها صوتاً. ربنا ولك الحمد… أخوك محمد الوشيحي من كوخ مزرعة في الحدود الشمالية الشرقية لتركيا"، وكنا في أغسطس، فجاءتني رسالته بعد دقائق: "سيارتي الفورد القديمة تحت أقدامي، تعطّل مكيفها، فتلثمت وفتحت زجاجها، والشمس ملتصقة بمخّي، والغبار يتراقص ويحذفني بالصخر على وجهي، والسموم تتراقص وتلفحني، وفي طريقي إلى الصناعية، والنفسية تتراقص تحت الصفر، والعبرة تخنقني، وإِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ… أخوك حسين الوشيحي، من الدائري السابع، ما بين منطقة (الظهر) ومقبرة صبحان".

* * *

توقُّفْ الزميل النقي سعد العجمي عن الكتابة جعلني أهاتفه وأتلفظ عليه بكلمات يمنعها قانون المطبوعات والنشر، ولم أقتنع بمبرراته رغم محاولته "إكناعي"… يا أبا محمد، اذهب إلى حيث كوخي ذاك ومزرعتي تلك وستعود بحال مختلفة، وقد تتراجع عن قرارك الموجع… سحقاً لك.

محمد الوشيحي

بلا ربطة عنق… أفضل

سقى الله أيام الصبا. كنا في المرحلة المتوسطة عندما سمعنا للمرة الأولى عن شاعر في مدرستنا نعرف لقبه ولا نعرف اسمه، وغطت سحابة شهرته المنطقة كلها، وكان يسبقني بثلاث سنوات دراسية، وكنا نتداول أشعاره في قصاصات يمدني بها صديقه منصور الوشيحي، شقيقي الأكبر، ومني تتسرب القصاصة إلى بقية الأصدقاء.

كبر الصبية والتحقوا بالمدرسة الثانوية، وازدادت متابعتهم لما يكتبه شاعر مدرستهم ومنطقتهم "وضّاح"، وتأثرت به كثيراً، فكتبت أولى قصائدي بالفصحى وأنا في الرابعة عشرة، في الصف الأول الثانوي، وكانت قصيدة فاسقة ماجنة على أشد ما يكون الفسق والمجون، وعرضتها على مدرس اللغة العربية، فقرأها والتفت نحوي: "قصيدتك يا ابني فيها شعر لكنها تنقض الوضوء، وكل من يقرأها يجب أن يستحم قبل أن يصلي"، ومازالت ذاكرتي تحتفظ ببيتين منها لا يصلحان لمن هم أقل من ثمانين سنة…

ورفعت الأيام طرف ثوبها وراحت تعدو وتعدو وتعدو، وعدونا معها، فلا خيار آخر أمامنا، فالتقينا في الطريق شاعراً عراقياً مبهراً اسمه أحمد مطر، احتلت قصائده مساحة ليست بالصغيرة من أذهاننا، وحفظناها وتبادلنا الانبهار بها، وأحمد مطر واحد من أشهر كارهي أميركا على ظهر هذا الكوكب… وفي الأيام تلك، حُل البرلمان عام 86، وجاءت الحكومة بالمجلس المسخ "المجلس الوطني" تسحبه من قفاه وتجلسه في صدر الديوان، فغضب الناس، وقامت "دواوين الاثنين" المعارضة عام 89، وعادت قصائد "وضاح" للساحة من جديد، وتم تداول اسمه كشاعر المعارضة…

وجاء الغزو العراقي، فقرأنا قصيدة ولا أعظم صاغها أحمد مطر بعنوان "العشاء الأخير لصاحب الجلالة إبليس الأول"، مقفاة موزونة، يقول في بعض أبياتها وهو يصف خطة أميركا في تدبير الغزو:

بغضي لأمريكا لو الأكوان ضمت بعضه لانهارت الأكوانُ

هي جذر دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شرٍّ هو الأغصانُ

حبكت فصول المسرحية حبكةً يعيا بها المتمرس الفنانُ

هذا يكر وذا يفر وذا بهذا يستجير ويبدأ الغليانُ

حتى إذا انقشع الدخان مضى لنا جرحٌ وحلّ محله سرطانُ

 

وكانت نحو خمسين بيتاً من الشعر أو ستين، وكنت أحفظها كاملة، تسرّب بعض أبياتها من ذاكرتي خلسة أثناء نومي، واحتفظت بأغلبيتها إلى اليوم.

واستمرت الأيام تعدو في مضمارها، وعدوتُ معها، إلى أن تزاملت مع شاعريّ المحببين "وضّاح" وأحمد مطر، بل وشاركتهما الكتابة في الصحيفة نفسها، بل في الصفحة نفسها، فيا لهذه الأيام…

على أن أحداً لا يكره أميركا أكثر من أحمد مطر إلا النائب السابق والمنظّر السياسي الثقيل د. عبدالله النفيسي، الذي توقّع أن تختفي الكويت والإمارات والبحرين وقطر من الخارطة، فلا بقاء للدويلات الصغيرة، واقترحَ النفيسي أن تتحد دول الخليج، وكنت سأؤيده لو أنه اقترح ضم لبنان معنا، وسأؤيده لو أنه طالب بإلغاء مراكز الحدود أولاً، أو توحيد العملة، أو على الأقل توحيد الملابس قبل الاتحاد، بشرط أن لا نرتدي "الوزار" كما يفعل أهلنا في الإمارات وعمان، ولا نلبس الغترة التي تشبه المظلة والعقال أبو دندوشة كما يفعل أهلنا في قطر، ولا نضيّق الدشاديش كما يفعل أهلنا في السعودية، ولا نرتدي الدشداشة بلا غترة كما يفعل أهلنا في البحرين… لذا، أرى أن نمشي خلف رئيس برلماننا ونرتدي البذلة بلا ربطة عنق، كما يفعل أهلنا في إيران.

محمد الوشيحي

لا تعترضوا عشاءها

الإعلام هو القنبلة النووية التي يخشاها الجميع، هو السلاح الذي إذا رفعته عالياً خضعت الرقاب، وكم من قليل أصل، وكم من نذل، وكم من متسلّق، أُفسحت لهم المجالس لامتلاكهم القنبلة النووية، الإعلام… و"أم الهيمان" – الملوثة بيئياً – لا إعلام لها، لذا لا أحد في هذا الزمن الملوث يلتفت إلى أحزانها، الجميع تركها تبتلع الآلام وتدخّن الآهات. سنوات وهي تئن ولا مجيب. تصرخ: "أنا آدمية"، فيردّون: "أنتِ والكلاب الضالة كأسنان المشط، مأواك المصانع وبئس المصير".

أم الهيمان رمت شالها الوردي، وأهملت تسريح شعرها. لم تعد شوارعها تكترث بقبلات المطر المبلولة. لم تعد ترفع رأسها لتجيب نداء الرعد. لم تعد تقابل عشيقها فوق السطوح بحجة نشر الغسيل. أم الهيمان تعيش في بيجامة نومها منذ فترة، لم تتزين، وهل تتزيّن مريضة قلب أهملها أهلها؟

يجيبني أحد سكانها عندما سألته عن سبب اختفائه: "ستجدني في المستشفيات والصيدليات المناوبة. حفظت أسماء الأدوية وعناوينها". بشّرته: "اطمئن، ستنقل الحكومة اجتماعاتها إلى أم الهيمان تضامناً معكم، كما فعلت حكومة جاك شيراك عندما احترقت الغابات المتاخمة لسكان الريف الفرنسيين، إذ عقدت الحكومة الفرنسية اجتماعاتها على مدى أيام في عربة كبيرة متنقلة بالقرب من المناطق المنكوبة إلى أن قطعت عرق المشكلة وسيّحت دمها، وشيراك لا يحب شعبه أكثر مما يحب الشيخ ناصر المحمد شعبه… تلفّتوا حولكم وستجدون عربة كبيرة متنقلة محاطة بحراسة".

وأمس، تذكرت حكاية الأم التي لديها من الأبناء عشرة، وكل منهم يعتقد أن الآخر تكفّل بإطعامها، فاعتادت النوم على لحم بطنها، وعندما تنبه أحد أبنائها، حمل إليها وجبة، فاعترض أخوه طريقه وأبلغه: "أمّنا تناولت عشاءها كما أبلغني أشقاؤنا، لا تقلق"، فرجع الأول يحمل وجبته، وماتت أمهم جوعاً. واليوم يحمل النائب خالد الطاحوس وجبة العشاء فيعترض النائب سعدون حماد طريقه مطمئناً: "لا تقلق"، ويصرخ شقيقهما الثالث النائب خالد العدوة: "أخشى على أمنا من التخمة"، فيغضب النائب فلاح الصواغ: "تقدم يا الطاحوس وسنتبعك بصحن الفاكهة، أنا وكتلة التنمية والإصلاح"، ويصمت بقية الأشقاء العشرة… ويواصل الطاحوس وكتلة العمل الشعبي المسير حاملين صحن العشاء إلى الأم الجائعة.

***

موعدنا الليلة في ساحة الإرادة لنعلن رفضنا كسر الأقلام وخنق الحريات. موعدنا الليلة لنكشف زيف جمعية حقوق الإنسان الراقصة في بلاط الحكومة، التي انتظرت أسبوعاً كاملاً، وبعد أيام من تجاوب منظمة حقوق الإنسان العالمية، قبل أن تستأذن لتكتب بياناً خجولاً ولا خجل العروسة ليلة دخلتها. ولله در الزميل الدكتور غانم النجار، المهتم صدقاً بحقوق الإنسان، بغض النظر عن البطاقة المدنية لهذا الإنسان. موعدنا الليلة لنثبت لأنفسنا قبل الآخرين أننا شعب حر لا يقبل الاقتراب من كرامته، والحريات كرامة.

محمد الوشيحي

دستور يا أسيادنا


آخ بس لو شاهدت أحداً من جماعة مراسلون بلا حدود» لكنت عاجلته بطراق، وأردفت الطراق بكوعٍ على رأس معدته، قبل أن أسأله: «على أي أساس وضعت الكويت، زوراً وكذباناً، في صدارة الحريات الصحافية على الوطن العربي؟ أين أنت من صحافة مصر يا ابن التي لا تنام في بيتها؟ هل قرأت ما تنشره صحف المعارضة هناك من أخبار وتحقيقات، وما يكتبه كتّابها، وقارنته مع ما يُنشر هنا؟ هل قارنت نسبة المعارضين إلى الحكوميين هناك بنسبة المعارضين إلى الحكوميين هنا؟

نحن هنا يا سيدي الفاضل، يا ابن المذكورة أعلاه، يكتب الواحد منا وعينه على الورقة والقلم، وعينه الأخرى على الباب والشباك، لذا، قد تقرأ مقالة أحدنا عن سعر الشعير «وفي فجأة» تنحرف مقالته إلى بر الوالدين! «فلا تلمهُ ولا تعتب فتهجرهُ».

وكنت قد تلقيت اتصالا قبل نحو سنة: «ألو، الوشيحي، أنا فلان من الصحيفة الخليجية الفلانية، وفكّرنا بالتحدث معك عن الكتابة في صحيفتنا بشرط ألا تحرجنا مع حكومة الكويت الشقيقة، أمامك الشأن العربي والدولي بشكل عام، حلّق فيهما كما تشاء»، فأجبته: «تشرفت، لكنني سمكة لا تجيد العوم إلا في بحرها، وبحري هو الشأن المحلي، فأنا لا أفتي إلا فيما أفقه، وبما أنك متابع لمقالاتي كما تقول فستعرف أنني لا أكتب حتى عن الرياضة الكويتية ولا عن الاقتصاد الكويتي، وإذا غامرت وكتبت في أحد هذين الهلاكين، فستجد كتاباتي كبطانية الطائرة، إن سحبتها على صدرك تعرّت ساقاك، وإن غطيت بها ساقيك تعرّى صدرك. على أنني لو كتبت عن شأننا المحلي فسأمرّ في طريقي على شأنكم المحلي، وشأننا كما تعلم يبزّ شأنكم، وبعيرنا يبز بعيركم، وقد أحرجكم مع حكومتكم الشقيقة، وستشتعل الحرائق، شقيقة بشقيقة والبادئ أظلم. لذلك ومن أجل ذلك، أرى أن (البيعة) فاسدة».

وقبل أيام، اقترح علي أحد الأصدقاء المصريين الكتابة في إحدى الصحف المصرية، فقفزت فرحاً وهلعاً، وأجبته: «موافق عمياني»، فإذا به يهاتفني ليخبرني بأن رئيس تحرير صحيفة «الدستور»، الصحيفة الأشرس في صحف المعارضة المصرية، الزميل إبراهيم عيسى، يتابع الشأن الكويتي، وينتظرنا في مكتبه… وأثناء الاجتماع، راح الزميل إبراهيم عيسى يسألني عن الصحافة الكويتية، وعن الصحف التي تم إغلاقها، وأسباب ذلك، والحريات الصحافية في الكويت، ووو، واتفقنا على نشر مقالة واحدة كل يوم جمعة في جريدة «الدستور». وكانت مقالتي المنشورة هناك يوم الجمعة الماضية، أمس الأول، هي الغرسة الأولى التي سأتعهدها بالماء والشمس والسماد الحسن.

وإبراهيم عيسى مغامر، متمرد، صلّى صلاة مودّع، وهو لشدة مغامرته، اصطحب معه منذ بداية ترؤسه تحرير الدستور مجموعة من الشبان الموهوبين المتمردين، وراهن عليهم، فقرأ الناس أسماءهم للمرة الأولى في جريدته، إبراهيم منصور، شادي عيسى، بلال فضل، ذو السبع صنايع، وكسّاب، وآخرون نعلمهم والله يعلمهم، قطع بهم ومعهم الرحلة الطويلة بنجاح، وقدّموا للقراء صحافة فتيّة عفيّة شقيّة يسرح التيس على زندها ويمرح.

وكي تكتب في صحيفة مصرية بحجم الدستور، وبين عمالقة القلم، يجب أن تتصادق أولاً مع الريح والعاصفة وشمس الصيف، كي يسمك جلدك، وها أنذا أبعث بالهدايا إلى العاصفة وشقيقتيها… وتهادوا تحابّوا… ودستور يا أسيادنا.

***

إلى الشامخ الذي توقف قلبه المتعب أمس بعد أن سطر تاريخاً يعجز أبناء النساء أن يسطروا حتى ربعه، النائب الوطني الشهم محمد الرشيد: «رحمة الله عليك يا كبير، وعزاؤنا للكويت ولابنك وخليفتك الدكتور أنس محمد الرشيد، ولابن أختك الزميل صالح الشايجي، ولعائلتك، وللكويتيين، ولمحبي الكويت وعظمائها». 

محمد الوشيحي

إن مع العسر يسراً

بلغة الاقتصاديين، في أوقات جني الأرباح تتهاوى الأسهم ويحمرّ مؤشر السوق. والحكومة اليوم تجني أرباحها الهائلة، ومؤشر الدولة أحمر دم غزال، والأسهم تتهاوى، والدولة تتعرى، لم يبقَ عليها إلا الفانيلة العلّاق، بس، وكأنّها ستصوّر فيديو كليب مع الفنان التونسي أحمد الشريف، الذي عرفناه بالفانيلة العلاق، والحريات مسحوبة من قفاها إلى أمن الدولة، والزميل محمد عبد القادر الجاسم رايح جاي، بين النيابة وأمن الدولة، كما مترو الأنفاق ذي الوجهتين، والضباع تتمشى على البحر، وتتناول الآيسكريم بالفانيليا والفراولة، وقليل من المكسرات، وكثير من تكسير الكلمات، وسرقة العصر "طوارئ 2007" لم ينتهِ التحقيق فيها، ولن ينتهي، واللص يجلس واضعاً رجليه على الطاولة بكل زهو، كما يفعل ضابط المباحث في الأفلام المصرية، والحالة حالة، ودانا علم دانا.

لكن الخالق يقول: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً"، سبحانه. وأثناء كتابة المقالة بلغتني أنباء جعلتني أقفز من مكاني فرحاً، أنباء تقول إن "حبّات المسبحة السوداء بدأت تتساقط، الواحدة تلو الأخرى، وإن اللصوص بدأوا جمع حاجياتهم للهرب بسرعة من المكان، قبل هجوم سكان العمارة الغاضبين عليهم".

واليوم شعرت أن "خليجنا واحد"، فعلاً لا قولاً، وأن الشقيقة الكبرى، المملكة العربية السعودية، هي التي تضع المرهم على جراح شقيقاتها الصغريات، وتسهر على راحتهن، وتمنعهن من السهر مع أصدقاء السوء. والسعودية تعلم أن شقيقتها الكويت فاتنة حسناء، بابلية العينين، يوسفية الوجه، وأنها عرضة لشباب الأسواق ومعاكساتهم، والكويت لم تشكّ يوماً في حضن السعودية، ولم تنم بقرب السعودية وحقيبة يدها تحت الفراش، بل تضع حقيبتها بما فيها على الكوميدينو، فهي تعلم أن السعودية إن لم تزِدها فلن تُنقصها، وقد جرّبت ذلك عام 1990.

وآه ما أجمل دفء مياه الخليج العربي، وما أجمل اجتماع الشقيقات الخليجيات على صحن واحد، وعلى قلب واحد، وما أجمل الصدق في الحديث، وما أبشع المجاملات، وألا لعنة الله على أصدقاء السوء، أعداء شقيقاتنا، المتربصين بهن خلف كل جدار.

والكويت التي تشاهدها اليوم فتظن مخطئاً أنك أتيت متأخراً عن حفلة حمراء راقصة أقيمت فيها البارحة، دارت فيها الأقداح على أشد ما يكون الدوران، فتبعثرت الكراسي في الصالة، وتناثرت الكاسات على الأرض، وتهشمت… هي ليست كذلك، بل هي تعرضت لأكبر من ذلك، تعرضت لعملية سرقة منظمة وتحطيم وتكسير، وتم تفتيت شعبها، وتكبيل أيادي حرياتها، وتم تشويه لوحاتها الفاخرة المعلقة على جدرانها، وتم تقطيع أوراق شجرتها، وتم قتل نسورها وصقورها فخلا الفضاء للغربان وعلا نعيقها، فرفع الناس رؤوسهم إلى السماء وقرأوا بخشوع: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً"، واستجاب لهم ربهم.

* * *

اليوم تحل ذكرى وفاة أميرنا الراحل الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح، وتسقط دمعة حزينة صامتة.

محمد الوشيحي

البلكونة… على البحر

سبحانه يخلق من الشبه أربعين. ففي مصر تحمّس أحد نواب الحزب الوطني الحاكم، واسمه نشأت القصاص، وارتدى ملابس "القصّاب"، وطالب الشرطة بقمع المتظاهرين بالنار وبئس المصير، فثارت ثائرة الناس، فقرر حزبه معاقبته بـ"توجيه اللوم إليه"، بلا شفقة، أو شفكة، كما تنطقها المذيعات بنات الذوات واللوات.

وقد شاهدته وهو يتحدث في برنامج تلفزيوني، فهاتفت نفسي، بعد أن تفقدت نظارتي الشمسية وموبايلي وساعة يدي: "الحمد الله أن نشأت بيه اكتفى بالمطالبة بإطلاق النار، ولم يقرر حرقهم واستخراج الصابون من جلودهم".

وفي الكويت، انتقد معالي رئيس البرلمان جاسم الخرافي لجوء النواب إلى إقامة الندوات في الشارع. ومن يلومه، حفظه الله، فهو في عين الحكومة مليح، وكل ما "يطلب" المليحُ مليحُ، لذا فهو لا يحتاج إلى الشارع هذا ولا الشارع اللي بعده، ولا يعلم أن الناس خرجوا إلى الشارع كي لا يناموا في الشارع بعد إقرار قانون الخصخصة الذي سيُقر اليوم، ويصبحوا "شوارعية" فعلاً، كما قال معاليه.

معالي جاسم الخرافي، تطل بلكونته على البحر، لا الشارع، لذا لا يعلم أن الشارع هو الذي أعاد الدستور بعد أن طارت الرياح بأوراقه، وكان هو من ضمن الريح، والشارع هو الذي غيّر الدوائر الانتخابية، وهو الذي انتخب النواب، وهو الذي يجب أن يخدمه معاليه فيرصفه ويتفقد متانته.

معالي جاسم ، لم يقدم إلا مقترحاً واحداً طيلة حياته البرلمانية الممتدة منذ عام 75 إلى اليوم، ولم ينزل من كرسي الرئاسة يوماً إلى داخل القاعة، بين النواب والوزراء والناس العاديين، ولا ينقصه إلا أن يقف خلفه عَبْدان عاريان برمحيهما.

ومعالي جاسم يلعب في الجناح الأيمن لفريق النجاح الكويتي العظيم، في حين يلعب وكيل المراجع الشيعية محمد باقر المهري – ذو الفاكس الذي لا يعطل – جناحاً أيسر. فلله دره من فريق.

وفي منطقة "أم الهيمان" المنكوبة بيئياً، يتهامس المتهامسون أن المصانع المخالفة تعمّدت تلويث البيئة بقصد التخفيف من زحمة السكان. وبعد أن أعلن الطاحوس موعد استجوابه صرحت الحكومة: "في ظل اهتمام الحكومة بالبيئة، ومكافحة التلوث، قررت غلق المصانع المخالفة في الفترات المسائية"، على اعتبار أن الناس سيكونون صباحاً في أماكن العمل، ولن يبقى في البيوت إلا الأطفال الرضع والمسنّات الركّع، ولا يتجاوز عدد هؤلاء أربعةَ آلاف نفر شوارعي، وقلعتهم.

ولو تدخّل سفراء الدول الأوروبية واليابان وأميركا في القضية، واطّلعوا على الأوضاع البيئية في أم الهيمان، لغضبوا ولراسلوا دولهم ولارتفعت الاحتجاجات العالمية إلى عنان السماء، عندئذ ستصدر الحكومة بيانها: "في ظل اهتمام الحكومة بالبيئة قررت نقل المصانع الملوثة وتوقيع العقوبات على أصحابها". فيا مهندس أحمد الشريع ويا جيرانه المتابعين للملف، لا تتكئوا على البرلمان، فغالبية نوابه "عقلاء"، بعيد عنكم، واركبوا سياراتكم حالاً وخذوا لكم لفّة على سفارات الدول المهتمة بالبيئة، بدءاً من سفارتي اليابان وألمانيا. وعليّ النعمة ستنتهي مشكلتكم وكأنها لم تكن.

واللهم احمِ معالي جاسم الخرافي واحمِ فاكس المهري.

محمد الوشيحي

عندما يجوع الخليجيون

منذ نحو سبعمئة وثمانين سنة، وأنا أحاول تغيير نظامي الغذائي، خصوصاً أثناء السفر. إذ لا يجوز أن أستيقظ من نومي فلا أتناول شيئاً، وأبقى على حالتي هذه طوال اليوم، فأجوع وأجوع وأجوع، حتى أترنح لشدة الجوع، قبل أن ألجأ إلى أقرب مطعم، وأقبّل خشم الجرسون كي يستعجل الطلب، فهو أغلى الناس وأحلى الناس. وأثناء الانتظار، أنهض من مكاني متظاهراً بالبحث عن المغسلة كي أختلس نظرة على المطبخ لأتأكد من أن "الأمور تسير على خير ما يرام"، كما يقول المستشارون للحكام، حفظهم الله. أقصد يحفظ الحكام ومستشاريهم. فلا يجوز أن تدعو للحاكم وتترك مستشاره بلا دعوة، سلط ملط. فهم يؤخذون "باكيج"، حاكم ومستشاره في طرف العلبة.

ويطول غياب الجرسون، فأقرر قتل الوقت، وألتفت إلى الزبائن ملوحاً لهم بيدي: "هلا بالشباب، هلا والله، الجوع كافر، من عنده نكتة؟"، ولا مجيب، فأستجديهم: "واحد يقول نكتة، يرحم أمكم، بموت من الجوع"… وما إن يُقبل الجرسون يتهادى حاملاً أطباق الأكل حتى أكرّ عليه ولا سيد القلاف: "عنّك عنّك عنّك". ثم يبدأ الانتقام يا ريّس، أي والله. ولو كان الأمر بيدي لأطفأت الأنوار. وقد علّق أحد الأصدقاء يوماً: "أنت لا تتناول الطعام مثلنا، أنت تنام معه، يا عمي ما قصة (الآه) التي تطلقها بعد كل لقمة؟"، فعلّقت: "أنا أنام مع الأكل بالحلال، وبرضا الطرفين، لكن غيري ينام مع الشعب". طبعاً أقصد حكومات أوروبا وبرلماناتها.

وأنا خليجي، والخليجيون منذ عام واحد وثمانين (عام تأسيس مجلس التعاون الخليجي) يجوعون ويجوعون ويجوعون إلى أن تحدث كارثة، وتنطلق أصوات المنبّهات، فيهرولوا للاجتماع على عجل، ويحضر بعضهم بالبيجامة، ثم يخرجوا من اجتماعهم بتوصيات: "الستائر في اجتماع الدوحة أطول منها في اجتماع الكويت"، و"كراسي اجتماع الرياض أكبر من كراسي اجتماع مسقط"، وينشئوا لجنة للكراسي ولجنة للستائر.

ونحن نحب إيران، وإيران تحبنا، وبليغ حمدي يقول على لسان ميادة الحناوي: "يا حلاوة الحب آه، وحبيبي وأنا وياه"، الله يا بليغ، كم أنت بليغ، وكأنك تعرفنا وتعرف إيران.

وأمس استيقظ الخليجيون فوجدوا إيران جنب السرير، فغضبوا، واجتمعوا، وقرروا إنشاء لجنة للستائر ولجنة للكراسي، وأصدروا بيانهم: "إيران بايخة"، فتدخّل الحكماء وغيّروا لهجة البيان فأصبح: "إيران ليست حلوة"، فتدخل العقلاء وشذّبوا البيان وهذّبوه فأصبح: "إيران ليست"، وعند المراجعة تبيّن أنها جملة غير مفيدة، فألغوا كلمة "ليست"، وصدر البيان الختامي: "إيران"، فردت إيران: "نعم؟"، فردوا عليها: "تبين شيء من البقالة؟".

محمد الوشيحي

السعلوكي عطّ وغاب… آخ

كما أن للجنّ ملكاً بتاج وصولجان، اسمه شمهروش، يسكن في المغرب، فإن للساخرين ملكاً بتاج وصولجان ورتبة وعصا، اسمه محمود بن عثمان بن محمد بن علي السعدني، يسكن في مصر. وهو من السعادنة لا السعادين. واسمه بالإنكليزية، مهمود سأدني، كما يدّعي. وهو سعلوكي، والسعلوكي مثل الصعلوكي لكنه النسخة الخوّافة.

وأن تكون أسخر الساخرين في مصر، إذاً أنت أسخر الساخرين في العالم، من الجلدة إلى الجلدة. فمصر هي حارة السقايين في السخرية، والسعلوكي هو صاحب أكبر بئر ماء فيها. هو السقّاء الأكبر. هو الذي تتوافد إليه قوافل القراء الظمأى فترتوي قهقهة وثقافة ورأياً. هو الذي ينثر مياه سخريته ببذخ، فتسيل الوديان، وتتقافز الأسماك الملونة، وينهزم صفار الأرض أمام خضارها. كي تقرأ له، فأنت في حاجة إلى أبواب ومفاتيح وخلوة، حتى لا يظن بك أبناؤك الظنون، بعد أن يسمعوا قهقهاتك وأنت تجلس وحيداً.

وأمس الأول، انهمرت رسائل سوداء عليّ كالمصائب التي لا تأتي فرادى: «مات الملك»، «أحسن الله عزاءك في الولد الشقي»، «مات السعدني»، «العبد لله مات»، «مات عمّنا». رسائل بلهجات مصرية وكويتية كُتبت بوجوم، فضجّ صمتي، وتذكّرت أنني قبل موته بأربعة أيام كنت أتحدث مع ابنه الأكبر «أكرم» الذي طمأنني على تفاصيل علاجه.

إذاً أطفأ «الولد الشقي» سيجارته الأخيرة وخلع قبّعته وأزاح عصاه، وهو الذي تمرمط مرمطة المرمطين في حياته. الذي جاع فشبعت الضباع. الذي حقق الرقم الأولمبي في التنقل بين الصحف والمطبوعات في فترة قصيرة، وتضاحكَ عليه أبناء البقر، وعلا خوارهم. الذي قضى عمره بين السجون السياسية والمنفى والشتات، ووصفته ردّاحات السلطة بأنه «رد سجون». الذي تبدد خصومه كالدخان وتلاشوا، وبقيت شجرته أصلها ثابت وفرعها في السماء.

إذاً غاب «العبد لله» الذي تسمع في كتبه ومقالاته أصوات الباعة، وخناقات الأطفال، وضحكات الحشاشين، وأحاديث النساء المتبادلة من البلكونات… وتشاهد فيها الأزقة، وسوق الثلاثاء، وبائعة الفل، والواد «ريعو» القهوجي بملابسه الرثة، والمعلم كتكوت صاحب القهوة بغروره الخاوي…

ذهبَ «ابن عطوطة» إلى وجهته الأخيرة، وهو الذي يختلف عن ابن بطوطة، وكلاهما كثير السفر، لكن الأخير ابن البط، والبط طائر شديد الوخم، شديد الكسل، غاية رحلته لفة في بحيرة، أو نزهة في بركة، بينما صاحبنا ابن العط، والإنسان يعط حتى يزهق، وأحياناً حتى يغمى عليه.

اختفى مؤسس حزب «زمش»، وهو اختصار «زي منتا شايف»، الذي أسسه في السجن، وكانت أولى مهام حزبه تجميع أعقاب السجائر التي دخّنها الضباط والعساكر وأطفؤوها دهساً بالأحذية، ليتم تنظيفها وتدخينها من جديد.

نام صاحب أشهر المقالب في تاريخ مصر، وكان من يقع بين يديه يطلب له الناس الرحمة والمغفرة. وبالرغم من أنه أكثر من شجّع الشبّان الموهوبين فإنه ابتُلِيَ أحياناً ببعض الأغبياء، وكان أن أزعجه شاب غبي بكثرة إلحاحه عليه ليدخله الصحافة، فقرر السعلوكي أن «يسهر عليه»، فأقنعه أن الصحافة مهنة المتاعب والمصاعب، لذا فلنختبر قدرتك على التحمل، والاختبار الأول هو «الرزع على القفا»، وراح يرزع الشاب على قفاه، والشاب يصرخ أي، فينهره: «اجمد»، ويرزعه، و»اجمد»، ثم جاء اختبار «الأصباغ»، فدلق السعلوكي عليه كل الأصباغ الموجودة في قسم الكاريكاتير، وأيضاً «اجمد»، ثم جاء دور اختبار «الركل بالشلوت»… اختبار علمي على مراحل.

عنك يا صاحب المقالب، يا سعلوكي، يا عطاط، سأكتب وأكتب وأكتب. لكنني الآن في طريقي إلى المطار بحثاً عن أول رحلة إلى القاهرة، ومن مطارها إلى مرقدك. فانتظرني هناك. انتظرني فقد أبكيتني اليوم بقدر ما أضحكتني سنواتٍ وعقوداً. سامحك الله، كم يلزمنا من الحزن عليك.